مقدمة الطبعة الأولى
هذا كتابٌ حاولْتُ أن أكسو الفقر من صفحاته مَرْقَعةً جديدة؛ فَقَدْ والله بليَتْ
أثوابُ
هذا الفقر، وإنها لتنسدِلُ على أركانه مِزَقًا متهدِّلةً
١ يمشي بعضها في بعض، وإنه ليَلْفِقُها
٢ بخيوطٍ من الدمع ويمسكها برُقَع من الأكباد، ويشدُّها بالقطع المتنافرة من حسرة
إلى أمل، وأمل إلى خيبة، وخيبة إلى همٍّ، وأقبح من الفقر أن لا يظهر الفقر كاسيًا أو
تكون
له زينةٌ إلا من أوجاع الإنسانية أو المعاني التي يتمنى الحكماء لو أنها غابت في جماجم
الموتى
٣ الأوَّلين.
وأنت فربما رأيتَ الرجل من الناس وبه من جمال الدنيا مَسْحةُ الدينار، وعليه من نضرة
هذه
الحياة ألوان الجنة والنار،
٤ وما تشك في أنه واسع البسطة، عريضُ النعمة، طيب المكسِبَة، وهو على ذلك رقعةٌ
خَلقٌ
٥ في أذيال الفقر يجررها على أقذار الحياة وأدناسها، ولو نطق له الغنى لقال:
دَعْنِي، فما كل ذي مَتربةٍ فقيرٌ، ولا كل ذي مَثْرَاةٍ غني.
٦ والفضائل قائمةٌ في الدنيا بالصغار والفقراء، ولكن مِن نكد الدنيا أن عنوانها
هم الكبراء وحدهم؛ على أن أكثر هؤلاء لا تكون منهم في كل أمة إلا الطبقةُ المنحطة انحطاطًا
عاليًا. فالناس مخطئون فيما اعتبروا به معنى الفقر؛ إذ حاصروه من جهاته الأرضية وقد ترامت،
وضيَّقوا من حدوده السماوية وقد تراحَبَتْ،
٧ وإنما هو طبقة معنوية فوق الأرض، وإنما هو أسلوب خاص في نظام الكون، ولا سبيلَ
إلى التنقيح والتحرير في أساليب الله نَصِرفها عن معانيها، أو نتكذب في تأويلها، أو نردُّ
عليها ما ليس منها، وإنما الشأن كله أن نُحسِن الفهم عن أوضاع القدرة الإلهية بمقدار
ما
نستبين فيها من الحكمة؛ فإن في ذلك صلاح أنفسنا، وما جعل الله سبيل المصلحة والمفسدة
إلا من
أفهامنا، حتى إن الأدمغةَ لتعدُّ من أكبر العلل في أمراض التاريخ الإنساني، وربما كانت
العلةُ الكبرى في طائفةٍ من الطوائف صورةً أثريةً لِأكبر رأس فيها.
فإنْ نحن أسأنا الفهم، أو ذهبنا به المذاهبَ، أو أفسدنا من تأويل حكمة الله أو غيَّرنا
أو
بدلنا؛ فذلك واقع بنا لا يعدونا، وما يستولي على الكون من جهلنا اضطرابٌ، ولا تلحق به
آفة
في وضع من أوضاعه، وإنَّ الله لا يظلِم الناسَ شيئًا ولكنَّ الناسَ أنفسَهم يظلمون.
وما دام في هذه الدنيا شيء من المادة أو المعاني يُحتاج إليه، أو يتوهم أحدٌ أنه محتاج
إليه؛ ففي الدنيا الفقر.
وما دام للناس رغبةٌ يتنافسون فيها أو يرفعون من شأنها بالمنافسة؛ فثمَّ الحسدُ.
وما دام في الغيب أيامٌ وآمالٌ، وفي الدنيا فقرٌ وحسدٌ؛ فهناك الطمع.
وما دام لهؤلاء الناس من أشيائهم ما تحملهم أخلاقهم على الضنِّ به، أو يكون سبيله
من
الطبيعة أن يُضنَّ به؛ وفيهم الفقر والحسد والطمع؛ فثمَّ خبءُ السوءِ والرذيلةُ الماحقةُ،
وثَمَّ البخلُ، وإن البخل وحده لفي حاجة إلى نبيٍّ يُصلِحه!
هذه أخلاق أعرقتْ فيها الإنسانيةُ، ولا بد منها ومن فروعها حتى يظلَّ الناسُ ناسًا
لا
ملائكةً ولا شياطين؛ فإن من عجيب حكمة الله أنه لا صلاحَ للعالَم إلا بالفساد الذي
فيه.
بَيْدَ أنَّ في كل شر جهةً من الخير أو جهةً تتصل بالخير، فإذا صَلُح فهْمُه صَلُح
هو
أيضًا، أو كأنه صلح لظهور حكمته والوقوف به عند حدِّ الشر الطبيعي، وهو الشر الذي لا
بد
منه.
فَلْيكن الفقر والحسد والطمع والبخل، ولكن برضًا يمنعُ السخط، وسكونٍ يكسر شِرَّةَ
النفس،
ورِفْقٍ لا يعنَفُ على الحق، واعتدالٍ يُقِرُّ كل شيء على حدِّه؛
٨ يومئذٍ يجد الإنسان في كل نزوةٍ من نزوات جنونه شيئًا من الحكمة، أو على الأقل
شيئًا يمكن من بعض الوجوه أن يُسمَّى في باب المنفعة الإنسانية حكمةً.
•••
ولقد كان الفقرُ عُريانًا يومَ كان آدمُ في الأرض وليس عليه إلا ما خَصفَ من ورق
الجنة،
٩ وعاش دهرًا تحت السماء يلبس من ضياء كل كوكب، ويمرح في ثيابٍ بيضاءَ من أشعة
القمرين؛ إذ لم يكن يعرفه أحدٌ بعدُ، ولا استطار به سماعُ السوء
١٠ في الأحياء، بل كان عنصرًا مجهولًا في غيث الطبيعة، ولم يكن لهذا الإنسان
يومئذٍ من المعاني الفقرية … غيرُ شعور طبيعي لا زَيْغ في تأويله عن الطبيعة، وهو شعور
المعدة القوية المعصوبة التي لا تحتمل الشعرَ والخيالَ وفنونَ الكذب العقلي، ولا تشعر
إلا
لتطلبَ، ولا تطلبُ إلا ما تَجِدُ، ومتى وجدت وانطفأ نَهَمُها
١١ فليس إلا قوةُ الجسم وانبساطُ النفس وحَمْدُ الله في كل ضرب من ضروب الجمال في
الخليقة.
ثم كانت عداوةُ ابنَيْ آدم إذ قرَّبا قربانًا فتُقُبِّلَ من أحدهما ولم يُتَقَبَّلْ
من
الآخَر، وفُتِحت الصفحة الأولى من تاريخ الدم الإنساني في الأرض؛ فكان البغضُ أول سطورها،
وجاء من بعده الفقر، وخُطَّت بعد ذلك سطور وسطور كلها يلتقي إلى هذين المعنيين؛ يومئذٍ
عُرِفَ هذا الفقرُ، وأصبح يتلبس في كل إنسان بمعنى يلائمه؛ إذ لم تَعُدِ الحياة هي الحياة،
بل الوسائل التي يُدْفع بها الموت، ومنها الموت نفسه؛ فصار البغض وسيلةً، والحسد وسيلةً،
والطمع وسيلةً، والقتل وسيلةً، وكل ذلك لأن الإنسان فقير بمعنى من معاني الفقر، وما البغض
إلا فقرٌ من المحبة، ولا الحسد إلا فقرٌ من الثقة، ولا الطمع إلا فقرٌ من العقل.
وإن أردْتَ العجب فاعجبْ لهذه الطباع الإنسانية؛ إذ يحاول كل امرئ أن لا يفهم من
معنى
الفقر إلا ما يمكن أن يُجرِيَه على الناس كافةً، حتى لا يكون هو وحده المُبتلَى في نفسه
الممتحَن في سعادته، وحتى يجدَ مادةَ العزاء من حيث التمسها؛ فالفقر على ذلك هو العوز
إلى
المال، وهذه بليةٌ عليها يحيا الناسُ وعليها يموتون، ولقد كان الفقر قبل أن يكون المال،
ثم
وُجِد المال فما منع أن يُلقَّى أهلُه الأغنياءُ من هموم الدنيا وبأساء الحياة ما لو
استطاعوا لافتدَوا من عذابه بكل ما في أيديهم، ولو أن لهم طِلاعَ الأرض
١٢ ذهبًا، ووُجِد المال فما مَنَعَ الفقراءَ أن يخوِّلهم الله من رحمته التي لا
تفارقهم طرفة عين ما لا يحبون أن لهم به من الدنيا ولا الدنيا كلها.
١٣
دخل بعضُ الفقراء
١٤ على الرشيد العباسي وتاجُه يومئذٍ سبيكةُ العصر الذهبي في تاريخ الإسلام،
والإسلام يومئذٍ ترتجفُ به دِفَّتا الشرق والغرب، وكأن الشمسَ والقمرَ يتلألآن على أرجاء
ملكِه ذهبًا وفضة،
١٥ وكانت في يد الرشيد كأس ماء وقد رفعها إلى فمه، فلما أبصر ذلك الملك الذي لا
يملكه شيء، أمسك ثم قال له: عِظْني. قال: أرأيتَ يا أمير المؤمنين، لو مُنِعَتْ عنك هذه
الشربة التي في يدك، أفكنتَ تطلبها بكل ملكك؟ قال: نعم. قال: أفرأيتَ لو شربتَها ثم امتنع
خروجُها منك، أكنتَ تفتدي من عاقبة ذلك بكل ملكك؟ قال: نعم. قال الرجل الصالح: فانظر
يا
أمير المؤمنين، ما قيمة مُلْكٍ لا يساوي عند قَدَرِ الله شربةً ولا … ولا بولة …!
كذلك يحاول الناسُ أن لا يُخطِئوا الرأيَ فيما يستحبونه أو يطمئنون به، وكأنهم لذلك
يحاولون أن لا يُصيبوا الحق فيما يكرهونه أو ينفرون منه؛ فكلهم سواءٌ في ابتغاء السعادة
المتوهَّمَة التي لا يستحيل أن تتفق، ولكنها مع ذلك لا تتفق؛ إذ يريدها كلُّ امرئ على
غير
ما يناسب تكوينه الإنساني … وهم بعدُ على سواء من خشية الفقر، كأن فقرهم بين أعينهم،
فلا
تبرح أوهامهم تَنتجِي
١٦ بمعانيه وهمومه، ثم لا تبرح تنمى بها حتى صار الفقر في أنفسهم غيرَ الفقر في
نفسه، وقد علم الله أنه ما من إنسان إلا وفي تكوينه معانٍ كثيرةٌ منه. على أن السعادة
الممكنة أو التي يمكن أن تُسمَّى سعادةً، إنما يكون زِمامُها الحسَّ؛ إذ هو الوسيلةُ
لإدراك
الجمال وتعرُّفِ المواضع المعنوية في المادة، والاهتداءِ في صُنْع الله إلى أسرار الحكمة،
وليس من لذةٍ يصيبها الإنسانُ فيسميها لذةً ألا وهي شيء معنويٌّ يجيء من طريق الحسِّ،
فيشعر
هذا الإنسان أن فيه معنًى لم يكن فيه، وكأنَّ اتصال شيء من سرِّ النفس أو قدرتها، بشيء
من
سر الطبيعة أو قدرتها، هو السعادة.
غير أن العجيب الذي ما يُقضَى منه عجبًا أن ذلك الحس كلما نضج واستمر
١٧ كان أشد إدراكًا للآلام منه للذات؛ حتى إن الرجل الرقيقَ ليتألم للناس أكثر مما
يتألم لنفسه؛ فهل ذلك ألا أن حكمة الله قد أقرَّتْ في تركيب الإنسان من عناصر الفقر أكثر
ممَّا وضعَتْ فيه من عناصر الغنى؟
وما أشبه نفوس الناس في هذه الحياة بالزجاج سُلِّط عليه نور الشمس؛ فما كان من طبعه
رديئًا غير مصقول، أو مهملًا قد شاع فيه الصدأ، فذلك متى ألحَّتْ عليه وقدة الجو حَمِيَ
وتضرَّم في ذات نفسه؛ وما كان من طبعه صافي الماء بادي الرونق نقي الصفحة، رأيته في توقده
واضطرامه كأنما يمجُّ من شعاع الشمس لهبًا يتطاير؛ فإن كانت الزجاجة قد أُخلِصت في سبكها،
وصُنِعت على الوجه الذي يجمع الضوءَ ويعكس منه، وأُحكِمت من هذه الناحية؛ فهناك تبلغ
من دقة
الحس مبلغ الأنفس الرقيقة المهذبة، فلا تكاد ترسل عليها الشمس من نورها حتى يرجع فيها
نارًا
تلظَّى.
ومتي اعتبرنا الشقاء الإنساني وما يعترض الإنسان في طريق الحياة، رأينا الحق الذي
لا
مِرْيَة فيه أن هذا الإنسان حين تمشي راحِلتُه إلى القبر
١٨ لا يكون قد انتهى من الحياة كما يقال، ولكنه ينتهى حينئذٍ من الموت.
فهذا التركيب الإنساني المعجز بقليله وكثيره وجملته على السويَّة، والذي استشرف منه
العقل
لأسرار هذا العالَم كما تُوجَّه مرآةُ المرصَد إلى السماء؛ لم يشهده عصر من عصور الدنيا
قطُّ إلا ذاهبًا إلى الفناء بما كسب وما اكتسب، حتى ليمكن أن يقال: إن حياة الحي مصيبة
تكبُر كلما كَبِرَ. فكيف لعمري يحتمل هذا التركيبُ الهالكُ أن يسعدَ إلا بمقدار ما يُدني
إلى الفهم معنى السعادة الأبدية التي ليست من هذا العالم، كما تريد أن تُفهِم الطفلَ
شيئًا
في نفسك فيراه معنى متمرِّدًا عاتيًا، فلا تزال أنت تُصغِّر منه وتمسخه وتُحيله عن وضعه
وتقلِّبه على وجوه مختلفةٍ، إلى أن توافق صورةٌ من هذه الصور فهمَه الصغير الضعيف
المتحامِلَ على نفسه، فيدرك الوجهَ الذي أردت على الوجه الذي يُريد هو، ويعلم ما ترمي
اليه
على الطريقة التي لا تعلمها أنت.
ولعل هذا هو السبب في أن الفطرة الإنسانية لا تزال من أول الدهر ضالَّةً في طلب السعادة،
تسترحل
١٩ إليها كل معنى، ثم لا تصل إليها بمعنى؛ فإن السعادة الدنيوية في التركيب
الإنساني إنما هي بمقدار لغوي أو ما يشبه المقدار اللغوي لا غير.
٢٠
وإذا نحن اعتبرنا هذا الوجود الفاني بما وراءه من عالَم الغيب، رأينا كل صِنْف من
الموجودات كأنه لغة متميزةٌ بخصائصها، أوجدها الله في هذه الحياة لتدل عليه سبحانه بنوع
من
الدلالة أو ضربٍ من المجاز، فأينما مَدَّ الإنسان عينيه رأى لفظًا كالإشارة أو إشارةً
كاللفظ.
ولكن قُتِل الإنسان ما أكفره! فإن ما لا يريد أن يفهمه ليذكرَه ويتذكرَ به أكثرُ مما
فهمه
لينساه، ولقد رأى أن ما فوق الأرض وما تحت السماء لا يُدلُّه بإشارة واحدة على أنه خالد
في
هذه الحياة الدنيا.
بَيْدَ أن الإنسان كما يكذب في الكلام يكذب في الفهم، فهو أبدًا يحتاج — لشِقْوَته
— من
هذه الطبيعة إلى أشياءَ تُضِل عواطفَه، كما يحتاج إلى أشياء تهديها، ومن ههنا اقتحمت
أهواؤه
ونزغاته على الطبيعة وعلى الشرائع والأديان، والتبست في رأيه معاني الأشياء التي تتصل
بنفسه؛ فظهر من الغنى ما يشبه الفقر، ومن الفقر ما يشبه الغنى، وصارت الحياة كلها جهادًا
وشقاءً ونَصَبًا؛ لأن المشكل فيها أكثر من الواضح، ولأن الطريقة التي يتبعها الإنسان
الراقي
في حل هذه المشكلات التي تعترض مطامعه وأغراضه، هي أن يحلَّ مسألة بوضع مسألة مثلها؛
ذلك
لأنه لا يهتدي إلى الكمال في شيء، وهو ناقص ولا يُذعِن أنه ناقص؛ وإلا فما باله يرى الحكمة
الأزلية قد جعلت قِوَام صحته على القليل من الطعام دون الكثير، وعلى الخفيف دون الثقيل،
وعلى الرخيص دون الغالي، وعلى الطعام كما يُفيد دون الطعام كما يريد، ثم هو يأبى إلا
أن
يعدَّ هذه الصفات وأشباهها في باب القلة من الفقر، ويعتبر نقائضَها وما جرى مجراها في
باب
الكثرة من الغنى، ثم يضرب الله على بصره ويطبع على قلبه، فلا يرى لحاجته في الغنى من
بلاغ
وسبب إلا أن يكون المبالغةَ في الادخار، والإغراقَ في الجمع، والطِّماحَ كل مَطمح، وأن
يستأكل الناسَ فيكون عليهم أكلبَ
٢١ من الجوع، ويستصفيَهم فيكون فيهم أسرع من المرض، ويستزلَّهم فيكون معهم أشبه
بالرذيلة؛ ونحن نعرف الكد والحرص والبخل والشره والضراوة وكلَّ الرذائل الاجتماعية،
ونَصِفُها ونحدُّها بآثارها وحقائقها، وكأننا لا نعرف أن كل رذيلة هي إنسانٌ من
الناس.
وقد رأينا الحكومات تجمع الأنواع من الجماد والنبات والحيوان تؤلِّف منها الكتب الحية
على
نسق الطبيعة نفسها، وهي تلك التي يسمونها «المعارض» و«المتاحف»، ولم نَرَ حكومة واحدة
أقامت
معرضًا حيوانيًّا لأشخاص الرذائل يُدرَس فيه علمُ المقابلة بين الطباع في الإنسان وبين
الغرائز في الحيوان، وعلمُ الانحطاط الاجتماعي وفنُّ الطبقات السفلى من الحياة، وتُؤخذ
منه
أمثلة الاعتبار والموعظة والنصيحة في أبواب مختلفة، ولو قد فعلت ذلك أمة من الأمم، لَرأى
الناس فيما يرون هناك من كبار اللصوص وأهل الإثم والشر والفساد عددًا كبيرًا من كبار
… من
كبار الأغنياء، ثم لَرأوا كيف يتصل تاريخ الطمع بتاريخ البخل، وكيف يتصل هذا بتاريخ الغنى،
ولَظهر لهم بطلانُ معانٍ كثيرةٍ مما يعده الناس في باب الحقائق؛ إذ لا تجد الرذيلةُ هناك
مَن يكابر فيها أو يغرُّ بها أو يناضِل عنها، ولا صاحبَها نفسَه؛ لأنه في قفص من أقفاص
المعرض، وكأنه ثمة معنى من الباطل محبوسٌ في شكل من البرهان على فساده!
وليت شعري — وذلك معنى الغنى — هل يظن مَن اجتمعت له نفقة ألف سنة أنه سينال فيما
بقي من
عمره القصير لذةً كلذة عيشه ألف سنة، وأنه إذا ادَّخر ما يقوم بمائة ألف إنسان فقد صار
هو
في الأرض مائة ألف بطن؟ إن حياة الغني على هذا الوجه لا تكون إلا موتًا على طريقة الحياة؛
فليس الإسراف في جمع المال والكلَبُ عليه إلا طريقة دنيئة لإنفاق العمر، وليس حبُّ المال
والبخل به إلا وجهًا من بغضِ الناس وازدرائهم، وإنما البخل في رأي أهله وسيلةُ الغنى
وسَنَنُه القريب، وهو مهما احتجوا له وتمحَّلوا فيه وناضلوا عليه، ليس أكثر من كونه شعورًا
ذا جهتين: فأما من جهة البخيل فهو الحبُّ للنفس لا غير، وأما من جهة النفس فهو البغض
للناس
لا أكثر ولا أقل!
ولَأيسرُ على الناس أن يرتَووا من رَشْح الحجر، ويغتذوا بلبن الطير،
٢٢ من أن يجدوا في الرجل البخيل بغضًا لشيء من المال يرضخُ به محبةً لهم وشفقةً
عليهم وحنانًا من لدنه. قديمًا كان البخيلُ أبغضَ الناس لهم وأبغضهم إليهم وأبغضهم فيهم،
وما أقبحَ هذا البخل — أخزاه الله — أن يكون بغضًا ثلاث مرات.
ولو أن رجلًا من هؤلاء الذين بسط الله لهم فقبضوا، وجاد عليهم فبخلوا، وأعطاهم فأمسكوا،
قد أراد الله به خيرًا فوقاه شحَّ نفسه، ويسَّرَ له في أخلاقه ومكَّن له في باب البذل
والجود، وآتاه من حب الخير بعض ما ابتلاه من حب المال؛ لَرأيت حياته توسعة على قوم في
معاشهم، وإحياءً لقوم في آمالهم، وعَتَادًا لقوم في أعمالهم، ومنفعةً لآخرين من وجوه
كثيرة،
ولَرأيت في غناه بركة العدل ورحمة الأمن وعصمة الخلود، فكأنه استجمع في حياته الطيبة
خيرات
الأعمار الكثيرة، وكأنه أمَّةٌ في نفسه، ثم لا يكون رجلٌ أحب إلى الناس ولا أجدر بطبيعة
الحب الإنساني منه، ثم لا تجد اسمَه إلا في واحدة من ثلاث: إما صفحةٌ تكتبها الأعمال
للتاريخ، أو صفحةٌ يُفرِدها الناس للأخلاق، أو صفحةٌ ترفعها الملائكة إلى الله.
بل أحرِ بهذا الإسم الكريم أن يكون يومئذٍ بأعماله وآثاره وحسناته اسمًا لكتاب ضخم
في
أيدي ملائكة الرحمة.
•••
فهذه آثار كرم النفس الطيبة لا تنشأ إلا بين نوعين من الحب: حبِّ الرجل الكريم للناس،
وحبِّ الناس لهذا الرجل الكريم؛ لا هو يَمطُلهم حقًّا عليه، ولا هم يظلمونه حقًّا له،
ولعمري كيف يستطيع المَطْلَ أو يستطيعون والدَّينُ الذي وجب على الفريقين هو دَينُ
القلب؟
وقد تكلمت السماءُ في أزمان مختلفة، وهبط الخطاب من عرش الله على لسان الأنبياء صلوات
الله عليهم، وما من نبي مرسل إلا وأنت واجدٌ في كلامه وشريعته: أن تحبَّ للناس ما تحب
لنفسك.
فهذا الحب الإنساني محضٌ من نصيحة السماء، ولا بِدْعَ أن يكون فيه بعض الدواء لآلام
الإنسانية الضعيفة إنْ لم يكن هو الدواءَ كلَّه.
انظر بعيشك ما عسى أن تكونَ آلامُ الفقر إلا صُوَرًا من اضطراب النفوس؛ إذ ينصرف بعضها
عن
بعض وذلك أيسرُ البغض، أو ينازع بعضها بعضًا وذلك سبب البغض، أو يكيدُ بعضها لبعض وذلك
عينُ
البغض.
من أجل هذا كان البخيلُ مادةً من مواد الفقر، وإن كان هو في ذات نفسه معنًى من معاني
الغنى.
ولقد يصاب الناس بألوانٍ من العذاب، ويُمتَحَنون بضروبٍ من المكروه، وتُرسَل عليهم
الآفات
تختلُجهم من ههنا وههنا؛ غير أنهم يجدون لكل مصيبة محلًّا من الصبر يمسكونها فيه، فتجيء
وحدها وتذهب وحدها، وإنما هي الغمَرَاتُ ثم يَنْجَلِينَ؛ فإنَّ من رحمة الله أن لا يزال
الليلُ والنهارُ يتراكضان بيننا وبين النسيان كما يتراكض البريد، فيذهبان بشكوى المصيبة
ويرجعان من النسيان بالسلوى أو العزاء أو نحو ذلك. ولكن الطائفة من الناس إذا ابتُلِيت
بالغنيِّ البخيلِ ابتُلِيتْ منه بالمصيبة التي تأكل المصائب؛ إذ يرون فيه أشياء من معاني
القحط والجدْبِ والوباء والفقر والعداوة والبغضاء، وطَرَفًا من كل جائحة، ومعنًى من كل
آفة،
بحيث تضيق به جوانب الصبر على سَعَتها وانفساحها، وتنزوي دونه فتختلط كل مصيبة بكل مصيبة،
وليس يأتي على هذا الإنسان شيء
٢٣ كتداخُلِ مصائبه بعضِها في بعض، فإن ذلك يمحَقُ الصبر، ويذهبُ بالسكينة، ويفسد
الرأي، ويفتُقُ على العزم من كل ناحيةٍ فتقًا، ويترك المرء كأنه مجنون بشيء أكبرَ من
الجنون.
فالغنيُّ البخيلُ من ذلك كله، بل هو ذلك كلُّه!
هوامش