غرض الكتاب
وأما بعدُ، فإني قد وضعتُ هذه الأوراقَ وكتبتُ فيها عن الفقر وما هو من باب الفقر، لا لمحوِهِ ولكن للصبر عليه، ولا من أجل البحث فيه ولكن للعزاء عنه. ثم كتبتُ عن الغنى وما إليه، لا رغبةً في إفساده على أهله، ولكن لإصلاح ما يَفهم منه غيرُ أهله، وأدَرْتُ الكلامَ في كل ذلك على الوجه الذي يراه الشاعر في ضَحِك الطبيعة ورقَّتها، دون الوجه الذي يعرفه الفيلسوف في عُبوس المادة وجفائها، ونَحوتُ به نَسَقَ العقل في بث خواطره للنفس؛ لأني أريد به النفس في مستقرها، وجئتُ به من مَبْرَق الصبح لا من غياهب الليل، وأطلعته من أُفُق الإيمان لا من قرارة الشك، وأردت به تفسيرَ شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس، فإن من ضرائب اللؤم وغرائز السوء في هذا الإنسان أنه ما ينفكُّ يحمل نِعَم الله ورحمته، وما لا حد له من العناية الإلهية، ولكن كما يحمل الطاووس ألوانَه وتحاسينه وزينتَه البديعة على ساقين مجرودتين في الغاية من القبح كأنهما من غراب!
ولستُ أدَّعِي أن كتابي هذا يُسمِنُ من شبع أو يُغنِي من جوع؛ فإن هذه العلومَ كلها ومجموعةَ العقول البشرية وتاريخَ ما شاء الله من عمران الأرض، لا يتهيَّأُ للإنسان أن يعجنها ولو أفرغتْ عليها السماءُ كلَّ ما في سحائبها، ولا يأتي له أن يخبز منها رغيفًا واحدًا ولو حملته الملائكة ليضعه بيده في عين الشمس، ولا يخرج منها غذاءُ المعدة إلا إذا خرج الحبرُ الأسود من عَرَق الزَّنخ؛ ولكني أرمي بالكتاب إلى عزة النفس، وإلى الثقة بالله، وإلى الصبر على الفضيلة؛ فإن الناس من الشر بحيث لا يُعانُ على الفضائل إلا مَن صبر لها صبر المبتلى، ثم إلى مغالبة الوهم التاريخي القديم الذي نشأ منه معنى الغنى كما نشأ منه معنى الفقر، وأنت لو انتزعت الأنبياءَ والحكماءَ وأهلَ العزائم من مجموع هذا الخلق، لَرأيت التاريخ الإنساني كلَّه في ذينك المعنيين بابًا واحدًا من الخطأ.
فالرجل يزعم أنه يجدُّ ويدَّخر ويحزِم ويترقى، والحقيقة تصيح من أفواه الأنبياء والحكماء والفقراء أن ذلك جهلٌ وبخلٌ وطمع وتسفُّل، ومن أجل هذا صارت الإنسانية لا تتقدم خطوة إلا وقفت زمنًا تلهثُ وتستروِح مما بها، لكثرة ما تحمل من الصناديق والخزائن الثقيلة.
فحسبكم أيها الناس، انظروا إلى تركيب الكون واعتبروا سُنَن الأقدار في إدارته من أحقر ما فيه إلى أعظم ما فيه، فإنكم لا تجدون معاني الغنى الصحيح الذي لا فقر له إلا في الأجسام والعقولِ والأنفسِ، ولن تجدوا معنًى واحدًا خُلِق في صُندوق أو خِزانة.
•••
وقد وضعتُ كتابي للمساكين، وأسندتُ الكلام فيه إلى «الشيخ علي»، وهو رجل ستعرف من خبره الذي أقصُّ عليك أنه الجبل المتمرِّد الباذخُ الأشم في هذه الإنسانية المسكينة التي يتخبَّطها الفقر من أذاه وجنونه ومسِّه.
وأنا أرجو أن ينزل هذا الكتاب من قلوب المساكين منزلًا حسنًا، وأن يتصل بأنفسهم الضعيفة، ويُفضِيَ إليهم ببثِّه ويُفضُوا إليه، فقد تكون مصاحبة البائس للبائس ثروةً نافعةً لاثْنَيْهما في معاملة الزمن.