الشيخ علي١
هو رجلٌ تراه في ظاهره من الدنيا ولكن باطنه يلتحق بما وراءَ الطبيعة، وكان ينبغي أن لا يقوم مثلُه على مسرح الخَلق إلا ممثِّلًا، وأن لا يمثِّل إلا الوجه المطلَق من الحياة، بعد أن استقصى الفلاسفةُ إلى تمثيله كلَّ ذريعة، فلم يستوِ لهم أن يمرُّوا فيه، وقصَّر بهم التكلُّفُ، وقطعتهم دونه تلك الفلسفة التي حملتهم عليه؛ فخُلِقَ الرجلُ نشيطًا مهزوزًا راميًا بصدره ونحره، معترضًا في زمام القدَر كأنه صورةُ الفكر الذي يُمثِّله، وكأنه أسلوبٌ قائم بنفسه في بلاغة الطبيعة.
وتُرى أي عقلٍ يعيش به؟ بل أي عقل وأي جنون ليس من أثرهما الخير والشر؟ إن أكبر مَن تُنجِبه الفلسفة ويُخرِجه الأدب؛ لَيَطوي عمره طيًّا وراء هذه الغاية البعيدة، وما حياةُ الفلاسفة إلا اختيارٌ للموت، فهم يُمِيتون في أنفسهم كلَّ سبب إلى الشهوة، وكلَّ داعية إلى اللذة، يَحيَوْن بالقسم الأعلى، وتبقى مادة الأرض فيهم كأنها أرض بورٌ عارية المحاسر لا تُخصِب ولا تنبت. وهذا «الشيخ علي» كله أرض بور؛ فهو عصر برأسه من تاريخ الأخلاق، وعلى أي الوجوه اعتبرتَه رأيتَه كشيوخ الفلاسفة وحكماء الدنيا، يعيش في الناس بعقلٍ غيرِ العقل.
وهو والدنيا خصمان في ميدان الحياة، غير أن أمرهما مختلف جدًّا؛ فلم تقهره الدنيا لأنه لم يطمح إليها ولم يقع فيها، وقهَرَها هو لأنها لم تظفر به!
وإني لَأرى في اللغة كلماتٍ لم تقع على معانيها، ولم تجتمع اللفظةُ منها بمدلولها؛ فكلمة السعادة تبحث عن معناها في الناس وأهوائهم وشهواتهم، ومعنى السعادة يبحث الناس عنه في هذه الكلمة وحدودها وحقائقها، وربما كان هذا المعنى بجملته مُلقًى تحت الشمس في زاوية من زوايا القرى، أو متفيئًا ظلَّ شجرة من شجر الجُمَّيز، أو نائمًا تحت سقف معروش من حطب القطن، أو جالسًا يضحك في ندوة الحي، أو قائمًا يتأمل مجرى النهر، أو مضطجعًا يقلِّب وجهه في السماء، أو هو الذي يُسمَّى «الشيخ علي»!
وهل في النعمة خيرٌ من الكَفَاف حاضرًا، ومن الصحة فارهةً، ومن قرة العين وضحك السنِّ واستطلاق الوجه، وأن يكون القلب في حجابٍ من نور السماء لا تهتِك عنه رذائلُ النفس، ولا يعلَق به غبارُ الأرض، ولا يتغشَّاه ظلام الحياة، ولا يزال هذا القلب في نضرته وصفائه كأنه سعادة مخبوءة في غيب الله لم يُخلَق بعدُ مَن خُبئت له؟
كذلك أعرف «الشيخ علي»، فهو رجل سُدَّتْ في وجهه منافذُ الجهات كلها إلا جهةَ السماء، فكأنه في الأرض بطلٌ خياليٌّ يُرِينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يُخرِج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض ولا مادة الجسم، فهي تزدري كلَّ ما على الأرض من متاع وزينة وزُخرُف، وكلَّ ما ردَّت عليك الغِبطة من بَسْطةٍ في الجسم، أو سَعَةٍ في المال، أو فضلٍ في المنزلة؛ وكلَّ ما أنت من إقباله على طمعٍ ومن فوته على خوفٍ؛ تلك الحقيقة الطاهرة التي تكون أعظم ما أنت واجدُها في سير الأنبياء والصدِّيقين والشهداء، أو حيث يكون ذلك العقل الجبَّار الذي لا يُشبِه عقولَ الناس من نبوغٍ يخرِق العادة أو جنونٍ تخرقه العادة، وما الجنون إلا نبوغ فوق الطاقة، ولا النبوغ إلا جنون رقيق!
وكذلك أعرف «الشيخ علي»، فهو لا يرى في الأشياء غير ما خصتها به الطبيعة؛ ولا يرسل عليها إلا أشعة صافية من عينيه الضاحكتين لم تخالطها ألوان النفس، ولا زفرت عليها أنفاس القلب؛ وما ثَمَّ غير الانقباض والنفور أو الاستئناس والانبساط؛ فإما رآها قبيحة وإما رآها جميلة، ومتى قُسِمَتْ الأشياء عنده إلى قبيح وجميل، فليس وراء هذين ثالثٌ في التقسيم، وليس إلا جميلٌ جميل وقبيحٌ قبيح؛ فأما المأمول والمرغوب والمتنافَس فيه، والمتبرَّم به والمسخوط عليه، وما جاء بالشِّقوة وما جاءت به السعادة، وما كان من ورائه حبذا وليت، وما أعانت عليه لعل وعسى، ثم كان وأخواتها، وإن وبناتها، ثم أنا وأنت وهو، ثم ما انعطف على هذا النحو أو انفرَعَ منه؛ فكل ذلك تقسيم لا يفهمه شيخنا، وما هو من جدِّه ولا لعبه؛ لأن صفحة نفسه ليست كألواح الأطفال يثبتون فيها ما لا بد من محوه، ويمحون ما يعودون إلى إثباته، ليتعرَّفوا ما أصابوا مما أخطئوا، وليتعلموا كيف ينبغي أن يتعلموا.
وهل تجد — أعَزَّك الله — في هذا الناس مَن يحسن أن يوقِّرك، إلا وهو يحسن أن يحقِّرك، ومَن يعرف كيف يشكرك، إلا وهو يعرف كيف يكفرك، ومَن يقول لك حفظك الله، إلا وهو قادر أن يقول أخزاك الله؟ فالناس عبيد أهوائهم، وأينما يكن محلك من هذه الأهواء فهناك محل اللفظة التي أنت خليقٌ بها، وهناك يتلقاك ما أنت أهله أو ما يريدون أن تكون أهله؛ وليس في الناس شيء يزيدك كمالًا من غير أن يزيدك نقصًا، حتى إيمانك فإنه كفرٌ عند قوم، وحتى عقلك فإنه سفهٌ لطائفة، وحتى فضلك فإنه حسدٌ من جماعة؛ وحتى أدبك فإنه غيظٌ لفئة.
وأجملُ ما يرى من وجوه الحياة وجهُ السماء الصافية، ووجهُ النهر الجاري، ووجهُ الأرض المخضرة، ووجهُ الرجل الطيب، ووجهُ المرأة الجميلة؛ كلُّ أولئك عنده سواء، فليس وجه خيرًا من وجه؛ لأنه لا يُحسِن أن يئوِّل لغة الطبيعة فلا ريبةَ فيه، ولا يتزيَّد في معانيها فلا كذبَ في حواسه، ولا تُخاطِبه الطبيعة فيما توحي إليه إلا بأسهل ألفاظها وأطهرها وبمقدار ما خُلِق له؛ إذ لا ترى فيه غيرَ تلك الحيوانية الضعيفة التي هي ضرورية لحيٍّ منقطع مثله، وما كانت لُوثَةُ عقلِه إلا فصلًا بينه وبين الإنسان في حيوانيته؛ وإنَّ شر ما تكون هذه الحيوانية حين تكون عقليةً محضةً وراءَها عقلُ العالِم واختراعُ المخترع وفنُّ المتفنن.
وقد يكون «الشيخ علي» رجلًا تَعِسًا في رأي الناس؛ لأنه حيوان ضعيف وإنسان أضعف، ولكنها تعاسة بالغة؛ فهي من تلك الآلام الحادة التي بالغت الطبيعة في تكوينها لتُخرِج منها ذلك النوعَ الشديدَ الحادَّ الذي يسمُّونه اللَّذَّةَ، وربما كانت التعاسةُ السامية خيرًا من سعادة سافلة!
إن المجنونَ لم يَزِلَّ عن منهج الحياة بجنونه، ولكنه يَتْبع سنَّة هذه الحياة على طريقةٍ خاصةٍ غير ما ألِفَه الناسُ أو تواضعوا عليه؛ ليرى في كل شيء أثرَ جنونه، فهو حيٌّ مع الأحياء، بَيْدَ أنه يُشبِه أن يكون تفسيرًا للحياة الغامضة التي تَلُوذ بكل جانبٍ مهجورٍ على وجه الأرض، وبكل رأس تحتسبه جانبًا مهجورًا؛ لأن الناس لا يفهمونها ولا يتسعون لفهمها.
وليت شعري هل يأملُ الناس أن يشهدوا الحقيقة مغلوبةً على أمرها، وما كانت الحقيقةُ أحدَ الخصمين قطُّ إلا كانت الهزيمة على الآخَر، ولو أن هذا الآخَر عصرٌ من تاريخ الأرض. ثم ما هي الحقيقة إلا أن تكون عقلًا مطلقًا لا زيغ فيه، أو حقًّا مطلقًا لا كذب فيه، أو يقينًا مطلقًا لا شك فيه؟
وهذا «الشيخ علي»، أما عقله فعند الله، وأما حقه فقد أوجبَه الله، وأما يقينه فلا يعلمه إلا الله؛ فكيف يُرَى مغلوبًا لاصطلاح أو عادةٍ وأكثره راسخ في السماء؟
إنه ليجوع ويظمأ ويَعرَى، ولكن كما يجوع الطير وتظمأ الأرض ويعرى الشجر، ليس من حَلَّةٍ إلا وسبيلها من رحمة الله، فإن تَخلَّت عنه السماء مرةً، وقُطِعتْ مقاوده من الغيب، وخذلته الوسيلة؛ فما تغمز منه الحاجة إلا حجرًا صلدًا يقع على أي جانب ترميه ثم لا يقع إلا حجرًا؛ لأن آلام هذا الرجل من الألم القفر الذي لا يَنبتُ فيه شيء من الخوف، ولا يهتدي إليه وهمٌ من الحياة، ولا مجرى فيه للدمع، ولا ظلَّ للحسرة، وهو ألم إن أفضى إلى الموت أفضى إليه برجلٍ لا يعرف الموتَ ما هو، وإنْ أبقى على الحياة أبقى عليها في رجل عرفت الحياةُ مَن هو.
رجلٌ كأنه قطعةٌ من الأبد، لا أمس له يتعقبه، ولا غد له يترقَّبه، بل الحياة عنده يقظةٌ طويلة، والموت نوم أطول.
هذا هو «الشيخ علي»: رأيته فرأيتُ في بُردِه ثورةً على العالَم الإنساني، وعرفته فأصبت في ضميره قطعةً مجهولة من هذه المسكونة، واستجليتُ نفسَه فإذا هو أُفُقٌ فوق الأرض، وطالَعتُه فكأني رأيت في جملته النقطة الأرضية التي يبدأ من ورائها ارتفاع السماء، وبلَوتُه فإذا هو حَصَاةٌ تحت ضرس الدنيا والناس هنالك يُمضَغون؛ فلم أملك أن غمست قلمي من نظراته في مجرى من أشعة الوحي، ووضعت الاعتبار من هذا الرجل وحقيقتِه ما عرفت من الناس وحقائقهم، فخرجت لي من المقابلة هذه الصفحات؛ ولذا كان القول في «المساكين» ما قال «الشيخ علي».
على أني إن كنتُ لم أُحسن وصفَ الرجل أو كنتُ لم أبلُغْ في وصفه؛ فذلك لأن هذه الحقيقة في هذا القلم كالثمر الحلو في العود المرِّ، والرجل مما أنضجه القدَر وحده، وليس لنا من حقيقته الغامضة إلا الصفاتُ التي تُثبت أنها غامضة.
وهل في الحياة أشدُّ غموضًا من رجل يرى، أو كأنه يرى، أن كل نعمة لم ينلها فهي مصيبةٌ لم تنله، وكل ما يعرفه من هذه الدنيا أنه يعرفُ كيف يتركها مطمئنًا وعلى شفتيه من الابتسام تحية السماء لاستقباله، ومتى هو فارقها انكشف موتُه عن حياته، وصرحت هذه الحياة عن ضميره، وخلُصَتْ من هذا الضمير كلمةٌ هي معنى الرجل الذي انطوى عليه، وكانت هذه الكلمة هي «الحمد لله»!