الدين ولادة ثانية١
- فالأول: رجل ملحد أديب معنيٌّ بجمع الكتب يتعلق بكل نفيس منها، وهو يزعم أنه
تأمَّل الأديان فلم يجد طائلًا في شيء، وأن له في كل دين ظِنَّةً على
ريبةٍ، ونقدًا على مسألةٍ، وثانيةً على أوَّلةٍ،٢ وأنه تبدَّلَ الدين بالخُلُق،٣ فما خسر شيئًا وربح الحقيقة، ثم يحذو بعدُ على هذا الحذو كما
يفعل الملحدون في صفة أنفسهم، وهم دائمًا لا يأخذون من الكلام إلا بملء
اليدين؛ إذ من العجيب أن لا تقع لهم الكلمة الصحيحة المفردة.
هذا الذي خرج من الأديان ومن نهيها وأمرها إلى الأخلاق وعهدتها وأدبها، قال لي ذات يوم وقد خضنا في أمر الكتب: إني لأمقت السرقة والغصب والخديعة، ولا أبيح منها شيئًا ولا أُمِرُّها لأحد! غير أني إذا وجدتُ كتابًا نفيسًا وعجزت عنه أو ضاقت به ذاتُ يدي، ثم أمكنتني فرصة من الغفلات لم أتورَّع أن أسرقه، ولو غصبتُ ولو خدعتُ.
قال هذا فلم أفهم من كلمته شيئًا، إلا أن لقب «اللص» يكون من الشرف أحيانًا بحيث يسمو كثيرًا على الرجل الملحد.
- والثاني: رجل، متفلسف انقلبت عقيدته إلى زيغ، فله رأيان في أمور الحياة: واحدٌ
ينزع فيه إلى طبيعته فيستمتع ما وجد متاعًا في حرام أو حلال وفي معروف أو
منكر، والآخَر يرجع به إلى ضميره الإنساني، وما هو الأشبه بعلمه وعقله
وفلسفته فيألم ويتململ إذ يرى أنه لا يزن من لذاته لا بمقادير الخير ولا
بمقادير الشر، وأنه يبيح لنفسه ويحرِّم على غيره؛ فإنما الرأي والحق والعدل
أن لا ينطلق في كل إنسان تاريخه الوحشي كما يفعل هو ليقوم النظام على
أصوله، وتتحقق الإنسانية في أهلها، ولو فعل الناس ذلك فوسعتهم الفلسفة لما
وسعتهم الطبيعة، بل هي تسرع حينئذٍ فتطلقُ لكل حيوان مع أكيلته التي يغتذي
بها آكِلَه الذي يغتذي به.
لم أفهم من فلسفة الرجل أنه فيلسوف، بل عرفتُ من علمه أن الرجل من الناس قد يكون سافلًا حتى من الجهة العالية فيه، وقد يكون فاسدًا حتى من بعض جهاته الصالحة.
- والثالث: رجل يزعم عند نفسه أنه مصلح، ويتولى أمور الناس فيداورها ويلتمس لكل شيء
مأتًى يتسبب منه إلى إصلاح فيهم، حتى إذا وثق الناس به واستكانوا إليه
وصاروا في حال الغِرَّة وفي قياد الأمن، صدعهم في أديانهم وأخلاقهم،
ورَكِبَهم بمزاعمه وخرافاته، وبثَّ أوهامه في مذاهب أقدارهم وتصاريف
أمورهم، وظن الدين كلمةً يضع في موضعها كلمةً غيرها، وحسب اليوم من أيامه
في عمل الدهر كاليوم من أيام الله في خلق السموات؛ فهو يطرد الأزمنة، ويمحو
العادات، ويغيِّر الطباع، ويَسِنُّ لفروع الشجرة سنة جذورها، فلا يذهب
الفرع طالعًا بل يغور نازلًا، ثم يريد أن يقيم على طريق التاريخ مجازة أو
قنطرة ليمشي بالناس فوق التاريخ، فيقطع بهم ألف سنة في ألف يوم، وكأنه زاد
في الطبيعة ناموس نهيه وأمره.
أنا لا أقول في مثل هذا إنه مصلح، بل أقول يا عجبًا لسخرية الأقدار من القوة، أَلَا يرتفع النسر في الجو إلا ليبحث أين تكون الجيفة؟
- والرابع: ذاك الذي جعلَتْه الكتبُ عالِمًا، وقسمت ما شاء، ولكن الله تعالى لم يقسم
له شيئًا من كرم الضريبة وشرف العِرق، ولا ألقى معاني الذهب في سلسلة
آبائه،٤ فهو رِثَّةٌ٥ لا يجيء في معاني الناس بطباعه وأخلاقه إلا كالثوب الخَلَقِ من
فُتوق ورقع، ويغطي عليه العلم كما تغطي القشرة النضرة على الثمرة المرة،
فإذا كتب للناس ارتطم في طباعه ونزع إلى مأخذه وتجاذب داخلُ نفسه وخارجها؛
فيذهبُ ينكرُ ويعترض ويسفِّه ما عليه الناس من دين وخُلُق، وينزو بهم في
نوازيه ودواهيه، ويرد كلَّ ما في الطبيعة من الجمال وكلَّ ما في النفس من
الحق إلى تأويل مادي بحت، كأن الزهرة الخارجة من الطين هي طين مثله، ويسقط
عنده كل ما عمل الشعاع والماء في الذرة الأزلية التي انبثقت منها النبتةُ،
فخرجت توحي عن السماء وحي النور واللون.
أنا لا أفهم أن مثل هذا عالم، ولكنه في الناس كبعض النبات في النبات يُرزَق من النمو قوةً يُفسد بها ما حوله، فإذا هي ظهرت فيه لم تُنبِّه على قيمته بأكثرَ مما تنبه الناس إلى وجوب اقتلاعِه واستئصاله.
لا ثقةَ لي بمتخلق لا دين له؛ فإن الخُلُق يصله بحظ نفسه أكثر مما يصله بواجبات الناس، ولا بفيلسوفٍ ملحدٍ؛ لأن الفلسفة تمزجه بالمادة أكثر مما تمزجه بالإنسانية، ولا بمصلح ينسلخ من الدين؛ لأن إصلاحه صُورٌ من غروره، ولا بعالم جاحد؛ لأن علمه كهندسة الشَّوكة كلُّها من أجل آخِرها … أولئك لا يدرون أنهم من هذا العالم في حدود أغراضهم الصغيرة الفانية، إذا كان كلٌّ منهم يتناول الكون من حيث يحبُّ هو لا من حيث يجب عليه، ثم يفسم الأشياء في جزء منها لا في مجموعها، ويعتبر الزمن عمرًا كعمر الفرد وهو تاريخ لا يموت، وينظر إلى الغاية من الوجود كأنها داخلةٌ في الحد، مع أنها لو حُدَّت لبطلت أن تكون غاية.
كلٌّ منهم صحيح في ذاته لكنه فاسدٌ بموضعه من أغراضه أو من أغراضنا، وما أشبههم بالأشجار في المقابر لا تجد لها في المقبرة ما تجد لها في الحديقة، كأنها لما قامت في موضع الموت قامت حية، ولكن ماتت روح الحديقة فيها.
لا تسمو حياة الفرد إلا إذا كان جزءًا من كلٍّ، ولا يجتمع الكل إلا إذا كان تامًّا فيما هو كل به، السبيل أن يُدْفَع الفرد أبدًا إلى خارج حدوده الذاتية الصغيرة، وفكرة الكل هذه لا يصوِّرها ولا يستوفي معانيها إلا الدين الصحيح؛ إذ هو خروجٌ بالفرد من شهواته التي تفصلُه من غيره إلى واجباته التي تصله بغيره، وانتزاعٌ له من ذاتيته إلى إنسانيته، ودفعٌ بالإنسانية نفسها إلى الكل الذي هو أسمى؛ فكأن الإيمان في حقيقته إنْ هو إلا دُرْبةٌ لهذا الإنسان على الدخول في اللانهاية، فهو من أجل ذلك يقضي على الفرد أن يتسعَ ويمتدَّ في إنسانيته لا في شخصيته، فيتخلَّق بالأخلاق التي تعمُّ دون التي تخص. وهذه صورة صغيرة من جعل المحدود في ذاتِه أعظم من ذاته، ودَفْع ما ينتهي في سبيل ما لا ينتهي.
فإذا عمل الفرد على أن يُقفِلَ حدوده عليه ويستغلق بها ويمتنع من ورائها، صار كالقلعة المحصَّنة لا تصلح إلا حربًا لما حولها ودفاعًا عما فيها، فلن يضع هو أمره إلا على هذا المعنى؛ ومن ثَمَّ فلن يكون له ممَّن يصادمونه إلا حكم واحد، وهو تخريبه وهدمه واقتحامه، فإذا كانت الحياة غيرَ باقية على فرد من الناس، فمن الحمق أن تكون هذه هي صورة الإنسانية فيها، وإذا كان ذلك حمقًا فالحمق ولا جرم بعض المعاني التي يقوم الإلحاد عليها.
•••
ليس في الأرض إنسان لا أجداد له، فمن ثَمَّ ليس على الأرض إنسان في نفسه بل إنسانيةٌ فقط، إنسانيةٌ متصلة مفرَغة إفراغًا ليس للفرد بينهما موضع لذاته، بل موضعُه لاتصاله بسائرها كمنزلة الخليَّة الواحدةِ بين الملايين من الخلايا المتلازَّةِ في جسم واحد قائم من جميعها، صالح للوجود بصلاحها وفسادها معًا.
أما إنها لعجيبة أن تُلقي بسؤالين متناقضين لا يلتئمان، ثم لا تجد ولن تجد عليهما إلا جوابًا واحدًا لا يختلف، سَلِ الحكمةَ: لِمَ صلُح هذا؟ فالجواب: ليكون شيئًا ضروريًّا في الوجود. وسَلْهَا: لِمَ فسد ذاك؟ فالجواب كذلك: ليكون شيئًا ضروريًّا في الوجود. هي الحلقة المفرغة، لمَّا غاب طرفاها صار كلُّ موضع فيها طرفًا، وعَلَتْ كلها ونزلت كلها.
فليس إلا النوع لا الفرد، والكل لا الجزء، والإنسانية لا الإنسان، وإنما يقع كل شيء في الحياة — بل في الوجود كله — تدريجًا لتحقيق هذه الوحدة كيلا ينفصمَ أحد منها، فهي أبدًا ذاهبةٌ بالجسم والعقل والمعرفة والعمر من جزء إلى جزء، من الأصغر إلى الصغير، إلى الكبير إلى الأكبر، إلى الأوسع إلى الأسمى؛ لأن تلك هي علامتها في حركتها وتسحُّبها، وهي طريقة برهانها بالنهاية على أنها لا نهاية.
بَيْدَ أن خطأ الغريزة في الإنسان يظهر في اعتبار الفرد نفسه كلًّا تامًّا وشيئًا متميزًا، فلا يريد لنفسه إلا أمرًا تامًّا ووجودًا يتميز فيه، وبذلك يقتحم سواه ويستبيح وجوده، فيقع المنزاع والعدوان، وكأنه يضيق بمقدار ما لا يستطيع أن يتسع؛ لأن دفعه لكل ما حوله مردود عليه بدفع مثله مما حوله، فتتبدل صورة الإنسانية في شكلٍ دخَلَه الغلط من كل جهاته، وههنا موضع الدين الصحيح، فما هو إلا الناموس القائم من كل إنسان على الواقع في ذاته، والواقع في غيره؛ ليصلَ بين الواقعين المختلفين بنظام مختلفٍ متحدٍ يكون له في النفس ما يكونُ لنظام المدِّ والجزر.
وبهذا كان واجبًا حتمًا أن تكون العقوبةُ جزءًا من نعيم الدين، وأن يكون القيد شِقًّا من حرية العقيدة، وإلَّا بطلت في الإيمان قوَّتا الجذب والدفع معًا ببطلان إحداهما؛ لأن مدًّا بلا جَزْرٍ هو أفحش الغرق من ناحيةٍ، وجزرًا بلا مدٍّ هو أفحش الغرق من الناحية الأخرى.
تعجبني كلمةٌ في الإنجيل لا أعرف أحدًا أحسن تأويلَها وبلغ حقيقتها. قال: «يجب أن تُولَدوا ثانية.» ووَضْعُها في هذا المقال هو تفسيرها؛ فإن الفرد يُولَد من الفرد، ولكنه لا يصلح على ذلك، بل يجب أن يُولَد في صفاتِه وأخلاقه من المجموع الإنساني لتقع الملاءمة، ثم إنه من أبويه يخرج من الحيوانية بغرائزها، ولن يفلح بها إنسانًا، فيجب أن يُولَد مرةً أخرى من جنسه الاجتماعيِّ بغرائز مكتسبة، ثم إنه يُولَد مهيَّأ للإقرار بنفسه وحدَها، فيجب أن يُولَد الثانية مهيَّأ لإنكارها وحدها.
على هذه الأرض، إما الإقرارُ بالنفس وإيثارها والاعتداد بها، ومع كل ذلك الحيوانيةُ والشيطانُ، وإما إنكارها والإيثار عليها والمهاونة بها، ومع كل هذه الإنسانيةُ واللهُ.
لن تطاقَ الحياةُ إلا إذا تبدَّلَتْ فاتخذت لها أسلوبًا غيرَ أسلوبها الآتي من تركيب المادة، وإنما صراع الأرض كله حول إقامة هذا الأسلوب الجديد أو هدمه أو ترميمه؛ أسلوبِ الأخلاق والطباع الشديدة التي لا تطيقُها الحيوانية فتسميها إنسانية، وتُكبِرُها الإنسانية فتسميها الإيمان. بالأسلوب الأول تكونون بالحياة في موضعها، وبالثاني تَسْمُون بالحياة عن موضعها؛ «فيجب أن تُولَدوا ثانية».
•••
والطبيعة نفسها تهيِّئ الإنسان للدين بأسلوب غريب، هو هذا الحب الذي يُخلَق فطرةً على أنواع مختلفة متعددة، حتى لا يخلوَ منه أحد، فلا مَعْدِلَ عنه ولا محيص، وإنما هو في مظاهره — أيِّها كان — دُربةٌ للنفس الإنسانية تصعد به درجاتٍ من الفضائل؛ كالإخلاص، والإيثار، والاتصال الفكري، والانبعاث الروحي، والشوق الخيالي، ونحوها مما هو في الحقيقة إيجادٌ للحياة النفسية في أعمالنا، وفيضٌ بالقوة الروحية على مظاهر المادة لإحداث الملامسة بين الأرواح والأشياء، والترابط بين الجاذب والمنجذب؛ وكل ذلك تهيئة للدين وعمله في النفس ليكون قائمًا على أساسه في الطبيعة. فالحب دين على أسلوب خاص ضيق؛ ولذلك يشتدُّ فيه التعصب كما يقع في الدين من المؤمن به على وتيرة واحدة؛ إذ لا يرى القلب في هذا ولا هذا غير رأي واحد، فكيفما قلَّبنا الحياةَ رأينا في كل جهةٍ منها وجهًا من وجوه الإيمان، وباعثًا من بواعثه، وحكمة من فلسفته؛ فالمصلحون الذين يحاولون تجديد الأمم بصُوَر ملوَّنةٍ من الغرائز تطمُس على الدين، هم الذين يرجعون بهذه الأمم في عالية الأمر إلى الحيوانية؛ لأنه ليس في طبيعة النفس إلا شيئان: هوًى هي دائمًا أعظم منه، وإيمانٌ هو دائمًا أعظمُ منها.