الفقر والفقير
قال «الشيخ علي»: يا بنيَّ، إن في تاريخ الحياة سؤالًا لم تَزَلْ تُلقيه أطماع الناس في كل عصرٍ من عصورها، وما إن تصيب له جوابًا مُقنعًا لأن الطمع ليست له طبيعة محدودةٌ، فهو يرمي بسؤالٍ غير محدود، ويريد بطبيعته جوابًا عليه غيرَ محدود.
هذا السؤالُ واحدٌ من ثلاثة هي حقائق الإنسانية الضالة عن الإنسان نفسه في غيب الله.
يقول الإنسانُ: ما هي الروح التي تعطي الحياة؟ وتقول آماله: ما هو الموت الذي يستلب هذه الحياة؟ وتقول أطماعه: وما هو الفقر الذي يجمع على الروح بين الموت والحياة؟
كذلك نتساءل: ما هو الفقر؟ على أنه ما غَيْر الفقر ذلك السؤالُ الذي تجد في كل نفس إنسانية معنًى من جوابه؛ ولا غير الفقر ذلك القبرُ المعنويُّ الذي لم يخلق الله نفسًا من النفوس إلا ولها ميِّتٌ من الأمل في ترابه؛ بلى، وإذا كان في لغات الأفواه لفظ خالد فإنما هو الفقر، وإذا كان في هواجس القلوب معنًى خالد فإنما هو خوف الفقر، وإذا كان للدموع الإنسانية مصبٌّ واحدٌ تلتقي إليه من جهات الأرض، فإنما هو بين شاطئين إنْ جاز أن يكون أحدهما الحب، فإن من المحقق أن أحدهما الفقر!
إن هذه الأرض لتُصبح في كل يوم ولا يمكن أن يقال بحق إن فيها عملًا إنسانيًّا عامًّا غير طلب المال، فأحرِ بها أن تُمسِي في كل يوم، ولا يمكن أن يقال إنَّ فيها معنى إنسانيًّا عامًّا غير راجع إلى الفقر.
ويقولون إنها تدور حول قرص الشمس، وهو قولٌ فلكي أو سماويٌّ يصحُّ إطلاقه على الأرض كهيئتها يوم خلقها الله، أو على الأقل كما خلقها، أما الحقيقة الأرضية فإنها تدور حول قرصين: قرص اللَّهب، وقرص الذهب، ويا لله وللفقير! إنه دائمًا في الجهة المظلمة!
الفقر متى ألقيته سؤالًا عاد إليك بجواب نفسه؛ لأنه فصلٌ من كل عمل، كالشتاء فصلٌ من كل سنة، وليس في الناس جميعًا مَن يصدُق إذا ادَّعى أنه لا يعرف الفقر، غير اثنين لا خير فيهما: غنيٌّ جُنَّ من فرط الغنى، وفقير جُنَّ من فرط الفقر؛ فالأول لا يعرف هذا الفقر في جنونه لأنه جُنَّ بغيره، والثاني لا يعرفه لأنه جُنَّ به. ولكن مَن هو الفقير؟
من هو هذا الكائن الضعيف الذي أحاط به الجهل حتى إنه ليجهل نفسه، وأينما يُولِّ وجهه أشاح عنه الناس بوجوههم فلَوَوا رءوسهم، وصعَّروا خدودهم، وأمالوا أعناقهم، حتى كأنَّ كلَّ رأسٍ في التواء عنقه من الأنَفة والاستكبار، يمثِّل علامة استفهام أقامتها الحياة في وجه هذا المسكين، أو يُقيم علامة إنكار …؟!
مَن هو هذا الحيُّ الذي تنكرت له الدنيا حتى أصبح فيها كأنه نوعٌ شاذ من الخلق يقوى على كل شيء حتى الطبيعة، ولكنه يضعف عن شيء واحد وهو الغنى؛ فقضت عليه شرائع الاجتماع أن يُنفِقَ من حياته أضعاف ما يكسب لحياته، فهو إذا كدح في العمل طوال يومه، فقوتُ هذا اليوم عليه كثير، وإذا لم يجد ما يُطعمه الجوعَ فأطعمه من جسمه، فذلك عليه يسير، وإذا سال في الشمس وجمد في البرد، فهو عند الأغنياء ذو طبيعتين؛ لأنه ليس مثلهم، ولأنه فقير …؟
مَن هو الذي يجفُّ ريق الأرض لو جفَّ عَرَقَه من ترك العمل، ويخيب أمله مع ذلك في كل غنيٍّ وهو نفسه للأغنياء أكبر أسباب الأمل، يُدِلون عليه بالغنى ولولا أن في فضتهم عنصرًا من دمعه القيِّم لما وجدوا لها قيمة، ولو لم يكن في ذهبهم رُوحٌ من دمه الكريم لما عُدَّ أفضل المعادن الكريمة؟
قال «الشيخ علي»: ذلك يا بنيَّ هو المُدْرَج في أكفان النسيان، الذي ليس له في الناس إلا «مُنْكر ونكير»، ذلك هو البائس في بني الإنسان، الذي يكثر عليه القليلُ ويقلُّ منه الكثير، ذلك هو المتناقض في نفسه حتى لا يصغر أن يقال فيه صغيرٌ، ولا يكبر أن يقال فيه كبير، ذلك هو الذي يشبه أن يكون عمله حركةً فلكيةً في الأرض لآلة الغنى؛ ذلك كله هو الفقير!
ويا لله! ما تَحمل الأرض إنسانًا واحدًا لا يخشى عاديةَ الفقر، ولا يتعوَّذ بالله منه، ولا يرى يومه في هذه الأرض كأنه الآخرة قبل الآخرة، يقوم الفقير بين حسابها وعذابها، ويستعيذ برحيمها من جحيمها، ويفر من أمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تئويه، ويضع في ميزانها المنصوب آماله، فلا يزن إلا أعماله، ويستصرخ كل مَن يمرُّ به فلا يسمع إلا قائلًا يقول: نفسي نفسي … فينظر فإذا هو في الناس ضائعٌ حتى لا يعرف له محلًّا، ومنفردٌ حتى لا يجد بينهم لشخصه ظلًّا، وإذا هو بالسماء وقد التهبت بأقدارها حتى كأنها في عينه جمرة من البرق الخاطف، وإذا الأرض قد ثارت بأهلها كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصف، فإن أقبل على الناس فروا من أماكنهم كأنه زلزلةٌ تمشي، وإن استصرخهم نفروا كأن في صوته فزعَ الرعدِ القاصف.
يا لله! ما تحمل الأرض إلا مَن يعرف هذا كله من الفقر بل أشد منه، ثم يبقى الفقير — ويا لهفَ أرضي وسمائي عليه! — كأنه مسألة في حساب الناس لا همَّ لهم فيها إلا كثرة الطرح والضرب، ثم الغلط في النتيجة. وتنحاز طبائعُ الناس كلها في جهةٍ والفقر وحده في جهة، حتى لا يرى هذا المسكين في العالم على سعته غير اثنين: هو، واستبداد الغني.
تُرَى أين تكون شرائع الآداب إذن؟ هل هي في ضمائرنا، أم هي في كتبها، أم هي في تاريخها الميت القديم، أم صار الحق كله إنسانيًّا بحتًا: لي عليك ولك عليَّ وليس لله علينا شيء؛ وفصلنا أنفسنا من السماء، وقطعنا الروابط التي كانت تربطنا بها ونبذناها، فرثَّتْ ثم رثَّتْ، فإذا هي على أجسام الفقراء تلك الأسمالُ البالية؟
إن هذه الحقوقَ متى أصبحت إنسانيةً محضةً ليس فيها لله شيء، فكلُّ درهم يوضع في يد الإنسان يجعل فيها عقلًا يحكم على عقله، وكل رغيف يستقرُّ في مَعِدته يخلق فيها ضميرًا يستبد بضميره؛ فينفصل الإنسان من الله ويبتعد عنه بمقدار ما يقرب من الغِنَى، وحسبه يومئذٍ في اعتباره بعيدًا جدًّا عن الله ورحمته أن يقال: إن بينه وبين ربه مسافة ألف دينار؛ ذلك بأن عدل الله يقضي أن يكون للفقير قِسمُه من الثروة، وإنما الجزء المهم من هذه الثروة هو الإحساس في ضمائر الأغنياء.
قال «الشيخ علي»: ولماذا نرى يا بنيَّ جفاة الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم وأهليهم فقط، ولا يخشون منه على الفقير؟
أظنهم يقولون: إن في الأرض شيئين بمعنى واحد: قبورُ الأموات في بطنها، وأكواخ الفقراء على ظهرها، وليس من فرق بينهما في النسيان؛ لأنه يشملهما جميعًا، وإنما الفرق بينهما في حاليهما المتناقضتين، هذا قبر ميت وهذا قبر حي! نعم، صَدَقوا وبروا وقالوا حقًّا؛ أليسوا جفاة القلوب غلاظ الأكباد؟ وإلا فما الفرق بين موتٍ منسيٍّ كموت الغريب، وحياة منسية كحياة الفقير، إلا على الفرق الذي لا يبالي به هؤلاء الأغنياء حين يكون لأحدهم ظاهرٌ حيٌّ وضميرٌ ميت؟
وأحسب أولئك الطغاة يقولون: إننا نرى الفقيرَ لا يملك من الأرض شيئًا محدودًا، بل هو يملك أرض الله كلَّها بحدودها الأربعة؛ ففقر فلان التاجر الغني مثلًا ليس هو في الحقيقة أن لا يُصيب القوت ولا يجد المأوى كغيره من الفقراء، وإنما هو المتاجرة في الآمال بعد الأموال، وقبض الريح بعد قبض الربح، واستقبال الأبواب والجدران بعد استقبال الأصحاب والجيران، وهلمَّ من هذا الباب الذي يُفتَح من جهة الغنى على سائر الجهات الثلاث للحياة البائسة: وهي الفقر والمذلة والألم! وإنما هو رجل ككل رجال المال، متى خرج المال من يد أحدهم خرج اسمه من أفواه الناس، وخرج حبه من قلوبهم، ويكون من أهل السعادة لو خرج هو أيضًا من الدنيا!
فإذا كان الفقر كلَّ شيء عند هؤلاء الحمقى، فما هو الشيء الذي يُسمَّى الفقر؟
من أجل ذلك يا بنيَّ ترى الأغنياء يخشون من الفقر على أنفسهم، وهم أنفسهم لا يخشون منه على الفقير؛ لأن هذا الفقير في رأيهم قد أصبح شخصًا آخَر لا صِلَة لهم به ولا عهدَ، فهو يكذبُ على الحوادث والحوادثُ تكذب عليه، وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها، فإذا انخدعوا له فبمقدار ما يتعجبون من سخافته، وإذا أعطوه كان العطاءُ سخيفًا بمقدار ما ينخدعون، ولا ينظرون لأثر الله عليه، ولكن لأثره على نفسه؛ إذ الحقوق عندهم حقوقٌ إنسانية، فهيهات يختلج في نفس أحدهم أنْ لو شاء الله لوضعه في ثياب هذا الفقير، ولوضع الفقير في ثيابه.
قال «الشيخ علي»: ولا بد من صلةٍ معنوية بين جميع الناس على ما يكونُ بين الإنسان والإنسان من التباين والاختلاف في كل شيء، حتى بين الأخوين تلدهما الأم الواحدة، وهما مهما اتفقا في الحياة ومظاهرها، فإنهما لا بد مفترقان افتراقَ الثديين اللذين ارتضعا منهما الحياة؛ فما عسى أن تكون هذه الصلة العامة بين الناس؟ تقول الشرائع: إن الصلة التي تجمع الناس بعضهم ببعض هي العدل! وتقول العلوم: إنها العقل! وتقول الآداب: إنها شيء من العدل والعقل يُكوِّن الإنسانية في الضمير! وتقول الحياة: إنها سبب الإنسانية وهو الرحمة! ثم يرعد صوت إلهيٌّ يقصف من جهة السماء التي هي مصدر العقل والعدل والإنسانية والرحمة، فيصيح بكل ما في هذه الأشياء من القوة، ويقول: كلا، بل هو سببُ الرحمة، ومظهرُ الإنسانية، وكمال العقل، وفضيلة العدل، وهو الفقر!
قاتَلَ الله البخل وقبحه، فما هو إلا حِرصٌ على المنفعة يشبه عبادة الوثنيين لكل ما توهموا فيه المنفعة، وإن كان للحواس نوعٌ من الكفر بالله فكفر اليد في إمساكها، وإن الله لرحيمٌ إذ لم يعاقب البخلاء بما يعاقبون به الناس، فليس بين كل بخيل وبين الهلاك إلا أن ينقل الله «الإمساكَ» من يده إلى جوفه! على أن البخل إذا لم يكن بقيةً من الوثنية القديمة بعينها فهو على كل حال نقصٌ من الإيمان؛ لأن الله وعد المحسنين والمتصدقين ثواب ما أنفقوا مكافأةً على فضيلة الإحسان التي هي في الحقيقة فضيلة الإحساس، ثم أن يُخلِف عليهم ما أنفقوه أضعافًا مضاعفة؛ إذ المحسن لا يجود بدراهمه على الله، ولكنه يقرضه إياها قرضًا حسنًا، متى وضعها في يد الإنسانية الفقيرة، فمَن أمسك عن الإحسان بخلًا فإنما يشكُّ في وعد الله، وإلا ففي قدرة الله، وإلا ففي الله نفسه؛ فأكبر البخل عند أكبر الكفر وأصغره عند أصغره! ويوم يخرج الإيمان من قلوب الأغنياء تخرج أرواح الفقراء من أجسامهم، فيموتون بالجوع وبالعري وبالمرض وغيرها من أسباب الموت، وكلها مظاهر متعددة لسبب واحد هو في الحقيقة كفر الأغنياء كفرًا في الضمير لا كفرًا في اللسان.
ومن هنا يا بنيَّ لا تجد الفقير في أي عصر من العصور إلا جهة من الخلل في نظام الاجتماع الإنساني، كما أن البخل جهةً من الخلل في نظام النفس الإنسانية، والفراغ الذي يجده الفقير في بيته إنما هو موضع النعمة الضرورية التي بخل بها الغني، وهو في الحقيقة موضع التفكك أو الكسر في الآلة التي تديرها شريعة الاجتماع.
الإنسان إنما خُلِق اجتماعيًّا، وهو بشخصه لا قيمةَ له ولا منفعة إلا حيث يكون شخصه جزءًا من مجموع؛ لأن اليد الواحدة في الجسم ولو كانت يدَ مَلِك، وكان فيها زمام العالم، فإنها لا يفارقها عيبُ أختها المقطوعة.
وكلُّ خلل في النظام الإجتماعي فإنما مرَدُّه إلى طغيان بعض الأفراد، وجنوحهم إلى أن تكون شخصية الواحد منهم من الكِبرِ والعظمة بحيث توازن المجموع كلَّه أو أكثر المجموع؛ بَيْدَ أن هذه الموازنة الفردية متى اتفقت كانت إخلالًا بالموازنة الاجتماعية؛ لأنها تجعل كل حركة من هذا الفرد زلزلة في المجموع، كالثقل في إحدى كفَّتَي الميزان، إنْ خفَّ سقطت الكِفَّة الأخرى، وإن ثقل شالت، وهو السقوط إلى فوق!
ومن هذا يا بنيَّ، ترى أن الإنسان لا يعيش فردًا، ولكنه حين يموت يموت فردًا؛ فإذا رأيت فقيرًا منبوذًا من الاجتماع منفردًا عنه، لا يساهمه في عمله وعيشه، بل كأنه يعيش في بقعة مجهولة من الحياة، فاعلم أن إهمال ذلك الفقير إنما هو نوع من القتل الاجتماعي.
ههنا قاتل ومقتول؛ لم يأخذ القاتل بحق من الحقوق ولا ثأر لنفسه ولا قتل بيده، أما المقتول فإنه لم يُقتَل في إثم اجترحه، ولا هو جنى على نفسه الضعف الذي أرهقه وبلغ منه حتى جعل إهمال القوى إياه كأنه حكمٌ عليه بالقتل؛ فتُرَى على مَن تكون هذه التَّبِعة، وهي بالتحقيق ليست على القوى لقوته، ولا على الضعيف لضعفه؟
تُرَى على مَن تكون هذه التَّبِعة أيضًا؟
إذا لم يقرَّ الأغنياء لأنفسهم بالضمائر، ولم يلحقوا بها التَّبِعات التي تناسبها، فهل هم في ذلك إلا كالمجانين لا تقر لهم الشرائع بالعقول، وتخليهم من تَبِعة ما يجنون على العقلاء لأنهم مجانين؟ وكيف ترى ذلك الغني الفظَّ الذي يَهِرُّ في وجوه الفقراء ويُزمجِر عليهم كأنه ينبحهم بلغةٍ من لغة الكلاب، ولا يفتأ يقذفهم بالألفاظ الجاسية المؤلمة كما يقذف المجنون بالحجارة، وإذا أعطاهم فإنما يُعطيهم بقبضةٍ فارغة، وهو لا يوقِّر أبدًا إلا مَن فوقه، كأنه لا يرى في الدنيا كلها أسفلَ من نفسه، ولا يبالي إلا بمَن يطمع فيه كأنه جالسٌ في «مكتب أحد المخدمين»، وقد تساوى في الدناءة والكلف بالدنيا وقذارة الطباع ظاهره وباطنه، كأن ضميره لبسَه مقلوبًا، وصار أمر رضاه وغضبه وإحساسه وحيائه موقوفًا على ما يكون من أمر المعاملات، كأن أخلاقه ليست في نفسه، ولكنها في أيدي الناس؛ أفليس مثل الغني الدنيء رجلًا عاقلًا؟
بلى، وإنه لأعقل من كل مَن يمدحه ويزكيه، ولو كان هذا المثنِي عليه أكبر علماء الاقتصاد، ولكنه على ذلك مجنون الضمير بحيث لا يعقل إلا بحواسه!
وبالجملة فإن أول ظلمه أن يعتقدَ ظلمه عدلًا أو شبيهًا بالعدل، حتى لا يتلوي عليه أمرُ نفسه إذا خذله ضميره؛ فإن اضطراب هذا الضمير يتصل اتصال الكهرباء بأيدي المجرمين، فإذا هو فيها شلل، وبأرجلهم فإذا هو زَلل، وبنظامهم العصبي فإذا هو خلل، وبعقولهم فإذا هو المس والخبل، وإذا لم يفلح الجاني في إقناع ضميره أو التلبيس عليه، تخلَّص منه ففصل بينه وبين العقل بالسكر، وما هو في حكمه حتى لا يشهد من أمره شيئًا.
أفلا تجد في تخدير أكثر المجرمين لضمائرهم ساعة الجناية دليلًا على أن الضمير الذي يشهد الذنب إنما يتلقى العقابَ عليه؟ ولماذا تدفع الجريمة إلى الجريمة غالبًا؟ أليس ذلك لأنها إنما تقتضي عقابها الطبيعي؟
يابنيَّ، إن أفقر الفقراء ليس هو الذي لا يجد غذاءَ بطنه، ولكنه الذي لا يستطيع أن يجد غذاء شعوره، فلا تحسبن أن مع جنون الضمير وجفوته ومرضه سعادةً وراحة؛ لأن لذة المال لا تتجاوز الحواس الظاهرة، فهو يبتاع لها كل شيء مما تشتهي، ولكنه لا يستطيع أن ينيل القلب شيئًا إلا إذا جاءه بالخير والفضيلة.
والغنيُّ الذي يمنع الفقراء ماله قد يزيد فيه ولو حُكمًا بمقدار ما يمنع، بضعة دراهم أو بضعة دنانير، ولكنه يزيد ضميره جفاءً بالقسوة والغلظة ونسيان الفضيلة، ولا يزال على ذلك حتى يمر به يومٌ يفقد فيه ضميره كل شعور بالخير، فيفقد معه كلَّ شعور بلذة النفس التي هي أقرب المعاني إلى معنى السعادة.
ويومئذٍ لو اشترى كلَّ لذات الدنيا بماله ما زادته إلا ألمًا من الضجر، وضجرًا من الألم؛ لأنه فقد قوة من ضميره تقابِل القوة التي يفقدها المريض من مَعِدته.
إذن فلا بد في كل شيء إنساني من حقيقة باطنة في نفس الإنسان تعطيه بصحتها أو مرضها قوة اللذة أو الألم، وبهذا يقضي العدل الإلهي كلَّ ذي حق حقه بالنَّصَفة والسوية، لا فرق بين الغني في غناه وبين الفقير في فقره، فلكل منهما لذة وألم. ولعلنا لو سألنا أغنى الناس عما هي لذة الغنى، لَرأيناه في حقيقة التعاسة النفسية كأفقر الناس إذا أجابنا عما هو ألم الفقر.
وقد فُطِر أكثر الخلق — لطبيعة الخوف المتمكنة منهم — على أن يتسعوا في فهم الآفات وحدها، حتى صار الوهم الخيالي أكبر الآفات الحقيقية؛ فالفقير الذي لا يفهم حقيقةَ الفقر يتألم بإدراكٍ ووهمٍ وفلسفةٍ؛ إذ يقيس حاضره على ماضيه وعلى ماضي غيره من الفقراء، ويقيس مستقبلَه على حاضر الأغنياء ومَن في حكمهم فقط؛ وبهذا يكون ألمه عملًا عقليًّا في شيء موهوم، فما دام يتمنى أكثرَ مما يستحق فهو يتألم بأكثر مما يستحق، ولو تأمَّلَ الناس لَرأوا أن نصف الفقر فقر كاذب. فآه لو كان مع ضعف الفقر قوة الإرادة! إذن لَوجد الحكماء في الأرض شيئًا حقيقيًّا يسمونه الغنى.
أيها الناس، إن الفصل بين الغنى والفقر من الأمور التي تتعلق بالضمير وحده، ورُبَّ غِنًى يزيد أهله بالحرص والدناءة فقرًا؛ فانظروا فيهما بأفكار إلهية لا تطلب إلا الفضيلة التي يمكن أن تكون بلا ثمن، ولا يمكن أن يكون شيء ثمنًا لها، انظروا إلى بعض الأغنياء الذين تموت في قلوبهم كلُّ موعظة إنسانية أو إلهية، فلا تُثمر شيئًا حتى إذا ماتوا نبتت كلُّها من تراب قبورهم فأثمرت لنفوس المساكين والفقراء عزاءً وسلوةً وموعظةً من زوال الدنيا، انظروا بعين الحقيقة التي تعطي هذه الطبيعة النظرَ فتعطيها محاسنُ الطبيعةِ الفكرَ.
انظروا في باطن الإنسان بالفضيلة التي هي من نور الله، وبالحقيقة التي هي من نور الطبيعة؛ فإنكم لا ترون حقيقة الغنى تبتعد عن حقيقة الفقر إلا بمقدار شبرٍ واحد؛ هو مِلْءُ هذه المعدة!