مِسكينة! مِسكينة!
قال «الشيخ علي»: واسمع الآن يا بنيَّ ما أقصُّ عليك، فإني محدِّثك بخبر ليتني ما علمته، بل ليتني إذ علمتُه ما وعيته، وليتني إذ وعيته ما أثبتُّه ولا نفذتُ فيه كما نفذ فيَّ.
ولكن الحياة كما تقضي علينا أن نشهد أموات الأحياء، ونحملهم إلى أبواب الآخِرة من تلك الحفر، تقضي علينا كذلك أن نشهد أحياء الأموات من أهل الرذائل، ونحمل من أخبار ضمائرهم الميتة إلى أبواب السماء في أنفسنا!
فواهًا لك أيتها الحياة الدنيا! تقتلين بالشر وتجرحين بأخباره، ولا تُوتين عسل الحكمة إلا بعد لسعٍ كثير.
وإنها لتمشي وكأنْ ليس فيها دمٌ ينتهي إلى قدميها، فهي تجرهما جرًّا، وتقتلعهما بين الخطوة والخطوة، وما تدري من الألم أَهُمَا على الأرض أم في الأرض تسوخان؟ وقد تزايلت أعضاؤها فما تحسُّ أن فيها حياة متماسكة، وهي ما فتئت تحسب أن جسمها قد خُلِق نعشًا لقلبها، فلا هذا القلب يحيا كما تحيا القلوب، ولا ذلك الجسم ينمو كما تنمو الأجسام!
أما الآن فقد تبيَّن لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وانصدعت حفرة جدتها المسكينة، ولم يَبْقَ لها إلا رحمة الله.
أما الفتاة فكل الناس يهزأ بها، وهي ترى كل إنسان على ملكه كأنه قانون وُضِع لعقابها إذا حدثتها النفس حديثًا، فقد بلغت من الضعف والمرض والفاقة إلى حالٍ لا تجعل يديها تصلحان لعمل غير الأخذ؛ فإن اختلست قيل سارقةٌ فعوقبت، وإن سألت قيل متشردة فكذاك! ويا ليت في قلب هذا الإنسان من معاني الصفح بعض ما في لسانه من ألفاظ القصاص، ولكنه حيوان متكلم فتنصرف فطرته الحيوانية أكثر ما تنصرف إلى لسانه، كما تتمثل هذه الفطرة من سائر الحيوانات في حواسِّها التي تبطش بها، وكلا النوعين سواء في الافتراس والكَلَبِ والتوحُّش، فما اللسان إلا حاسة البطش العاقلة، وقلما يؤذي الإنسان قبل أن يؤذيَ بهذا اللسان.
ولم تَرَ المسكينة أروحَ لنفسها المكدودة من الانتحار، وكأنما يُخال لها أن في الموت عيشًا؛ فخرجت تمشي بين الناس إلى قبرها كأنها فيهم جنازة وهم يشيِّعونها، ولئن كانت لم تُسرَّ بالحياة فلقد سرها أن ترى تشييع جنازتها وهي حية تموت، ولا أقول وهي حية تُرزَق، فإن العلة النازلة بها قد أخذت عليها مذاهبَ الرزق، حتى لم تترك لها في الناس «وجهًا»، وقبضت عنها الأيدي إلا تلك اليدَ الواحدة التي تأخذ دائمًا ولا تعطي أبدًا، وهي يد الموت!
وإنها لتنفتِل وتلتوي على أحشائها من رجفة الجوع، وما تأخذ عينُها من الناس إلا مَن يحمل بطنه حملًا من شبع ورِيٍّ؛ فكان نظرُها إلى الناس أمضَّ عليها من الفكر في نفسها، وكأنها تُقتَلُ من جهتين!
وكذلك أخذت سمتها إلى طريق النهر، وأمضت نيتها على الموت غرقًا؛ لتموت نظيفة، وتكون لنفسها غاسلة، وتُرسل روحها المتألمة إلى السماء في دموع السماء!
ومشت تتساقط كأن الجوع والمرض يهدمان منها في كل عثرةٍ ركنًا، أو كأنه كُتِب على كل بائس أن يموت في طريقه إلى الموت، وهي تنتهض من كل عثرة إلى أشدَّ منها، كما تتخطى العنكبوت في نسجها من خيط واهن يكاد ينقطع إلى خيط أوهن منه، وقد اجتمعت روحها في عينيها فهي تسيل على نظراتها الشاردة، وكلما امتدَّ بها المسير قصُرَت مسافة النظر حتى توهمت أن الموت بادئ من عينيها، وإنها لَكذلك؛ إذ لَمَحَها طفل قروي قد انقلب من المدينة إلى الضاحية التي غادر فيها أمه العمياء، وكان يعتملُ طِوَال يومه في بعض المصانع، وهو يحمل طعامها الذي لم ينله إلا ببيع نفسه يومًا كاملًا، على أن المسكين لا يُحسُّ من الذل أنه اشترى نفسه بمقدار ما يحس من العزة أنه ابتاع إدامًا ورغيفين وقطعةً من الحلوى.
غير أني أعرف أنه لا يسلم من لؤم النفس في صنعة المعروف وتطويل المن به وتعريض الحديث فيه إلا الأطفال وإلا الفقراء؛ أولئك لأنهم لا يستكثرون الخير، وهؤلاء لأن الخير منهم غير كثير.
أما الفتاة، فأرسلت في إثره نظرةً حيةً ولم تَجْزِهِ غيرها، بل جعلت جزاءَ عمله من عمله نفسِه؛ لأن ثرثرة الفقراء في الشكر على المعروف كهذيان الأغنياء في التبسط على المن به، كلاهما لا يكون إلا من خُبْثٍ أو لؤم. هي فتاة أقدمت على الموت ولم تُقدِم على السرقة، وإنها لتعلم أن مَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، ولكنها رأت الطفل غيرَ أهل لأن يعرفَ موقع إحسانه من نفسها؛ لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري!
ولما أمسكت عليها النفسَ وراجعت الحياةَ، بدا لها فيما اعتزمته من الانتحار، فترددت وجعلت تساورها الظنون، وخُلِق لها من معدتها عقل جديدٌ يُبصِّرها فرقَ ما بين الجوع والشبع؛ وكذلك تَعرِض لبعض الناس حالاتٌ من الحرص يعقلون فيها ببطونهم، حتى إن أحدهم لو تحسَّسَ رأسه وهو يفكِّر لحسبه بطنًا صغيرًا من العظم؛ فأنشأت الفتاة تستقيم على طريقها وهي تؤامرُ نفسها على الحياة والموت، وقد بدأت تهضم في معدتها الطعامَ والعزيمة جميعًا، ومات الذي كان بينها وبين الموت!
ورأتها الفتاة كما تنظر المرأة إلى المرأةُ بعين جامدة ليس فيها لغة ولا فلسفة ولا شعر، فقالت: يا لها سعادةً أن تكون هذه «العجوز» لا تتقدم في عمرها إلى الأمام، ولكنها ترجع إلى الوراء! وأن تظهر بين الناس حسناء، وإن كانت من القبح بحيث ذهب نصفُ نهارها في التحسن! وأن لا تجد من هموم الدنيا أكثر من همِّ الألفاظ إن قال الناس غير حسناء أو قالوا غيرها أحسن منها! ويا له شقاءً أن تكون هي كما هي، وأكون أنا كما أنا!
– هي دائمة، وما أنت والنعمة؟
– سيدتي، وقاكِ الله ما أنا فيه من بأساء الحياة، ولا كتب عليكِ أن تعرفي ما هي!
– فلماذا أنتِ وأمثالكِ في الحياة إذن أيتها الحمقاء؟ وهل يُكتَب تاريخ البؤس إلا في صفحة من مثل هذا الوجه؟
– سيدتي، أَلَا مهلًا مهلًا، وانظري إليَّ ينظر الله إليك.
– قد نظر الله إليك من قبلي.
– سيدتي، هبيني خادمًا أحسنتِ إليها.
– فَلْتكوني خادمًا طردتها إن بلغتِ أن تكوني خادمًا لمثلنا.
– يا ويلتنا! أَلَا رحمة في قلبك فتجودي عليَّ بما لا بأس عليك منه؟
– ولماذا أُفضلك على سائر الفقراء؟ ينبغي أن أجود عليهم جميعًا إذا أنا جُدْتُ عليك، ولو فعلتُ لطلبتُ بعد ذلك مَن يجود عليَّ!
– سيدتي، أَلَا فاجعليني من نصيبك في الإحسان، وغيري من الفقراء له غيرك من الأغنياء، على المُوسِع قدَرُه، وعلى المقتِر قدَرُه!
– إذن فكوني أنتِ من نصيب غيري ودعي غيرك لي.
– سيدتي، ليس فقري عن خطأٍ مني، وليس غناك عن صواب منك، وما الرزق يا سيدتي من فضل الحيلة!
– وهل أنا أريد أن أعاقبك فتنتفي من الخطأ؟
– رُحماكِ واتقي الله في الإنسانية، فلعل في قصرك الباذخ كلبة جعلتِها أحسن حالًا مني!
– حينما تصيرين مثلَها فتعاليْ إلينا، ويومئذٍ تعرفين كيف تُطرَدُ الكلاب!
قال «الشيخ علي»: فكبُر ذلك على الفتاة، وانتبهت في نفسها فضيلةُ الفقر وحكمتُه، فرأت أنها تنظر من ضمير تلك السيدة في مرآة مقلوبة من مرائي الإنسانية؛ مهما جهدت أن تستقيم لها لم تزدها إلا مسخًا؛ هنالك غلبتها عيناها وانطلقت وراء دموعها، ولم تجد لها عزمًا.
أما السيدة الكريمة — كما يقال — فابتلعت ما بقي في فمها من تلك الفلسفة، وافترَّ ثغرها قليلًا عن ابتسامة السخرية، وسرَّها أن يكون في لسانها كلُّ هذا المنطق، ثم أنغضت رأسها بكبرياء وقالت: «مِسكينة! مِسكينة!» ومرت بعد ذلك لا تلوي، وما يخطرُ لها إلا أنها نفضت نعلها!
•••
كانت للسيدة فتاةٌ كطلعة البدر في الرابعة عشرة، لا تصفُها إلا مرآتها، وهي الدنيا مجموعةً في قصرها، وكأنها في النعمة مستقبل نفسها وماضي أمها، وكانت هذه السيدة عقيمًا ولكن شذَّت معها الطبيعة لأمرٍ أراده الله، فوُلدت لها الفتاة وكأنما انشقَّ لها القمر، ولم تذكرها في نفسها إذ كانت تحاور تلك المسكينة، بل ذكرت خادمتها وأنفت لهذه الذكرى، ومن شؤم الغنى على أهله أن لا يذكِّرهم في الشر إلا بأنفسهم، ولا يُنسيهم في الخير إلا أنفسهم، فلا يعلمون أن الفقر أنواع كثيرة، وأن الغنى نفسه نوعٌ من الفقر إلى الله؛ وبذلك ينظرون إلى المساكين تلك النظرة التي لا تخلو من بعض معاني القضاء والقدر، كأن الألوهية درجاتٌ جعلهم الغني في واحدة منها؛ فما ظنكم أيها الأغنياء برب العالمين؟
وانكفأت السيدة إلى قصرها فإذا فتاتُها تنتفض من وعكة الحمَّى، وهي في سريرها كقلب أمها في اضطرابه والتهابه، وما تعلم من أين اتصلت بها الحمَّى ولكن الله يعلم، ولئن كان البعوض مما يُعدُّ في أسباب هذا المرض، فلقد كان كلامُها للفتاة يَنْفِر منها كما ينفر البعوض من مستنقع؛ فخرجت المرأة عن رشدها وضاقت عليها الأرض بما رَحُبت، ولقد تكون المصيبة جنونًا وإن لم يكن من أسمائها الجنون! على أنها لم تَرَ ملجأ من الله إلا إليه، فابتدرت تدعوه! وضرب الذهول بينها وبين اللغة، ومُسِحَتْ من وعيها فلا تردِّد غير هذه الكلمات: يا رب! يا رب! ابنتي ماذا جَنَتْ؟ «مسكينة مسكينة»! «مسكينة مسكينة»!
وجاء الطبيب كأنما أُطلق في قنبلة مدفع ضخم، فأسرعت إليه وهي تقول: ابنتي ابنتي أيها الطبيب «مسكينة مسكينة»! ثم مرت أيام وبنتُها مريضة وهي مريضة ببنتها، فكانت كلما نظرت إليها ملتهبة ذاويةً تتخايلُ الموت فيها لم يُجرِ الله على لسانها غيرَ هذه الكلمات: آه يا ابنتي! «مسكينة مسكينة»!
•••
قال «الشيخ علي»: وضربَ الدهر من ضرباته، وخرجت الفتاة البائسة ذات يوم وكانت قد أصابت عملًا، فتردم جانبٌ من حالها؛ وبينا هي تمشي مطمئنةً رُفِع لها شبح أسود في عرض الطريق، فجعلت تدانيه حتى حاذته؛ فإذا هي بسيدة الأمس وقد حال لونها، واستحال كونها، وعادت من الهم كأنها ظلٌّ منتصب في سواد، وظهرت من الحزن كأنها تمثالٌ منصوبٌ للحداد، وهي تلوح من الذلة والانكسار كأنما مات بعضها وبقي بعضها، وكأنما كانت حياتها من الأزهار، فذهب ربيعها وروضها، وبقي جذرها وأرضها!
فما تبيَّنَتْها الفتاة ورأت ما نزل بها حتى نفرت دموعها حزنًا، ثم رفعت عينيها إلى السماء وقالت: يا رباه! «مسكينة مسكينة»! …
كذا يضع الإنسان الكلمة لمعاني الله فيكذِّبه بمعانيها، ويا رُبَّ كلمة ملفوظةٍ وفيها لله كلمةٌ غير ملفوظة!
•••
اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.