لؤم المال ووهم التعاسة
هيهاتَ لقد أسرفت على نفسك الضعيفة، وجعلتَ هذه الحصاة الهينة تحتَ مِطْرقة الزمن، فما تزال رِخوًا مُنبعثًا مُسترسلًا في اندقاق ولين، كأنك رجل من العجين، وكم تقول لي: «فلان» وجاهه العريض، ودهره المريض!
وانظر إلى «فلان» كيف جعله الكِبر يذكُرُ منا وينسى، وكيف أصبح من الغنى وأمسى!
و«فلان» كيف تمر من فُرَج أصابعه سفن الآمال، في تيار المال؛ كأن يده قنطرة على نهر الأقدار، أو جسر تعبره حظوظ السماء إلى أهل هذه الدار!
و«فلان» قبَّحه الله! كيف صار شيطانه في إنسانه، وطول عمره في لسانه، وكثرة ماله في قلة إحسانه!
و«فلان» أخزاه الله! فما بَرَّ ولا نَفَع، بل تفرَّق بالحرص على ما جمع، وطمع في كل شيء حتى في الطمع!
قال «الشيخ علي»: وما أنت يا بني وهذه «الفُلَانَاتِ» وأمثالها؟ إن هؤلاء الناس بعضُ أعمال الله في أرضه، فهو يخلقهم ويُنشئهم ويديرهم لتعلق طائفةٍ من الأقدار بنتائج أعمالهم طردًا وعكسًا، فما أشبههم بدابة الطاحون؛ تلزم دائرتها ولا تفتأ تدور إلى غير انحراف، ثم هي لعلها حين تسمع ذلك الهزيز وتلك الجعجعة تحسبها من نشيد الاحتفال بها!
غيرَ أني أقول لكَ يا هذا: إن ثلاثةً من المتجاورات يفسرُ بعضها بعضًا؛ الحرص مع الطمع، ثم المال ورذائله، ثم ما في المعدة وما في الأمعاء.
كل أطباء الاجتماع ألسنة وأقلام ومحابر، أما اليد التي تُزيل المنكر أو تغيِّره فلا أراها تمتد إلا من جانب الأفق، ولا تعمل إلا بعونٍ من الله وملائكته، وقد انقضى عصرُ الأنبياء!
قال «الشيخ علي»: فإن لم يكن الغنيُّ إنسانه من الناس يُواسيهم ويُسعدهم، ويتخذ من المال سبيلًا إلى أفئدتهم بالإحسان والمساعفة، ويأخذ لنفسه بقدر ما لها، ويُعطي من نفسه بقدر ما عليها، وإن لم يكن وجهُه مرآةً للفقراء يُبصرون فيها ابتسامَ الدهر على وجوهم العابسة، ولم يكن ذهبه عند دموع البائسين وعند أنفاس المحزونين، ولم يكن اسمه في دعوات المحتاجين وفي ألسنة الشاكرين؛ فقد أصبح عندي كأنه لا شخص له، بل هو شخصُ لعنةٍ من لعنات الله والملائكة والناس نفخت فيها الروح، وهي اللعنةُ أي منقلبٍ تنقلب.
ما أشبه المال أن يكون آلةً من آلات القتل؛ فإنه يميت أكثرَ أصحابه موتًا شرًّا من الموت — إلا مَن عصم الله — موتًا يجعل أسماءهم كأنها قائمة على ألواح من العظام النَّخِرة، ويرسلها كل يوم إلى السماء في لعنات لا عداد لها، ثم يثبتها في التاريخ آخِرًا لا بأعيانها ولكن بعددها، أو كما تثبت الحكومة في كل سنة عدد البهائم التي نَفقت بالطاعون. فهذا الشخص الميت وهو بعدُ في الأحياء لا يبلغ في قدر نفسه على الحقيقة أكثرَ من مقدار حجمه من … من … من جيفة حمار!
يا بني، ربما كان الرجل نبات تعمة الله؛ لأنه سيكون حصاد نقمته، فهذه منزلة من البؤس والخِذلان يُستعاذ بالله منها، وكم رأينا من أناسٍ تُخصبُ أبدانهم حتى ليضيق بهم الجلد كِدْنةً وسِمَنًا، ويكاد أحدهم ينشقُّ مرحًا ونشاطًا، ثم لا يكون هذا الخصب الذي استمتعوا به شطرًا من العمر إلا سببًا في أمراض مُهلكة تستوفي الشطر الآخَر، فذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويُلههم الأمل فسوف يعلمون!
وإن خطأ كبيرًا أن تقضيَ لفلان من «فلاناتك» بمتاع الدنيا؛ فإنك لا تدري أشرٌّ أُرِيدَ به أم الخير، وكيف تحكم ويلك على غناه بفقرك، وعلى آماله بيأسك، وعلى شخصه بظلك، وعلى نهاره بليلك، وعلى عمره كلِّه وهو بعدُ حيٌّ لم يُوَفَّ عمرَه، ولا تدري ما عسى أن يكون له فيما بقي؟
تقول: إن لهم متاعَ الحياة! ولو أنصفتَ لقلتَ إن لهم بؤسَها الممتِع! فإنهم يجمعون المال من طرقٍ لا تؤتيه إلا نكدًا، ثم يُرسلونه في طرق أخرى ليجمعوه، وهلمَّ كما تدور دابة الطاحونة، وهَبْ أنهم لا يألمون كما تألم، فإن يد الله غمزتهم من مكان قريب غمزةً مؤلمة، وما أحسب الضجر من اللذات قد خُلِق إلا للأغنياء وحدهم، وناهيك من بلاء يغمُرُ النفس بالنعم صنوفًا وألوانًا حتى يتنكَّر لها معنى النعمة، فتراها وقد ثابر عليها الضجر متكرِّهة ولكن لا تريد الكراهة، ومتسخِّطةً ولا ترغب في السخط، ومتألمةً ولا تعرف مِمَّ ألمُها، ولا تبرح دائبة تلتمس نعمةً لم يخلقها الله لتحدث منها لذة لم يعرفها الناس.
ولولا هذا البلاء وأنه ما وصفتُ لك؛ لما أصبتَ على الأرض غنيًّا كهؤلاء الوارثين؛ تضربُ به كلَّ لذةٍ وجه أختها، فتسلمه الواحدة إلى الأخرى، ويجذِبْنَه بكل حروف الجر، من وإلى وفي وعلى، بين الخمر والقمار والفسق وما لا يحسُن أن يسمَّى، حتى تُسلمه اللذة الأخيرة إلى الفقر أو القبر!
فالقوم إما كريم يضجر فيُسرف، وإما لئيم يضجر فيمسك، وكلاهما يجد لذته ويضجر من لذته، فهم كما هم ونحن كما نحن وكلنا سواء كما ترى، وكأن أم المصيبة حين ولدت وضعت بنتين: المصيبة التي تؤلم، والنعمة التي لا تلذُّ! …
وليس أشقى ممَّن مُنِع السعادة وأُعطِي الرغبة فيها، إلا الذي أُعطِي السعادة ومُنِع اللذة منها!
فلا تَقُلْ يا بني إن العصا لظهور الفقراء وحدهم، فإن هناك السوط أيضًا، وهو رتبة عالية فوق رتبة العصا؛ ولذلك خُصَّ بشرفها الأغنياء!
وانظر ويلك، هل ترى الفرق بعيدًا بين الضجر من شيء لأنه موجود، وبين الضجر من ذلك الشيء لأنه غير موجود، بين عدم الشعور باللذة وبين الشعور بعدم اللذة، بين ألم الغني الذي لا تجده أبدًا إلا على شك في أنه سعيد، وبين ألم الفقير الذي لا تجده أبدًا يشك في أنه تَعِس؟
قال «الشيخ علي»: وتسألني عن التعاسة ما هي؟ وكيف هي؟ وتريدني على أن أبتغي لك مما بين ظاهرها وحقيقتها؛ أَلَا فاعلم يا بني أن هذه الكلمة حقيقة بأن تُنسِي نفسها، وما ادَّعى أحد معرفتها إلا لأنه لا يجد أحدًا يعرفها، وكل شيء مجهول فما أسهله أن يكون من علم كل جاهل، وما أصعبه أن يكون من جهل كل عالم، وإني لأرى الناس يأتون في وصف التعاسة بكلام كثير، وما أهونها إذن لو أن كل إنسان يُحسِن من وصفها بهذه السهولة!
لقد ألفَ هذا الإنسان من عهد القبائل في الاجتماع الأول أن يطوي العالم كله في قبيلته، ويجمع القبيلة كلها في نفسه؛ فيزعم أن «كل الناس» يعرفون كذا، «وكل الخلق» يقولون كذا، وأن «الدنيا كلها» و«كل العالم» … وعلم الله ما في الدنيا، ولا في العالم مَن يعرف أو يقول غيرُه، أو هو مع غيره من ذوي جماعته إلى اثنين أو ثلاثة أو جماعة منهم، ثم بقي ذلك ميراثًا في أخبار الجهلاء وأوصافهم، وفي كلام أهل المُجازفة إلى اليوم!
ولكن إنْ شئتَ أن تعرف التعاسة — ولا أقول ما هي (حَرَسَك الله) ولكن ما علمها — وإنْ شئتَ أن تسمع لها وصفًا آتيًا من جانب السماء؛ فالتمس في دار الهموم مَن لم يَبْقَ له همٌّ يحمله إذ يكون قد احتمل كل همٍّ؛ فإن مثل هذا المخلوق — الذي لا تعرف أهو حيٌّ في ثيابه ميت فيما وراءها، أم هو ميت في ثيابه حي فيما بعدها — متى استفرغَ دمعَ أجفانه ومات البكاء في عينيه، خلق الله في لسانه ألفاظًا كالدمع، ولغةً كالبكاء، ومعانيَ هي في جملتها أوصافُ التعاسة على الحقيقة!
وأين تحسُبك واجدًا هذا المخلوق الملهَم المسخَّرَ الذي تراه كأنما ينضغط بين الأرض والسماء لشدة ما يجد من حَطْمة هذه الدنيا؛ حتى تكتب من تاريخه فصلًا في ذلك المعنى، وحتى تُخرِج من لغة الأقدار ما يصحِّح لفظًا واحدًا من لغة الناس؟
ولقد أعرفُ رجلًا من أهل الفقر النظيف أعطى ابنته قطعةً فيها «عشرة غروش»، وأرسلها تبتغي بها رزقًا من الطعام، فأضاعتها فكأنما أضاعت عقلها، وضاقت عليها الدنيا، وخُيِّلَ إليها أن ليس على الأرض ما يسع طفلة، فلم تجد لها غِوَاثًا إلا في الموت يحول بينها وبين أبيها، فجَرَعت من «الفنيك» جرعةً سائغةً كانت فيها نفْسُها، وابتعدت عن أبيها ولكن بُعْد ما بين الدنيا والآخرة!
فهذا مثالٌ مما يجلب الضعفاء على أنفسهم من التعاسة: تموت الفتاة، وتسيرُ الجنازة، ويُفتَح القبر؛ لعشرة غروش!
ويحدث في العالم هذا الفراغ، وتخرج الدنيا إحدى عجائب التعاسة، ويشهد الناس ذلك المنظر القاتل؛ وكل هذا لعشرة غروش!
ويقعُ للفتاة أمران أهونهما الموت، وأصعبهما الذي لا يُحتمَل ضياع عشرة غروش!
وما عشرة غروش يا بني؟ إنها قوت حمار في يوم أو يومين، ونشوة سكِّير في ساعة أو ساعتين، ولذة فاسق في لحظة أو لحظتين، ولعنة الله على غني لئيم في نَفَسٍ من حياته أو نفسين!
ولكن يعلم الله كيف كانت في نفس تلك المسكينة من غلظة أبيها وقسوته، وما خشيت من بادرته وما حسبت من اضطغانه عليها، وكيف استحالت هذه القطعة تاريخًا طويلًا من الوساوس والأوهام حين أضاعتها، فالناس ناس لولا الوهم، وكان الوهم وهمًا لولا الناس!
ولعمري ما الذي يجعل المرء جبانًا في لقاء الحوادث حتى يخاف الحياة فيعوذ بالموت، ويضرب ما أقبل من دنياه بالذي هو مُدبِر، أو يخشى الموت فيتعذب بالحياة ما أدبر منها وما أقبل؟
قال «الشيخ علي»: يا بني إن الحرص جبن، والجبن ذل، والذل استعباد، وما يدخل من هذه الأبواب إلا الشر، فكن حرًّا من الأهواء كما خُلِقتَ، وكما خُلِقَتِ الحريةُ التي لا قيد لها من رذائل الدنيا، فإنك لن تُرَاعَ ولن تعرف مما يسميه الناس تعاسةً أكثر مما تعرف مما يسمونه سعادة، ولن تجد في مصائب الحياة ما يموت دونه الصبر الجميل؛ فإن عمر هذا الصبر أطول أبدًا من عمر الصابرين!
لذلك لا يغضب الفيلسوف، ولا يخاف الشجاع، ولا يبخل الكريم، ولا يَذلُّ الأنوف، ولا ينافِق الرجل الحر، ولا يكذب الرجل الشريف؛ وإنما هذه مظاهر محدودة من حرية النفس، فكيف بالنفس إذا كانت حرة من كل أقطارها؟!
وقديمًا عَلمَ الناس أن مَن لا يبالي بشهوات جسمه هو الذي يستريح وادعًا، ويتعب التعب في البحث عنه، وما علمت ولا علم الحكماء والأطباء غذاءً تسمن عليه المصائب والأحزان إلا الحرصَ على الشهوات!
غير أن الإنسان بما فيه من شبه البهيمة ينجذب إلى طبع البهيمة غالبًا، ونسيَ أن للبهائم وازعًا طبيعيًّا هو فضيلتها الخاصة بها، فأقبل يرتع ما شاء، وجدَّ به الحرصُ بمقدار ما يطمع فيه، وغلبه الطمع على بصيرته، فلا يكون في إنسانيته إلا بهيمةً تتخيل وتتفنن ما لا يتفنن إنسانٌ ولا بهيمة، وما تجد من مستهتر بالشهوات إلا وجدتَه من أجل ذلك راضيًا مغتبطًا يتمنَّى لو أنه في هذه الشهوات بهيمةُ البهائم كافة!
أُفٍّ لهذه الدنيا! يحبها مَن يخاف عليها، ومتى خاف عليها خاف منها، فهو يشقى بها ويشقى لها، ومثلُ هذا لا يكاد يطالع وجه حادثة من حوادث الدهر إلا خُيَّلَ إليه أن التعاسة قد تركتِ الناسَ جميعًا وأقبلت عليه وحده، ولولا الخوف يزلزل قلبه لَأدرك الفرق بين النَّسمة والعاصفة، وعلم أن اللفظة لا يلزم منها أن تخلق معناها، وأن ليس كل ما نسميه تعاسة يكون في حقيقته من التعاسة.
كذلك لا يسعدُ أكثرُ الناس بالحياة ولكنهم يشقون بالحياة والموت؛ ومن ثَمَّ ظلموا التعاسة فجعلوها أصغر مما هي، كما ظلموا السعادة فتوهموها أكبر مما تكون.
قال «الشيخ علي»: واعلم يا بنيَّ، أن القَدَر وإنْ كان من السماء، ولكن تاريخه ثابت في الأرض، وما كانت المصائب جديدةً في الحياة، وهذه المحابر التي كُتِب منها تاريخُ الإنسان لا تزال كما كانت من قبلُ تَشْرَق بالدماء وبالدموع، ولا يزال الدهر يمد منها ولا يزال يكتبُ من هذا المداد؛ فممَّ يخاف هذا الإنسان الجديد، وليس فيما ينزل به إلا ما نزل بمَن قبله، وما هو بخالدٍ ولا هو بمتروك لما يحاوله، ولقد علم يقينًا أن الله لم يخلق فيما خلق مِقْراضًا يقلم أظفار الموت؟ يريد من قَدَر الله زُلالًا صافيًا كأنه ماء مرشَّح يصب من حياته في كأس من البلور! ويبتغي أن يكون في الأرض تاريخًا جديدًا سلسًا منقَّحًا ليس فيه شيء من تلك الألفاظ الجافية في نُبُوِّها وخشونتها: ألفاظ التخريب والتدمير والتقتيل والجوع والمرض والأحزان والهموم ونحوها.
فأما أن يكون من ذلك التاريخ القديم الذي تُمليه قدرة الله على الطبيعة، ثم لا يكون إلا كالطبيعة نفسها في النظم والنسق، ولا يجيء الإنسان الجديد فيه إلا طباقًا أو ناسخًا أو منسوخًا؛ فهذا هو موضع النَّفْرة ومكانُ الأذاة، ومنه مَثَار الهمِّ وإليه مَسْرَب الدمع، وذلك والله معنى إن لم تنشأ منه تعاسة الإنسان فهو على كل حال من تعاسته.
الإنسانُ كله يا بني منطوٍ في رأسه، وما هذا الجسم إلا أداة، منها ما يحمل الرأس، ومنها ما يحمل إليه، ومنها ما يحمل عنه؛ فالجسم دابة من الدواب لا أكثر ولا أقل، والرءوس لا يمكن أن تُوزَن بميزان حتى يُعلم فرقُ ما بين رأسٍ ورأسٍ آخَر، فالإنسان مختبئٌ محجَّبٌ، وكأنه لا يزال منه جزء عند الله، فما ينفكُّ يجد من نفسه ما يبعثه على النزوع إلى الغيب والفكر في المستقبل؛ لأن هذا المستقبل تمام له، ولا يبرح يشعر بالحياة شعورَ المتألم أو المتعب أو المكدود أو المغيظ أو المفزَّع أو أي ما يكون من أشباهها؛ لأن هذا الحاضر غير تام به ولا كامل معه، وليس ذلك بعجيب، ولا من العجيب أن يألم الإنسان لحياته؛ أَلَا يرى أنه في جسم لا راحة للروح إلا بعد تحطيمه؟
ومن ههنا تفاوَتَ الناس؛ فمنهم مَن تراه كأنه يحاول أن يكشف عن جزئه الذي في الغيب ويصل بينه وبين حاضره، فيتوهم في الحياة ما ليس فيها ويسخِّرها لأوهامه باطلًا، ومنهم مَن يُقبِل على شأنه ويأخذ الحاضرَ بما فيه، ويعرف أنه حي ولكن على شروط لا بد منها للحياة.
وهنا يا بني الحفرة التي يقبر فيها بعض الأحياء ليعيشوا عيشة وهمية، أو ليموتوا موتًا وهميًّا، تلك الحفرة التي يقضي الأحمق شطرًا من عمره واثبًا في الأوهام بين شاطِئَي الدنيا والآخِرة، حتى إذا انتهى إليها تردَّى فيها، وكان الرأي لو ادَّخَر لها بعض تلك الوثبات.
وهذا الحكيم يجد في محنته لذةً تشبه لذة الدرس لمَن همُّه الحكمةُ واختبار الأشياء ومعاناة خواصها وأسرارها، كأنه من مصائبه في «معمل» للتجربة والاختراع؛ فإنما هو يتلقى عن الله ما لا يصيبه به إلا هو، وما لا يصرفه عنه إلا هو، وإنما يستعمل رأسه للفهم لا للوهم، وهو يعرف أن عِلم الله أزلي يسع الأزل كله، وأن الأقدار من عِلم الله فهي مقسومة على الدهر كله، وأنه هو في جانب الدهر لا يبلغ أن يناله ما تنال الشرارة من ماء البحر إذا هي انطفأت في البحر.
هذا الحكيم يعرف أن الحياة ليست هي الانتهاء إلى الموت على أي وجهٍ، ولا هي بالهرب من الموت في كل وجه، فهو لا يبالي الموت ولا يخافه، ولا يعبأ بالحياة ولا يرجوها، ولكنه يمشي على صراطٍ من فضائله، وعلى نور من ربه، فما دامت فضيلته لا تنكره، وما دام قلبه مطمئنًا بالإيمان، فكل ما بين الأرض والسماء وما بين الآخرة والأولى هو مادة العزيمة في نفسه، ومادة القوة في روحه، ومادة الابتسام على شفتيه!
فإن نزل به همٌّ وأدركه خور الطبيعة وضعف الإنسانية، فلم يستطع أن يخلص منه، صرفه إلى جهة غير جهته، واستخرج منه معنى غير معناه، وقابل بين راحة الرضا به وتعب السخط عليه، ونظر في مبلغ شره، وما عسى أن يكون حاله لو نزل به ما هو شر منه، وجمع بين الدعاء لله أن يصرف عنه ما وقع، وبين الحمد لله على وقايته مما كان يمكن أن يقع؛ ثم لا يزال يعالج الهمَّ مستأنيًا ربيطًا جأشه، حتى تثوب إليه القدرة على نفسه، فتسكن إليه النفس من نفرتها، وحتى يرى هذا الهم كأنه مما لا بد منه في رياضة أخلاقه وتنزيه شمائله، وكأنَّ صدع الجانب الذي بينه وبين الناس، أو بينه وبين نفسه، إنما كان لتقوية الجانب الذي بينه وبين الله.