وهم الحياة والسعادة
قال «الشيخ علي»: ولقد عرفنا الحياة ما هي لأننا نحن أمثلة عليها، ولكن البحث في معنى هذه الحياة لم ينتهِ بعدُ؛ لأن هذا المعنى لا يزال كما كان فوق السموات، ولو استطاع الكاتبون من أهل العلم أن يخُطُّوا في كتبهم بمدادٍ من أضواء النجوم التي يسكبها الخلود كلَّ ليلة على الأرض ملءَ محبرة الليل، لكان عسى أن تستنير مباحثهم في ظلمات الحياة، وأنَّى لهم ذلك وليس وراء النفس الإنسانية إلا الذي هو وراء السماء، ولا وراء السماء إلا الذي هو وراء النفس؟
أَلَا فاعلم يا بني أنه ما دام هؤلاء العلماء يتعاقبون على تفسير المعاني الإلهية ولم ينتهوا بعدُ، فمعنى ذلك عندنا نحن الجهلاء أنهم لم يبدءوا بعدُ.
وما هي الحياة؟ أما إنها ليست طريقًا مسافته كذا، ولا قياسًا ذَرْعُه كذا، ولا وزنًا مبلغه كذا، ولا شيئًا من هذه المعاني التي تضربُ الأقلام والألسنة في مفاصلها، بل هي فيما وراء ذلك من عالٍ إلى بعيدٍ إلى غامض إلى مبهم، حتى تنتهي إلى منبع النور الذي تلتطم على ساحله موجةُ الأبد.
وَلْتدعني يا بني من لغة هذه الكتب، فإنها متى انتهت إلى السماء رأيتها أكثرَ ما تراها ألفاظًا لا معنى لها؛ إذ ليس هناك من جلال الله إلا ما يشبه أن يكون معنًى لا ألفاظ له.
ودعني أُحدِّثك عن الحياة بما أفهمه — أنا الرجل الطبيعيَّ — من فَلَقِ الصبح ومن روعة الشمس، ومن إقبال الليل وإدباره؛ وبما أعرفه من هذه اللغة التي تُنزل بها السماء ما يتصل بنا من معانيها، لغة القضاء حين يسأل ولغة القدَر حين يجيب؛ وبما أستوحيه من معاني هذه الإشارات التي تتحرك بها جوارحُ الطبيعة، وهي مزيج من لغة البقاء الأرضي الذي يريد أن ينتهيَ، ولغة الخلود السماوي الذي يريد أن لا يفنى؛ فالحياة يا شاعري العزيز لا تخرج من الدواة ولا تقطر من القلم، بل أنا أحسب هذا المداد الكثير الذي أراقه عليها الناس هو الذي جعلها كما يقول الناس سوداء.
ولا يكفي أن يعلم الرجل كيف يسوق المقدمات، وكيف يحسِن القياسَ، وكيف يُخرِج معنى من معنى؛ حتى تكون النتيجة على ما توهَّم، والحقيقة على ما يقيس، والصواب كما يستخرج. وفي علم الحياة خاصةً — وهو العلم الذي لا مادة له إلا من الحوادث — أن بناءً من المنطق لا يتخذه بيتًا إلا ساكنٌ من الخيالات!
لست أعرف الناس قد غالوا بشيء قطُّ مغالاتهم في قيمة هذه الحياة، فقد والله استجمعوا لها كلَّ ما في الرغبة من الحرص، وكلَّ ما في الخوف من الحذر، وكل ما في الأمَل من الترقُّب، وكلَّ ما في الحب من الخيال؛ واستجمعوا فوق ذلك تلك المعاني التي لا قرار لها في الأرض ولا في السماء، معاني النظرات الوهمية التي يرسلها المخلوق من أرضه إلى عرش الله، كأنه لا يجرؤ على أن يشك في نهاية الحياة إذ هي تنتهي على أعين الناس، ولا أن يجزم بهذه النهاية إذ هو لا يريد الموت، وكأن الحياة لا تكفيه.
وما دام للحياة غدٌ يُرتقَب وهو الذي يسمونه المستقبل، فكلُّ وَهْم يسهل على الحقيقة أن تهلكه أو تُمرضه أو تُضعِف منه، إلا تلك المغالاة الممقوتة، فإنها أبدًا في خصبٍ وعافية ما بقي لها غذاءٌ من ذلك المستقبل المحجوب.
قال «الشيخ علي»: وأنت إذا سألتَ رجلًا عن مسألة، فسدَّد الجوابَ وأحكم الصواب، قلتَ: هذا جوابٌ يحسن السكوت عليه. ولكنك إذا سألتني أنا ما هي الحياة كما يفهم الناس؟ قلتُ لك: هذا سؤال يحسن السكوت عليه! لأن اللغة هي هي التي أسمتها «الحياة» واستخرجت لهذا الاسم العذب معانيه من أوهام الأحياء، وكم فيما وراء السماء من معانيَ تملأ الأبد، ولعلها لا تملأ سطرًا أو سطرين في معاجم اللغة!
سَلْني كذلك يا بني أُجِبْكَ: هذا الفناء المحتوم، وهذا الشقاء المقضيُّ، وهذا الأمل الباطل، وهذا النصَب الضائع، وهذا العمل الذي لا يراد لنفسه ولكن لما بعده؛ كل ذلك هو الحياة، أَفَلَا ترانا نخادع أنفسنا إذا سألنا عن الحقيقة التي يسوءنا أن نعرفها، فنحرف السؤال إلى جهة بعيدة لكيلا نرى الجواب الصحيح مُقبِلًا علينا، ولكن مُدبِرًا عنَّا؟
فما عسى أن تكون هذه الآمال، وهذه المنافسات، وهذا النزاع، وهذا الصراع، وهذه الأفراح، وهذه الأتراح، وكل ما إلى ذلك مما هو من مدلول الحياة؛ إلا باطلًا نستمتع به قليلًا، ثم يظهر أنه متاع الغرور؟
ما عسى أن تكون الحياة بكل ما فيها إلا مدة محدودة على ظهر الأرض، تجعلها أوهام الإنسان ومطامعه وحماقته وجهله وكبرياؤه كأنها الأبد كله؛ فيكدُّ ويكيد، ويعمل ويدَّخِر، ويهنأ ويحزن، ويطمع ويحرص؛ على نسبة من ذلك لا من نفسه، أيْ نسبةٍ أبديةٍ لا إنسانية.
الإنسان حيوانٌ لولا العقل، فلما أخضع لشهواته العقلَ صار إنسانًا لا حد له في الحيوانية، فهو من هذه الجهة لا إنسان ولا حيوان، وإن كان الشيطان مطرودًا من رحمة الله، فخير ما يقال في هذا الإنسان أنه شيطانٌ فيه موضع للرحمة!
ومتى صارت حياة رجل من الناس إلى أن تكون واجباتٍ يتنجَّزها ويستقضيها من نفسه، فما ثَمَّ لشهوات البدن موضع إلا كموضع النار من يَدَي المصطلي؛ لا يراد منها إلا حرُّها، ولا يُطلَب من حرها إلا قدر معلوم، ولا يُبتغَى هذا القدر إلا مدةً بعينها، ولا تكون هذه المدة إلا بمقدار ما يُصلِحُ أو يدفع الأذى، لا سَرَف في كل ذلك ولا هوانَ ولا مضيعة.
قال «الشيخ علي»: ولكن كل شر العالم يا بني في لفظ واحدٍ هو طغيان الحواس، وبمعنى واحدٍ هو إذلال العقل، ولغرضٍ واحد هو هذا الموت الأدبي الذي يسميه المغفَّلون سعادةَ الحياة.
من هذا ونحوه أصبحت السعادةُ وهمًا من الأوهام؛ إذ لم تَعُدْ في إشباع العواطف وتغذية الشعور، وليست في موضعها الذي هو بين الضمير والعقل، ولكنها في إشباع جسدٍ لا يشبع ما دام حيًّا، وفي تغذية حاسة لا يزيدها الغذاء إلا شرهًا وضراوةً، فلن تكتفي إلا إذا بَطلت، وفي موضع مجهولٍ بين هذه الحواس لا حد له إلا كالحد بين ما يجد المعدم وما يتمنى؛ فالسعادة على ذلك هي دائمًا في الاستعداد للسعادة، وكفى بهذا عبثًا!
ولعمري ماذا تكون الحياة، بل كيف تكون؟ أليس يعلم الإنسان أنه سائر إلى الموت، ويعلم كذلك أنه طالب ما لا يموت؟ فلا جَرَمَ كان شعوره بهذا التناقض مؤلمًا، وكان هذا الألم هو منشأ الهموم التي لا تدعه لنفسه ولا تدع نفسه له، وكانت حقيقةُ هذه الهموم التي يجمعها كلَّها هي شعور الإنسان — شعورًا فطريًّا جرى منه مجرى العادة — بالمنازعة بين ما يطلبه هو في الحياة، وبين الحقيقة التي تطلبه هو من الحياة — أي الموت — ومن ثَمَّ يضطرب كيانه العقلي، فيؤثِّر كلُّ شيء في نفس هذا الإنسان تأثيرًا أكبر من حقيقته؛ لأن حقيقة هذا الإنسان لم تَعُدْ في نفسه بل في مطامعه، فهو يا بني كالوعاء المثقوب، تصبُّ فيه البحر ولا يزال فارغًا! والحياة عنده دائمًا هي طلب الحياة، وكفى بهذا عبثا!
ولا تحسبن أنه لا يبالي بما مضى من عمره، بل هو يستشعر فوق ذلك الخوفَ من أن يكون الذي مضى هو أكثر العمر وأطيبه؛ ولذلك لا يبرح شقيًّا بما يحاول، إذ يحاول أن يجمع طيبات الحياة، ويَستَحوز عليها في القليل من عمره، ليستمتع بها فيما وراء ذلك، كأن الحياة التي قِوامُها من الغذاء لا تفارق الإنسان ما دام الغذاء في بيته، وكأن الله يبيع المستقبلَ لمَن اجتمع له من الدنيا ما يتوهم أنه يقوم ثمنًا للمستقبل.
وهل تحسبُ مثل هذا يكونُ عدادُه في أهل السعادة، وهو من الحرص على الحياة يكاد يشمُّ ترابَ قبره في كل حادثة تُلمُّ به، ولا يزال يُصلَب على كل باب من أبواب الأيام حين يفتحها الصباح وحين يُغلقها الليل، ويُرمَى بالنبل المسموم من فُضُوح الدنيا وشهوات النفس الدنيئة، ويقتل ضميرُه كل يوم قِتْلَة الكذب والغدر والإثم؛ لأن ذلك من وسائل الحياة التي تبسط عليه الدنيا؟
وما ظنك بسعادة أولها حبُّ النفس وآخِرها بغضُ الناس؛ ومن مقدماتها منازعة الفرد للمجموع، ومن نتائجها منازعة المجموع للفرد، ومن مبدئها درس الشر علمًا، ومن غايتها مزاولة الخبث عملًا، ولها اسم السعادة وفيها معنى الشقاء، ومن شروطها على صاحبها أنها لا تمتعه إلا بما يَمله، ولا تتبرج له إلا فيما لا يناله، ولا تظهره للناس أبدًا إلا ليرَوا فيه رذيلة من الرذائل، ثم لا تكون مع ذلك في موضعها إلا كالفقر في موضعه؛ هذا يوازن بين نِعَم السماء التي تنزل على الضمير وبين هموم الأرض، وتلك توازن بين هموم السماء التي تنزل على الضمير وبين نعم الأرض، وآخِر أمرها أن لا يعرفها صاحبها إلا على الضد مما يعرفها الناس، فهم يسمعون لها الأصوات العالية من الأمر والنهي والجاه وما إليها، وهو يعلم أن هذه الأصوات لم تخرج منها إلا لأنها كبيرة فارغة.
قال «الشيخ علي»: وبذلك يا بني خسر الناس لذة الحياة، فلا أدري أهم بشر أم آلهة؛ لأني أرى كل حي كأنما يريد أن يَرمَّ صدعًا في الكون، وأن يصلح من هذه الدنيا ونظامها ما لم يصلح له، ولماذا؟ لأن الدينار الواحد نواة ذهبية، ولكن هذه النواة لا تُخرِج لكل إنسان نخلة من الذهب.
ولماذا أيضًا؟ ولأن أُكل هذه النخلةِ حين تُؤتي أكلها لا يكون إلا مُرًّا.
ولكن أليس في الأرض غير المال ما يمكن أن يُسْتَلَذَّ وأن يسمى نعمة؟ وأين هي تلك السوق التي تعرض فيها النعم الهنيئة، ويقف على جانبيها ملائكة الله يبيعون بالدرهم والدينار؛ يبيعون المريض من أولئك الأغنياء عافية، والضعيف قوَّة، والحزين مسرةً، والخائف أمنًا، والفَزِعَ اطمئنانًا، والهَرِم شبابًا، والمهزول جسمًا رويًّا، والميت رجعةً أخرى …؟
أَلَا فَليْعلم الإنسان أن هذا العالم لا يصلح على غير ما هو عليه وما لا بد منه لنظام الحياة، فسيأتي إن خيرًا وإن شرًّا؛ فكلنا يسمي الصعاب التي تَعرض له في طريق الحياة عقباتٍ؛ لأننا لا نبصر ما وراءها، ولا نعرف في أي موضع تقر من نظام الحاضر أو نظام المستقبل، وهي لو تعلمون وسائل لما بعدها، فما تراد لنفسها أكثر مما تراد لغيرها، وهي بأن تكون مقيَّدةً بهذا أحرى من أن تكون مقيَّدة بذاك، ورُبَّ صخرةٍ حالت في طريقك لتلفتك إلى هاوية من ورائها، أو لتتقي بها عدوًّا يَدْلف إليك من ورائك!
هذه واحدة يا بني، وما من واحدةٍ إلا هي أختها، وحكمة الله لا تختلف، بل هي هي في كل شيء وإنْ كنا لا نعلم، وما خُلِق شيء عبثًا، فتعالى الله الملك الحق. ولقد أعرف أن ما لم يُقضَ لي فهو مقضيٌّ لغيري، وأنه لا بد أن أذهب في هذه الحياة بقِسْط من مصائبها؛ لأنه جزء من نظامها يتوقف على وجودي ويتوقف وجودي عليه، وهل أنا بدنٌ يملأ الأرض، ورأس طبَّق السماء، فيكون الفَلك عمامتي، والقضاء غمامتي، وكل خير لهامتي؟ إنْ أنا يا بني من هذا الناس في أقدار الحياة المكتوبة إلا كالجندي في العسكر، نصبته الحرب آلةً حيةً تحركها الألفاظ والإشارات من حيث تأتي؛ فهو يندفع إلى الموت ويشوي من لحمه على النار متى أرادت خطة الحرب أن تنبعث وتتحرك، وإنما هو بجسمه وروحه وعقله نقطةٌ صغيرةٌ في خط صغير من خطط كثيرة مثله رُسمت بها فكرة أمير الجيش على صفحة الميدان؛ فليس للجندي أن يسأل عند الحركة: لماذا …؟ إذ هو لا يجد عندئذ من يقول له: لأن …! ولكن متى أزفت الآزفة وحُقت النهاية بالنصر أو الهزيمة، رأى العمل الذي وراءه كأنما انقلب أحرفًا وكلماتٍ يستوضح منها فكرةَ القائد كما رسمها!
ولكأني بهذا الإنسان يودُّ لو أسرع الفَلَك في دَوْرَته، وجعل يرتمي به المراميَ البعيدة لينهب ما في الغيب نهبًا، ولينال الممكن كله وشيئًا من المستحيل أيضًا؛ فيحيا بعد ذلك حياةً طيبةً عذراء لا تلد لياليها من مواليد الغيب قليلًا ولا كثيرًا.
دونك آمال الناس فانظر هل تجد في هؤلاء الحمقى مَن يصبُّ آماله إلا في قالبٍ يسَعُ ضِعفَيْها على الأقل، وهو يحسب أنه بتوسيعه لها يخفي جانب الاستحالة فيها، ولا يدري أنه يخفي جانب الممكن المعقول أيضًا! يصبُّها في قالَبِ التمني، وما موضع التمني في عالم الحس وفي هذه الحياة الأرضية التي لا تزال تضرب جيلًا بجيل، وتدفن قبيلًا بأيدي قبيل، ويُهملُها الإنسان في الكثير وهي لا تهمله في القليل؟ وهل التمني أن تكون حوادث الحياة ما أريد أنا وما تريد أنت وما يريد فلان، إلا كما يتمنى كلُّ إنسان من هؤلاء أن يكون غيرَ نفسه، وكما يتمنى الطفل حين يُجيب معلمه خطأً ويعلم أنه أخطأ؛ أن يكون الجواب حقيقةً كما أخطأ؟
وقد يقال إنه ليس في العلماء أحمق ممَّن يَكِدُّ ذهنه في ابتكار جواب غريبٍ لمسألة لا تقع لإنسان ولا يحتاج أحد إلى جوابها؛ فكذلك لم أَرَ في الجهلاء أحمق ممَّن يسأل الحياة سؤالًا لا جواب عليه، أو لا يفهم الجواب عليه؛ كل ذلك حمق، وكل ذلك سخف، وكل ذلك عبث وباطل، ولكن يا أسَفَا على الناس! كل ذلك أيضًا من مذاهب الحياة، وكل ذلك من الواقع!
وتالله لو أُفرِغتْ طيبات الدنيا في جوف هذا الحيوان الإنساني الذي وصفتُ لكَ ممَّن يسمونهم الأغنياء والمستمتعين وأهل الحظ والهناءة؛ ما زادت في لذته على ما يكون من إفراغ حقلٍ من البرسيم في جوف حمار!
قال «الشيخ علي»: وكما يفقد أكثر الناس السعادة في كثرة الاستعداد لها والإغراق في وسائلها، يجدها بعضهم في إهمالها حين لا يبحث عنها، ويذهب باحثًا عن حقيقة الحياة.
ويا عجبًا للناس! كأنهم ملكوا الأعمار، وضمنوا لأنفسهم دولتي الليل والنهار؛ فقلَّما يفكِّر أحدهم إلا في زاد الدهر البعيد والحياة المتطاولة والأمد الواسع، وهو لا يرتاب في أنه لا يعيش غير عمرٍ واحد محدود، ولكنه لا يدري أنه يحمل على نفسه من تلك الأطماع شقاءَ بضعة أعمارٍ طويلةٍ عالية السن، ويسوقها بين يديه ظالعةً عرجاء تطلب السعادة في طريق لا آخرةَ له، فهي تسير لأن بين يديها غرضًا ما ينفك ماثلًا على بُعْد منها، ثم تنبعث لأن الطريق لا تنتهي، ثم تقف عاجزةً لأن الحياة قد كلت، ثم تقع وما بها حركة لأنها انتهت إلى الحفرة المجهولة التي تنشق تحت قدمَيْ كل إنسان في الساعة التي هو رهن بها، ولو كان طريقه في النعم واللذات على وادي الجنة بين الشمس والقمر!
أم هو إنسان؟ فأين عمله الاجتماعي الذي يُسنِي منزلته إذا أصبح الناس على منازلهم، وأين الحدُّ الإنساني الذي يصله بمجد الماضي، أو يدلُّ عليه في عمل الحاضر، أو يلحقه بأمل المستقبل؟
أيها المغرور! ما أراك إلا دائبًا في طلب الحياة حتى تفقدها من شدة الطلب، فلا تكاد تستوضح ما هي؟ فإياك وإياها، لا تأخذ معنى الحياة من نفسك؛ وإن لنفسك أغراضًا حيةً تريد أن تكونَ هي الحياة، ولا من الناس؛ إن فيهم أغراض نفسك، ولا من مدة عمرك؛ فإنها لا تبلغُ طرفةً واحدة من عين التاريخ.
أيها المغرور! خُذِ الحياة حقيقةً لا وهمًا، وعملًا لا علمًا، واسمع للحياة إنْ كنتَ تعرف لغتها، أو اسمع للموت الذي يعرف كل إنسان لغته؛ فإن كل ذلك يُعلِمُك أن الرجل الحر لا يعرفُ على أيِّ حالةٍ يعيش إلا إذا قرَّر لنفسه على أي حالة يموت، وأن الحياة ليست في الوجه الذي توجد عليه من الغنى إلى الفقر، ولكن في الوجه الذي تنتهي عليه من العمل الصالح إلى العمل السيئ، وليست في ترفيه الحواس الغليظة ولكن في النفس والضمير: الضمير النقيِّ، لثواب الدنيا وجمال الحياة ولذة الخير؛ والنفس الطاهرة، لثواب الآخِرة ونضرة الخلود ورحمة الله.
قال «الشيخ علي»: فلا تسأل يا بني ما هي الحياة؟ ولكن سَلْ هؤلاء الأحياء: أيُّكم الحي؟
هوامش
ومن هذا فالتعاسة في كل ما استشعرت النفس أنها نقصت به أو نقصت فيه، ومن ثَمَّ فكل فضيلة هي من السعادة، وكل رذيلة هي من ضدها، ولو كان الألم والحرمان في الأولى وكانت اللذة والمنالة في الثانية، هكذا قال «الشيخ علي».