سحق اللؤلؤة
وَلْتعلمن أن المال شيء غيرُ الحياةِ، وأن الحياةَ شيء غير المال، وأن ما يختدع الإنسان فيتلوَّن له من سراب هذه السعادة إنما يكون أكثر ما هو كائن من بريق المال يحسبُه شيئًا حتى إذا جاءَه لم يجده شيئًا، وعسى أن لا يكون فيما أقبل من نعيم الدنيا إلا ما يُدبِر بصاحبها، وأن لا تصيب فيما زوِيَ عنك من حظها إلا ما يُقبل بحظ نفسك على نفسك.
ثم لتعلمَنَّ أنه إنْ كانت للقدَر فترة عن رجل من الناس فقيرًا أو غنيًّا أو بين ذلك، فما هي غفلةٌ ولا مَعجزة، ولعل الرجل إنما يُمَدُّ له في الغي مَدًّا طويلًا، حتى إذا جاء يومه انفجر عليه بما لا يطيقُ له سدًّا ولا يستطيع له ردًّا؛ وأنه رُبَّ كلمةٍ تعارَفَ الناس معناها وأَجْرَوها على مذهبها في كلامهم، فإذا هي نزلت بعض منازلها من الحياة كان لها معنى آخَر لا تفسره إلا الحياة نفسُها، ثم لا تفسره إلا على ضد مأخذهم ومقصدهم؛ فيقول الناس: «فلانٌ الأمير.» ومعنى ذلك فيما نراه من حوادث الحياة وأقدارها فلان النَّذل، ويقولون: «هذا الغني.» ومذهب الحياة أنه الشقي بغناه، وفلان أعزه الله وإنما هي أخزاه الله بعزه، ويحسدون فلانًا إذ يرون أن الله — عز وجل — قد مكَّنَ له وآتاه من بسطة المال والجاه، فهو يستعد للحياة بأفضل عُدَّتها، ثم تقع الواقعة ويتغشَّى فلانًا هذا ما شاء الله من الحوادث والأقدار، فإذا هو إنما كان يستعدُّ للموت بأقبح عُدَّته!
الرجل البخيل
أما فلانٌ هذا فهرِمٌ بخيل، لو مُسِخَ حجرًا لتحطَّمت من غيظها الأحجار، ولو كان على بخله حديدًا لما لان الحديد في النار، ولو صوَّره الله طينًا أجوف لما طنَّ في يد أحدٍ على نقر، ولو خلقه مرة أخرى من تراب لما جُمع هذا «التراب» إلا من ثياب أهل الفقر.
وهو نبيُّ أمةِ البخل، أما معجزته فهي قدرته على أن يستنبط غير المألوف من المألوف، ويستغل الصفر فيُخرِج منه أَلْفًا إلى ألوف، وإنه على ذلك لآية، فما رآه المؤمنون إلا قالوا: اللهم غفرًا. ولا رآه الجاحدون إلا زادوا عتوًّا وكفرًا.
وكم تمنَّى وهو يتهالك حرصًا أن يكون كإبليس في أنه لا يموت إلا متى هرم الدهر، ولا يذهب من الأرض إلا حين لا يبقى في تاريخ الأرض عام ولا شهر، وإذا خوَّفتَه الموتَ والحسابَ قال: ويلك دع عنك. وإذا عَلم أنه سيُعطَى كتابَ أعماله في الآخرة، قال يا ليت صُحُفه من «ورق البنك»!
وهو على غِناه كأنه في الناس بُؤسُ المفلس في القمار، وكأنه لحقارته ذيلُ الحمار؛ إن طلع عليهم فطالعُ زحل، وإنْ غاب عنهم فوباءٌ رَحل، ومتى ذكروه فكأنهم نكروه، وإذا قُضي عليهم أن يُسَمُّوه فكأنما شتموه، وإذا وصفوه قالوا وجعُ الأظفار، وذنبٌ بلا استغفار، اللهم قنا عذاب النار!
أما وجهُه فلو أنزل الله مرآةً من السماء فنظر فيها لَصَدِئتْ من قبح خياله، كصدأ ذلك المخزون من ماله؛ وأما روعتُه فلو خرج على الحسان لابتلاهن بما يفجئ الظباء من رؤية الفهد، وامتلكهن بما يعتري المرضعَ إذا كشفت عن طفلها فأبصرت الثعبانَ في المهد؛ وأما جهامته فلو نظر إليه البدر لَغرَب، ولو اطلع عليه الفجر لهرب؛ وأما روحه الخفيفة فلو بُعِثتْ في خلق آخَر لما كانت إلا بَقة صيف في رقبة ضيف، أو بعوضة تلسع العاشقَ المهجور فتوقظه وقد ظفر بالطيف، وحياتُه كالبلاء المحتوم، وغناه كالكنز المختوم، وأما هو فكالقبر الكتوم.
ولستُ أطيل في القول، فما أنا ببالغٍ من القول بعضَ صفاته، وهيهات أن يصفه على الحقيقةِ إلا مَن يعلم لغةَ الملائكة، فينقلَ إلى لغة الناس كتابَ سيئاته.
•••
قال «الشيخ علي»: ذلكم هو «الكونت فيكتور»؛ رجل أملق أموال الناس وزادها في ماله، وجمع بين سوء حمل الغني وسوءِ حمل الجاه، وعرفَ النعمة ونسيَ المنعم بها، فكأنما فتحَ الله عليه من هذه الدنيا، ومكَّن له في أبوابها، وأفشى جاهه ونعمته على ما ابتلاه به في خاصة نفسه من المحق؛ ليجعله واحدًا من أولئك الذين يُخرِجُ للناس من تواريخهم قصصًا في الأخلاق محكمة السَّبك، في نسق التأليف الإلهي المعجز الذي يأتي بالحادثة إلى موضعها حيةً وميتةً، ويُنزلُ الكلمة في مستقرها من الموعظة، ولو أن فيها ذهابَ نفس وإدبارَ نعمة، ويدير المثل والفلك بأسلوب واحد.
ولما بلغ الخمسين — بعافية من الله — قال: أحسبني لو كنتُ متزوجًا يومًا فإن امرأتي في هذه الساعة تلتقم ثديَ أمها؛ فسأنتظر حتى تصلُحَ لي! فأجابه بعضهم: وحتى تصلُح لها أيضًا!
تقولون إن الرجل محتاج إلى المرأة! فقد كان ذلك أيام كانت المرأة كأنها في عملها للرجل رجلٌ آخَر؛ فتلك حاجة اليد إلى اليد، وحاجة الظَّهير إلى الظَّهير، ولَهِيَ مناقلة طبيعية في الجنسين بين قوَّة تحتاج إلى ضعف يُخفف من سَورتها، وبين ضعفٍ يحتاج إلى قوة تشُدُّ منه؛ فلو كان للعالم كله رجالًا إذن لَطالت أنيابهم كثيرًا، ولما وُجِد على الأرض مَن يخترع مقصًّا للأظافر!
امرأة متأنقةٌ لا تريد إلا أن تطلع الشمس كلَّ يوم على زيٍّ جميل، ليكون لزوجها كل يوم هَمٌّ جميل، ثم هي أحسن ما تكون حين تخرج من بيتها، كأن بيتها مُنْخُلٌ لا يمسك منها إلا الحثالة!
ترى هذه المرأة أن كل حَسَن في أعمالها لا يكون إلا أحسنَ شيء، لأنها حسناء، ولكنها لا تُقِرُّ أبدًا أن كل قبيح في أعمالها ينبغي أن يكون أقبح شيء، ولماذا؟ لأنها حسناء أيضًا!
هذه المرأة الجميلة قد ظنت عند نفسها أنها شيء مقدس؛ ولذلك لا تريد أن تعمل عملًا كبقرة البراهمة، فيا ليت الرجل كان شيئًا مقدسًا أيضًا، كعجل المصريين القدماء! ولكن البقرةَ المقدسةَ في المرأة لا تعرف العجل المقدس في الرجل!
أيها السادة، إن مع كلمة «هات» كلمة «خذ»، لولا كلتاهما لخربت الدنيا وتقاصرت الأمور والأحوال، وكل عمل وكل عامل يتركب منهما؛ فالدنيا كلمتان «هات، وخذ»، والحياة كلمتان «هات، وخذ»، والمرأة التي تصفونها كلمتان أيضًا، ولكنهما «هات، وهات»!
قال «الشيخ علي»: ومَرَّ هذا الكونت في فلسفته يمضغها مضغ الماء، وربما أصاب شيئًا، ولكن ماذا تنفع كلمةُ الحق يُراد بها الباطل؟ وهذا رجل يتكلم كأنه ابن شجرة لا ابن امرأة! على أنَّ مَن تعلَّق شيئًا من أمور الحياة وُكِلَ إليه، وهو بعدُ لم يعرف غير المال يجمعه ويدخره، وقد خلقه الله رجلًا ماليًّا، ويَسَّرَه لما خُلِق له، وكثيرًا ما رأى وجهه في المرآة؛ فكان يعجبه من مَنْخِرَيه أنهما في تَفَرْطُحهما «كحافِرَيْ حصان الجنيه الإنجليزي»!
ورأى فيما يرى النائم كأنَّ الأرض ترَقِّصه على أعشابها لتمسح عن أعضائه التعب، ثم أبصر السماء في مثل تحاسين الطاووس من ألوانها وأصباغها، كأنما أشرَفَ على الأرض فجرُ يومٍ من أيام الجنة، ثم نظر فإذا ضوءٌ رطبٌ يتندى وقد ترقرق فأصاب شفتيه الذابلتين، ولمح على إثره وجه حسناء كأنها فِلقة القمر، فكان ذلك الضوء قبلتها وابتسامتها، وكان على قلبه «بردًا وسلامًا»، فنصب لها يديه يتناولها فإذا هي تتخطى الغمامَ هابطةً إليه، وإذا هي على الأرض نحوه مقبلة، وإذا هي أمامه ضاحكة، وإذا هي ملء صدره وذراعيه؛ فارتجف جسمه رجفةً شديدة كأن فيها شوق سبعين سنةً من الهجر، وما لبثت عقدة أجفنه أن انحَلَّتْ، فنظر فإذا يدُ فتاةٍ قروية ناعمة تهزه برفق!
فانتهض الكونت كأنما نشط من عقال، ولما تصحُ عيناه من سكرة الحلم، فكان يُخَيَّل إليه أنه يرى جمال السماء والأرض معًا في طلعة هذه الفتاة وعلى غُرتها، ثم كشف لها عن رأس كفَرْوَةِ الأرنب البيضاء، وانحنى متأدبًا، وقال بلطف: أشكرك يا سيدتي!
أما هي فابتسمت له، وقام في نفسها أنها هي ردت عليه روحه، وأنها لو لم تنبهه لما انتبه آخِرَ الدهر، كأنما حسبته ميتًا، وظهر هذا الفكر في ابتسامتها فأكسبها شيئًا من قوة روحها، وجعل لشفتيها الحمراوين جمالًا كجمال الشفق إذا افترَّ عن نور الفجر.
وتأمَّلها الرجل بمبلغ ما في نفسه من لذة الحُلم، وما في صدره من ضجعة تلك الحورية التي تلوَّت عليه وتقلَّبَتْ فيه؛ «وبعث عليها وهمه، وصبغها بألوان نفسه، واستضاءت به فكأنما منه أمام الفانون السحري!» وما خلق الله لذةً أهنأ للنفس من لذة الأحلام، فكأنما ترى فيها النفس شيئًا من تحقيق المستحيل، وإن في أعقاب هذه اللذة بعد اليقظة ما يُشعِرُ المرء بالأمانيِّ كيف جاءت وكيف ذهبت، فكأنما كان في حياة أخرى، وكأن نفسه تتمسك بهذه الحياة ولا تريد أن تُسلِمها، فتكون ذكرى الحلم أروح للنفس من الحلم نفسه على الحقيقة؛ لأنها نتاج ما بين لذةٍ لم تكن شيئًا ولذةٍ صارت شيئًا.
وثبتت صورة الفتاة في عينه على ما اشتهى، وكانت زهراء اللون، حوراءَ العينين، ساجية الطرف، أسيلةَ الخد، باسمة الثغر، حسنة التكوين كأنها ريحانةٌ تَرِفُّ رفيفًا، وتكاد من فرط رقتها تتكلم ابتسامًا حتى لا يحسب مَن رآها أن الشمس طلعت يومًا على أبدع من ثغرها واللؤلؤ، ولا أحسن من خدها والورد، وكأن الطبيعة يعتريها أحيانًا من سوء الحرص وسوء الخوف وسوء الحيلة بعضُ ما يعتري الشحيح الذي يخبأ أنفس ذخائره في أخس الأمكنة وأقبحها منظرًا، وفيما لا حفل به من الأداة والمتاع، فكانت «لويز» على ما وصفنا من الجمال والظرف، ولم تكن مع ذلك إلا قروية!
قال «الشيخ علي»: وانقلب الاثنان كلاهما صيد وصائد؛ أما هي فأصابت رجلًا مجنونًا بها يحبها حبَّ الجدِّ والأب والزوج والعشيق، فإنْ ثاب إليه عقله من جهةٍ بقي مجنونًا من ثلاث جهات، وحسبت أن الموتَ مُصْبِحُه أو مُمْسِيه، فهو همُّها عشيةً أو ضحاها، ولقد كانت من الضائقة والعوَزِ وشدة الاختلال بحيث لو عُهِد إليها أن تغسل الزنجي حتى يبيضَّ لقاء درهمين لطمِعَتْ فيهما! وأما هو فقد ظفر في زعمه بالمرأة الطبيعية التي نبتت مع الأزهار، وطلعت في سماء الحياة مطلع ضوء النهار، وحسب أن هذه الفتاة التي تناهز العشرين إنما هي زيادة عشرين سنة في عمره ينتهبها من القدر انتهابًا، ويقضي بها دَيْنَ الحب طفولةً وشبابًا. ولستُ أدري كيف عزب العقل عنه، ولا كيف خذله رأيه، ولا كيف وَهَى ركن فلسفته وكان من قبلُ وثيقًا، ولا كيف أحبَّ منذ الساعة وقد كان يتصاون عن النساء، ويحسب أن بغضهن عقدٌ لا يحله إلا مَن يحل عقدة نفسه!
وهي الأرواح ما يزال بعضها يتسلط على بعض، وما إن يزال في كل روحٍ معنًى هو الوسيلة إلى هذا التسلط ومنه مساغه ومأتاه؛ فلو قلتُ إن في مسلاخ ذلك الرجل معنى الحمار لما كان في الفتاة إلا معنى العصا، وكذلك انطلقت وهي تسوقه في طريق مصائبه، وعند العصا تفرغ حيلة الحمار، ولو كان الحمار أبيًّا.
في الحب
من هذه الهيفاءُ التي تستميل ولا تميل، وقد استبدَّت بالجمال فلا يُرى في غيرها شيء جميل، طالعةٌ كالضحى فكلُّ نجمة من ضوئها كاسفة، لاهيةٌ كالنسيم وفي كل قلب من حبها عاصفة، وقد عَبَدَها العشَّاق باطلًا كما يعبدُ المجوس الشمس، وتمنَّوا في دلالها المحال كما يتمنى المرء من أمس، وكتب عليهم هواها المحتوم: «جندٌ ما هنالك مهزوم»!
وكم تمنَّوا لو أن لين أعطافها، يتعدى إلى انعطافها، ولو أن بعض ابتسامها يشرق على ظلمات اليأس من غرامها، وهي تقتل منهم برضاها وغضبها على السواء، كأن حبها الموت متى قضي جاء به الداء، وجاء به الدواء!
في الحفلات
ومَن هذه الطالعة في غلائلها، المعروفة في الحسن بدلائلها، المشرقة كالبدر في ظلمة الحلك، الضاحية كالشمس في قُبَّة الفلك، تعترف بالهوى في ألحاظها، وتنكره في ألفاظها، وتُقبِل بعينها سائلةً عمَّا بين جنبيك، وتلتفت بجيدها مائلةً عن جواب عينيك، وقد حَسَرت عن زَندَيها، ووضعت رمزًا للحب تلك الوردةَ على نهديها، فلاحت للمحبين كأنها رُوح القبلات من خديها؟
في الرقص
في الموسيقى
ومَن هذه الباسمة كالأزهار، الساجعة كالأطيار، التاركة عشاقها كالشمس بين طرفي الليل والنهار، القائمة كالكأس في اليد، الناعمة كالحمرة في الخد، وهي تحيي بالصوت لأنه يخرج من صدرها، وتسكر باللفظ لأنه يمر من ثغرها، ويكاد يخلق من سحر نغماتها القلب المفتون، ومن حركات أناملها العقل المجنون؛ إذا صَدَحتْ فحمامة، وإذا رقصت فغمامة، وإذا أرسلت من يدها «صيحةَ» الأوتار أقامت للطرب «القيامة»؟
•••
تلك هي درة الصدفة المطروحة على ساحل الموت، وهي حمامةُ ذلك القفص البالي المصنوع من العظام، وهي خطيبة الكونت فيكتور!
وتلك هي «لويز» القروية الساذجة؛ كانت نبتةً في الطين، فأصبحت زهرةً في وعاء ثمين، ولأن تكون نبتة مهملة وتنمو، خير من أن تكون زهرة مرعيةً وتجف.
ولقد رأى الكونت — أخزاه الله — أن أحسن ما يكون الاستمتاع بالجمال حين يكون الجمال فنًّا وفتنة؛ فأما الفتنة ففي عيني لويز وجمالِ تكوينها، وأما الفن فلا سبيل إليه من هناك ولا من فلسفته، وليس إلا أن يبسط يده كل البسط حتى تنبت له تلك الزهرة من أغصان الذهب والجوهر؛ فأنفق واتسع في الإنفاق، وجعل آمالَ شيخوخته كلَّها مقترحاتٍ في زينة الفتاة؛ فبرعت البراعة كلها في الرقص والموسيقى، وأحسنت من الفن النسائي في أساليب الظرف والجمال والزخرف على جسمها، ما ترك هذا الهرم المتصابي المفتون يفاخر الناس كافةً بأنها خارجةٌ من قريحته.
وأعجبُ ما في أمره أنه على كثير ما أنفق وطائِل ما بذل، لم يكن يرى أنه أنفق على لويز ما لا بد منه لمثل لويز! وهو منذ أصبحت في كنفه استبدلَ من الحرص على المال بالحرص على الحياة، وعرف أنه لا بد في الحب من وسيلة، وأن قلب المرأة ليس في يد أحدٍ، ولا في يد المرأة نفسها، بل هو يحتكم فيما يختار، ويختار على ما يحتكم؛ وأنه ليس أشد عنفًا من هذا القلب، فهو إن لم يُحيِ قَتَلَ؛ يحبُّ المرأة عاشقٌ غير محبوب منها، ويريد مراغمتها على حبه، فيقتله قلبها لوعةً وضنًى بما يطوع لها من صده أو بغضه، وتحب المرأة ثم يمنعها قومها ويرغمونها على غير مَن تحب، فلا يقتلها إلا قلبُها!
وإن «فكتور» ليعرف أنه فارغ الخِلقة من وسائل الحب كلها، ويعرف أنه في أحمض أنواع الهوى لا يعدل أكثر مما تعدلُ قشرة الليمونة المعتصرة، فكيف به في الثمر الحلو، وكيف به في حب لويز!
لم يَبْقَ إذن إلا أن «يخرج الوسيلة من يده»، والمال أضعف الوسائل في الحب الصحيح، وإنْ كان أقواها في الحب المكذوب، على أنه لا يجعله قويًّا من ضعفٍ إلا أن يظل يمد بعضه بعضًا، فإذا أنفضت اليد أو أمسكت، فلأن يقبض المحبُّ على الريح أيسر من أن يضع يده على ظبية شاردة.
ومن أجل ذلك توسَّع الكونت في البذل حتى كأنه كيسٌ مخروق، ولم يعرف لها طلبًا إلا بلغ فيه رضاها، وحسب أن في رضاها محبتها، فكان يأتي بالحاجة التي تطلبها والحاجة التي لم تطلبها، ويجعل كل شيء شيئين، «وأبى إذ تعبَّد لها إلا أن يكون عبدًا بشهود وأدلة»!
وباغتها الرجل فخيَّرها بين أمرين خيرهما شر: إما طريق إلى صدره، وإما طريقة من غَدره؛ ومع الأولى الوصية بالمال، ومع الأخرى أن تذهب في الحال!
وكذلك غلبها على أمرها، وانتصر في معركة كان لا بد أن يخر فيها أحدهما صريعًا، وقد استحال أن يكون المغلوب غيرها، وإن عثرةً تنتهض منها بعد حين خير من عثرة لا تستقِيلُها؛ ورأت الظبية أن لا مناص، فوقعت في يد القنَّاص.
يا ليل
الليل منسدلٌ كأنه حجاب مضروب بين الحياة والأحياء، مجتمعُ الظلمة كأنما هي ذنوبُ الناس في نهارهم جعلت الملائكة ترسلها إلى السماء، وتغشَّى الأرض معنًى من خشية الله فنفرت له دموع المساكين، وأقبلت عليه أنفاس المحزونين، وبرزت له في آثار الظلم دعوات المظلومين؛ وقد ارتفع إلى الله صوتٌ يتقطع زفرات، ويتلهب حسراتٍ، ويسيل من الدمع قطرات، وكان صوت «لويز» وهي تزفر الزفرة تكاد تنشقُّ لها، وترسل الأنَّة تكاد تُدفَن فيها؛ وما بها الغيظ فتسكته عنها، ولا بها الحزن فتمسحه بدمعها، ولا بها الهم، ولا بها الغضب، ولا أمر مما يتواصفه أهل البلاء ويبثونه في شكوى أحزانهم، وإنما ذلك شيء إنْ يكن من الحياة فليس بالحياة، وإنْ يكن من الموت فليس بالموت، ولعله منازعة الحياة والموت على قلبها!
ما بكِ يا لويز وقد بِتِّ زوجَ الكونت الذهبي، وهو عمَّا قليل آخِذٌ ما أمامه وتارك ما وراءه، وما بك أيتها المسكينة وقد كنتِ فقيرةً بائسةً لا تملكين قوت يومٍ فقبضت على أعناق سبعين سنةً تجمع المال وتكنزه، وما بكِ — عمرَكِ الله — وقد خرجت من الكوخ إلى القصر، وصعدت من العريش إلى العرش، وإن كانت حواء قد طُرِدتْ من الجنة فقد طُرِدتِ أنت إلى الجنة، وفي الجنة قوم يُقَادون إليها «بالسلاسل»!
يا ويلتا! إنْ لم يخجل الرجل من شيء أفلا يخجل من أنه لا يخجل؟ أبى هذا الموت لشقائي إلا أن يتخذني زوجته، وكنتُ خليقة أن أجعله أسعد رجل في الدنيا لو اتخذني ابنته!
اللهم إنك رزقتني العافية في كل جوارحي، ولم تُصِبني إلا في القلب!
يا ويلتا! ما أنا إلا لعبةٌ في يد هذا الطفل، لا يلذه شيء أكثر من تحطيمها في طرق لذته، وقد خلقتَ يا رب مَن يحطم القلوب الصحيحة ولم تخلق مَن يستطيع أن يجبر القلوب المكسورة، وإنه ليس فيما برأتَ وذرأتَ مخلوقٌ أشدُّ تعبًا ممَّن يفتش في قلبه عما ليس في قلبه، وهل في الممكنات أو في أشباه الممكنات أن أجد في ناحية من قلبي حبَّ هذا الزوج؟
لقد عرف الناسُ أن قلب المرأة كثير العبث، وهذا الذي يسمونه دلالًا ويحبونه في الحب إنما هو شيء من عبثه، وأن هذا القلبَ إنما خُلِق ليحب؛ ولذلك أُعطي قوةً يخلق بها الحبَّ من العدم، غير أنهم جهلوا فيما يجهلون من أسرار المرأة أن ذلك القلب إنما جاءه العبث بالرجال من أنه لا يطيق أن يعبثَ به أحدٌ من الرجال، ومتى وجد من هؤلاء مَن يريده بنادرته، ويجعله من هزله معرض السخرية وموضع العبث، لم يكن في الدنيا أحد أبغضَ إلى المرأة منه، وإنْ كانت الدنيا كلها في طلعته، وإن كان مخلوقًا من رونق الشمس.
أليس النساء يُحببنَ حتى الكلاب ويُرفِّهنها ويغالين بها ويُنزلنها منزلة الولد في الحب والانعطاف والتوجُّع والتحزُّن؟ فسبحانك اللهم! إن هذا القلب الذي يسع حبَّ الكلب يضيق عن حب كثير من الرجال؛ إذ يحبون المرأة حبًّا ليس فيه شيء من روحها — حب الزينة أو الاستمتاع أو الخدمة — فكأنهم بذلك يبغضونها بغضًا فيه كل روحها.
يا ويلتا! أعجزت أن أجد في هذه العاجلة نفسًا أرى فيها نفسي؟ وهل حُرِّمَتْ عليَّ كلمةُ الحب فلا يفيض بها صدري ولا ينطلق بها لساني؟ وهل خُلِقْتُ لؤلؤةً لأكون في عِقْد من الحصى، ووسمني الله بهذا الجمال ليعذبني بهذا القبح؟ وما عسى أن ترُدَّ عليَّ هذه النعمة ما دمتُ لا أجد لها سبيلًا إلى قلبي، وما دام هذا القلب لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يُعامَل بالمال!
ضلَّ ضلالكم أيها الناس إذ تحسبون النعمة حقَّ النعمة في الغنى وحده، وتمضون الأمر على ما تخيلتم من ذلك، ولا تدرون أن الله ينتقم بالغنى أشد مما ينتقم بالفقر؛ فلو أني ابتليتُ بالمصيبة، وأنا امرأة خاملة لاحتملتُها وقلتُ خمول عرفته فما يبلغ بي ولا يزيدني بنفسي ولا بنفسه معرفة، ومن رحمة الله بالفقراء الخاملين أن في كل بلاء يعتريهم ما يُعينهم على حمل بلاءٍ أشدَّ منه، ولكن الضربةَ اليوم لا تصدعُ الصدَفة بل تسحق اللؤلؤة؛ فاللهم لا قوة إلا بك!
وما أشبَهَني إذ قَتَل هواي هذا الكونت، بزنجيٍّ من زنوج أمريكا اغتال سيدًا من البيض، فلم يجدوا له عذابًا إلا أن يشدوا قتيله في وثاقه، وتركوه يبلى تحت عينيه، ويسيل جوفه تحت أنفه، ويتناثر لحمه على صدره! وهكذا يقتله القتيل وحده بالرُّعب والجنون قِتْلةً لا وصف لها في لغة الحياة.
ولقد كنتُ بائسةً يطير بها القضاء ويقع، فلا تزال دهرها تحت جناح مخفوض من رحمة الله، أو فوق جناح منشورٍ من الأمل في رحمته؛ فلما وجدتُ الغنى واستشرفتُ للسعادة، شغلني الله بهمِّ نفسي، فشغلتني نفسي عن النعمة، فلا تزيدني النعمة إلا همًّا! وقد كتب الله عليَّ أن يقتلني بغض هذا الرجل، فوهبني الغنى من يده وحسب الناس أن ذلك لكيما أستمتع به، وعلم الله أن ذلك لكيما أتصل بقاتلي! فاللهم قد أحيط بي وليس ورائي منفسحٌ؛ فمن حيثما التفت لا أرى غير ما قضيتَ عليَّ أن أرى؛ وهذا امتحان أينما أتوجَّه في الحياة لا تقابلني الحياة إلا بمسألة من مسائله المعضلة!
إن كلمات القضاء لا تُقرَأُ لأنه لا ينزل بالناس إلا معانيها، على أن الكلمة الأزليةَ التي يكون معناها هذا الزواج وهذا الزوج، لا بد أن تكون جملة كاملة من غضب الله في السماء، لا يقابلها إلا سيرةٌ كاملةٌ من ازدراء الناس في الأرض.
•••
قال «الشيخ علي»: ونفرتْ دموع هذه المرأة تخفِّف من يأسها، وإنه ليأسٌ أكبر مما تحتمل نفسها من الصبر لو أنه من وجه ذلك الزوج وحده، فكيف به ومع ذلك الوجهِ شبابُها الهالكُ، وآمالها الضائعة، وغُصَّةٌ من شماتة الناس وازدرائهم، وبلاءٌ من نعمةٍ سابغة ستنقلب فضيحةً وسخرية؟
واهًا لكِ أيتها المسكينة! إن مصيبة الأغنياء لتكشف نفسها فهم يحملونها ويحملون آراء الناس فيها، وإن المصيبة لتكون واحدةً ولكنها ترتد إليهم من قلوب الشامتين من أعدائهم والمتربصين من حسادهم والمتوجِّعين من سائر الناس، وكأنها مصائبُ كثيرة لا تُعَدُّ.
والمرءُ لا يأخذ من الله بشرط ولا يعطيه الله على شرط؛ فإنْ كان في الغنى تلك النعمة ففي الغنى هذا الهمُّ، وما رأيت أيسر اضطرابًا من الماء الراكد قُذِف بحجرٍ، إلا الغنيَّ الغافل قُذِف بمصيبة!
ويحكم أيها الأغنياء! متى رأيتم ثمرةً لا تسقط أبدًا من غصنها الأخضر، وثمرةً تسقط من الغصن ثم تُرَدُّ إليه فتعلَق به وتنضج عليه، فاعلموا يومئذٍ أن غناكم هذا نعيم لا رزيئة فيه ولا مصيبة؛ لأن هذا الكون حينئذٍ يكون فوضى لا نظام له ولا قرار.
•••
وانصدع الفجر، وأقبلت الحياة تتنفس من مباسم الأزهار، وتتغنى بألسن الأطيار، والفتاة موجسةٌ أن ترى طلعة شيخها، وكأن هذه الطلعة صُبْحٌ غيرُ الصبح، وودَّت لو وقف الزمن، فإن لم يمكن فوقوفُ الأرض، فإن لم يمكن فوقوف قلب هذا الشيخ، وخُيِّلَ إليها أنها ستقرف بإثم منكرٍ إذا هو بادرها قبلة الصباح على مثل شفق الشمس من خديها، وأنها لا تُرمَى بمسبَّة أوجع ولا أمضَّ من قوله حبيبتي! وانسلخ الليل، وطارت الأحلام، وأفصحت الحقيقة، واستيقظ الكونت.
على المائدة
زهراتٌ ناضرةٌ كأنما اختبأت فيها ابتسامة الفجر، عاطرة كأنها رسالة اللقاء بعد الهجر، بديعة التنميق تحسبها قصيدةً من شعر الألوان، متفتحةٌ للحب وكأنها لكتاب الحب عنوان، متلائمة مصففة، متلاثمة كالشفة على الشفة، قائمة في جلالها وحسنها كأنها في خِلقة الجمال آية، وكل زهرة في لونها كأنها لدولة من دول الحسن راية؛ وقد جلست إليها غادةٌ فتانة كأنها في رقتها روحُ النسيم، وفي نضرة شبابها روح الحديقة، ولاحت الأزهار كأنما هي خيالات جمالها، وظهرت الغادة كأنها هي الحقيقة.
وإنها لكذلك؛ إذا خَفقُ أقدام وضوضاءُ وموكبٌ وشيء كالموسيقى، فما لفتت جيدَها حتى أبصرت الكونت داخلًا يتوكأ على خادمين وله نغمٌ مختلف، وآهات وأنَّات، ومع هذا النغم سعال كقرع الطبل، وكان «الروماتزم» قد دبَّ دبيبه في مفاصله تلك الليلة، وبات يفتل في عروقه وأعصابه، ووعكته الحمَّى، واجتمعت إليه علل الشيخوخة كلها تهنئه بالزفاف، غير أنه لم يَنْسَ مع هذا البلاء كله أن عروسه ترتقبه على المائدة، فحفزه الشوق وعاوده الصِّبَى، فطار إليها بجناحين من خادميه.
ولما بلغ ظلها أفلتَ الخادمين ثم ارتمى عليها يقبِّلها رياءً ومصانعة، ثم تمسَّك بها يستند إليها، ثم انحطَّ إلى يمينها، وما كادت تناوله قدح اللبن يرتضعه، حتى غمره الألم وهاج داؤه، ففتح فاه وصدحت الموسيقى بنغم مختلفٍ من آهات وأنَّات، ومع هذا النغم سعال كقرع الطبل.
ورأت «لويز» ذلك فرقصت أحشاؤها! فلم تملك المسكينة أن اقتلعت جسمها من الكرسي، وانكفأت هاربة إلى حجرتها، وانطرحت في غمرة أخرى من الألم، وبقيت هناك ملقاةً يدار بها، وكانت لم تغتمض في ليلها، فاصطلح على جسمها همُّ الليل والنهار!
فصل خامس في السنة
وكانت إذا حمدت الله تواردت مع زوجها فيما يَحمَد الله به من حيث لا يشعر أحدهما أو كلاهما، كأن للحب الشديد والبغض الشديد لغةً واحدةً؛ فكان هو يقول: الحمد لله إذ لا تراني! وتقول هي: الحمد لله إذ لا يراني!
وباغتها الرجل منصبًّا عليها، فلو أن ميتًا طالعها من قبره ما كان أروع لها عنه؛ قلبٌ حيوانيٌّ يسكن من أضلاعه الخربة في شقوق، وظهرٌ كالقوس يحمل من روحه سهمًا ليس له إلا المروق، وعروق ناشرةٌ كأنها في جلده المتغضن خيوطٌ في خروق … ودخل عليها كما يدخل الشتاء بكلوحه وبَردِه، على الروض النضر والبقية الضعيفة من ورده، ونظرت إليه فلم يقع من نفسها إلا موقع الهموم على الهموم، ولم يكن في عينها إلا كما يكون الحلمُ في رأس المحموم!
وجلس إليها الشيخ يتطفل ويقترح، وكانت لويز تعرف أن السنة أربعة فصول، أما سنتُها هذه فكانت فصولها بعد اقتراح هذا البغيض خمسة: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، وشهر عسل الكونت! فقد لجَّ الرجل في عناده وأبى إلا أن يكون له ولها «شهر عسل»، ومما زاده لجاجًا وعتوًّا أنه كان يخشى أن ينسلخ الشهر، فقد ذهب نصفه في تجرُّع «الدواء»، ولم يَبْقَ «للعسل» إلا ريثما يمحق القمر أيامًا معدودات!
وما هي إلا خطرةُ الفكر حتى لاح في مرآة نفسها خيالُ ذلك الشاب الذي اختلبها أيامًا بالهوى، وكان لها منه الداءُ وكان له منها الدواء، وأغواها في عرف الناس ولكنه هو ما ضل وما غوى، وكان هذا الفتى قرويًّا فحلًا، ظريفَ الهيئة، مستويَ القامة، عريضَ الصدر، تامَّ الخِلقة، وثيقَ التركيب قد ارتوت مفاصله، واستحكم نسجه، وله مع ذلك خِلابة، وفي لسانه دُعابة، فما أطلَّ حديثه وأنداه! وما أحلى خبره إذا كان من الغزل مبتداه!
فالسحابة تنهلُّ بمائها، ثم تجتمع مرة أخرى في سمائها، والزهرة تُقطَف لحسنها، ثم تنبت مرة أخرى في غصنها، ولكن العذراء حين تفرِّط في خِدْرها، وتضع نفسها دون قدرها، لا تبرح شقيةً حتى تنزل في قبرها.
قال «الشيخ علي»: وانطلقت نفسُ «لويز» لمسرى خيالِ حبيبها، وكانت تُبغضه دون البغض؛ إذ هو مُسْعِدها ومُشْقِيها، فصارت بعد زواجها تحبه فوق الحب؛ إذ لا ترى لها مسعدًا غير ذكراه، ولا تعرف على ظهر الأرض مَن أشقاها غير الكونت!
ولما ذكرته انهملت دموعها، فجعلت تبكي حتى انحلَّت سحائبُ همها، ثم أشرقت كما تصحو السماء في أعقاب المطر، فلو رآها أشعرُ الناس في ذلك الجمال المشرق الحزين الذي تورَّد حتى الْتَهَبَ؛ لَوقف عندها وقفةَ العابد في المحراب يشعر بالقوة الأزلية ولا يحسن أن يصفها. وأي شاعر تحيط نفسه بهذا الشقاء الذي رفعه جمالها الساحر من بين آلام الأرض وألحقه بذلك الألم المنفصل من السماء، الذي لم تشهده الأرض إلا مرةً واحدةً، يوم جلست حواء تبكي أول بكائها بعد خروجها من الجنة؟
ويا لله ما أروع الجمال حين يتألم ويحزن ويحضُر الجميلة همها! إن مَثَلَ مَن يحاول أن يصف دموع هذه الجميلة وحسراتها وصفًا ناطقًا يتنفس به القلب، كمَثَل مَن يريد أن يخلق من سحر البيان زلزلةً ترجُف بها الأرض حين يبالغُ في وصف الزلزلة؛ وما اللغة إلا أداةٌ، فكيف — ويحك — تستعمل هذه الأداة في صفة قوة تعجز عندها كلُّ وسيلة، حتى الشعور الذي أبدع اللغة؟
لقد جمعت المقاييس بين أقطار الأرض، وطوت ما بين الأرض والسماء، وداخلت ما بين أنجم السماء بعضها من بعض، ولكن أية أداةٍ تعيِّن لنا درجة الإحساس بين نفس عاشقة مُدْنفةٍ تشهد آلام نفسٍ معشوقة، وبين عينَيْ شاعر غزلٍ وثَّاب الخيال تنظران في عيني امرأة جميلة باكية، وبين ألم جامدٍ جافٍّ يضطرب في نفس الرجل، وألم سائلٍ متدفق تضطرب فيه نفس المرأة؟
فالمصيبة ليسَتْ مصيبةً بمادتها، ولكن بما يقابل هذه المادة من نفوسنا؛ ومن ثَمَّ فهي لا تؤثر فينا بنفسها، ولكن بالكيفية التي نقابلها بها.
قال «الشيخ علي»: ثم سكنت «لويز» هُنيهة لذكرى أيامها الأولى، وهي تعلم أن لا رُجعى لها، فقد استيقنت أن هذا الغنَى ضرب بينها وبين الفقر حجابًا، ولكنه رفع بينها وبين الشقاء حجابًا آخَر، كان ذلك الفقر وحده هو الذي يمنعها منه؛ وكأنَّ القدر لما اختطَّ لها التعاسةَ، رسم هذه الخطة بقلم من ذهب!
فجهدت أن تذكر في تاريخ الناس مَن يكون قد امتُحِن بمثل هذه المصيبة، وصبرَ لها كما يصبر من ذات نفسه على آفةٍ أو عاهةٍ أو مُثلةٍ، فأبى عليها الواقع أن يُخرِج لها مثالًا واحدًا!
وعجبتْ أن يستأثر الرجل وحده بهذه الأنفة، ويلتمس لنفسه في هذا الباب ما ينكر على المرأة أن تستنكره، كأن هذه المرأة عجماء لا تبالي من صاحبها إلا العلف، ولو انتهى بها إلى التلف؛ وكأن كل امرأة إنما هي اسم على جسم؛ فليس على الرجل إلا أن يختار اسمًا ثم يُثبتَه في وثيقة الزواج بعد أن يُساوِم عليه، أو كأن المرأة بلغت من الجفاء وضعف التمييز بحيث لا تأبى أن تتخذ أعواد فرشها من أعواد نعشها، وأن نقيم لها قبرًا في البيت، وتنظر كلَّ صباح في وجه ميت، وإلا فكم من فتاة كالقمر أخفاها نهارُ المشيب! وكم من عروسٍ للحب زُفَّت إلى غير حبيب! وكم من وجهٍ صبيح يقبِّله ثغر قبيح! وكم من كَعَاب سال عليها اللعاب! وكم من حسن هو رمز الحياة قَرَن به الموت رمزه! وكم من قدٍّ أهيف كالألف لا يرى إلا شيخًا أعجف كالهمزة!
وهنا انتبهت «لويز» إلى زوجها المتهدم الذي هو همزة القطع، وإلى تصابيه المضحك وحماقته العمياء وحبه الأخرق؛ فانتفضت من الغيظ وكاد بعضها يحطم بعضًا، وجعلت خواطرها تنبض في رأسها كلمح البرق، وأخذت تلتمس الوسيلة لردِّ هذا البلاء عنها أو مدافعته، بَيْدَ أنها كلما ابتدأت فكرًا انتهى بها إلى قولها: ما عسى أن أصنع؟!
هي لا تفكر إلا فيما ينبغي أن تصنعه، ولكن الفكر يُفضي بها إلى هذا السؤال بعينه، فكأنها من الهم والحيرة منعزلة عن نفسها، وقد نفَر منها فكرُها وقلبها وحظها جميعًا، ولم يَبْقَ معها إلا روحها المعذبة، وهي كذلك بينها وبين زوجها وبين القدر!
ولبثت زمنًا لا تجد من رأيها إلا قطعًا وأشلاء، حتى لمحت من نافذة القصر مركبةً تدرُجُ في الطريق، ورأت سوط الحوذيَّ يتلقى الأمر منه إلى الجوادين، فلا ينزل عليهما إلا انطلقا ملءَ العنان، كأنما يحاولان الهرب منه ولا يعلمان أنهما يهربان به؛ فرثت المسكينة للبهيمتين، ثم كأنما حُشِرت لها كلُّ مركبة على الأرض في صعيدٍ واحد، فلم تذكر أنها رأت قطُّ سائقًا ليس في يده سوط ما دام بين يديه حيوان!
قال «الشيخ علي»: هكذا يُفسِد الرجلُ المرأةَ وهو يدري أو لا يدري، فهو يبتغيها متاعًا ويريدها مَلهاةً، ثم لا يقدر فيها غير الطاعة لما ابتغى وأراد، كأن الطينة الإلهية التي جُبِل منها الرجل شديدًا متماسكًا، بقيت منها بعده هنةٌ ضعيفة فتُرِكت حتى ركَّت وانسحقت، ثم خُلِقت منها المرأة ذليلة طائعة! وإنَّ أقذر خلق الله ليكون معه الدرهم فاضلًا عن حاجته، فلا يجد ما يمنعه أن يبتاعَ به الزهرة الناضرة، ولكن العجيبَ من أمره أنه إذا احتازها لا يلويها بين أصابعه ولا يدنيها من أنفه إلا بعيدًا بعيدًا وقليلًا قليلًا، بل إنه ليستحي لقذره من طهرها، ولنتنه من عطرها؛ فلا يحملها حتى يتجمل لها، ولا يظهر بها حتى يكون في الجمال أهلَها، وما أدري كيف أدَّبَتْه الطبيعة هذا الأدب مع شبه الجمال، ولا تؤدبُ مثلَ ذلك الهَرِم الأحمق مع الجمال نفسه؟
وكيف يرى هذا الدميمُ أن مرآة بيته التي اشتراها وبذل فيها واختارها على عينه، لا تُظهِره أبدًا إلا دميمًا، وهو كلما بالَغ في رونقها وصقلها بالغت هي في إظهار قبحه ودمامته، ثم يريد أن لا تراه امرأته الحسناء الفاتنة إلا جميلًا فاتنًا، ولا تكلمه إلا في الحب، ولا تُقبِّله إلا قبلة الهوى كأنه هو الذي خَلَقَ لها عينين ولسانًا وشفتين!
ولعمرُ الله لو أن في أضلاع هذه المرأة قلبَ رجل من صيارفة اليهود، قد جثم على منكب الطريق وسرَّح الذمة والدين، والظن واليقين، وجنود إبليس أجمعين؛ في طلب الدرهم يأكله سُحتًا، وينحتُه من أيدي الفقراء نحتًا، لما رأته على ذلك المال وذلك القبح إلا كالخِرقة فيها دينار، فهي هي لم تُخرِجها قيمة الذهب الغالية عن كونها في اليد والعين خرقةً بالية!
أيها الهَرِم الأحمق الذي يستبدُّ بالجميلة الفاتنة! إنك تعبث بذنَب السفينة فإذا انحرفت هنا وهنا زعمتَ أنها تضل الطريق لسوء تركيبها، أَلَا فاعلم — ويحك — أنك لا تصلح أن تكون رُبَّان هذه السفينة، وإذا كنتَ تستطيع أن ترفع شراعًا أو تحرِّك مجدافًا، فما أنت وهذه الباخرة؟ ماذا تصنع — ويلك — في آلات هذا القلب الذي صنعته يدُ الله ليخوض لجج الحب في بحر الشباب إلى ساحل السعادة، وليس بينه وبين الهلاك إلا أن يرتطم في ذلك البحر بصخرة الموت التي لا تكون أكثر ما تكون إلا من رأس رجلٍ هَرِم.
عسيت تقول إنك غنيٌّ ملء الأمل الواسع، وإن هذه الحسناء ستُفضِي من طريق مالك إلى طريق حبك؛ لأن المال — زعمتَ — أوسع طرق الحياة وأطولها، وفيه منفذٌ إلى كل طريق شئتَ أو شاء الهوى، فلعمري إن هذا المال كما تزعم، ولكن لا يذهبنَّ عنك أنك لا تعرف إلا فاتحة الطريق إلى هذه الحسناء، وأن خُطَطَ الآمال ليست من «شوارع التنظيم» أو الطرق السلطانية التي يفضي كل منها إلى جهة بعينها، أو جهاتٍ لا يخطئها مَن انطلق بسبيلها؛ فقد تبدأ تلك الحسناءُ من طريق هذا الغني الذي تفتحه لها، ثم لا تلبث أن تنعطف إلى مذهب من مذاهب قلبها، ثم تأخذ من هناك في ناحية من نواحي مصائبك؛ لأن سبيل حبها وسعادتها من تلك الناحية، ثم تفضي من كل ذلك إلى طريق من الحياة، إذا هي أبصرتك فيها رأتك وليس من ورائك للبغض مذهب، ورأت وجهك ثمَّةَ كأنه صفيحة مما تُكتَب عليه أسماءُ الطرق، وقد كُتِبَ عليها «شارع المقبرة»!
أنت أيها الأحمق استنقذتَ هذه الحسناءَ من الفقر، ثم جعلت تباعِدُ ما بينك وبينها، فأخذتها خادمةً وجعلتها سيدة، وبصَّرْتَها بما كانت تجهلُ من فنون الجمال وأساليب الهوى، ثم جعلتَ غاية كل ذلك إمتاع جسمك الفاني ولذة قلبك الخرب، فنسيت نفسك بادئ الرأي ولم تذكر إلا الفتاة فاتخذتك صديقًا، ثم نسيت الفتاة آخِرًا ولم تذكر إلا نفسك فاتخذتك عدوًّا، فلولا تركتها على جهلها وغَرارتها ما دام العلم بالحب لا يكشف منك للحب إلا عن خُرافة؟
ويعشق الرجلُ الهَرِمُ عشقًا فاسدًا يستوقِدُ ضلوعه، فلا يرضى أن يقول مرة واحدة، ولا أن يقول عنه أحد إنه أحب بعد زمن الحب، مع أن الفتى رجلٌ يُبنَى، والهَرِم رجلٌ يُهدَم؟
ولو لم يضرب الله على بصره لعلم مما تشرع الطبيعة أن أحق الناس بالخيبة رجلان؛ رجلٌ وُجِدَ قبل زمنه فلا يحسن أن ينفع أو ينتفع، ورجل أتى بعد زمنه فلا يحسن أن ينتفع أو ينفع!
متى كان الرجل حقوقًا فقط، وكانت المرأة واجباتٍ لا غير، فقد خلا الرجلُ من العقل وخَلت المرأة من القلب، وخلا الاثنان من هذا المعنى الروحي الذي يُسمَّى الحب؛ فإن لم يستطع ذلك العاشق الهَرِم أن يسترد لنفسه الصِّبى الذاهب حتى تحبه تلك الحسناء طائعةً، فَلْيسترجع لتاريخ الأرض وحشيته الأولى حتى تلوذ به تلك المرأة كارهةً!
ويلٌ للإنسان من هوى نفسه، فلولا هذه الحماقة فيه لما وجد على الأرض خطأ؛ لأن كل إنسان حين يخطئ فإنما يريد حقيقةً من الحقائق، غير أنه يجعلُ مركزها في رأسه ولا يعتبرها إلا من هناك، مع أن مركزها في العالم.
شهر النحل
وما في خلق الله أعظم من المرأة، فهي طبيعةٌ وحدها، غير أنها الطبيعة الدقيقة الحسِّ، وليس يدرك الرجل حقيقة نفسه قبل أن يخلطها بنفسه؛ فإذا رأيتها خاملةً مغمورة، أو ساقطة مزجورة، أو ميتةً في الأحياءِ مقبورة، فلا ترَيَنَّ أنها مغلوبة للرجل ولكنها مغلوبة لاحساسها، وقد وفَّر الله عليها من القوة ما شاء، ولكنه غمز منها موضعًا دقيقًا فخرجت بحيث تراها أقوى الأشياء، وترى هي نفسها كأن لا قوة فيها، وهذا سر من نظام الطبيعة؛ فإن أشجع الناس الذي لا يخاف شيئًا يخاف أشياء كثيرة من نفسه، فلولا أثرُ يد الله في إضعافها ما قامت للرجل معها قائمة.
وهذا الموضع الذي أسلمها ضعيفةً مستخذيةً إنما هو جهلها بتصريف إحساسها، فليست القوة إلا شيئًا طبيعيًّا في هذا الوجود كائنة ما كانت، وإنما الشأن كله في العلم بطريقة استعمالها، وما من رجل يداري المرأة نوعًا من المداراة فترضى عنه وجهًا من الرضا، إلا رآها في يده أضعف ما خلق الله هيِّنة لينة سَمْحة مطمئنة، إن كانت دون الملائكة فهي فوق الناس؛ إذ هو إنما يستولي على إحساسها فيأمن أن تصرفه في غير مرضاته ومحبته، ومن ثَمَّ تصبح كأنها صورة من إرادته، وكأن في نفسها نفسه.
فإن جهل الرجل كيف يُداريها، وانقطعت الأسباب المختلفة بينه وبين رضاها، ولم يكن أهلًا منها لما هي أهلُه منه، استوقد إحساسَها وبصَّرها كيف تناله؟ ومن أين تأتيه؟ فابتلي منها بفتنةٍ ما تهدأ وقْدَتُها؛ فما السابح في البحر إذا أراد أن يقيِّد الموجة العاتية بالحبال، ولا المصروع إذا حاول أن يدفع بيده ما أفزعه من جِنَّ الخيال، ولا الطفل يبتغي أن يُمسِك القمر في الماء، ولا المجنون يتطاول فيقتلع النجم من السماء؛ بأقدر ممَّن تُبغضه المرأة إذا زعم القدرة على إرغامها وتصريف زمامها؛ ومَن تمضغُه المرأة إذا زعم القدرة على إسكانها، والسلامة من بركاتها، ومَن تحقِّره المرأة إذا زعم القدرة على ردِّها وإرجاعها دون حدها، ومَن تصول عليه المرأة إذا ادَّعى القدرة على إسقاطها، والقوة على التقاطها!
فليس يعجز الرجل في سلاطة المرأة إذا هي سُلِّطَتْ عليه ما يكون من حدة جِنانها، وشدة عِنانها، وشِرَّةِ لسانها؛ فكل هذه وأمثال هذه إنما هي ضروبٌ مما تحاول من إظهار عظمتها الطبيعية المغلوبة، ومن أجل ذلك قلَّما كانت المرأة السليطة إلا غالبة؛ إذ هي نفس منفجرة.
ولقد يعجز الإنسان أحيانًا كثيرة أن يكون نفسَه؛ إذ لا تنقاد له الطريقة التي يغلب بها على الحوادث أو يجاريها أو يُنبِّه لها الحذر، ومن ثَمَّ ينكر نفسه كأنها غيرُ التي يعرف من قبلُ، ولكن المرأة متى ثارت لا تعجز أبدًا أن تكون نفسها، وما نفسها إلا أعظم ما في الخليقة من الخير والشر!
قال «الشيخ علي»: كذلك صارت «لويز» مع زوجها، وانحازت إليها طبيعته الغالبة؛ فكانت قوية به وبنفسها، وكان ضعيفًا بها وبنفسه.
أَلَا وإن أخلاق المرء إنما هي أعصاب أعماله، فانظر — ويحك — ما عسى أن يكون في البغض أشدُّ من أعمال امرأة أبغضت بعقلها وبقلبها، ولحاضرها ومستقبلها، وصارت حياتها كلها من الشر والسوء كأنها لعنة يصبُّها الله على رأس هذا الهرم؟
وكذلك اندمج في إرادتها كما يندمج الثعلب في فروته الجميلة الناعمة؛ ترميه بالنظرة حين يتكلم فتقف الكلمة بين حلقه والوريد، ويجيئها وقد أجمع النية أن يأمرها فلا تأخذه عينها حتى يسألها ما تأمره؟ ويجهد أن تعلم أنه زوجها ثم ينقلب وهو يتمنى لو تعلم أنها زوجته، ويوسِعُ قلبه عزمًا أن يفعل ويفعلَ، ثم يراها فيخشى أن تكون اطَّلَعت على أن في قلبه شيئًا من العزم!
وهو لا يعلم بزعمه كيف أنكرته وكيف تغيَّرَتْ عليه وكيف تنكَّرَتْ له، ولكنه يريد أن يسأل كلَّ شيء عن ذلك إلا وجهه، ذلك الوجه الذي جعله الحب أقبح ما عرف من دائه، وأشد ما خاف من أعدائه، وما أفضى إليها مرةً وهو يحمله، إلا عرف أنه من ذنبه في حبها، وأنه من عذرها في بغضه؛ فيطرق إطراقةً يتكلَّفها ويحسبها تشفع له عندها، لأن فيها ذل الشيبة، وألم الخيبة، وشدة الهيبة، ولكن وجهه يُظهِره وقتئذٍ مظهرًا ليس في معنى السماجة أسمج منه؛ إذ يكون كاللص الذي لا ينكر على ملأٍ من الناس أنه سارق، وهو مع ذلك يحرص على أن لا يُؤخَذ منه ما تجشَّم في سرقته. وقد عرفت المرأة أنها لا تغمز منه إلا مكاسِرَ عظمِه الواهن، ولا تطأ منه إلا كل مفصلٍ مرضوض، ولكنها عرفت كذلك أنه ظالم لنفسه؛ إذ حمَّلها ما ليس في طاقته، وظالمٌ لها إذ أرادها على ما ليس في طاقتها؛ فهو ظالم أشبه بمظلوم، وما مثله في حبها إلا كمثل الفراشة، لا ترجع دون المصباح إلا أن تخالِط ناره، فما تحتال من حيلة إلا أحست منها حتفها وتلفها، غير أنها لا تزال تنزع من ذلك إلى ما ينبغي أن تنزع عنه، وكلما تهافتت انحصَّ جناحها من ناحية؛ ومع هذا كله لا تسكنُ ما دامت فيها حركةٌ تنبعث.
وما من شيء إلا وقد جعل الله فيه النفعَ والضرر، فمَن التمسه على حالةٍ منهما لم تؤدِّه إلى الأخرى، وما تُغني الإنسانَ معرفةُ الأشياء على حقائقها إلا إذا عرف مع ذلك فُروقَ ما بينها، وتبيَّنَ الحدود الفاصلة بين الشيء والشيء الآخَر، وبين الحالةِ والحالةِ في الشيء الواحد؛ فقد يكون الإفراط من الدواء داءً مع الداء، وقد يجتمع من طعامين بلاءٌ لا يكون من جوع يومين!
والمرأة هي هي في حاجة الرجل إليها، ولكن كلَّ امرأة تكاد تكون جنسًا بعينه في حاجتها إلى الرجل؛ فمن ههنا أحبت وأبغضت.
قال «الشيخ علي»: وقد رأت «لويز» أن زوجها خَرِبٌ من كل جهاته، وأكبر ما فيه أنه كالأرض الفضاء؛ إذا ضُرِب عليها سور وجُعِل في هذا السور باب، ووُضِع على هذا الباب قفل … فما غناه العريض، ولا ماله الكثير، ولا اسمه في أهل الغنى، إلا كتلك الحدود المضروبة على ما وراءها من الفراغ والفضاء!
وكانت ترتاع لذلِّه وترقُّ لخضوعه، وتود لو استطاعت أن تراه غيرَ مَن هو، فتعرفَه غيرَ ما عرفته وتجزيَه غير ما جزته، ولكنه لم يكن يجيئها أبدًا إلا باديَ المقتَل، ولا يريد مع ضعفه أن يعدِل عن محزِّها، وما أماتت من نفسه نزعةً إلا انبعثت فيها نزعة أخرى، كأنه رأى في غضبها جمالًا لم يره في رضاها، وأحس من سَوْرة شبابها وفَوْرة غيظها ما يعالج منه خمودَ الهَرَم وبَرْدَ الموت في عظامه؛ فاعتاد منها ما تجزيه، واعتادت منه ما يخزيه، ومرَّا على ذلك دهرًا مات فيه الوفاء، ومرض الحياء؛ فإذا تاريخ هذه المرأة كلُّه لعنات، وإذا عِرْضُ ذلك الرجل كله طعنات، وأصبحت مَلِكَةً عليه، وأصبح معها كما قال ذلك الحكيم: «مَن أراد مصاحبة الملوك، فَلْيدخل كالأعمى وَلْيخرُج كالأخرس!»
وبعد …
أما هي فرأت أن لا سبيل إلى انهزامها أو تراجُعِها بعد ما أنزلت أخلاقها إلى المعركة، كأنها ماتت قبل أن تموت فليس يضرها أن تقع في هذه المعركة هالكةً، وليس ينفعها أن تخرج منها حية، وكل شيء تستدرك منه الحيلة إلا ما أفاتت المرأة من شرفها النسائي، فإنه إن فرَط منه فارطٌ لم يُستدرَك، فبسطت عنانها في يد الأقدار وانطلقت على أثرها صاغرةً!
الفقرُ خلوٌّ من المال، ولكنَّ أقبحَ الفقرِ الخلوُّ من العافية.
والغنى أن تملك من الدنيا، ولكنَّ أحسنَ الغِنى أن تهنأ في الدنيا.