الحرب١
رُقعة من الأرض كأن فيها شيئًا من الطِّينة التي خُلق منها الإنسان، فهي تمطر من دمائه، وكأنما عرفته في سماء الله، فلا يكاد ينزل بها الجيشان حتى تعيد أرواح أكثرهم إلى سمائه؛ ينجذب إليها الجندي لأن فيها تُرابه بل لأن فيه من ترابها، وينطرح عليها لأن اقتراب مَنِيَّتِهِ في اقترابها، ولا تزال تصرعه وكأنها من شوقها تضمه، وتُلقيه على صدرها ميتًا أو جريحًا كأنها تُعْلمُه بذلك أن الأرض أمه، وهي مزرعة الموت، نباتُها الرءوس فمنها قائم وحصيد، وثمراتُها النفوس فمنها داني القطاف ومنها بعيد، وقد روَّاها بالدم الحي فنبت فيها العظم وأثمر فيها الحديد!
بل هي ساحة الحرب ترفع عليها القوة راية وتُنزِل راية، ويُحشَر إلى مسرحها الناس ليُمثِّل لهم الموت كل يوم روايةً، وقد اضطربت فيها الآجال فكأنها أمواج في بحر القدر زاخرة، وتناثَر فيها الرجال فكأنهم عظام في بعض المقابر ناخرة، وظهرت تلك الساحة وقد كَشَرَت عن أنيابٍ من السيوف وأسنانٍ من الأسنة كأنها لأهل الدنيا فم الآخرة!
أما الجنود فإذا رأيتهم يلتحمون قلتَ زلازلُ الأرض قد خُلِقت على ظهرها، وإذا شهدتهم يقتحمون خِلت نفوس الكرام قد حَملت على دهرها، وقد أيقنوا أنهم إن لم يكونوا للموت كانوا للأسر، ومَن لم يُبنَ منهم على «الفتح» بُنِيَ على «الكسر»، وما منهم إلا مَن يحمل رأسًا كأنه لا يملكه، على عنق لا يدري كيف يمسكه، في بدنٍ لا يعرف أيأخذه الموت أم يتركه؛ فهو لا يبالي أظلته الشمس أم أظلم عليه الرَّمس، ونهض للتاريخ مع الغد أم ذهب في التاريخ مع الأمس.
وإذا كان من صفة الميت أنه اسمٌ في الحياة بغير جسم، فمن صفة هذا الحي أنه جسمٌ يعيش بغير اسم، وما الجندي إلا عدد في حساب الحرب، فسيان قطعه «الطرح» أم أخذه «الضرب»، وإنما هو حيث يتهيَّأ له انتظار الأقدار؛ فليس إلا الصبر، ولو في بَطن القبر، وحيث يُطبَخ له النصر على «النار»، فثَمَّ المكان ولو في جوف البركان. وآية عقله أن يكون كالآلة المتقنةِ تعمل بلا عقلٍ فلا يخشى الحَيْف، ولا يسأل لماذا ولا كيف، ومن ذكائه أن يكون من صحة الذهن، بحيث لا يفرق في الموت بين الجمر والتمر، وأن يكون من «خفَّة الروح» بحيث تحمله اللفظة الخفيفة على جناح الأمر.
وما الحرب إلا أن يتنازع الناس على الحياة فيقيموا الموت قاضيًا، ويطلبوا من الشريعة المدونة في صفائح السيوف حكمًا على الحياة ماضيًا؛ فكلا الفريقين يقدِّم الحجج، من المُهج، ويتكلم بألسنة الروح، من أفواه الجروح، ويأتي من بلاغة الموت في خصامه بكل «ضرب»، ويُجري الحياة مجرى «الاستعارة» في «بيان» الحرب.
وقد تواقف الرجال في يومٍ أطول من يوم العرض، وتقاذفوا بالآجال حتى أوشكت السماء لكثرة ما ينزل منها أن تقع على الأرض؛ فالخيل مُنقضةٌ كأنها صواعق أرسلها الموتُ في أعنَّة، أو نوازع من السحاب بُروقها الصوارم والأسنة، مسرعةٌ كأنها تسابق تلك المنايا التي جرت بها الأقدار، جائلة كأنما تحيَّرت كيف تفرُّ من ساحة الموت بما حملت من الأعمار، وعلى ظهورها كل فارس كأنه بين الرماح أسدٌ في غاب، وكأن الموت من سيفه سمٌ خُلقَ في ناب، وكأن العنان في يده سوط ولكنه سوط عذاب، لم يُعَدَّ في الفرسان، حتى لم يَعُدْ من الإنسان، فإذا صاح بقرْنِه عرفت الوحوش ذلك الصوت، وإذا ماجته الحرب لم يفته من ضروب النقمة فوت، وإذا نظر إلى مقتل عدوِّهِ حسبتَ عينيه نقطتين على تاءِ الموت.
وقد رمت الأرضَ تلك المدافع بزلزالها، وألقت على الجنود صُوَرًا من شر أفعالها، فتركتهم كالغابة الملتفةِ إذا استطار فيها الحريق، وانحطَّ فريق من أشجارها على فريق، وكأنما انقضَّ عليهم من قنابلها جدار من الجحيم، وكأن كلَّ مدفعٍ في صيحة الحرب إنما هو عنق شيطان رجيم.
وكأنه زفراتٌ غير أنها لا تخرجُ من الصدر بل تنزل فيه، ولولا أنها تشويه ولا تَشفيه، وهو أوقع في الرءوس من الأوهام، وأنفذ في الأغراض من مكايد الأفهام، وأحرُّ على الأكباد من كل ما يُضرِم غضبَ الجبار المَغيظ، وما هو إلا العذابُ الرفيع إن كان المدفعُ هو العذاب الغليظ.
•••
وهناك من الروع ما لا يحصيه الوصف ولا يحصِّله، وإن عرفتْ آلة التصوير كيف تجمله، فليس يعرف القلم كيف يفصِّلُه؛ ولعمري لو كان البحر الأسود في المحبرة، لما بلغ في وصف هذه المقبرة، غير أنها الحرب التي ابتدعها العلم لهلاك الإنسان، والقوة التي رُزِقها العقل فكانت بلاءً على الأبدان.
وهي الحرب العامة كأنها ثورةُ الدهر، وقد ضجر من هذا العلم وطغيانه، وملَّ من سماجة إنسانه، واشتاق إلى عصر حيوانه؛ فزفر زفرةً أيقظت الموت وكان نائمًا، وتركت هذا الإنسان من الفزع لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا، واستنزلت من القضاء ما كان في علم الله غيبًا، واشتعل من هولها رأسُ الأرض ببياض السيوف شيبًا، وجعلت من البيوت قبورًا لأهلها، وساوت في معايش الناس بين صعبها وسهلها، وأظهرت لعقول العلماء أن أكثر علمها من فنون جهلها؛ فالأرض في بلاء منتشرٍ لا يُعرَف له حجم، والشعوب في ظلام من اليأس مُلتهب النجم، والدول في عصرٍ كليل الشياطين كلُّه رجم.
•••
ولهذا سفر بين أمم الأرض كل ما يخرج من رأس الإنسان وما ينتج من يده، واتصل ذلك واستفاض حتى كأنما دارت الأرض دورة جديدة من داخلها، فما إن يقع الاضطراب في ناحية منها إلا دخلَها من الأثر في سائر نواحيها، من هزةٍ ترجف، إلى زلزلة تهدم، إلى الخسف الذي يجعل عاليها سافلها.
وإني باسطٌ لك شيئًا من الرأي في كلمات قليلة، ولكنها كالمعركة الأخيرة التي يحق بها النصر، فتكون هي تاريخ الحياة، ولا يكون ما سبقها إلا تاريخًا للموت.
أَلَا فَلْتعلم أنه لو كان لحوادث الدهر منذ نشأ الدهر تاريخٌ صحيحٌ يصف لنا ما كان سببًا في كل حادثة، وما صارت كل حادثة سببًا فيه؛ لأثبت يقينًا أن ليس في الأرض شيء من خير أو شر غيرَ ما يلزم لبناء هذا التاريخ الأرضيِّ على الوجه الذي يتفق مع بناء الإنسان، والتاريخ يَطرِدُ حينًا ثم ينعطف ههنا وههنا في مجراه من الغيب، فلا يتحوَّل إلا انشقت له ناحية من العالم.
فإن خربت دولة أو سقطت أمة فما هي بصاحبة الدهر كله، وقد كان لها قسمها منه، ثم عاد الدهر يطلب قِسمَه منها، ولن يُجدَّدَ البناء القديم حتى يكون الهدم أول العمل في تجديده.
فالحرب شر لا بد منه؛ لأنها من عوامل التحليل والتركيب في تاريخ الإنسانية، وهي بذلك سبب من أسباب استمراره، وكل شر لا بد منه فهو خيرٌ لا غنى عنه، وهل يبتغي الإنسان أن تُضرَب العصورُ والدول كما تُضرَب الدنانيرُ والدراهمُ من معدن معروفٍ على وجهٍ معروفٍ ولغايةٍ معروفةٍ؟ وإذا لم يكن لنا مستقبل التاريخ، وكنا في عمر محدود، فما نحن والرأي في بناء هذا المستقبل، وكيف نقدِّم لله آلات البناء، ثم نُحْكِم الشرط أن لا يكون في هذه الآلات ما يحتفرُ أو يكسر أو يرُضُّ.
وما البغي والظلم والكيد والفتنة والاستبداد ونحوها مما يشملُ أكثر وسائل الحياة الإنسانية إلا ضروبٌ من القتل الخفِيَّ، وربما عُدَّ الموت في بعضها راحةً من الموت، ولكن ذهب بإثمها في اصطلاح الناس أنها خططٌ موضوعة للمغالبة على الحياة، وأنها لا تنالهم إلا فردًا فردًا، وكأن باطل الأمم غيرُ باطل الأفراد؛ لأن الاجتماع قضى منذُ أول العهد به أن تكون الأمة مظهر الشرع، وأن يكون الفرد مظهر العقاب، ولكن ليت شعري لِمَ يكون الفرد كذلك من الأمة، ولا تكون الأمة كذلك من أمة غيرها؟
فالحرب هي عقاب الجماعات، وهي كذلك ضرورةٌ اجتماعية، ولن يخلو منها تاريخ الإنسان إلا إذا رجع الناس أمةً واحدةً في تركيبٍ مستحيلٍ لا يتهيَّأ معه أبدَ الدهر ما يقسم هذه الأمة على نفسها، ولعمري إن ذلك التركيب الاجتماعي الذي يخلو من الحروب، ليُزهِّد الناس في جنة الله، ولا يدع للأديان محلًّا على الأرض، ويحسبون أنه صلاح في الطبيعة وهو يفسد الطبيعة كلها، فما هو إلا خيال شعري في تاريخ الحقيقة الإنسانية، وما أرى الحرب إلا البرهان الذي تُقيمه الطبيعة أحيانًا على فساد ذلك الخيال كلما أوشك الضعف الإنساني أن يتوهمه حقيقةً.
وإذا كان الله لم يخلق إنسانًا من النور فلا تظلِمُ نفسُه، ولا من الثلج فلا يحمَى دمُه، ولا من الصخر فلا يَهِنُ كاهله، ولا من الحق فلا يحيف على غيره، ولا من الرضا فلا يطمعُ في سواه، ولا من الكتمان فلا تخرج أضغانه، ولا من السكون فلا يتحرك في نزاع؛ فكيف لعمري يخلقُ بعض الكتَّاب والفلاسفة هذا الإنسانَ الجديدَ من عناصر السِّلْمِ وحدها؟
أَلَا إن الإنسان لا يُولَد ساكنًا ولا نظيفًا، وإنما يخرج من بطن أمه في ثورة دمويةٍ تنفجر من حوله ههنا وههنا؛ وما أرى الحرب أكثر ما تكون لا ولادةً للتاريخ على هذا الأسلوب، فكأن من التاريخ ما يُولَد على أسلوب الحيوان في ثورةٍ من الدم، ومنه ما يوجد على أسلوب النبات في تحوُّلٍ ساكنٍ غير منظور.
فلولا أن هذا الإنسان مهيَّأ للحروب بأدواتها الطبيعية، وأن هذه الأدواتِ هي كذلك من أسباب بقائه اللازمة له، لما قامت في الأرض حربٌ قطُّ، ولو أبعدنا في مطارح الفكر ونظرنا من وراء النفوس الإنسانية إلى ميادين القتال، لَرأينا أن الحرب التي تقوم بين الأحياء إنما هي حرب قائمة بين مذاهب الحياة.
ولكن متى تكون الحرب حقًّا، ومتى تكون باطلًا؟ فهذا ما لا سبيل إلى وجه الرأي فيه، وربما كان الجواب عليه سؤالًا آخَر، وهو: متى تعرِضُ في حياة الناس تلك المسائل التي لا يصلحون هم أنفسهم لحلها؟ ومتى تكون الحركة العنيفة التي يتحوَّل بها التاريخ الإنساني كلما وَجب أن يتحرَّف ليتَّبع مجراه من الغيب؟
وقد يقول بعضهم: إن في الحرب إسرافًا اجتماعيًّا بما تأخذ من الموتى وما تترك من المرضى. ولكن كم من الإسراف الطبيعي والأخلاقي في بقاء الناس موفورين بعلومهم وفنونهم وشهواتهم ونَعَمِهم ومصائبهم ونحوها، مما يؤدي إلى انطواء هذا المجتمع الإنساني في الأدمغة والقلوب بما تبعث عليه تكاليف الحياة الاجتماعية السامية التي تحاول أن تجعل الإنسان حيوانًا على شكلٍ مخترَعٍ!
فلا تُرَينَّ يا بني هذه الوحشية التي تعتري الناس في حروبهم إلا سببًا في رجوعهم بعد ذلك إلى الإنسانية الخالصة التي أفسدوها بحضارتهم، وضربوا عليها الحدود من مصطلحات التمدن ومن أصول المعاملة، فأصبح الإنسان منهم يقضي العمر وهو يتعلم كيف يصير إنسانًا!
وأنا يا بني في خاصةِ نفسي أكره الحرب؛ لأني أراها تُصوِّر بكل ألوان الهلاك والخراب فكرةَ العدم المبهمة على قطعةٍ من أديم الأرض، وأمقتها لأنها تلوِّث الحياة بدماء الرجال ثم لا تغسلها إلا بدموع النساء والأطفال، وأبغضها لأنها تدفن تاريخَها الصحيح للمستقبل ولا تترك للحاضر إلا تاريخها المشوَّه في أعضاء الجرحى، ولكن البغض يا بني لا ينفي الحكمة مما تبغضه، وما سرور نصف الناس إلا بما يكره النصف الآخَر!
وأكبر شخصٍ اجتماعي وهو الأمة، كأصغر شخص اجتماعيٍّ وهو الطفل؛ كلاهما يبكي ويتألم حين يُضَرب لتأديبه.
قال «الشيخ علي»: وهذا آخِر قول الشيخ علي.
على الكوكب الهاوي
حسناء أفقرتها الحرب، وكيف تتلقاها الحقيقة؟
•••
•••
•••
•••
•••
هوامش
ولقد كانت الحرب العظمى تنقيحًا إلهيًّا عنيفًا لهذه الحضارة الزائغة، فوضع الله يده عليها فمحت أكثر حسناتها ورقائقها وطرفها البديعة، وأميتت طباع الترف لتنبعث طباع القوة، وقر في الرجل معنى الرجل وفي المرأة معنى المرأة، وكانا قبل ذلك وإن الرجل نصف امرأة … وإن المرأة ضعف نفسها؛ فكأن الحرب كانت مصفاة للحضارة، ثقوبها الخرائب والخنادق والقبور، ومتى جمت الأوساخ بعد زمن فالمصفاة باقية …»