رَمْلٌ وزَبَدٌ
على هذه الشواطئ أتمشى أبدًا،
بين الرَّمْلِ والزَّبَدِ.
إن المدَّ سيمحو آثار قدمي، وستذهب الريح بالزبد،
أما البحر والشاطئ فيظلان إلى الأبد.
***
ملأتُ يدي مرةً بالضباب، ثمَّ فتحتُها فإذا بالضباب قد صار دودةً،
وأغلقتُ يدي وفتحتُها ثانيةً فإذا هنالك عصفور،
ثمَّ أغلقتُ يدي وفتحتُها للمرة الثالثة، فإذا في راحتها رجلٌ حزينُ الوجه ينظرُ إلى العلاء.
وأغلقتُ يدي رابعة، وعندما فتحتها لم أرَ فيها غير الضباب،
ولكنني سمعتُ أغنية بالغة الحلاوة.
***
خُيِّل إليَّ في الأمس أني ذرة تتموج مرتجفة في دائرة الحياة بغير انتظام، واليوم أعرف كل المعرفة أني أنا الدائرة، وأن الحياة بأسرها تتحرك فيَّ بذرَّات منتظمة.
***
يقولون في يقظتهم: ما أنت والعالم الذي تعيش فيه سوى حبة رمل على شاطئ غير متناهٍ لرحب غير متناهٍ.
وفي حلمي أقول لهم: أنا هو البحر غير المتناهي، وما جميع العوالم سوى حبَّاتٍ من الرمل على شاطئي.
***
ما عييتُ إلا أمام مَن سألني: مَن أنت؟
***
فكَّر الله، فكان فِكْره الأول ملاكًا،
وتكلَّم الله، فكانت كلمته الأولى إنسانًا.
***
كان الإنسان مخلوقًا هائمًا يَنْشُد ذاته الضالةَ في الأحراج قبل أن منحه البحرُ والريحُ كلماته بألف ألف سنة؛
فكيف يستطيع، والحالة هذه، أن يعبِّرَ عن العتيق من الأيام فيه بأصوات حقيرة لم يتعلمها إلا في الأمس القريب؟
***
تكلم أبو الهول مرة واحدة في حياته، وإليك ما قال: حبة الرمل صحراء، والصحراء حبة رمل. قال هذا وسكت ثانية، ولم يفتح فاه.
قد سمعتُ ما قاله أبو الهول بيد أنني لم أفهم.
***
رأيتُ وجه امرأة، فرأيتُ أولادها ولم يُولَدوا بعد.
ونظرتْ امرأةٌ إلى وجهي، فعرفتُ آبائي وجدودي وقد ماتوا قبل أن تُولد.
أودُّ الآن لو يُتاح لي أن أكمل ذاتي، ولكن أنَّى لي ذلك إذا لم أتحول إلى سيادة يعيش عليها العاقلون من الأحياء؟
أليستْ هذه ضالةَ كلِّ إنسان على الأرض؟
***
الدُّرَّة هيكلٌ بناه الألمُ حول حبَّة رملٍ،
فما هو الحنينُ الذي بنى أجسادنا؟ وما هي الحبوبُ التي بُنيتْ حولها؟
***
عندما رماني اللهُ حصاةً صغيرةً في هذه البُحيرة العجيبة أزعجتُ هدوءها بأن أحدثتُ على سطحها دوائرَ لا يُحصى عديدُها،
ولكنني عندما بلغتُ إلى أعماقها صرتُ هادئةً مثلها.
***
أعطني الصمتَ أقتحم غمرات الليل.
قد وُلِدتُ ثانيةً عندما وقع جسدي بحب نفسي وتزوجا معًا.
***
عرفت في حياتي رجلًا حادَّ السمع، ولكنه كان أبكمَ؛ فقد خسر لسانه في معركة،
وأنا أعرف اليوم الحروب التي حاربها هذا الرجل قبل أن حلَّ به قضاء الصمت العظيم، ويسرُّني جِدًّا أنه قد مات؛
لأن العالم على سعته لا يكفي لنا معًا.
***
طويلًا نمتُ في أرض مصر صامتًا غافلًا عن الفصول،
ثمَّ ولدتني الشمس، فوقفتُ ومشيتُ على حافتَي النيل مترنِّمًا مع الأيام حالمًا مع الليالي.
والآن تعمش الشمس عليَّ بألف قدم لكي أنام ثانية في أرض مصر،
ولكن هو ذا الأُعجوبة والأُحْجية؛
فإن الشمس نفسَها التي جمعتني لا تستطيع أن تفرِّقني؛
لذلك ما برحتُ منتصبًا أمشي بخُطًى ثابتة على حافتَي النيل.
***
التذكار شكلٌ من أشكال اللقاء.
***
النسيان شكلٌ من أشكال الحرية.
***
نحن نقيس الزمان بمقتضى حركة الشموس التي لا تُحصى، وهم يقيسون الزمان بآلات صغيرة يحملونها في جيوبهم.
فقُل لي — رعاك الله — كيف يمكن أن نجتمع معًا في مكان واحد وفي وقت واحد؟
ليس الفضاء فضاءً بين الأرض والشمس لمن ينظر إليه من نوافذ المجرَّة.
***
الإنسانية نهر من النور يسير من أودية الأزل إلى بحر الأبد.
***
ألا تحسد الأرواحُ القاطنة في الأثير الإنسانَ على كآبته؟
***
في طريقي إلى المدينة المقدَّسة لقيت حاجًّا آخر، فسألته: أهذه حقيقة الطريق إلى المدينة المقدسة؟
فأجابني: هلمَّ ورائي تصل إلى المدينة المقدسة في يوم وليلة،
فتبعتُه للحال، وسِرنا أيَّامًا وسِرنا لياليَ، ولكننا لم نبلغ إلى المدينة المقدسة،
وشدَّ ما كانت دهشتي عظيمة؛ إذ عرفت أنه غضب؛ لأنه لم يَسِر بي في الصراط المستقيم.
***
اجعلني يا ألله فريسة الأسد قبل أن تجعل الأرنب فريستي.
***
قال لي منزلي: لا تهجرني لأن ماضيك يقطن فيَّ.
وقالت لي الطريق: هلمَّ ورائي، فأنا مستقبلك.
أما أنا فأقول لمنزلي والطريق معًا: ليس لي ماضٍ ولا مستقبل. فإذا أقمت هنا ففي إقامتي ذهاب، وإذا ذهبت فهنالك إقامة في ذهابي، فإن المحبة والموت وحدهما يغيِّران كل شيء.
***
كيف أخسر إيماني بعدل الحياة، وأنا أعرف أن أحلام الذين ينامون على الريش ليست أجمل من أحلام الذين ينامون على الأرض؟
***
ما أغربني عندما أشكو ألمًا فيه لذَّتي!
***
سبع مرات احتقرتُ نفسي:
- أوَّلًا: عندما رأيتُها تتلبَّس بالضِّعة لتبلغ إلى الرِّفعة.
- ثانيًا: عندما رأيتُها تقفز أمام المخلصِين.
- ثالثًا: عندما خُيِّرَتْ بين السهل والصعب فاختارتِ السهل.
- رابعًا: عندما اقترفتْ إثمًا ثمَّ جاءتْ تُعزِّي ذاتها بأنَّ غيرَها يقترف الإثم مثلها.
- خامسًا: عندما احتملتْ ما حلَّ بها لضعفها، ولكنها نسبتْ صبرها للقوة.
- سادسًا: عندما احتقرتْ بشاعةَ وجهٍ ما هو عند التحقيق سوى بُرقُعٍ من براقعِها.
- سابعًا: عندما أنشدتْ أغنية ثناء ومديح، وحسبتْها فضيلةً.
أنا لا أعرف الحقيقة المجردة، ولكنني أركع متضعًا أمام جهلي، وفي هذا فخري وأجري.
***
بين خيال الإنسان وإدراكه مسافة لا يجتازها سوى حنينه.
***
الفردوس قائم هناك، وراء ذلك الباب، في الغرفة المجاورة، ولكنني أضعت مفتاح الباب،
ولعلي لم أُضِعْه، بل وضعته في غير موضعه.
***
أنت أعمى، وأنا أصم أبكم، إذن ضع يدك بيدي فيدرك أحدنا الآخر.
***
ليست قيمة الإنسان بما يبلغ إليه، بل بما يتوق للبلوغ إليه.
***
بعضنا كالحِبر وبعضنا كالورق؛
فلولا سواد بعضنا لكان البياض أصمَ،
ولولا بياض بعضنا لكان السواد أعمًى.
***
أعطني أُذُنًا أعطِك صوتًا.
العقل إسفنجة، والقلب جدول،
أفليس بالغريب أن أكثرنا يؤثرون الامتصاص على الانطلاق؟
***
إذا تُقت إلى البركات التي لا تعرف لها اسمًا،
وإذا حزنت وأنت لا تعرف سببًا لحزنك،
فأنت حينئذٍ تنمو بالحقيقة مع جميع الناميات، وترتفع متساميًا إلى ذاتك العظمى.
***
إذا سَكِر الإنسان برأي حُسِبَ أضعف تعبير عنه خمرة طيبة.
أنتم تشربون الخمر لتسكروا، وأنا أشربها لأصحو من خمرة غيرها.
إذا فرغت كأسي رضيت بفراغها، وإذا لم يكن فيها سوى نصفها اعترضت على نصف امتلاكها.
***
ليست حقيقة الإنسان بما يُظهِر لك، بل بما لا يستطيع أن يظهره؛ لذلك إذا أردت أن تعرفه فلا تصغِ إلى ما يقوله، بل إلى ما لا يقوله.
***
نصف ما أقوله لك لا معنى له، ولكني أقول ليتمَّ معنى النصف الآخر.
تعرف الفكاهة إذا عرفت اغتنام الفرص السانحة.
***
لم أشعر بألم الوحشة حين مدح الناس عيوبي الثرثارة وطعنوا في عيوبي الخرساء.
***
عندما لا تجد الحياةُ مغنِّيًا يتغنَّى بقلبها تلد فيلسوفًا يتكلم بعقلها.
يجب أن تعرف الحقيقة أبدًا وتقولها بعض المرات.
الحقيقي فينا صامت ولكن الاكتسابي ثرثار.
***
لا يستطيع صوت الحياة الذي فيَّ أن يصلَ إلى أذن الحياة التي فيك، ولكن فلنتكلم على كل حال لئلا نشعر بوحشة الانفراد.
***
إذا تكلمت امرأتان فهما لا تُعلنان شيئًا،
وإذا تكلمت امرأة واحدة فإنها تعلن الحياة كلها.
قد يكون للضفادع أصواتٌ أعلى من أصوات البقر.
***
ولكن الضفادع لا تستطيع أن تجرَّ السكة في الحقل، ولا أن تدير دولاب المعصرة ولا يمكنك أن تصنع من جلودها أحذية.
***
لا يَحسُد الثرثارَ إلا الأصمُّ.
***
إذا قال الشتاء: إن الربيع في قلبي، فمن ذا يصدق الشتاء؟
***
في كل بِزرةٍ حنينٌ.
***
افتح عينيك جيِّدًا وانظر، تجد صورتك في كل الصور،
وافتح أذنيك جِيِّدًّا وأصغِ، تسمع صوتك في كل الأصوات.
***
يحتاج الحقُّ إلى رجلين: الواحد لينطقَ به، والآخر ليفهمَه.
***
مع أن أمواج الألفاظ تغمرنا أبدًا، فإن عمقنا صامتٌ أبدًا.
***
كثير من المذاهب كزجاج النافذة، نرى الحقيقة من خلالها، ولكنها تفصلنا عن الحقيقة.
***
هلم بنا نلعب لعبة «تخبأ مليح» ونفتش بعضنا عن بعض، فإذا اختبأت في قلبي فليس بالصعب عليَّ أن أجدك، ولكن إذا اختبأت وراء صدفتك فحينئذٍ عبثًا يحاول الناس أن يهتدوا إليك.
***
تستطيع المرأة أن تقنِّع وجهها بالابتسامة.
***
ما أنبل القلب الحزين الذي لا يمنعه حزنه عن أن ينشد أغنية مع القلوب الفرحة.
ما أشبه الراغب في فهم المرأة أو تحليل العبقرية أو حل سر الصمت بذلك الرجل الذي يفيق من حلم جميل ليأكل طعام الصباح.
***
سأمشي مع جميع الماشين، ولا ولن أقف بلا حراك لأراقب موكب العابرين بي.
***
أنت مدين لمن يخدمك بما هو أثمن من الذهب، فأعطِهِ من قلبك أو فاخدمه.
***
ألا إننا لم نَعِش عبثًا، أفلم يبنوا الأبراج من عظامنا؟
***
تكثَّر التحقيقَ ولا تبالغ في التدقيق، فإنَّ فكرَ الشاعر وذَنَب العقرب يرجعان في مجدهما إلى الأرض الواحدة.
***
كل تنين يلد مار جرجس يقتله.
***
الأشجار أشعار تكتبها الأرض على السماء، ونحن نقطعها ونصنع الورق منها لندوِّن فيه فراغنا وبلادتنا.
***
إذا وجدتَ في نفسك ميلًا للكتابة — ولا يعلم سرَّ هذا الميل إلا القديسون — فلتكن فيك المعرفة والفن والسحر: معرفة موسيقى الألفاظ، وفن البساطة والسذاجة، وسحر محبة قرائك.
***
يغمسون أقلامهم في دماء قلوبنا ثمَّ يدَّعون الوحي والإلهام.
***
لو استطاعتِ الشجرةُ أن تدوِّن ترجمة حياتها لما اختلفت ترجمتها عن تاريخ أية أمة من الأمم.
***
لو خُيِّرتُ بين القوة على كتابة الشعر وما في الشعر غير المكتوب من الهُيام، لاخترتُ الهُيام فهو خيرٌ من الشعر،
ولكنك وجميع جيراني ومعارفي واثقون أبدًا بجهلي، وبأني أختار الرديء دون الصالح.
***
ليس الشعر رأيًا تعبِّر الألفاظ عنه، بل هو أنشودة تتصاعد من جُرحٍ دامٍ أو فمٍ باسمٍ.
***
الألفاظ لا تتقيد بقيود الزمان، فيجدر بك إذا تكلمت أو كتبت أن تضع هذه الحقيقة نُصب عينيك.
***
الشاعر ملِكٌ خُلع عن عرشه فجلس بين رماد قصره يعمل في صنع صورة من الرماد،
إنما الشعر كثير من الفرح والألم والدهشة مع قليل من القاموس.
عبثًا يحاول الشاعر أن يهتدي إلى أم أناشيد قلبه.
***
قلتُ مرةً لشاعرٍ: إننا لا نعرف قيمتك حتى تموتَ،
فأجاب قائلًا: أجل، إن الموت يُسدِل النقابَ عن وجه الحقيقة أبدًا. وإذا كنتم بالحقيقة تودُّون أن تعرفوا قيمتي عن طريق الموت فما ذلك إلا لأن في قلبي أكثر مما على لساني، وفي رغباتي أكثر مما في يدي.
***
إذا ترنَّمتَ بأناشيد الجَمال تجد مَن يُصغي لإنشادك ولو كنتَ في قلب الصحراء.
الشعر حكمةٌ تَسحَر القلبَ،
والحكمة شعر يترنَّم بأناشيد الفكر،
ولو استطعنا أن نَسحَر قلبَ الإنسان ونترنَّم في الوقت نفسه بأناشيد فكره، لقَدَر إذ ذاك أن يعيش في ظل الله.
***
الوحي يُنشد أبدًا، الوحي لا يفسَّر البتة.
***
كثيرًا ما نغنِّي لأولادنا لننام نحن أنفسنا.
***
جميع كلماتنا فُتاتٌ يتساقط عن مائدة الفكر.
***
التفكير عقبة دائمة في سبيل الشعر.
***
إنما المنشد العظيم ذلك الذي يترنَّم بأناشيد صمتنا.
***
كيف تستطيع أن تغنِّي إذا كان فمك ممتلئًا طعامًا؟
وكيف ترتفع يدك بالبركة إذا كانت ممتلئة ذهبًا؟
***
يقولون إن البلبل يَنخَز صدرَه بمِنْخَز عندما يغني أغنية محبته.
ونحن جميعًا مثله؛ إذ بغير هذا كيف نستطيع أن نغني؟
***
العبقرية أنشودة طائر في بدء ربيع متأخر.
***
إن الروح المجنَّحة نفسها لا تستطيع أن تتخلَّصَ من الحاجات الطبيعية.
***
المجنون موسيقي مثلك ومثلي، ولكن الآلة التي يضرب عليها لا تُخرِج ألحانًا.
***
الأنشودة الكامنة في صمت قلب الأم تتردد على شفتي طفلها.
***
ليس في العالم شهوة لا تتحقق.
***
لم أتفق قط مع ذاتي الثانية كل الاتفاق، ويلوح لي أن سر القضية كائن بيني وبينها.
***
إن ذاتك الثانية حزينة من أجلك أبدًا، ولكن ذاتك الثانية تعيش وتنمو على الحزن؛ ولذلك فإن حزنها يئول إلى فرح.
لا قتال بين النفس والجسد إلا في أفكار الذين نفوسهم هاجعة وأجسادهم خانعة.
***
إذا بلغت إلى قلب الحياة تجد الجمال في كل شيء، حتى في العيون المتعامية عن الجمال.
الجمال ضالتنا المنشودة في حياتنا كلها، وكل ما سوى ذلك أشكال من الانتظار.
***
ابذر بذرة تنبت لك الأرض زهرة، انشُدْ أحلامك في السماء تُعطِك السماء مَن تحبه نفسك.
***
مات الشيطان يوم ميلادك،
فليس عليك الآن أن تجتاز الجحيم لكي تجد ملاكًا.
***
ما أكثر النساء اللواتي يستعرن قلب الرجل!
ولكن ما أقل اللواتي يستطعن الاحتفاظ به!
إذا شئت أن تملك شيئًا فلا تدعه لنفسك.
عندما يلمس الرجل بيده يد امرأة، يلمس كلاهما قلب الأبدية.
المحبة قناع بين محب ومحب.
كل رجل يحب امرأتين: واحدة يخلقها خياله، والثانية لم تُولد بعد.
الرجل الذي لا يغتفر للمرأة هفواتها الصغيرة لن يتمتع بفضائلها الكبيرة.
الحب الذي لا يتجدد في كل يوم وليلة يتحول إلى شكل من قوة الاستمرار، وهذه في وقتها لا تلبث أن تنقلب عبودية.
يعانق المحبان ما بينهما أكثر مما يعانق أحدهما الآخر.
المحبة والشك لا يجتمعان.
المحبة كلمة من نور، كتبتها يد من نور، على صحيفة من نور.
***
الصداقة مسئولية لذيذة أبدًا، وليست الصداقة فرصة للنفعيين.
إذا كنت لا تفهم صديقك في جميع الظروف فأنت لا ولن تفهمه.
***
إن أجمل أثوابك قد نُسج في نول ذاتك الأخرى،
وأطيب مآكلك تتناولها على مائدة ذاتك الأخرى،
وأفضل سرير لراحتك هو في بيت ذاتك الأخرى؛
فقل لي بربك كيف تستطيع أن تفصلَ نفسك عن ذاتك الأخرى؟
لن يتفق فكرك وقلبي حتى ينقطع فكرك عن أن يعيش بالأرقام، ويقف قلبي عن الحياة بالضباب.
***
لن نفهم بعضنا بعضًا حتى نحول اللغة إلى سبع كلمات.
كيف تُفَضُّ أختام قلبي إذا لم ينسحق؟
***
لا يُظهِر الحق الذي فيك إلا الألم العظيم أو الفرح العظيم.
فإذا شئت أن تعلن حقيقة ذاتك وجب عليك إما أن ترقص عاريًا في الشمس أو أن تحمل صليبك.
***
لو أصْغت الطبيعة إلى مواعظنا في القناعة لما جرى فيها نهر إلى البحر، ولما تحوَّل شتاءٌ إلى ربيع.
ولو أصْغت إلى كل نصائحنا في وجوب الاقتصاد، فكم كان بيننا الذين يتنشقون هذا الهواء؟
***
إنك لا ترى سوى ظلك وأنت تدير ظهرك للشمس.
***
أنت حُرٌّ أمام شمس النهار،
وأنت حُرٌّ أمام قمر الليل وكواكبه،
وأنت حُرٌّ حيث لا شمس ولا قمر ولا كواكب،
بل أنت حُرٌّ عندما تُغمِض عينيك عن الكِيان بكليته،
ولكن أنت عبدٌ لمن تحب لأنك تحبه،
وأنت عبدٌ لمن يحبك لأنه يحبك.
***
جميعنا متسوِّلون نقف على بوابة الهيكل، وكلٌّ مِنَّا ينال قسطه من عطية الملِك وهو يدخل إلى الهيكل ويخرج منه،
ولكننا جميعًا نحسد بعضنا بعضًا، فنُظهِر بهذا تصغيرنا للملِك.
***
إنك لا تستطيع أن تأكل أكثر من حاجتك، فإن نصف الرغيف الذي لا تأكله يخص الشخص الآخر، ويجب أن تحفظ غيره قليلًا من الخبز لضيفٍ ربما يمرُّ عليك بغتة.
***
لولا الضيوف لكانت البيوت قبورًا.
قال ذئب مضياف لحَمَل مسكين: هل تريد أن تشرِّف منزلنا بزيارة؟ فأجابه الحمل: كم كان فخري بزيارتك عظيمًا لو لم يكن منزلك في معدتك.
أوقفت ضيفي على عتبة بابي وقلت له: بربك لا تمسح قدميك وأنت تدخل، بل امسحهما وأنت تخرج.
ليس السخاء بأن تعطيني ما أنا في حاجة إليه أكثر منك، بل السخاء بأن تعطيني ما تحتاج إليه أكثر مني.
أنت رحوم إذا أعطيتَ، ولكن لا تنسَ وأنت تعطي أن تدير وجهك عمن تعطيه لكيلا ترى حياءه عاريًا أمام عينيك.
***
الفرق بين أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء يومُ جوعٍ وساعةُ عطشٍ.
***
نستدين في الغالب من غدنا لكي ندفع ديون أمسنا.
***
كثيرًا ما تزورني الملائكة والشياطين، ولكنني أتخلص منهم. فإذا كان الزائر ملاكًا فإني أصلي صلاة قديمة فيملُّها ويترك منزلي، وإذا كان شيطانًا فإني أرتكب أمامه خطيئة قديمة فيمرُّ بي مجتازًا.
ليس هذا بالسجن الرديء على كل حال، ولكنني لا أحب هذا الجدار الذي يفصلني عن السجين في الغرفة الثانية.
على أنني أؤكد لك أنني لا أريد أن أقرب من السجان ولا من الذي بنى السجن.
***
إن الذين يعطونك حية وأنت تسألهم سمكة ربما ليس لديهم ما يعطونه غير الحيَّات؛ ولذلك يُحسب عملهم أريحية وسخاء.
ينجح الخداع حينًا، ولكنه يسير أبدًا إلى الانتحار.
أنت بالحقيقة صفوح غفور، إذا كنت تصفح عن القتلة الذين لم يسفكوا دمًا، واللصوص الذين لم يسرقوا، والمنافقين الذين لم يكذبوا.
إن الذي يستطيع أن يضع إصبعه على الخط الفاصل بين الخير والشر يستطيع بالحقيقة أن يلامس هُدْب ثوب الله.
إذا كان قلبك بركانًا فكيف تتوقع أن تزهو الأزهار في يديك؟
أليس غريبًا أنني كثيرًا ما أحبُّ أن يخدعني الناس ويغشُّوني لكي أضحك على حساب الذين يفكرون أنني لا أعرف أنهم يخدعونني؟
ماذا أقول في المطارِد الذي يمثل دور المطارَد؟
أعطِ ثوبك لمن يمسح يديه الوسختين به لأنه ربما يحتاج إليه، أما أنت فلا تحتاج إليه.
***
يا للأسف الشديد كيف أن الصيرفي لا يستطيع أن يكون بستانيًّا!
***
بربك لا تغطِ هفواتك الأصلية بفضائلك الاكتسابية، فأنا أتمسك بهفواتي الصغيرة، فهي ملك خاص بي.
كم من مرة عزوت لنفسي جرائم لم أرتكبها قط لئلا أظهر أرفع ممن يجالسني من المجرمين.
***
إن براقع الحياة نفسها هي براقع لسر أعمق من الحياة.
***
تستطيع أن تُدِين الآخرين بحسب معرفتك لذاتك،
فهل لك أن تقول لي مَن هو المجرم بيننا، ومَن هو البريء؟
إن البار بالحقيقة هو ذلك الذي يشعر بأنه سبب لنصف الجرم الذي أجرمته أنت.
***
لا يكسر الشرائع البشرية إلا اثنان: المجنون والعبقري، وهما أقرب الناس إلى قلب الله.
مطاردة بعضهم وهبتْ قدمي السرعة.
ليس لي أعداء يا رب، ولكن إذا كان لا بدَّ من وجود عدوٍّ لي، فاجعل يا رب قوته مضارعة لقوتي؛ لكيلا تكون الغلبة إلا للحق.
ستكون على ولاء تام مع عدوك بعد موتكما.
كثيرًا ما ينتحر الإنسان في الدفاع عن نفسه.
عاش في قديم الزمان رجل صَلبَه الناس لأنه كان يحبُّ كثيرًا، وكان يحبُّه الناس كثيرًا.
ولعلك تدهش إذ أُخبِرك أنني رأيته ثلاث مرات في الأمس القريب؛ ففي المرة الأولى رأيته يسأل الشرطي ألا يأخذ زانية إلى السجن، وفي المرة الثانية رأيته يشرب الخمر مع أحد السكيرين، وفي المرة الثالثة رأيته يصارع رجلًا أراد أن يتخذ الكنيسة وسيلة للإعلان والتذييع.
***
إذا كان كل ما يقولونه في الخير والشر حقيقيًّا فإن حياتي كلها سلسلة من الجرائم.
ليست الرحمة سوى نصف العدالة.
ما ظلمني إلا الذي ظلمتُ أخاه.
إذا رأيتَ رجلًا يُقاد إلى السجن فقل في قلبك: لعله يهرب من سجن أضيق وأظلم من السجن الذي يسير إليه.
***
وإذا رأيت سكيرًا فقل في قلبك: مَن يدري إذا كان هذا الرجل لم يسكر لكي يتخلص مما هو شرب من السكر؟
***
كثيرًا ما حملني الدفاع عن النفس إلى البغضاء، ولكن لو كنت أوفرَ قوة لما لجأت إلى مثل هذه الوسيلة.
ما أبلد مَن يرقع نظرات البغض في عينيه بخرق ابتسامة في شفتيه!
لا يَحسُدني ولا يُبغِضني إلا الذين دوني،
ولكن لم يحسدني ولم يبغضني أحد قط، فأنا إذن لست فوق أحد.
ولا يمدحني ولا يصغرني إلا الذين فوقي،
ولكن لم يمدحني ولم يصغرني أحد قط، فأنا إذن لست فوق أحد.
***
قولك إنك لا تفهمني مديح لا أستحقه أنا، وإهانة لا تستحقها أنت.
***
ما أحقرني عندما تعطيني الحياة ذهبًا فأعطيك فضة، ثمَّ أحسبني سخيًّا!
***
عندما تبلغ إلى قلب الحياة تجد أنك لست أرفع من المجرمين، ولا أدنى من الأنبياء.
***
غريب أنك تقصر شفقتك على بطيء القدمين دون بطيء الفكر، وأعمى العينين دون أعمى القلب.
***
تقضي الحكمة على الأعرج ألا يكسر عكازه على رأس عدوه.
***
ما أعمى الذي يعطيك من جيبه ليأخذ من قلبك!
***
الحياة موكب عظيم، ينظر إليه بطيء الخُطى فيحسبه سريعًا جِدًّا؛ ولذلك يهرب منه، وينظر إليه سريع الخطى فيحسبه بطيئًا ويهرب منه.
***
إذا كان لا بدَّ من وجود الخطيئة فإن فريقًا مِنَّا يرتكبونها بالتفاتهم إلى الوراء لاقتفاء خطوات آبائنا وجدودنا.
ويقترفها الفريق الآخر بتحديقهم إلى الأمام للمبالغة في السيادة على أبنائنا.
***
الصالح الصالح هو ذلك الذي لا يفصل ذاته عن جميع الذين يحسبهم العالَم أشرارًا.
***
جميعنا سجناء، ولكن بعضنا في سجون ذات نوافذ، وبعضنا في سجون بدون نوافذ.
***
عجيب غريب أننا ندافع عن خطئنا بأكثر قوة مما ندافع عن صوابنا.
لو اعترفنا بعضنا لبعض بخطايانا لضحكنا جميعنا بعضنا على بعض لشدة فقرنا إلى الابتكار.
ولو أظهرنا جميعنا فضائلنا بعضنا لبعض لأغربنا في الضحك للسبب عينه.
***
يظل الفرد فوق الشرائع البشرية حتى يقترف إثمًا ضد المجامع البشرية، وبعد ذلك لا يكون فوق أحد ولا دون أحد.
***
الحكومة اتفاق بينك وبيني، وأنت وأنا في الغالب على ضلال.
***
الجريمة اسم من أسماء الحاجة، أو مظهر من مظاهر المرض.
***
هل هنالك خطأ أعظم من الشعور بخطأ الآخرين؟
***
إذا ضحك امرؤ منك تستطيع أن تشفق عليه، ولكن إذا ضحكت عليه فربما لم تستطع أن تصفحَ عن نفسك.
وإذا أساء امرؤ إليك فأنت تقدر أن تنسى الإساءة، ولكن إذا أسأت إليه فأنت ذاكر إساءتك أبدًا.
لذلك ثقْ بأن هذا الشخص الثاني هو ذاتك الأكثر إحساسًا، ولكن في جسد غير جسدك.
***
ما أحمقك وأنت تطلب من الناس أن يطيروا بجناحيك، ولكنك لا تقدر أن تعطيهم ريشة!
***
جلس رجل مرةً إلى مائدتي فأكل خبزي وشرب خمرتي، وذهب ضاحكًا مني.
ثمَّ جاءني بعدئذٍ يطلب خبزًا وخمرًا، فرددته خائبًا، فضحكت الملائكة مني.
***
البغض جثة راقدة، فمن منكم يريد أن يكون قبرًا؟
***
حسب القتيل فخرًا أنه ليس بالقاتل.
***
منبر الإنسانية قلبها الصامت لا عقلها الثرثار.
***
يحسبونني مجنونًا لأنني لا أبيع أيامي بدنانيرهم،
وأحسبهم مجانين لأنهم يظنُّون أن أيامي تُباع بالدنانير.
يبسطون أمامنا ثروتهم من الذهب والفضة، ونبسط أمامهم القلب والأرواح، ومع ذلك يحسبون نفوسهم المضيِّفين، ويحسبوننا الأضياف.
أحب أن أكون الأصغر بين ذوي الأحلام، الراغبين في تحقيق أحلامهم، ولا أكون الأعظم بين مَن لا أحلام ولا رغبات لهم.
أدعى الناس إلى الشفقة ذلك الذي يحوِّل أحلامه إلى الفضة والذهب.
جميعنا نتسلق المرتفعات إلى قُنَّة رغبات قلوبنا، فإذا سرق المتسلق إلى جانبك جرابك وكيسك فسَمِن بالأول وازدادَ ثقلَه بالثاني، فخذه بحِلمك وأشفق عليه؛ لأن السَّمِن يجعل الصعود صعبًا عليه، والثقل الذي أضافه إلى أحماله يطيل الطريق أمامه.
فإذا رأيته وأنت في نحافتك وهزالك بطيئًا رازحًا تحت حمله، فلا تتأخر عن مساعدته؛ لأن ذلك يزيد في سرعتك.
***
لا تستطيع أن تحكم على رجل بأكثر مما تعرف عنه، وما أحقر معرفتك!
***
لا أحب أن أصغي إلى غازٍ يعظ الذين فتح بلادهم.
***
الحر الحقيقي هو الذي يحمل أثقال العبد المقيد بصبر وشكر.
***
منذ ألف سنة قال لي جاري: إنني أكره الحياة لأنه ليس فيها سوى الألم.
وقد مررت في الأمس بالمقبرة فرأيت الحياة ترقص على قبره.
***
ليس الجهاد في الطبيعة سوى شوق عدم النظام إلى النظام.
***
الوحدة عاصفة صمَّاء تحطم جميع الأغصان اليابسة في شجرة حياتنا، ولكنها تزيد جذورنا الحية ثباتًا في القلب الحي للأراضي الحية.
***
حدَّثتُ مستنقعة عن البحر فحسبتني خياليًّا يبالغ، وحدَّثتُ البحر عن المستنقعة فظنني مفتريًا يهجو.
***
ما أضيق عيش مَن يؤثر اجتهاد النمل على إنشاد الجنادب!
***
أسمى الفضائل في هذا العالم ربما تكون أدناها في العالم الثاني.
***
العميق والعالي ينزلان إلى الأعماق أو يصعدان إلى الأعالي، ولا يتحرك في الدوائر إلا الفسيح الرحيب.
***
لولا مقاييسنا وأوزاننا المحدودة لتهيَّبنا أمام الحباحب مثلما نتهيَّب أمام الشموس.
***
العالَم بدون خيال جزَّارٌ تعطَّلت سكاكينه وموازينه.
ولكن ماذا نعمل ونحن لا نستطيع أن نكون نباتيين بأجمعنا؟
إذا غنيت للجائع سمعك بمعدته.
***
ليس الموت بأقرب إلى الشيخ منه إلى الطفل الرضيع، والحياة كالموت.
إذا كنت تريد أن تكون مخلصًا فكن مخلصًا بجمال، وإلا فاصمُت؛ لأن في جوارنا رجلًا يحتضر.
***
مَن يدري إذا لم تكن الجنازة بين الناس عُرسًا بين الملائكة؟
***
تستطيع الحقيقة المنسية أن تموت وتترك في وصيتها سبعة آلاف حقيقة لتُنفق في جنازتها وبناء قبرها.
***
نحن نتكلم لنخاطب ذواتنا فقط، ولكن كثيرًا ما نرفع أصواتنا أكثر مما ينبغي فيسمعنا الآخرون.
***
الواضح هو ذلك الذي لا يراه أحدٌ حتى تعبِّر عنه بملء البساطة.
***
لو لم تكن المجرَّة في أعماقي فكيف كان يمكن أن أراها أو أعرفها؟
***
إذا لم أَصُرْ طبيبًا بين الأطباء فلا يصدِّقون أنني منجم.
***
ليس اللؤلؤ سوى رأي البحر في الصدف.
وليس الماس سوى رأي الزمن في الفحم.
***
الشهرة شبح الهوى الواقف في النور.
الجذر زهرةٌ تحتقر الشهرة.
***
لا دين ولا علم بدون الجمال.
***
لم أعرف رجلًا عظيمًا لم يكن في الأساس الذي وُضع عليه صرح عظمته بعض الأشياء الصغيرة، وهذه الصغيرات بعينها هي التي حالت بين جميع العظماء وبين الخمول والجنون والانتحار.
***
إنما الرجل العظيم ذلك الذي لا يسود ولا يُساد.
***
لم يعمل البشر إلا بمقتضى قول القائل: «خير الأمور الوسط»؛ ولذلك نراهم يقتلون المجرمين والأنبياء.
***
المتساهل مريض بحبِّ داء الادِّعاء.
***
ربما كان عدم الاتفاق أقصر مسافة بين فكرين.
***
أنا اللهيب وأنا الهشيم اليابس، وبعضي يأكل بعضي. فهلَّا حوَّلت وجهك عني لكيلا يعميك دخاني!
***
جميعنا نسعى إلى قُنَّة الجبل المقدس، أفلا تكون طريقنا إذا اعتبرنا الماضي خريطة أقصر مما إذا اتخذناه دليلًا؟
***
لا تكونُ الحكمة حكمةً إذا ترفَّعت عن البكاء، وتكبَّرت عن الضحك، وتلهَّت بنفسها فلم تنشد نفس غيرها.
***
إذا اكتفيت بكل ما تعرفه أنت فأين أضعُ الذي لا تعرفه؟
***
قد تعلمت الصمت من الثرثار، والتساهل من المتعصب، واللطف من الغليظ، والأغرب من كل هذا أنني لا أعترف بجميل هؤلاء المعلمين.
***
المتعصب بالدين خطيبٌ بالغ الصمم.
***
سكوت الحسود كثير الضوضاء.
***
إذا بلغت إلى غاية ما يجب أن تعرِفَه، فأنت على عتبة ما يجب أن تشعر به.
***
المبالغة حقيقة لا تملك طباعها.
***
إذا كنت لا ترى إلا ما يُظهِره النور، ولا تسمع إلا ما تعلنه الأصوات، فأنت بالحقيقة لا ترى ولا تسمع.
***
الحقيقة لا تتجزأ.
***
لا تستطيع أن تضحك وتكون قاسيًا في وقت واحد.
***
أقرب الناس إلى قلبي ملِك لا مملكة له، وفقير لا يعرف كيف يتسوَّل.
***
الفشل في حيائه خير من النجاح في ادِّعائه.
***
احفر أين شئت في الأرض تجد كنزًا، ولكن عليك أن تحفر بإيمان الفلاح.
***
قال ثعلبٌ يطارده عشرون صيادًا على خيولهم المطهَّمة، وأمام كل صياد كلبه النبيه: سيقتلونني ولا شك، ولكن ما أحمقهم وما أبلدهم! فإنني لا أعتقد أن عشرين ثعلبًا تحمُقُ إلى درجة أنها تركب عشرين حمارًا وتصحب معها عشرين ذئبًا لتفترس رجلًا واحدًا.
***
فِكر الإنسان دون روحه، يخضع للشرائع التي يسنُّها الإنسان.
***
إنني سائح وملَّاح في وقت واحد، وفي كل صباح أكتشف قارَّة جديدة في نفسي.
***
قالت امرأة: كيف لا تكون الحرب مقدسة وقد مات فيها ابني؟
***
قلت مرةً للحياة: أودُّ لو أسمع الموت متكلِّمًا.
فرفعت الحياة صوتها قليلًا وقالت لي: إنك تسمعه الآن.
***
إذا فرغت من حلِّ جميع أسرار الحياة تتوق إلى الموت؛ لأنه سرٌّ من أسرار الحياة.
***
الولادة والموت مظهران من أنبل مظاهر الشجاعة.
***
يا صاحبي، إنني سأظلُّ وإياك غريبين عن الحياة.
غريبين أحدنا عن الآخر، وكل عن نفسه.
إلى اليوم الذي تتكلم فيه فأصغي إليك حاسبًا صوتك صوتي، وأقف أمامك كأنني أقف أمام مرآة.
***
يقولون لي: لو عرفت نفسك لعرفت جميع الناس.
***
فأقول لهم: لن أعرف نفسي حتى أعرف جميع الناس.
***
أنت اثنان: واحد متيقظ في الظلمة والثاني غافل في النور.
***
الناسك الحق هو ذلك الذي يهجر عالم الذرَّات ويتمتَّع بعالم الكليات غير المتجزئة.
***
بين العالِم والشاعر مرجٌ أخضر، فإذا اجتازه العالِم صار حكيمًا، وإذا اجتازه الشاعر صار نبيًّا.
***
رأيت في مساء الأمس فلاسفة يحملون رءوسهم في سلال ويطوفون في ساحات المدينة وهم ينادون بأعلى الصوت: الحكمة! الحكمة للبيع!
مساكين الفلاسفة! فهم يبيعون رءوسهم ليطعموا قلوبهم.
***
قال فيلسوف لكنَّاس الشوارع: إنني أشفق عليك لأن عملك مضنك قذر،
فأجاب كنَّاس الشوارع وقال: أشكرك يا سيدك، ولكن قل لي ما هو عملك؟
فأجاب الفيلسوف متبجِّحًا: إنني أدرس أخلاق الناس وطبائعهم وأبحث في أعمالهم ومنازعهم.
فضحك كناس الشوارع وسار في عمله قائلًا للفيلسوف: يا مسكين! يا مسكين!
***
ليس مَن يصغي للحق بأصغر ممن ينطق بالحق.
***
ما من رجل يستطيع أن يفصلَ بين الضروري وغير الضروري من الحاجات؛ لأن هذا العمل من ميزات الملائكة، والملائكة حكماء أذكياء.
ومَن يدري إذا لم تكن الملائكة أفكارنا الفضلى في الفضاء؟
***
إنما الأميرُ كل الأمير ذلك الذي يجد عرشه في قلوب الدراويش.
***
الجود أن تعطي أكثر مما تستطيع، والإباء أن تأخذ أقل مما تحتاج إليه.
***
لستَ مدينًا بشيء لإنسان عند التحقيق، ولكنك مدين بكل شيء لجميع الناس.
***
جميع الذين عاشوا في الماضي يعيشون معنا اليوم، فهل بيننا مَن لا يريد أن يكون مُضيِّفًا مضيافًا؟
***
كثير الرغبات طويل الحياة.
***
يقولون لي: عصفور في اليد ولا عشرة على الشجر،
أما أنا فأقول لهم: إن عصفورًا واحدًا على الشجر خير من عشرة في اليد.
***
في الوجود عنصران لا ثالث لهما، وهما الجمال والحق، الجمال في قلوب المحبين، والحق في سواعد الذين يحرثون الأرض.
***
الجمال العظيم يأسرني، ولكن الجمال الأعظم يحرِّرني من أسر ذاته.
***
يشرق الجمال أكثر لمعانًا في قلب المشتاق إليه مما في عيني الذي يراه.
***
إنني أعجب بالرجل الذي يُظهِر لي فكره، وأُمجِّد الرجل الذي يحسر القناع عن أحلامه، ولكن لماذا أنا خجول حيي أمام الذي يخدمني؟
***
كان الموهوب في الماضي يفاخر بخدمة الملوك.
أما اليوم فإنه يدَّعي خدمة المساكين.
***
تعرف الملائكة أن كثيرين من الرجال العمليين يأكلون خبزهم بعرق جبهة الخيالي الكثير الأحلام.
***
الذكاء في الغالب قناع إذا قدرت على تمزيقه رأيت إمَّا عبقرية ثائرة أو حذاقة ماكرة.
***
الفهيم ينسب إليَّ الفَهم، والبليد ينسبني إلى البلادة، ويلوح لي أنهما كلاهما مصيبان.
***
لا يدرك أسرار قلوبنا إلا مَن امتلأت قلوبهم بالأسرار.
***
إن الذي يشاركك في ملذَّاتك دون آلامك سيخسر المفتاح لواحدة من سبع بوابات في الجنة.
***
***
نختار أفراحنا وأحزاننا قبل أن نختبرها بزمن طويل.
***
الكآبة جدار بين بستانين.
***
إذا تعاظم حزنك أو فرحك صَغُرَت الدنيا في عينيك.
***
الرغبة نصف الحياة، أما عدم الاكتراث فنصف الموت.
***
أمرُّ ما في أحزان يومنا ذكرى أفراح أمسنا.
***
يقولون لي: يجب أن تختار بين ملذَّات هذا العالم وسلام العالم الثاني،
فأقول لهم: قد اخترت أفراح هذا العالم وسلام العالم الثاني معًا، فإنني أعرف في قلبي أن الشاعر الأعظم لم يكتب سوى قصيدة واحدة، وهي تامة الوزن تامة القوافي.
***
الإيمان واحةٌ مخضلة الجوانب في صحراء القلب لا تبلغ إليها قوافل الفكر.
***
إذا بلغت إلى ملء رفعتك فأنت لا ترغب إلا في الرغبة، ولا تجوع إلا للجوع، ولا تعطش إلا للعطش الأعظم.
***
إذا بُحت بأسرارك للريح فلا تلُم الريح إذا باحت بها للأشجار.
***
إن أزهار الربيع هي أحلام الشتاء تقرَّب على مائدة الملائكة عند الصباح.
***
السلاحف أكثر خبرة بالطرق من الأرانب.
***
أليس من الغريب أن المخلوقات التي بدون سلسلة فقرية تعيش في أصداف آمن من ذوات الفقرات؟
***
أكثر الناس كلامًا أقلُّهم ذكاءً، وبين الخطيب والدلَّال بون شاسع.
***
كن شكورًا لأنك لستَ مرغمًا على الحياة بصيتِ أبيك أو مال عمك،
ولكن كن شكورًا أكثر من هذا إذا لم يكن لك مَن يعيش بصيتك أو بثروتك.
***
إذا أخطأ المشعوذ في القبض على كرت جاءني مستغيثًا مسترحمًا.
***
يمدحني الحسود وهو لا يعلم.
***
كنتَ حُلمًا في نوم أمك العميق زمنًا طويلًا، وعندما أفاقت من نومها ولدتك.
***
إن خميرة الجنس كائنة في حنين أمك.
***
شاق أبي وأمي ولدٌ فولداني، وشاقني أن يكون لي أب وأُم فولدت البحر والليل.
***
بعض أبنائنا كالأعذار وبعضهم كالذنوب.
***
إذا جاء الليل وكنتَ مظلمًا مثله، فاذهب إلى فراشك وكن مظلمًا باختيارك،
وإذا جاء الصباح وأنت لا تزال مظلمًا فانهض وقل للنهار بإرادتك الكاملة: إنني ما برحتُ مظلمًا؛
فإن من البلادة أن تقف في وجه الليل والنهار، فهما يضحكان منك لو قلت.
***
ليس الجبل المقنَّع بالضباب تلَّة، وليست السنديانة تحت المطر بالصفصافة الباكية.
***
إليك هذه الأُحجية: إن العميق أو العالي هما أقرب أحدهما إلى الآخر من المتوسط لأحدهما.
***
عندما وقفتُ أمامك مرآةً نقيةً، تأمَّلت فيَّ مليًّا فرأيتَ صورتك.
ثمَّ قلت لي: إنني أحبك.
ولكنك بالحقيقة أحببت ذاتك فيَّ.
***
إذا تلذَّذت بمحبة قريبك زالت فضيلتك من محبتك.
***
المحبة التي لا تنبع في كل يوم، تموت في كل يوم.
***
لا تستطيع أن تمتلك الشباب ومعرفة الشباب في الوقت الواحد؛
لأن الشباب تلهيه المعيشة عن المعرفة، والمعرفة يلهيها البحث عن ذاتها عن المعيشة.
***
قد تنظر من نافذة منزلك فترى بين عابري الطريق راهبة تسير إلى يمينك، ومومسًا تسير إلى يسارك.
وفي سذاجتك وطهارة قلبك تقول لذاتك: ما أنبل هذه، وما أقبح تلك!
ولكنك لو أغمضتَ عينيك وأصغيتَ هُنيهة لسمعتَ صوتًا يتردد في الأثير قائلًا بلسانك: إن الواحدة تَنشُدني بالصلاة والثانية بالألم، وفي روح كل منهما مظلة روحي.
***
مرة في كل مائة سنة يلتقي يسوع الناصري بيسوع النصارى في حديقة بين جبال لبنان، فيتحادثان طويلًا، وفي كل مرة ينصرف يسوع الناصري وهو يقول ليسوع النصارى: أخشى يا صاحبي أننا لن نتفق أبدًا أبدًا.
***
ليُشبِعِ الربُّ المُتْخَمين!
***
للرجل العظيم قلبان: قلب يتألم وقلب يتأمل.
***
إذا كذب الإنسان كذبة لا تؤذيك ولا تؤذي أحدًا سواك، فلماذا لا تقول في قلبك إن بيت حقائقه لا يسع خياله؛ ولذلك يتركه إلى فضاء أرحب؟
***
وراء كل باب موصد سرٌّ مختوم بسبعة أختام.
***
الانتظار سنابك الزمن.
ماذا يهمُّك إذا كان الهم نافذة جديدة في الجدار الشرقي لبيتك؟
***
قد تنسى الذي ضحكت معه، ولكنك لن تنسى الذي بكيت معه.
***
لا شك أن في الملح قوة مقدسة عجيبة؛ فهو كائن في دموعنا وفي البحر.
***
إن إلهنا في عطشه المبارك سيُشرِبنا جميعًا، قطرة الندى والدمعة معًا.
***
ما أنت إلا ذرة من ذاتك الجبارة، فمٌ ينشد خبزًا، ويد عمياء تمسك قدحًا لفم عطشان.
***
إذا ارتفعتَ عن التعصُّب لجنسك أو بلادك أو ذاتك ذراعًا واحدةً صِرت بالحقيقة مثل ربك.
***
لو كنت في موضعك لما أنحيت باللائمة على البحر في وقت الجزْر.
***
السفينة جيدة والربان ماهر، ولكن التشويش في معدتك أنت.
***
إن ما نتوق إليه ونعجز عن الحصول عليه أحبُّ إلى قلوبنا مما قد حصلنا عليه.
***
لو جلستَ على السحابة لما رأيتَ الحدَّ الفاصل بين بلاد وبلاد، ولا الحجر الفاصل بين حقل وحقل.
ولكن يا للأسف إنك لا تستطيع أن تجلس على السحابة!
***
من سبعة قرون طارت سبع حمامات بيضاء من وادٍ عميق، وحلَّقت قاصدة قُنَّة جبل عالٍ تغطيه الثلوج، فقال أحد الرجال السبعة الذين كانوا يراقبون الطيران: إنني أرى نقطة سوداء على جناح الحمامة السابعة.
واليوم يتحدث الناس في ذلك الوادي بسبع حمامات سوداء طارت في قديم الزمان إلى قُنَّة الجبل المغطاة بالثلوج.
***
جمعتُ كل أحزاني في الخريف ودفنتُها في بستاني،
وعندما رجع نَيْسَان وجاء الصيف ليتزوج الأرض، نبتت في بستاني أزهارٌ بالغة الجمال تختلف عن جميع الأزهار الأخرى.
فجاء جيراني لكي ينظروا أزهار بستاني، وقالوا لي جميعهم: إذا جاء الخريف وجاء معه وقت البذار، أفلا تعطينا من بذار هذه الأزهار لكي نزرعها في بساتيننا؟
***
التعاسة في أن أمدَّ يدي فارغة للناس فلا يضع فيها أحدٌ شيئًا، أما القنوط ففي أن أمدَّها ملآنة فلا يأخذ الناس منها شيئًا.
***
أتوق إلى الأبدية لأنني سأجتمع فيها بقصائدي غير المنظومة وصوري غير المرسومة.
***
الفنُّ خطوة تخطوها الطبيعة نحو الأبدية.
***
عمل الفن ضباب مسكوب في صورة.
***
إن الأيدي التي تصنع أكاليل الشوك هي أفضل من الأيدي الكسولة.
***
إن أقدس دموعنا لمَّا تعرف الطريق إلى مآقينا.
***
كل إنسان هو ابن لكل ملك، ولكل عبد عاش قبله في العالم.
***
لو أن جد يسوع عرف ما كان مستترًا فيه، أفما كان يقف وقفة الخشية والخشوع أمام نفسه؟
***
هل كانت محبَّة أُمِّ يهوذا لابنها أقل من محبة مريم ليسوع؟
***
لأخينا يسوع ثلاث عجائب لم تُكتَب بعدُ في الكتاب: الأولى أنه كان إنسانًا مثلي ومثلك، والثانية أنه كان ذا كياسة وظرف، والثالثة معرفته أنه غالب مع أنه غُلب.
أيها المصلوب، إنك مصلوب على قلبي، والمسامير التي ثقبت يديك تخترق جدران قلبي.
وغدًا عندما يمرُّ غريب بهذه الجلجلة لن يظنَّ أن دم اثنين نازف هنا، بل يظنُّه دمَ واحدٍ فقط.
***
لعلك سمعت بالجبل المبارك، فهو أعلى جبل في العالم.
فلو بلغت قمَّته لم يكن لك سوى أمنية واحدة، وهي أن تهبط نازلًا وتقيم مع النازلين في أعمق وادٍ؛
ولذلك دُعي الجبل المبارك.
***
كلُّ فكر حبستُه عن الظهور بالكلام يجب أن أُطلقَه بالأعمال.