(١) الترجمة اللاطينية
لم تقتصر الترجمات عن اليونانية فحسب بل كانت أيضًا عن اللاطينية؛
١ وفي المغرب والأندلس أيضًا، وليس فقط في المشرق في الشام عن السريانية
وفي بغداد عن اليونانية،؛ وإلى وقتٍ متأخر، القرن الرابع الهجري، وليس فقط في العصور
المتقدمة؛ وفي التاريخ، وليس فقط في الطب والفلك وعلوم الحكمة. والنص الوحيد الممثل
لذلك هو «تاريخ العالم» لأوروسيوس،
٢ وهو قسٌّ من القرن الرابع الهجري في الأندلس لإكمال «مدينة الله» للقديس
أوغسطين. والعنوان الدقيق «التواريخ ضد الوثنيِّين» ليُبرِّئ به المسيحيِّين مما حلَّ
من
تدمير روما على ألاريك في ٤١٠م. وقد تمَّت الترجمة عن اللاطينية في عهد الحكم الثاني
المستنصر بالله. وقد تعاون المسلمون والنصارى على نشر العلم في الأندلس أثناء
الحكمَين الإسلامي والمسيحي في طليطلة. لم يتحرج المسلمون من ترجمة النصوص التاريخية
المسيحية ضد الوثنيِّين، وبما بها من حديثٍ عن تعدُّد الآلهة في «مدينة الأرض»، وتجسد
السيد المسيح في مدينة السماء دون خوف من التبشير، بل ودفاعًا عن المسيحية ضد
الوثنية، وعدم التحرُّج من ترجمة الأساطير دون نقدها.
٣ ولا تُوجد حساسيةٌ خاصة بالحديث عن المسيحية أو المجوس. وتبدو وطنية
المؤلف في الدفاع عن الأندلسيِّين ومدح أخلاقهم؛ لأنه أندلسي على عكس أوغسطين وهجومه
على مُواطنِيه في شمال أفريقيا وتبعيَّته لروما. وقد يكون هذا الدافع الوطني أحد أسباب
الترجمة دفاعًا عن الأندلس في عصر ملوك الطوائف.
٤
فهل الكتاب على هذا النحو يخدم الغاية التي طلبها أوغسطين، لتبرئة المسيحية
بالهجوم على الوثنية استكمالًا لمدينة الله، أم إن المقصود بيان حروب الوثنيِّين
وقسوتهم، حتى تصح الأخلاق المسيحية عن طريقِ برهان الخُلْف؟ وهل رفض المترجم العربي
التوجُّه الدلالي للكتاب، وفصل الجسد عن الروح من أجل تركيب دلالةٍ أخرى عليه؟ قد يكون
المترجم أكثر وعيًا من المؤلف وأكثر حرية في إعادة توظيف النص وإخراجه من بيئته
الأولى إلى بيئةٍ ثانية؛ فهو يعيد كتابة النص، ولا يترجمه ترجمةً حرفية، كما تفعل
الترجمات هذه الأيام، اعتمادًا على القواميس والمعاجم ودوائر المعارف، كي تكون
مطابقة للأصل.
ويتضح من الترجمة التحوُّل من مركزية الرومان في الأصل المترجم إلى مركزية المسلمِين
في النص الجديد؛ فالترجمة علاقة قوى. وكان من السهل القيام بهذا التحوُّل نظرًا لحضور
الشرق، آسيا وأفريقيا، إلى مركزٍ آخر بديلًا عن المركز الروماني، من شمال البحر
المتوسط إلى جنوبه، على عكس أوغسطين الذي أراد الإبقاء على مركزية الشمال روما مع
أنه من أهل الجنوب، شمال أفريقيا. تحضر الهند وفارس في النص الأول أطرافًا لروما،
وفي النص الثاني جناحًا شرقيًّا للعالم الإسلامي، والجغرافيا في كلتا الحالتين أساس
التاريخ حتى ابن خلدون، ويتحول الغرب الروماني إلى محيطٍ للمركز الإسلامي، إحساسًا
ببلاد الفرنجة في الشمال، وكانت فلطسين في شرق البحر المتوسط منذ القدم بؤرة الصراع
بين شماله وجنوبه.
٥
وهي ترجمة عربية رصينة بأسلوبٍ عربي قديم، وبمصطلحاته التي قد لا تتفق مع الترجمة
الحرفية القاموسية المعجمية الحديثة، التي تقوم على نظرية المطابقة، مطابقة الترجمة
مع النص المترجم، فالترجمة فرع والنص المترجم أصل، وأي خروج على ذلك بالحذف أو
الإضافة أو التأويل، فإنه يكون خروجًا على النص الأصلي، فالنص اليوناني هو الأصل،
والترجمة العربية الفرع، وتصح الترجمة إذا ما طابق الفرع الأصل حذو القذة بالقذة،
مع أن الترجمة هي إعادة قراءة وإعادة كتابة، ليس فقط بين النص اللاتيني والترجمة
العربية، بل بينه وبين الترجمة اليونانية أو الترجمات الأوروبية الحديثة، ويعني هذا
التصور لعلاقة الفرع بالأصل تصور الترجمة تابعة للنص المترجم علاقة المحيط بالمركز،
الشرح بالمتن. الترجمة تأليف غير مباشر، إعادة كتابة النص الأول بلغةٍ أخرى،
وبغرضٍ آخر، وفي بيئةٍ ثقافية مغايرة، الترجمة تأليف غير مباشر، ليست نقلًا
حرفيًّا، تتبع بناء الجملة العربية وليس بناء الجملة اللاتينية.
٦
الترجمة نقلٌ حضاري، ومن الطبيعي أن يحدث فيها حذف وإضافة وتأويل؛ فكثير من
الوقائع في النص اللاتيني لا دلالة لها، مجرد وقائعَ خالية من المعنى تحذفها
الترجمة. وهناك وقائعُ أخرى تضيفها الترجمة أكثر دلالة وإظهارًا للمعنى. وهناك كثرة
من أسماء الأعلام الأعاجم غير معرفة في البيئة العربية تسقطها الترجمة، وهناك أعلامٌ
أخرى أكثر دلالة تضيفها الترجمة، هناك حوادث كثيرة وأخبار حروب وعدوان لا تهم
البيئة الجديدة. وهناك حوادثُ كثيرة وأخبارٌ أخرى أكثر دلالة تضيفها الترجمة، ويعترف
المترجم بذلك صراحة «وتركنا ذكرها إذا كانت أسماؤها غير معروفة في اللسان العربي».
هناك حكاياتٌ شعبية وحوادثُ غير دالة وكأنها حوليات وخاطرات. قواد تحذف من الترجمة
وتوضع مكانها حواملُ أخرى، أكثر قدرة على حمل الدلالات، كما هو الحال في القصص
القرآني في الصلة بين التاريخ والموعظة. وهي فترة مهمة، الفترة السابقة على ظهور
الإسلام بقرنٍ ونصف، والتي يُصدِر عليها الإسلام أحكامًا بتحريف النصوص وسوء تأويل
العقائد وعصيان الشريعة من أهل الكتاب.
٧
ويبدو أن الناشر خازن علم، وربما أتت إحصائياته على الحذف والإضافة بين الترجمة
والأصل، اعتمادًا على دراسات المُستشرِقِين القائمة على الأثَر والتأثُّر، مثل معظم
دراساته السابقة. وهنا تبدو أهمية الباعث الوطني في البحث العلمي خاصة في العلوم
الإنسانية. خلا البحث من الدلالة والموقف؛ فالعلوم الاجتماعية علومٌ وطنية. مشكلةُ
الاستشراق مشكلةُ التحريف، تحريف التوراة والإنجيل وكل الوثائق التاريخية، ومشكلةُ
الترجمة التحوُّل من النقل إلى الإبداع. النقل مقدمة للإبداع وليس غاية في ذاته تطابق
التاريخ. النقل معنًى يُولِّد وقائعَ جديدة؛ فهذه ليست معضلة «لا حل لها»، بل حلها في
منطق النقل الحضاري. لا يهم الواقع التاريخي بل معناه، خاصةً وأنه تاريخٌ غيرُ دالٍّ
كلُّه
حروبٌ وظلم وعدوان وموت، وجنس ودين وسلطة، المحرمات الثلاثة عند المعاصرين ودوافع
الحروب عند القدماء. والقضية هي: هل هذا التاريخ ميدانٌ لتحقيق الوعد الإلهي أم إنه
ميدانٌ لصراعات البشر؟
٨
تحذف الترجمة كل ما هو غيرُ دال، ولا يحسُن توظيفه في البيئة الثقافية الجديدة؛ فهو
حذفٌ مقصود وليس نقصًا عن سهوٍ أو خطأ أو عدمِ فهم، يكمله الناشر الحديث وكأن النص
اللاتيني هو الأصل، والترجمة العربية هي الفرع. غيابه في الترجمة لا يدل على حضوره
في النص المترجم، ووجوده في النص المترجم لا يدل على غيابه في الترجمة؛ من ثَمَّ لا
يجوز للناشر الحديث إرجاع المحذوف من الترجمة القديمة، حتى تكون كاملةً مطابقةً للنص
المترجم.
٩ وقد يقوم المُترجِم بتجاوُز الحذف إلى الاختصار، مثل الخطبة التي استَهلَّ
بها المؤلِّف الجزء السادس. كما اختصر عديدًا من الصفحات في آخر الفصل وتَصرَّف فيها،
ولم يترجم البنود التفصيلية فيه؛ هذا المحذوف لا يناسب غرض الترجمة الجديد في
البيئة الثقافية الجديدة، مثل بعض الموضوعات الكلامية عن قِدم الله وحدوثه والذات
والصفات والأفعال؛ فعند المسلمين خيرٌ منها. صغَّر جزء المسيح بالنسبة للجزء الإثني،
وكبَّر حديث الأرض عن حديث السماء؛ فقد نقل المترجم مدينة الأرض واختصر مدينة السماء.
ترك الجسد وركَّب روحًا آخر عليه؛ فالسماء قاسمٌ مشترك بين التراثَين، المسيحي
والإسلامي. التلخيص مرحلةٌ متوسطة بين النقل والإبداع، التركيز على النص المترجم من
أجل إفساح المجال للترجمة المؤلفة. لم يتابع المترجم النص بل أسقط وعدَّل واختصر،
وتَصرَّف وأضاف مثل التاريخ من آدم حتى القرن الرابع، ثلثه من الأصل والباقي من مصادرَ
أخرى. وإذا كانت الترجمة للخليفة فإنه من الأفيَد له حذفُ كثير من تاريخ اليهود
والنصارى، وإدخال تاريخٍ أكثرَ دلالةً له ينبع من مخزونه الثقافي، أو إعطاء تفاصيل
وزيادات تتعلق بأوروبا الفرنجية، التي يناطحها المسلمون في الأندلس.
١٠
والإضافة توضيحٌ للمعنى وإيجاد حوامل للدلالات، مثل كثيرٍ من الأنساب في بيئة نسيب،
بدلًا من أسماء الأعلام الرومانية غير الدالة في الوعي العربي الإسلامي. وقد يضيف
النص ما يفيد التمايُز بين الأنا والآخر، مثل الحكم على الرومان بأنهم من أجناس
الفرنجة. وقد يضيف أمثالًا جديدة في بيئةٍ ثقافية تُضرب فيها الأمثال. وتبدو في
إضافة المصطلحات العربية والألفاظ الإسلامية؛ ومن ثَمَّ لا يجوز من الناشر الحديث حذف
هذه الإضافات القديمة حتى تطابق الترجمة النص المُترجَم. وعادةً ما تكون الإضافة أكثر
من الحذف لمزيدٍ من البيان والإيضاح وإيجاد الدلالات الجديدة، وإعادة توظيف الترجمة
في البيئة الجديدة. هناك صفحاتٌ بأكملها في الترجمة لا وجود لها في النص
المُترجَم.
والسبب في ذلك ليس اعتماد المترجم على مصادرَ أخرى استقى منها معلوماته بل لإكمال
الناقص؛ فلا فرق بين الترجمة والتأليف، تحوُّلًا من النقل إلى الإبداع. النص
المترجَم يعطي المعنى أو الدلالة أو الروح، ثم تخلُق الروح مادةً تاريخية أخرى كنوعٍ
من
القياس الحضاري، قياس مادةٍ تاريخية جديدة من المترجم على مادةٍ تاريخية قديمة من
النص الأول لتشابهٍ بينهما في المعنى. هناك عباراتٌ جديدة من وضع المترجم العربي مثل
بناء الإسكندر للإسكندرية، أتت قياسًا على بناء القُواد للمدن زيادةً في الإيضاح
لبيئةٍ ثقافية مغايرة. إن كثيرًا من الأنساب مخترعة؛ إذ لا يهم النسب التاريخي
للرومان، بقَدْر ما تهم عقلية النسب العربية من أجل الوعي بالتاريخ طبقًا لعادة العرب.
١١
وتتجاوز الترجمة الحذف والإضافة إلى التأويل والقراءة؛ فلفظ المؤرخ في النص يُترجَم
بالفيلسوف؛ لأن المؤرخ صاحب رؤية؛ ولأن الفيلسوف مؤرخ والمؤرخ فيلسوق. ولفظ المختصر في
النص يُترجَم بالمؤوَّل؛ لأن الاختصار تأويلٌ كيفي وليس مجرد نقصٍ كمِّي. وقد تُستعمل
الألفاظ بمعانيها الاشتقاقية أو المجازية. لا يُوجد خلطٌ في الترجمة بل إعادة قراءة
للنص المترجم، بناءً على فهمٍ مغاير. ولا يُوجد تحريف في الترجمة؛ لأن غايتها ليست
نقل النص المترجم، بل إعادة فهمه وإنتاجه من رؤيةٍ مخالفة وبفهم جديد. لا يُوجد سوء
فهمٍ للنص المترجم بل تحوُّلٌ دلالي له. لا يُوجد خطأ وصواب في الترجمة؛ لأنه لا تُوجد
مطابقة بين النصَّين، بل هناك قراءةٌ وتأويل وإعادة كتابة وتأليفٌ غير مباشر. لا يُوجد
«خطأ فاحش» فهم القدماء غيرهم المحدَثين؛ ومن ثَمَّ لا يجوز تصحيح الترجمة بناءً على
النص المترجم؛ لأن الهدف من الترجمة ليس المطابقة مع النص المترجَم ونقله حرفيًّا،
بل إعادة نقله من بيئةٍ ثقافية قديمة إلى بيئةٍ ثقافية جديدة، ومن قُراء قُدماء إلى
قُراء محدَثِين. والأسلوب القديم لا تُصحِّحه المعاجم الحديثة. لا تُوجد غرابةٌ في
التعبيرات إلا لبُعد الناشر الحديث عن الأسلوب العربي القديم. ويتغير الإحساس باللغة
من عصرٍ إلى عصر، ومن بيئةٍ إلى بيئة.
١٢
ومن ثَمَّ لا تُوجد معاني الألفاظ في معاجم اللغة؛ لأنها داخلة في سياقٍ أَعَم، اشتقاقًا
أو مجازًا مثل استعمال فعل عرض بمعنى عارض. كذلك تختلف الأعداد من الترجمة إلى النص
المترجم، من أجل زيادة التأثير في المبالغة والتصوير. ولا تهم الأماكن وأسماء
الأعلام بل دلالتها. يمكن إسقاط أسماء أعلام وأماكنَ غيرِ دالة، وإضافة أسماءِ أعلام
وأماكنَ أخرى أكثر دلالة؛ فالترجمة تعامُل مع المعنى وليس حوامله؛ فمثلًا يُترجم لفظ
دكتاتور بألفاظٍ كثيرة مثل قائد، صاحب الأوامر طبقًا للمعنى الاشتقاقي الأول، وليس
المعنى الاصطلاحي الذي استمر في الذهن المعاصر، التفرُّد بالتسلُّط. ولا تهم دقة
التعريب أي النقل الصوتي؛ فهذه لها أساليبُ عديدة طبقًا للهجات والأقاليم، خاصة وأن
المترجم لم يَسمعِ اللاطينية، ولكنه قرأها وافترض أصواتها. وهذه أيضًا لها اختلافاتها
داخل الناطقِين بها، مثل حرف السين والشين على التبادُل في اسم المؤلِّف هوروسيوس أو
هوروشيوس. وربما يختلف نُطق القدماء عن نُطق المحدَثِين؛ ومن ثَمَّ لا مجال للحكم بالخطأ
في الأسماء نُطقًا وكتابة، تعريبًا ونقلًا؛ لذلك يذكُر المترجم التقابُل بين اللسانَين
العربي واليوناني، وأحيانًا اللسان السرياني. كما يُفرِّق بين اللسان اليوناني واللسان
اللاطيني.
١٣
وتظهر المصطلحات والعبارات والتعبيرات الإسلامية في الترجمة، المصطلحات الدينية
العقائدية الكلامية مثل الإيمان والكفر، الفساد والأذى، والطاعة والعصيان، والثواب
والعقاب، اليهود والنصارى، الباري، عبادة الله، الآيات، جهنم، الملائكة، الإمامة،
السلطان، المصاحف، الرعية، عبَدة الأوثان، مصحف القلم، مصحف المكابيِّين. والبعض منها
ألفاظٌ قرآنية مثل:
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ،
أو المصطلحات الفقهية الشرعية مثل بيت المال والشيخ.
١٤ وكثيرًا ما تتشابه المصطلحات في التراثَين الإسلامي والمسيحي. وأحيانًا
يُستعمل لفظ المسيحي دلالةً على المسيحية الغربية، ولفظ النصراني دلالة على المسيحية
الشرقية.
وأحيانًا تتحول الألفاظ إلى قراءات، وضع ثقافة الآخر في مصطلحات الأنا، مثل تسمية
الوثنية الجاهلية، واليهود والنصارى أهل الكتاب، ووصف إبراهيم بالخليل أو خليل
الله، وترجمة الفيلاء بالملوك، لا تسمية الجند أو الجيش الرسمي بالديوان والديوان
الجديد، والمور بالبرابرة، والدكتاتور بتعريبنا المعاصر القاضي، واضع القوانين
والأوامر، القائد، ومعرفة الله بالهدى، والوثنيِّين بالمجوس،
Tribunus
Plehi صاحب خَراج الرومانيِّين، والحديث عن أصحاب الكهف الذين
كانوا في زمانه. وترجمة
Chronica بأخبار الزمان على
عادة العرب، واستعمال أهل المدن بمعنى حِصنٍ أو محصَّن بناءً على عقيدة الجهاد. وأحيانًا
تظهر التصوُّرات الإسلامية مثل الفطرة والجبلَّة، وترجمة
Mesopotamia بالكوفة، وقورينا بصعيد مصر،
والحديث عن الأندلس والأندلسيِّين والحروب بينهم، إسقاطًا من ظروف ملوك الطوائف
وشَغفًا وهُيامًا بها.
١٥
ويُستعمل عديدٌ من التعبيرات الإسلامية مثل البسملة والحمدلة، عونك يا رب، واللجوء
إلى المشيئة الإلهية، والدعاء لهروسيوس برحمة الله دون اتباعِ نسقٍ واحد، ولكن في
الغالب خروجًا لمصطلحات الموروث من المخزون النفسي واللاوعي الثقافي للمترجم، ووصف
الله عز وجل وقدر الله تبارك وتعالى، مطلب التوفيق من الله.
١٦
وأحيانًا يتم التعليق على العقائد والرد على التثليث، ووصف المسيح بأنه رسول الله
وحكمته ألقاها إلى مريم وروح منه
فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ … سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.
١٧ وربما من الناسخ أو القارئ لأنه بخطٍّ مغربي مخالف؛ فالترجمة عملٌ جماعي.
١٨
وأحيانًا تتم ترجمة الشعر الروماني شعرًا عربيًّا مثل ترجمة الشاعر ركس:
لما رأى الناسُ الكسوفَ مخالفًا
لِسبيلِهِ حسِبوه ليلًا سَرْمدًا
فزِعَت له الدنيا وظنَّت أنَّهُ
أمرٌ عليه لا يزال مُؤبَّدًا
صلبت بنو يعقوب يومًا ربَّها
أَيسوعُها فاديُّها المُمجَّدا
ظنَّت بأن تخفه بذلك أمره
وأبى الإلهُ بأمرِه إلا الهُدَى
وفي بيتٍ آخر يصف الحواريِّين بألفاظٍ قرآنية مثل:
وكأنني حينًا بنور آياته
يعلو ويسمو في الدهور مؤبَّدَا.
١٩
وذلك يثبت أن المترجم مسلم «لأسلمته» للنص.
ويضيف الناشر في نهاية الترجمة مُلحقًا «نصوص أوروسيوس الواردة عند ابن خلدون
والتعليق عليها»، بنفس الروح، إثبات أن النقل عند المسلمين خيانة للأصل، سواء كان
النص اللاتيني عند مترجمة العربي أو النص المترجم عند مستعمله المؤرخ العربي ابن
خلدون، وكأن الأصل اللاتيني هو الأصل والترجمة العربية الفرع، وابن خلدون ينقل عن
فرع الأصل؛ ومن ثَمَّ فالمقدمة فرع الفرع؛ فالمؤرخ العربي ليس موضوعيًّا بمقاييس القرن
التاسع عشر، المطابقة. وليس أصيلًا لأنه استقى مادته من مصادرَ سابقةٍ لم يعلن عنها؛
لأن ابن خلدون لم يذكر شيئًا عن الترجمة في الفصل الذي عقده للحكم الثاني المستنصر
بالله. ولماذا ابن خلدون وحده وليس استعمال تاريخ أورسيوس عند المؤرخين العرب؟ ربما
كانت مادةً استشراقية مُعدة سلفًا عَرضَها الناشر زيادةً في العلم الذي يُقارب حافة التعالُم،
٢٠ ويكتب عنوان الكتاب باللاتينية بما في ذلك اسم الناشر وتحقيقه
ونشره.
ويخضع الملحق لنفس المنطق، الحكم على الحذف والإضافة والتأويل بأنه تحريف، وخطأ
يحتاج إلى تصويب وتصحيح. والحذف أقل من الإضافة يحتاج إلى إكمال من النص اللاتيني،
حتى تطابق الترجمة النص المنقول عنه طبقًا لعلاقة الفرع بالأصل. وقد اختصر ابن
خلدون بعض الفصول اختصارًا شديدًا، وكأنه كان لزامًا عليه النقل حَذْو القُذَّة بالقُذَّة،
٢١ ولكن الإضافة هي الأغلب وكأنها خطأٌ لا بد من تصويبه، وتحريف لا بُد من
تصحيحه، وليس تحوُّلًا من النقل إلى الإبداع؛ فالإضافة تُسمَّى زيادةً غير موجودة في
الأصل اللاتيني ما كان يجب أن تُوجد، فإذا ما وُجد فإنه شيءٌ غريب يسترعي الانتباه؛
لأنه ما كان يجب أن يُوجد. أمَّا التأويل من أجل التأثير بالأرقام، فإنه خلط وتزييف،
وكأن مهمة الناشر هو تلمُّس الأخطاء وتسقُّطها، من أجل إعلاء الأصل على الفرع. إن ابن
خلدون يشير إلى مصادره الأخرى مثل ابن عباس والطبري والمسعودي.
٢٢ وتظهر الإيمانيات عند ابن خلدون مثل ظهورها عند المترجم مثل الله أعلم،
آدم صلوات الله عليه، الله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك.
٢٣
(٢) الترجمة الهندية
ومن الوافد الشرقي، من الهند، تمَّت ترجمة كتاب «بلوهر وبوذاسف» وهي الترجمة
الوحيدة من التراث الهندي في الفلسفة، بالإضافة إلى كليلة ودمنة عن الترجمة
الفارسية للأصل الهندي، كما ترجمت الفلسفة اليونانية عن الترجمة السريانية؛
فالثقافة الهندية مرت من الشرق إلى الغرب، من الهند إلى العرب عبر فارس.
٢٤ مترجمها غير معروف، وهي قصةُ وعظٍ وأمثال كما يدل على ذلك العنوان «قصة
بلوهر وبوذاسف في الوعظ والأمثال». غايتها التأهيل الأخلاقي عن طريق النسك،
والإعداد الصوفي عن طريق التوجُّه إلى الآخرة، تحوُّلًا من التاريخ إلى المثال، ومن
الواقع إلى الخيال. وقد ازدهرت القصة في البيئة المسيحية الشرقية والغربية في رواية
بارلام ويواسف، وبصياغاتٍ ولغاتٍ متعددة عربية وعبرية وفارسية وجيورجية ويونانية.
٢٥ أسلوبها الحوار، مثل محاورات أفلاطون. أحيانًا يكون قصيرًا متبادلًا
بين بلوهر وبوذاسف، وأحيانًا يكون طويلًا أقرب إلى المونولوج الطويل لإيصال الرسالة
والإعلان عن الكشف؛ فالحقيقة لا يمكن إخفاؤها ومنع ظهورها. وهي أقرب إلى الرواية
منها إلى القصة؛ نظرًا لطولها وتعدُّد شخصياتها وتداخُل أجزائها، على عكس بساطة القصة
وصغرها. والأسلوب عربيٌّ فصيح أقرب إلى التأليف منه إلى الترجمة.
٢٦ ولا يذكر اليونان على الإطلاق، ويُشار إلى نظرية الأخلاط الأربعة، وكأنها
جزء من الثقافة الهندية الموروثة وليست اليونانية الوافدة؛ فالصحة من الأخلاط
الأربعة، وأقربها من الحياة الدم.
٢٧
وتضم سبع عشرة شخصية: أولها بلوهر الحكيم أو الشيخ، وثانيها بوذاسف طالب الحكمة أو
الباحث عن الحقيقة أو المريد، وثالثها الملك جنيسر والد بوذاسف، ورابعها البد نبي
الهند، وخامسها راكس المنجِّم الساحر، وسادسها المستوقر وزير الملك ومحاوره، وسابعها
فلنطين بن تلدين والد جنيسر وجد بوذاسف، وثامنها البهون السائح من عبدة الأوثان،
وتاسعها العنقاء التي حملت جثة بد إلى فراخها فامتلأت حكمة، وعاشرها كاسد ملك نسيفة
الذي لقي نفس مصير جينسر وابنه؛ فالحقيقة تتكرر في أكثر من موقع، ثم قنطس زعيم
أتباع البد، ثم فاطر وطاطر الكاهنان، ثم شبلين بن بيسم من أعدل ملوك الهند سيرة
وأفضلهم حكمة، ثم تلدين بن شبهين المستطار من ملكه أربع عشرة سنة، ثم كهرريج صاحب
البد ثم أبابيد تلميذ بوذاسف، وسمطا عم بوذاسف وشامل ابنه، وقادم الطير الذي يبيض
بيضًا كثيرًا ويُفرِّقه في أعششة الطيور، خوفًا من أمواج البحر، وتظهر بعض الشخصيات
النسائية دون أسماء لها، الأنسيفة وهما أشبه بنفيسة.
٢٨
وقد يكون للأسماء دلالةٌ رمزية مثل «حي بن يقظان» الحياة بنت اليقظة، أو اليقظة
جوهر الحياة، الحياة حياة الوعي والعقل والتأمُّل. وربما يكشف الاشتقاق الهندي
للألفاظ عن دلالاتها على الرواية. ونفس الشيء بالنسبة لدلالات الأماكن اشتقاقًا أو
دلالة مثل سرنديب وكشمير؛ حيث تذكر الروايات أنها مكان هبوط آدم، أول من سكن الأرض
وبحث عن الحكمة وأتته النبوة. وأبعد من ذلك المستوقر الذي يشبه المستودع، وهو من
ألقاب الشيعة وفاطر فَاطِرِ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ.
وهي تشبه قصة حي بن يقظان في موضوعها وشخصياتها. موضوعها الحقيقة التي يمكن
الوصول إليها عن طريق الدين الطبيعي أو عن طريق النبوة. وكلاهما ممثلان في البوذية
دين الطبيعة ودين الوحي الباطن، ليس دين الوثنية الذي يقوم على التجسيم والتشبيه،
بل دين الطبيعة الحية الجمالية، وليس دين الوحي الخارجي عن طريق الرسول والملاك
والإبلاغ، والكلام والقول والكتاب المُدوَّن والصحف والألواح، والشعائر والطقوس
والأماكن والأزمنة المقدسة. و«البد» هي الشخصية الرابعة من شخصيات الرواية من حيث الأهمية.
٢٩ الدين الحق هو الإيمان بالله والعمل الصالح، هو الإسلام والبوذية
والحكمة الخالدة. وأحسن العلم هو معرفة الله عز وجل والعمل بالخير. جماع الدين
شيئان: أحدهما معرفة الله عز وجل والآخر العمل برضاه، ويتم التركيز على ذلك في
نهاية القصة وظهور الملاك حاملًا رسالة الله «لا ينال ملكوت السماء أحد ولا يدخلها
إلا بعد العلم والإيمان وتمام عمل الخير.»
٣٠ الحق مع أنبياء الله عز وجل ورسله عليهم السلام في القرون الماضية على
ألسنةٍ مُتفرِّقة. لكل دعوةٍ سبيلها وأمرها، والكل صحيح وقويم. الحق واحد والسبل إليه
مختلفة عن طريق الأنبياء والحكماء. والحكمة في تقطُّع الأنبياء وتواليهم في الزمان،
لتطوُّر البشر كالبستان في الفصول الأربعة وفي مواسم الزرع كالربيع والخريف للزهر
والثمان. يؤمن بهم البعض ويصدُّهم البعض الآخر ويُعادونهم. يأتون بكلامٍ من الله وليس
من الناس، يعجزون عن تقليده مثل إعجاز القرآن، ويُرسل به ملائكته مثل جبريل، هو حكمة
الله على لسان الأنبياء.
٣١
وتم تعشيق البوذية مع الإسلام في الزهد في الدنيا، وحياة النسل، والخلاص من قيود
البدن، والتحرُّر إلى عالم الروح، والسيطرة على الانفعالات وأهواء النفس؛ فالآخرة
وجود والدنيا عدم طبقًا لجدل الوجود والعدم في البوذية؛ فالقصة نموذج لأدب الصوفية
عن الزهد في الدنيا والسعي نحو الآخرة، مثل «رسالة الطير» لابن سينا. يتم الخلاص عن
طريق ترك الأهل والولد كما فعل بوذا في الهند، وكما فعل إبراهيم بن أدهم في البصرة؛
كلاهما ملك أو أميرٌ تركا ملك الدنيا لامتلاك الآخرة «الزهد في الدنيا مفتاح الرغبة
في الآخرة». وإن طعام الدنيا هو طعام المضطَر المُستثقِل، ثم تنكشف الحقيقة نورٌ ساطع
وهدًى مستقيم ناقضٌ على أهل الدنيا أعمالهم ولذاتهم وشهواتهم «فالحق من عند الله
بدعاء العباد إليه.» وفي نهاية القصة يرسل الله ملاكًا من السماء لإبلاغ بوذاسف
الدين الحق، نور الأنفس والعقول. وهو دين الأنبياء الذي أنزله على الرسل في القرون
الأولى، لتخليص الأنفس من عذاب القبر ونار جهنم. وهنا تظهر العقدة التي تربط
الإسلام بالبوذية وتجعلهما دينًا واحدًا، فالإسلام هو الجامع بين حكمة اليونان
وتصوُّف الهند، بين حكمة الغرب وحكمة الشرق، الحكمة الخالدة. وتنتهي القصة بجمع الملك
قومه، ودعاهم إلى دين الله فأجابوه. وأبطل الأوثان، وجعل بيوتها مساجد يذكر فيها
اسم الله، وتطبيق أمره في جماعة الناس باللين والرحمة، وظهور البرهان، ثلاثون ألف
ناسك، رجلًا وامرأة.
٣٢
وتدُل بعض عباراتها على البيئة الإسلامية الشيعية التي ظهرت فيها؛ فقد أشار إلى
الترجمة العربية المتكلم الإمامي ابن بابويه (٣٨١ﻫ). وظهرت صياغةٌ أخرى أطول عند
الإسماعيلية في اليمن والهند، وهي الصياغة التي تم تحقيقها، تمتلئ بثنائية الخير
والشر، الظاهر والباطن، دين الله ودين الشيطان.
٣٣ وتظهر بعض عقائد الشيعة مثل التركيز على أئمة الدين رحمة الله عليهم،
وسنتهم في بلوغ الغاية والاطلاع على النيات والضمير، والمداواة للقلوب بالأدوية
الراسخة فيها، وتعريف المستوقر على بوذاسف أنه الإمام بعون الله وعميد أوليائه.
ودعا له بأن يغفر الله ذنبه، ويحط عنه وزره، ويطلق يده، نموذج الإمام الحازم العادل
الذي يسوس العوام. والإمام المصلح المستقيم حسن الحال هو إمام الهدى. وتعلن نسيفة
غياب الإمام وأن الإمام ليس بحاضر. وتظهر بعض ألقاب الأئمة مثل ولي الله. وقد أعلن
راكس الساحر المنجم أن بوذاسف هو إمام البشر. وفي نهاية القصة يرسل الله تبارك
وتعالى ملكًا من الملائكة إلى بوذاسف، وهو لأمر الله عز وجل متبع، ولوصيته متفهم،
وهي من ألفاظ الشيعة. وخرج بوذاسف سائمًا يستقرئ مدن الهند، داعيًا إلى دين الله،
تصحبه أربعة من الملائكة ليؤنسوه ويثبتوه حتى تعرج به إلى السماء، فعاين الغيب،
وسمع الوحي من الملأ الأعلى ثم أُعيد إلى الأرض كرسل الله الخالية، وانتهى أجله في
كشمير. وأوصى تلميذه أبابيد الذي أحسن البيعة، وجمع رعية الإسلام المتبددة، حين دنا
ارتفاعه من الدنيا.
٣٤
وتظهر العقائد الإسلامية العامة بوضوحٍ طبقًا لنسق العقائد في علم الكلام؛ فالله
هو الخالق وليس البشر. وأحسن العلم معرفة الله عز وجل، الوحدانية والرأفة والرحمة
والمعدلة والقدرة على كل شيء، وأنه صانع، خالق. والمعرفة شرط لدخول الرضا، والخير
نافع والشر ضار. والله هو الحاكم العادل الذي لا يجور، والإيمان بالقضاء والقدر،
والتصديق بالله تصديق بوعد الرب تبارك وتعالى، واليقين والإيمان بالبعث والجنة
والنار، وطاعة الله واجتناب الذنوب، وإتيان الحسنات دون السيئات، الساجد القاعد
لله. والفرقة الناجية هي الصوفية وليس الشعب المختار، وفضائلهم مثل حب الصالحين،
وذكر الله والاستحياء من الله، والرضا، ورعاية العهد، والأنس، والإنابة والحمد
والذكر. وفي الإنسان قوة أودعها الله فيه، قوة العقل والعلم، والعفاف والصبر
والرجاء والدين، والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٣٥
وتُذكر آيةٌ قرآنية واحدة على لسان بوهلر للاستشهاد بها على غرور الدنيا ونفائسها،
وأنها مجرد
لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. كما يظهر الأسلوب
القرآني الحر المستعار في الأسلوب الأدبي مثل: أحبهم ويحبونني، نارًا موقدة وجهنم
مسجر، فريدًا وحيدًا، العروة الوثقى، لا تأسَ على ما فاتك، الدين القيم.
٣٦
كما يظهر أثر القصص القرآني من قصة يوسف وتأويل الأحلام؛ فقد أرسل الملك جينسر
إلى مُعبِّر للرؤيا والساحر المنجم راكس، ليقص عليه رؤياه ويُؤوِّلها له، كما قص الملك
رؤيا زوجه على مُعبِّري الأحلام، قيل أبيض يطير من الجو وقام على بطنها ولم يضرها،
فبشَّره المعبرون بغلام كما فعلت الروح القدس مع مريم،
٣٧ كما يظهر أثر بعض الأمثال القرآنية وأمثال السيد المسيح، مثل الزارع
الذي يبذر على حافة الطريق فيلتقطه الطير، بعضه وقع على طين فنبت ثم يصفر ويموت،
والبعض وقع على أرضٍ ذات شوك فخنقه الشوك، والبعض وقع على أرضٍ طيبة فسَلِم ونما.
٣٨ كما تكثُر التعبيرات الإسلامية مثل عبد الله، وتعظيم الله، دعوة الله،
تقوى الله، حمد الله، بركة الله، شكر الله، عون الله، معرفة الله، سؤال الله، بإذن
الله، إن شاء الله، الإيمان بالله.
٣٩