(١) المثالية العقلية
ولا يُوجد نقلٌ ديني بل مجرد عرض فكرٍ خالص بطبيعته مثالي، يسهل على الشارح فهمُه
وعرضه فيما بعدُ. ما يهمُّ أولًا هو اتساق الفكر مع نفسه، لما كان العقل أساس النقل،
ثم يسهل بعد ذلك صَبُّه دينيًّا لترسيخه داخل الحضارة؛ فالمثالية دينٌ طبيعي تتفق مع
الفكر اليوناني والأساس النظري للدين الإسلامي. هنا تقل الإشارات الدينية المباشرة،
بل يكفي العرض العقلي النظري الخالص، وإلا عدنا إلى علم الكلام. وهذا هو الاحتواء،
احتواء الآخر في ثقافة الأنا اعتمادًا على النقل وحده. يعني الاحتواء إدخال الثقافة
الوافدة ضمن إطار الثقافة الموروثة، ثم تحويلها إلى جزءٍ من الثقافة الوطنية
العامة. الاحتواء هنا امتصاص وتمثُّل استيعاب؛
١ لذلك لا تظهر الثقافة الإسلامية في الشرح، ليس لأنها لم تكن عامة
وشائعة عند المترجمِين والشراح، أو لأن المترجمِين كانوا يكونون حلقاتٍ ثقافية منعزلة
داخل المجتمع الإسلامي مثل مدارس الدومنيكان والفرنسسيكان حاليًّا داخل الأمة؛ بل
لأن الاعتماد في الاستيعاب كان على العقل الخالص. لا يُذكر الإسلام أو الثقافة
الإسلامية في الشروح المتأخرة؛ فالشراح عاكفون على الوافد، بعيدون عن الموروث،
«علمانيون» بالأساس؛ فهم لا يتعرضون للإلهيات. ولا تُوجد أيةُ إشاراتٍ لمعاركَ كلاميةٍ
داخلية، وكأنهم لا يعيشون مجتمعهم ومعاركه الثقافية. ولمَّا كانت الطبيعيات تعتمد
أساسًا على تقابل العقل والطبيعة، سهُل تمثُّلها واحتواؤها وشرحها؛ فالوحي الجديد هو
نظامٌ عقلي مثل نظام الطبيعة وكلاهما نظام العقل؛ ومن ثَمَّ يمكن ردُّ كلٍّ منا إلى الآخر،
ردُّ الوحي إلى العقل والطبيعة وردُّ الطبيعة إلى الوحي والعقل؛ فالنظم الثلاثة نظامُ
واحد. ولمَّا كان المنطق تعبيرًا عن نظام العقل، والإلهيات تعبيرًا عن الوحي، فإن
المنطق والطبيعيات والإلهيات نسقٌ واحد يمكن ردُّ كلٍّ منها إلى الآخر. الطبيعة تطبيق
للمنطق أي تعبير عن العقل في الشيء. والإلهيات تطبيقٌ للمنطق أي تعبيرٌ عن العقل في
المفارقة. والمنطق تطبيق لنظام العقل نفسه أساس الطبيعيات والإلهيات؛ لذلك كان
المنطق آلةً لكل العوم. المنطق عقلي، والطبيعيات عقلية، والإلهيات عقلية؛ فالعقل هو
الجامع بين الأنساق الثلاثة. معيار الصدق في المنطق ذاته، ومعيار الصدق في
الطبيعيات، والإلهيات المنطق العقلي. لا يعني ذلك الوقوع في الصورية، صورية المنهج
أي المنطق أو صورية الموضوع، الطبيعيات والإلهيات بل وحدة النسق ضد ثنائية المنهج.
العقل والإيمان، وثنائية الموضوع، العالم والله. لا يعني ذلك التضحية بالموضوع من
أجل المنهج للموضوع، أو ابتلاع المنهج للموضوع نظرٌ لوحدة المنهج والموضوع؛ لذلك
دخلَت الرياضيات جزءًا من المنطق في الطبيعيات بل والإلهيات؛ فالرياضيات تعبير عن
المنطق في عالم الأعداد والمساحات والحجوم. ولا يُوجد شيءٌ في نصِّ أرسطو يمكن رفضه عقلًا.
٢ وشرعيًّا يمكن القول إنه لا يُوجد مانع من أن يكون أرسطو نبيًّا لليونان
مثل سقراط وأفلاطون؛ فما من أمةٍ خلا فيها نذير، ولم يذكر القرآن إلا الأنبياء
الذين كانوا في المخزون النفسي عند العرب في شبه الجزيرة العربية
مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ. وحال سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وفيثاغورس عند اليونان مثل
حال بوذا في الهند وزرادشت وماني في فارس، ولاوتسي وكونفوشيوس ومنشيوس في الصين،
إلا أنه لا نبي بعد محمدٍ آخر الأنبياء، والحكماء ورثة الأنبياء.
ومع ذلك الجو الديني للمعلق أكثر عمقًا واتساعًا من الجو الديني للمترجم؛ لأن
مهمة الشارح أكثر عمقًا حضاريًّا من مهمة المترجم. المترجم ناقل علم، والشارح مُمهِّد
ومُبيِّن له من أجل احتوائه؛ ففي الحديث عن السماء يُلاحظ أن جميع الأولِين صيَّروها
موضعًا لله؛ فالترجمة هنا نقلٌ للمعنى من حضارة إلى حضارة، ووضع للوافد في الموروث؛
فالسماء في الدين العقلي تُعادِل الله في دين الوحي؛ نظرًا للاتناهي وعدم الفساد
كصفاتٍ مشتركة بين السماء والله.
٣ وإذا ألَّف أرسطو كتاب «في السماء» فإنه يُضاف إليه في الترجمة العربية،
وقبل ذلك عند الشراح اليونان «في العالم» ويصبح «في السماء والعالم»؛ لأنه لا يمكن
تصوُّر السماء دون العالم، والأعلى دون الأدنى، والسماء دون الأرض. هل تابع المسلمون
الشراح اليونان أم ألحقوا العالم بالسماء بناءً على دوافعَ دينيةٍ خاصة؟ السماء هو
الذي ربط بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، عالم متوسط بين العالم والله، وموضوعاته تتراوح
بين الطبيعيات والإلهيات؛ فالمقالة الأولى تتحدث عن العالم والعنصر الخامس
والحركة وإبطال اللامتناهي ووحدة السماء وأنها غير مكونة، وأن إثبات اللاتناهي من
أجل إثبات الكون والفساد. والمقالة الثانية عن حركات الأجرام والأفلاك والكواكب
والأرض، وهو موضوعٌ طبيعي تكثُر الإشارة إليه في النص الديني للحضارة المترجَم إليها.
وموضوع الثالثة الأسطقسات بين الطبيعة والآثار العلوية. وموضوع الرابعة الثقيل
والخفيف، وهي ثنائيةٌ مثالية بين الهبوط والصعود في الأجسام كدليلٍ على التنزيل
والتأويل.
في الموضوع الديني تكثُر التعاليق؛ لأنه موضوعٌ خِصب ودال، ولا يكون بالضرورة
موضوعًا دينيًّا مباشرًا، بل موضوعًا دينيًّا من دين العقل والطبيعة. وهو الدين
الوافد الذي يتم التعليق عليه؛ أي احتواؤه من دين الوحي الذي يقوم هو نفسه على
العقل والطبيعة؛ فإبطال اللامتناهي بالنسبة للعناصر معقول؛ لأن الله وحده هو
اللامتناهي. يحتوي الموروث بسهولة مثل هذا النص؛ لأنه متفق معه ويمكنه بعد ذلك من
إثبات لا تناهي الله؛ فالإيمان العقلي الطبيعي عند اليونان يجد بعدًا جديدًا له في
الوحي، كما أن الوحي تأسيس له في العقل والطبيعة،
٤ وكذلك موضوع النفس موضوعٌ مركزي في الحضارة المنقول إليها. والنص
المنقول بسيط لا يتطلب في حد ذاته كل هذه الضجة حوله، وأثره في رؤية المسلمين
للنفس، والقرآن قد ذكر النفس مئات المرات (٢٩٥ مرة)، نصوصه مملوءة بآراء وأفكارٍ
أعمق وأوضح وأدلَّ من النصوص المنقولة. وليس من المعقول أن يحدث كل هذا الصراع حول
العقل الفعال بسبب عبارةٍ بسيطة وردَت عرضًا عند أرسطو «ولست أقول إنه مرةً يفعل ومرةَ
لا يفعل، بل هو بعدما فارقه على حال ما كان وبذلك صار روحانيًّا غير ميت.» وهذا
يعني أن النفس حية. إنما المهم إيجاد الدال وترك غير الدال؛ فالحضارة الجديدة هي
التي تفرض تفسيرها وقراءتها على الآخر من أجل الاحتواء؛ نظرًا لأن الحضارة دينية
ولا تهتم أساسًا إلا بالمفارقة أي الخلود. مهمة الشرح رد الاعتبار لأرسطو، وإعادة
الاتزان له، وإخراج نتائجَ عدة من المفارقة مثل الأخرويات والحساب، الثواب والعقاب،
وهي موضوعات السمعيات، واستنتاج نتائجَ أخرى بالنسبة لإثبات وجود الله، وهو الموضوع
العقلي. هذه العبارة ليست أحد الدوافع الرئيسية عند الفارابي في الجمع بين رأيَي
الحكيمَين؛ لأن موقف الفارابي كلي وشامل في الجمع بين المثال والواقع، وأكبر من أن
تُحدِثه عبارة قالها أرسطو عرضًا. هذا الاتجاه في الشرح نحو المُفارِق كان على عكس
أرستوكسينوس
Aristoxenus الذي كان ينكر كلَّ ما
هو مفارق؛ فالروح اسمٌ خاوٍ من كل معنى، والطبيعة قادرة على تفسير كل شيء. والسؤال
هو: هل التفسير الطبيعي للروح بعيدٌ عن روحِ الحضارة الجديدة، وهو التفسير الذي شاع
عند أصحاب الطبائع من المتكلمِين؟
٥
وقد يكون أكثر مؤلفات أرسطو خصوبة للتمثُّل والاحتواء وإعادة الإنتاج هو كتاب «ما
بعد الطبيعة» خاصة حرف اللام، وهو الفصل السادس.
٦ والسؤال: أين الباقي؟ هل كانت موضوعاته أقرب إلى الطبيعة منها إلى ما
بعد الطبيعة، وبالتالي فهي مكررة ومن ثَمَّ لم تعُد جديدة؟ أم إنها ضاعت بالفعل بعد
ترجمة الكتاب كله؟ يُقسِّم حرف اللام الجواهر إلى ثلاثة: اثنان طبيعيان، وواحد غير
متحرك. وهي قِسمةٌ تُطابِق الشعور الديني والتقابُل بين المخلوق والخالق؛ وبالتالي تكون
القسمة مقدمة للإلهيات. والإشارة إلى الإلهيات صريحة في نص أرسطو؛
٧ فالله عقلٌ إلهي، أسمى عن عقولنا. وهو بنفسه لذيذٌ فاضل، عاقل، لذاته
حياةٌ أزلية فاضلة. وهو أعلى مراتب الشرف وأَوْلى بالكمال، كما هو الحال في وصف الوعي
الخالص في علم أصول الدين وفي علوم الحكمة.
٨ حتى الناشر الحديث اضطُر إلى اللجوء إلى البنية الدينية بالحديث عن أن
العقل والعاقل والمعقول واحد بالنسبة إلى الألوهية، وبوصف الله بأنه الخير الأسمى؛
٩ فالإيمان الفلسفي اليوناني يسهل احتواؤه داخل التصوُّر الفلسفي؛ فالفلسفة
هي الرابط بين الاثنَين. العقل الأول عند اليونان هو الله، مبدأ جميع الأشياء، غاية
الكمال والتمام، لا يحتاج إلى غيره، علمٌ محض.
١٠ هذا هو تأليه اليونان العقلي الذي أمكن احتواؤه داخل التأليه الإسلامي،
عن طريق العقل المشترك بين الحضارتَين، في تصوُّرٍ فلسفيٍّ ثنائي بين الزائد والناقص،
تلك
الثنائية العقلية التي تعبر عن الإيمان العقلي للقدماء قبل الوحي عند اليونان وبعده
عند المسلمين. وهو الإيمان الذي استمر إبَّان العصور الحديثة الأوروبية في القرنَين
السابع عشر والثامن عشر. ولم يتغير إلا في القرن التاسع عشر في ثنائيةٍ أخرى أفقية
رأسية، ثنائية الإنسان والطبيعة عند فيورباخ لتجاوُز الثنائية العقلانية الحديثة،
التي هي تبرير للثنائية الإيمانية القديمة في العصر الوسيط.
وفي شرح ثامسطيوس لحرف اللام من كتابِ ما بعد الطبيعة، يظهر الإيمان العقلي
اليوناني وإسقاط الأمثلة اليونانية القائمة على التشبيه وزيادة التنزيه العقلي.
وذكر الله صراحة. الله هو نموذج الحياة الفاضلة والإنسان الكامل ولقانون الطبيعة.
الله مبدأ عقلي، ومبدأ خلقي، وقانون الطبيعة. الله صفةٌ خلقية. وكان من السهل بعد
ذلك احتواء المسلمين لأرسطو بهذا الشرح الإيماني لثامسطيوس؛ فأرسطو ترك
الميتافيزيقا مجرد فلسفةٍ عقلية حوَّلها ثامسطيوس إلى إيمانٍ فلسفي قبل المسلمين. يُركِّز
ثامسطيوس على الجوهر الأزلي من الجواهر الثلاثة، وترك الجوهرَين الطبيعيَّين؛ فهذا نقلٌ
طبيعي للنص من مستوى الطبيعة إلى مستوى ما بعد الطبيعة، ممهدًا للنقل الحضاري
الجديد بالحديث عن الجوهر المفارِق، لمن يستعمله بعد ذلك في الموضوع الديني الأول.
ولا يهم من صاحبه، بل المهم تحقيق الغاية من شرح ثامسطيوس والتركيز على الجوهر
الأزلي. هناك فرق بين الوثيقة التاريخية والحامل الحضاري؛ فالانتقال من الجوهر
الثالث الأزلي إلى الحديث عن الله انتقالٌ طبيعي، لا يهم من صاحب هذه النقلة. وفي
شرح ثامسطيوس هناك انتقالٌ من النص إلى الشرح، من النص الأرسطي إلى إعادة انتاجه من
جديد، من النقل إلى الإبداع.
١١
ولا يقتصر ثامسطيوس فقط على شرح النص، بل يضع نفسه في إطار التاريخ بعد السابقِين
عليه وقبل اللاحقِين له. ولا يقتصر الناسخ على ذكرِ شرحِ ثامسطيوس، بل يضيف عليه
نصوصًا أخرى في نفس الموضوع من كتبٍ أخرى، مثل السماع الطبيعي ترجمة الشيخ أبي زكريا
يحيى بن عدي.
وفي شرح ثامسطيوس تظهر الإلهيات بصورةٍ أوضح وأكثر انتشارًا واتساعًا؛ فالله هو
ناموس الأشياء (الله والطبيعة). وهو نموذج الحياة الفاضلة (الله والإنسان). وهو حيٌّ
فعال، حياةً أزلية (الله في ذاته)، صفاته على النقيض من صفاتنا. ويظهر في المنطق عن
طريقِ قياس الأَولى والأشرف. وهو نوع من البرهان على وجود الله ابتداءً من الدليل العقلي؛
١٢ فالله من خلال الذاتية، هو ما نفعله على نحوٍ أشرف. موضوعيته تنبثق من
الذاتية. وتحوَّلَت المفارقات إلى البحث عن الأدلة على وجود الله.
ويبدو هذا التصور الديني أيضًا في ترجمات الأخلاق العملية مثل «كتاب تدبير
المنزل» لدامسطيوس.
١٣ وهي رسالة تحدد علاقة الرجل علاقةً رباعية بما له وخدمه وامرأته وولده،
فإذا كان الخالق تبارك وتعالى قد جعل في الإنسان القُوى التي يحتاج إليها، إلا أنه
جعل فيه نقصًا وهو حاجاته إلى الإمكانيات الخارجية. جعل الله له قوًى داخلية وخارجية
مثل المال؛ فالناس في حاجةٍ إلى النقود في المعاملات؛ ومن ثَمَّ إلى اكتسابه وحفظه
وإنفاقه والحذَر من الجَور والعار والدناءة، ولكلٍّ وسائله المتعددة. وفي تدبير العبيد
والخدم تظهر الشريعة؛ فالعبيد ثلاثة: عبد الرق وعبد الشهوة وعبد الطبع، وقد أوهبت
الشريعة عبد الرق. وفي تدبير المرأة يظهر البعد الديني من جديد؛ فقد جعل الخالق
تبارك وتعالى الخلق يموتون وفي نفس الوقت يحافظون على بقائهم بالتناسُل. ووضَع الله
في الرجل الطبيعة التي يميل بها إلى الحركة والظهور، والتصرف في منزله. هو القيم
على امرأته وهي المطيعة له في التدير والإنجاب. أمَّا تدبير الرجل لولده فبالرياضة
للبدن وبالحكمة للعقل، حتى يتأدب الولد في نومه ولبسه وتصرُّفه مع غيره. ولا ينبغي
للصبي الحلف بالله على حق ولا على باطل، ولا أن يضطَر الرجل إلى الحلف باليمين،
وبالرغم مما في الجماع من قُربة إلى الله إلا أنه يكون بعد الزواج وليس قبله. وفضيلة
النفس مثل الصبر تجعله قادرًا على التحمُّل حتى ينال المحبة والكرامة من الله والناس.
١٤ وكما تبدأ الرسالة بالحمدلة والعون تنتهي بالحمدلة والحمد.
١٥ ويبدو أن هذا التوافُق في أخلاق اليونان وأخلاق الإسلام، هو الدافع على
الترجمة أو الانتحال، لا يهم صاحبها ما دام مضمونها هو المطلوب.
(٢) العقائد الدينية
كما يظهر الفكر الديني في صفات الله وأسمائه؛ فالله هو العقيدة الرئيسية التي يصب
فيها كل الفكر الإلهي المباشر أو غير المباشر عند اليونان وعند المسلمين، في الوافد والموروث.
١٦ وتبدأ عملية التمثل والاحتواء للوافد في الموروث ولثقافة الآخر في
ثقافة الأنا، كلما ظهر موضوع الله؛ فالكمال في الوافد هو الله في الموروث.
١٧ وقوة الله بلا نهاية. وكل موضوع يتصف بصفات الله يذكر الله، ويصب فيه
مثل اللانهاية.
١٨ وإدراك أن المحرك الأول موضوعٌ شريف يستحق الطلب البرهاني، هو إدراكٌ من
الحضارة الجديدة لموضوعات الحضارة القديمة.
١٩ وهو تصوُّر يُعبِّر عن الإيمان العقلي القديم على مستوى الحضارة اليونانية،
ثم دخل بعد تمثُّله واحتوائه كبيئةٍ عقلية، أُضيف في البيئة الحضارية الجديدة الأوسع
والأكثر شمولًا. هو تصوُّر يُعبِّر عن إحدى محاولات التنزيه العقلي. ولمَّا كان التنزيه
العقلي تشبيه مقلوب، فلا غرابة من قبوله. وبالرغم من أن المقالة الثامنة كلها عن
المحرك الأول الذي لا يتحرك، وعن الأدلة على إثباته وضرورته وقدمه، إلا أنه لم يتم
احتواؤها دينيًّا، وتَم الاكتفاء بالإيمان العقلي.
ويظهر موضوع المُحرِّك والمُحرِّك الأول في آخر الطبيعيات، وهو أشبه بموضوعاتِ ما
بعد
الطبيعة، مما يدل على أنهما علمٌ واحد. في الطبيعيات الحركة هي الموضوع الغالب، كما
أن المكان غلب على الزمان. والمقالتان السابعة والثامنة عن المُحرِّك الأول، وتقدُّم
العالم وهي موضوعات الإلهيات.
وبالرغم من ندرة النقل الحضاري في شرح ثامسطيوس لكتاب النفس لأرسطو ترجمة حنين بن
إسحاق، إلا أن الاحتواء الديني ظاهر في وصف الله تعالى، بالرغم من سهولة التعشيق بين
النصَّين اليوناني والعربي.
٢٠ في رأي طاليس أن الأشياء كلها مملوءة من الله، وهو رأي القائلين إن
مسالك الناس كلها وجميع محافلهم مملوءة من الله، وهو رأي زينون أن الله ناشب في كل
جوهر، وهو رأي الصوفية. والطبائع الأشد إلهيةً خليق أن يكون العقل فيها خِلوًا من
القوى النباتية والحيوانية. ويُقال إن الشيء الذي من قبله يفعل هو الأمر الإلهي،
جعلته الطبيعة مثالًا للإرادة الإلهية؛ فالطبيعة إلهية، والأجسام إلهية؛ فالله
بجهةٍ ما هو الموجودات أنفسها. هناك شيء إلهي وشيء فاعل غير منفعل. لا يعني ذلك أن
العقل الفعال هو الله؛ لأن العقل الإلهي غير منفعل، وإلا كان هناك إلهٌ أوَّل. إنما
العقل إلهيٌّ مُفارِق، ويأخذ أفلاطون لقب الإلهي. كما تظهر العبارات الإيمانية مثل
الحمدلة في نهاية المقالتَين، الأولى والثانية، والبسملة والصلوات في أول الثانية.
٢١
وقد يُمثِّل الشعراء هوميروس وأرفيوس وهزيود العلم الإلهي عند اليونان، ويقوم
الشعراء بدور الآلهة، ويكون شعرهم الحكمة الإلهية، وتكون الحكمة هي انتقال من عصر
الآلهة إلى عصر الأبطال، كما لاحظ فيكو فيما بعدُ.
٢٢ الشاعر أوميروس مصدر معلوماتٍ مثل الفلاسفة حتى في الموضوعات العلمية.
٢٣
ويظهر الفكر الديني بوضوحٍ في أهم قضاياه مثل الخلق، خلق الطبيعة؛
٢٤ فحركة الاجسام الطبيعية إلى أسفل وليس إلى أعلى، ناتجة من الترتيب
الوضعي لها؛ لأن الله جعل وضع الأرض في الوسط، حركة الأجسام إذن طبيعيةٌ بناءً على
وضع الله لها، وإن لم يكن هناك مصطلح الخلق.
٢٥ الطبيعيات الوافدة لا تضع الله عاملًا فيها. ويأتي التعليق فيدخل الله
عاملًا في حركة الطبيعة. وهذا هو نموذج احتواء الموروث للوافد من خلال التعليق
والشرح قبل التأليف؛ لذلك أُعجب الحكماء بضرورة حركة الأجرام البسيطة نحو الأعلى والأسفل،
٢٦ بل إن ترجمة كتاب الآثار العلوية ثم التعبير عن مضمونه، بأنه يشمل حديث
الآثار العلوية في العلو والسفل، ويشرح المترجم بأن هاتَين الحركتَين، العلو السفل
بتدبيرٍ من الله سبحانه وتعالى.
٢٧
ويكون السؤال: هل اختيار ترجمة الآثار العلوية وشرحه بتوجيه القرآن في حديثه عن
السماء والرياح والأنهار والأرض والكواكب، ووصف الآثار العلوية والسماء؟ هل هذا
العالم، الآثار العلوية والسماء، عالمٌ وسطٌ بين تناهي الطبيعة ولا تناهي ما بعد
الطبيعة فتفنى أم إلى ما بعد الطبيعة فتبقى، ودوران السماء هو ذاته جمع بين التناهي
واللاتناهي؟ ألا يعني إنكار الخلاء أن الله في كل مكان، وأنه لا يُوجد شيء خارج
السماء، وأنه لا يُوجد شيء لا يحيط به الله ويُسيطِر عليه، وإذا كانت حركةُ ما تحت القمر
مستقيمة وما فوق فلك القمر دائرية، والثانية أشرف من الأولى، أليس هذا تصوُّرًا
دينيًّا لعلاقة العالم بالله؟ وإن اختيار الأثير مادة اللاتناهي والحركة الدائرية
كعنصرٍ خامسٍ أشرف من العناصر الأربعة التي منها يتكون العالم الأرضي. والسماء كروية
أو فلكية، والأفلاك متداخلة ذات مركزٍ واحد، ألا يدل ذلك على صورة اللاتناهي في مقابل
كروية الأرض؟ إن كتاب «الآثار العلوية» تالٍ لكتابي «الطبيعة» و«ما بعد الطبيعة»؛
أي إنه محاولةٌ للربط بين العِلمَين بطريقةٍ طبيعية وميتافيزيقية معًا، كما أن النفس
هو الرباط بطريقةٍ إنسانية. وهو من الموضوعات العلمية التي يمكن مراجعتها علميًّا؛
لأنها موضوعاتٌ مرئية يمكن ملاحظتها وتجربتها. ولا يُوجد تعليق على الآثار العلوية
إلا بِعلمٍ لا بدين أو فلسفة. وهو في حد ذاته رؤية حضارية؛ فالعلم أحد مُكوِّنات الدين
وبواعثه وأسسه.
وفي مرحلة الاحتواء يتم رفضُ كلِّ ما لا يتفق مع العقيدة مثل البخت والمصادفة؛ نظرًا
لتعارض ذلك مع الإرادة والاختيار في الإنسان، ومع القانون والنظام في الطبيعة
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ؛ فالوعي
الإسلامي بطبيعته يقوم بالاعتراض. وقد قام المتكلمون بهذه المهمة والذين جعلوا
الفلسفة فرقةً كلامية ويحيى رأسها. وقد قام يحيى بالرد على نقض أبي هاشم الجبائي
لكلام أرسطو في الآثار العلوية، بأن العِلمَين مختلفان في الرؤية والمنهج. والمصطلح،
الكلام والفلسفة، يكشف عن ثنائية الخطاب الديني والفلسفي، الأول خاص بالمسلمين
والثاني عام لجميع الأمم، الأول خطابٌ ديني إيماني والثاني خطابٌ عقلي منطقي.
٢٨
وكان أرستوكسينوس Aristoxenus ينكر كلَّ ما هو
مفارق؛ فالروح اسم خاوٍ من كل معنى، والطبيعة تُفسِّر كل شيء. وهذا أيضًا يصب في أصحاب
الطبائع لدى متكلمي المعتزلة. وقد تم صب تصوُّرات الوافد في بنية تصوُّرات الموروث، ليس
فقط في العقليات، بل أيضًا في السمعيات خاصة في الأخرويات وأمور المعاد، مثل الحساب
والعقاب، ابتداءً من شرح المفارقة.
وفي «التجربة الطبية» لجالينوس يظهر التصوُّر الديني للعالم للحضارة المُترجَم إليها
حتى ولو كان المترجم نصرانيًّا ينتسب إلى دينٍ آخر، ولكن يشارك في نفس التصوُّر، خلق
الله للعالم وعنايته به، وبدونهما يكون الكفر بالله والجحد بوجوده.
٢٩ وفي «جوامع كتاب النواميس» له أيضًا يخاطب الله الملائكة، كما خاطبهم
القرآن وقال لهم قولًا علميًّا، أنهم مكوَّنون وليسوا غير فاسدِين، ولكنهم لا يفسدون
بمشيئة ربهم وعنايته. وهم وسائط بين الله وبين عالم الحيوان الفاني، ومبلغون لإرادة
ربهم، ولكن خلَق النفس الناطقة مثل الملائكة منذ ابتداء الخِلقة لا تموت، وجعلها خارج
الأمزجة والكون والفساد. وأمرهم الله بالصلاة عليها. وأوَّل ما خلق الله عز وجل
الإنسان خلَق الرأس وجعل فيه دورَين إلهيَّين، النفس والعقل، والملائكة دورٌ واحد هو
العقل. وخلق النفس الناطقة لا تموت، وكساها بدنًا ميتًا. وخلق الله أنواعًا من
النفس الشهوية والغضبية مرتبطًا بها مثل اللذة والغضب، ومزجهما بالحس العديم المنطق
والشهوة المنقصة، فأصبح الجنس قابلًا للموت. وجعل الخالق تبارك وتعالى النفس
الشهوانية في الكبد. وجعل المدبر الإلهي النفس الناطقة سبب سعادة الإنسان، إذا ما
سيطرت على النفس الشهوانية والنفس الغضبية. وخلق الدماغ من مُثلَّثاتٍ مُلسٍ لا عوج فيها؛
نظرًا لأن النوع الإلهي يسكن فيها. وخلَق الله تبارك وتعالى العظام من الأرض أجزاءً
نقيةً مسحوقة، ونخلَها وخلط بها مخًّا أو عجنها، ثم أدخل العجين في النار، ثم أدخله
الماء ثم إلى النار مرةً ثانية، ثم إلى الماء فأصبح غير ذائب؛ لذلك صارت العظام جافة
لا تنثني. وخلق الله الفم لِأمرَين: أحدهما اضطراري في الحياة، وهو الأطعمة والأشربة
واستنشاق الهواء. والثاني لما هو أفضل، وهو النطق. كما جعل الخالق الأظفار للحاجة
الاضطرارية في الحيوان. وخلق الله عز وجل النبات لغذاء الإنسان، وجعل فيه نوعًا
واحدًا من أنواع النفس وهو النباتي (الشهواني). وخلق الله تبارك وتعالى أولًا
الرجل، فمن أخطأ في سيرته وتجاوز العدل واستعمل الجور، خلقت المرأة ثم خلق الله في
الرجل شهوة الجماع، وخلق الأرحام للنساء والمني للرجال ومرض اختناق الأرحام. وجعل
الله الجنس الطائر من الذين عنايتهم مصروفة إلى النظر في الآثار العلوية، والجنس
المشَّاء من الذين جمعوا بين النقيضَين السعادة والشقاء، والجنس الزاحف من الذين لم
يستفيدوا أصلًا من التعاليم، والجنس السابح من الذين هم في غاية الجهل والفضيلة؛
فمراتب الخلق مراتب المعرفة والكمال. وكما حوَّل جالينوس محاورة طيماوس لأفلاطون في
الطب، جعلها المترجم في الخلق.
٣٠
وتظهر بعض التصوُّرات المشتركة في النص الأصلي، والنص المنقول يجعل نقل أحدها إلى
الآخر سهلًا ميسورًا. وذلك مثل النص الأصلي المتعلق باليقين الحادث من الخبر المروري
من الكثير، مثل وجود مصر والإسكندرية، وهو معروف في الحضارة المنقول إليها النص
الأصلي باسم التواتر. ويمكن لحضارتَين مختلفتَين، اليونانية والإسلامية مثلًا، الوصول
إلى نفس الحقائق؛ فالعقل الإنساني واحد، والطبيعة البشرية مطردة. وربما ظهرت وحدة
العقل والطبيعة عند اليونان، ووحدة الوحي والعقل والطبيعة عند المسلمين.
٣١
ولا تعني عملية الاحتواء، إرجاع الوافد إلى الموروث وتمثُّل الموروث للوافد، إرجاع
علوم الحكمة إلى حظيرة الدين، وأن الدين قد احتوى كل شيء، كما هو الحال في الحركة
السفلية القديمة والمعاصرة؛ وبالتالي ينهدم العقل بعد أن تم كسبه وإثباته. إنما هو
ردُّ فعل على الاستشراق وتفريغ الحضارة الإسلامية من مضمونها عن طريق الأثَر والتأثُّر.
ليس الوافد هو الذي أثر في الموروث فأنتجه، بل إن الموروث هو الذي أعاد إنتاج
الوافد، باحتوائه وتمثُّله ووضعه في تصوُّرٍ أعم وأشمل، ووضع العقل وحده في العقل
والنقل.
كان دور العرب في إنشاء النهضة في أوروبا عن طريق الترجمات العقلانية الكاملة،
التي تُعبِّر عن منظورٍ حضاري إسلامي بعد أن تم احتواء التصوُّر اليوناني. ويعترف الوعي
الأوروبي بلا تردُّد بدور التراث الإسلامي في تكوين الوعي الأوروبي في عصر النهضة،
ويعطي الأولوية للعامل الداخلي على العامل الخارجي، للموروث الأوروبي على الوافد
الإسلامي. ثم يعود في المرحلة التالية في الترجمة من اللغات الأوروبية إلى العربية
في القرن الماضي، ويؤكد أثَر الوافد الأوروبي على الثقافة العربية الإسلامية
المعاصرة، منكرًا الإبداع الذاتي ومعطيًا الأولوية للوافد على الموروث. ويدل ذلك
على المعيار المزدوج في الوعي الأوروبي الذي يُطبِّق به فهم الأثَر والتأثُّر. ولا تهمنا
الترجمات اللاتينية والعبرية للنصوص العربية المفقودة؛ لأننا الأَولى بها، إنما تدل
على طبيعة العمليات الحضارية التي تهم الحضارتَين العبرية واللاتينية بالأساس،
وتهمنا نحن بالفرع والمقارنة؛ لنعرف ماذا أسقطَت هذه الترجمات وماذا أضافت؛ فهي
عملياتٌ حضارية سالبة بالنسبة لنا، وموجبةٌ بالنسبة لغيرنا. كما أن تأثير ابن رشد في
اللاتين جزء من دراسة الفكر العربي، للتعرُّف على مصادره، امتداد الحضارة الإسلامية
في غيرها من الحضارات، وأثَر الإنسان في الآخر؛ فقد صارت مشكلة وحدة العقل الفعال
وقِدم العالم عند ابن رشد أهم مشكلة في الفلسفة المدرسية.
٣٢ أمَّا أثَر ثامسطيوس على الشروح العربية واللاتينية، فهي مشكلة أخرى وهي
التراث الغربي، وليس مشكلة التراث القديم، إلا بالمقارنة بين وضع ثامسطيوس عند
الشراح المسلمين، وعند الشراح العبرانيِّين واللاتينيِّين.
(٣) البدايات والنهايات الدينية
بالرغم من أن البسملات والحمدلات عاداتٌ خارجية صِرفة من المترجمِين والنساخ بل
والقراء، إلا أنها تدلي على البيئة الدينية التي يعيش فيها النص؛ فالعمل الحضاري
يتم باسم الله، وإذا تم فالحمد لله. والفكر الجديد ليس طلبًا لغزو أو سيطرة؛ فالعزة
لله. والله هو الواحد الحق الوهاب. والصلاة على الأنبياء والملائكة، والرحمة على
الناسخ أو المترجم أو المعلق. وبعد البسملة الدعوة إلى مزيدٍ من العلم، ففَوْقَ
كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. والمترجمون والنساخ والمعلِّقون والشراح كلهم مشايخ، وليس
فقط رجال الدين؛ فالشيخ هو العالم، لقبٌ يدل على احترام العلماء. وذِكر التاريخ
الهجري لعام الترجمة أو النسخ، يدل على الوعي الحضاري التاريخي الجديد. وبتحليل
مضمون هذه الشعارات الدينية يمكن الكشف عن البواعث الحضارية العامة الجديدة، التي
كانت وراءَ الترجمة والتعليق والشرح؛ مثل الرغبة في المعرفة، والازدياد في العلم،
واحترام القدماء، والدعوة بطول الأجل من أجل التعلُّم والشرح والتلخيص.
٣٣
وقد يتم تخصيص الحمد لله لواهب العقل، فيتم تكييف الجو الديني طبقًا للموضوع، كما
نقول نحن في عصرنا باسم الشعب، باسم الأمة، باسم الحرية.
٣٤
هذه الافتتاحيات الدينية تدُل على الجو الثقافي الديني الجديد العام الذي يتم فيه
تبادل النصوص؛ فالنص للاستعمال وليس مجرد نصٍّ لا بيئة له. وتُوجد هذه الافتتاحيات
الإيمانية سواء كان الموضوع إلهيًّا مثل ما بعد الطبيعة أو النفس أو طبيعيًّا ومنطقيًّا،
٣٥ بل إن الأخطاء اللاإرادية اللاواعية تدُل على اللاوعي في الحضارة الجديدة
مثل كتابة «آلي» على أنه «إلهي»، إذا ما تغيَّرت اللازمة الدينية تم تصحيحها حتى تتفق
مع الإيقاع اللفظي وموسيقى اللغة.
٣٦
وفي المقابل أثناء حركة الترجمة المقابلة من العربية إلى اللاتينية، تم إسقاط هذه
الافتتاحيات الدينية الإسلامية؛ لأنها لا تُعبِّر عن البيئة الثقافية اللاتينية
الجديدة، التي تم نقل النص إليها، وأصبح نصًّا مجردًا أو تضاف إليه افتتاحيات
المسيحية الخاصة بالبيئة الثقافية الجديدة، فإذا غابت البسملة في بداية مقالة، فإنما
يكون ذلك خطأً أو نسيانًا.
٣٧
وتُعطِي الافتتاحيات الدينية الجو الثقافي الديني العام، الذي يُنقل إليه النص
الديني؛ فليست الغاية هو نقل نتاج الآخر، بل تمثُّل الأنا له، وإعادة إنتاجه كتمثُّل
للأنا. ولا تكون هذه الافتتاحيات الدينية في أول الكتاب وحده، بل قد تكون في أوَّل كلٍ
بابٍ وفصل ومقال، كما هو الحال في أثولوجيا أرسطوطاليس في أول كل ميمر.
٣٨ وحتى لو خلا النص المُترجَم من النقل الحضاري، فإنه لا يخلو من البسملات
والحمدلات والصلوات في بدايات الرسائل ونهاياتها، علامةً على البيئة الثقافية
الجديدة وعنوانًا عليها، ولو على نطاقٍ محدود.
٣٩
وبطبيعة الحال تبدأ النصوص الموضوعة على لسان الفارابي من أفلوطين بالافتتاحيات
الدينية، بالحمدلات والبسملات فهو بها أولى.
٤٠ وهناك عباراتٌ إسلامية أخرى مثل «إن شاء الله» داخل النص، تكشف عن أن
الترجمة هي إعادة إنتاجٍ للنص بأكمله من بيئةٍ ثقافية إلى بيئةٍ ثقافية أخرى،
٤١ ويتم الترحُّم على المؤلفِين والشارحِين والمترجمِين والناقلِين كتقليدٍ
إسلامي موروث، حتى ولو كانت المادة المنقولة يونانيةً وافدة.
٤٢
وبالرغم مما قد توحي البسملات والحمدلات والصلوات والتسليمات بأدلةٍ خارجية، إلا
أنها تكشف عن البيئة الدينية التي يتم فيها النقل، تضع النص المنقول في إطاره
الثقافي الجديد، وتبدأ بالبسملة والحمدلة وتدعوه للعصمة من الزلل في الفكر والعمل؛
فالنص مُوجِّه للتصوُّر والسلوك، للنظر وللعمل،
٤٣ والدعاء للمُترجِم برفع المنزلة يدُل على رتبته في العلم، وشأنه الرفيع في
مجتمعه، والترحُّم عليه، والدعوة له بالعزة والرضى وطول العمر والبقاء، مع تحديد خط
الناسخ، والتعرُّف على صاحبه، والترحُّم عليه، والدعاء له برفع درجاته، وإلحاقه بالأبرار
الصالحين والأخيار الطاهرين، والدعوة له، والترحُّم عليه، وطلب الرضى له، لا فرق في ذلك
بين مسلمٍ ونصراني، كلهم مشايخ الأمة لهم الرحمة بصرف النظر عن ملتهم.
٤٤ وسواءٌ كانت هذه الإضافات من الناقل أو الناسخ أو القارئ، فهي تدُل في كل
الحالات على الجو الثقافي العام وطابعه الديني؛ فالنص موقفٌ حضاري شعوري قبل أن يكون
حاملًا لفكر. ولا يُقال إن ذلك إعلانٌ عن عقائدَ شخصية أو عادةٍ اجتماعية لا شأن لها
بالنص، بل تُعبِّر عن الحالة الذهنية والشعورية للمتفاعل مع النص، ناقلًا وناسخًا
وقارئًا ومالكًا. وسواءٌ كانت هذه العبارات الدينية من عصر المترجم أو الناسخ الأول
أو الثاني، فإنها تدل على البيئة الثقافية والجو الحضاري العام، بل إن وجودها في
عصر الناسخ أكثر دلالة؛ لأن النسخ قديم في هذا الجو الديني الثقافي العام، ونسبة
هذه المُقدِّمات والنهايات الدينية في الترجمة قليلة، وتزيد شيئًا فشيئًا انتقالًا من
الشرح إلى التلخيص إلى الجوامع، حتى تتأكد في العرض والتأليف والإبداع. ويستعمل
المترجم هذه العبارات الدينية الإسلامية النمطية لتعظيم الله، حتى بالرغم من كونه
مسيحيًّا بعد أن أصبح الإسلام ثقافته الوطنية.
٤٥ ومع ذلك يمكن شرح النص مستعملًا ثقافته الدينية الخاصة، توكيدًا
العقيدة التثليث المسيحية، بل إنه ينقل النص في ترجمته قبل شرحه، ويقرؤه قراءةً
مسيحية، فإذا ما ذكر أرسطو أن الأقسام مثلًا تذكر باسم ثلاثة آلهة؛ ففي هوميروس
قسم زيوس وأثينية وأبولون، قرأ المترجم هذا القسم بأنه باسم الأقانيم الثلاثة، فهل
كان هناك مشروع تأويلٍ مسيحي سابق على مشروع القراءة الإسلامية؟ يغيب الدين الباشر
في الشروح من المترجمين النصارى، كما يغيب النقل على الداخل، ومع ذلك يتم النقل على
أساس التوحيد العقلي والبيئة الداخلية الثقافية العقلية. ويكون السؤال: هل الغرض من
الشرح على أيدي الشراح النصارى الإعداد لمشروعٍ مسيحي خاص، أو المشاركة في المشروع
الإسلامي القومي العام؟ وكما تُعبِّر البدايات عن الجو الديني تُعبِّر النهايات أيضًا
عن
نفس البيئة الثقافية. وكما يبدأ النص بالبسملة كذلك ينتهي بالحمدلة، الحمد لله على
إنعامه، ولله حق حمده، والحمد لله وحده، والحمد لله ولي العدل وواهب العقل، ذي الجود
والحكمة والعدل. كما تظهر الألفاظ الفلسفية مثل الحكمة والعقل والسرمدية،
٤٦ ويرتبط العمل أيضًا بالمشيئة الإلهية طبقًا للثقافة الدينية الشعبية.
٤٧ وقد تُزاد على البسملة الحمدلة والاستعانة بالله.
٤٨ وقد يُزاد اسم المترجم والدعوة له ويأخذ ألقابه الشيخ الفاضل، ويتم
الترحُّم عليه ويحيى بن عدي أكثر المُترجمِين استحقاقًا للقب.
٤٩ وأحيانًا يكون الاكتفاء بالشيخ قال الشيخ، وهو ما سيحدث في التأليف
بالإشارة إلى الأستاذ أو المعلِّم الثاني، أو قاضي القضاة أو الشيخ الرئيس أو إمام الحرمين.
٥٠ وأحيانًا يكون الشيخ رضي الله عنه، وأحيانًا تختفي المقدمات الدينية
بعد أن تم التذكير بها، أو لوجود وصلٍ بين نهاية المقالة السابقة وأول المقالة اللاحقة.
٥١
وكما تُوجد فواتيحُ دينية، هناك أيضًا خواتيمُ دينية، من المترجم أو الناسخ أو القارئ.
٥٢ ولا فَرقَ في ذلك بين المسيحية أو الإسلام كدينٍ للناقل أو الناسخ أو
القارئ. ولا يتعلق الأمر بنصوصِ أرسطو وحده، بل بكل النصوص اليونانية المترجمة.
٥٣ وقد تكون هذه الخواتيم آخر كلِّ بابٍ أو فصلٍ أو مقالٍ أو ميمرٍ كما هو الحال
في نهاية الميمر الأول لأثولوجيا أرسطاطاليس. وبطبيعة الحال أيضًا تنتهي الرسالة
الموضوعة على لسان الفارابي من تاسوعات أفلوطين بالحمد لله، فالشيخ الإسلامي أولى
بها من الشيخ اليوناني.
٥٤ كما تتم أيضًا بإحالة العلم الحق إلى الله، فالله أعلم بالصواب،
٥٥ كما يتم الترحم على المؤلف ودعوة الله التوفيق في حسن الفهم. وتدُل
البدايات والنهايات الدينية على البيئة الثقافية الإسلامية، والسياق الحضاري الذي
تتم فيه الترجمة، سواءٌ كانت من المترجم أو من الناسخ وربما من القارئ.
٥٦
لم تكن الترجمة مجرد نقلٍ لتراث السابقِين، بل وضعها في سياقٍ حضاري مختلف، ويتضح
ذلك من «مقدمة كتاب الحشائش والأدوية لديسقوريدس»، ترجمة مهران بن منصور بن مهران؛
٥٧ فبعد البسملة والاستعانة بالله، يُقدِّم المترجم النص مستفتحًا بآيةٍ
قرآنية مرسلة، وبحديثٍ مرسل عن الجمع بين الداء والدواء، وأن الله هو الشافي
والمُقدِّر والمُنعِم. وبعدها تتم الدعوة إلى السلطان بنفس صفات الله، المنعم، الخير،
القادر. وتنتهي المقدمة بالإيمانيات، ثم يبدأ الكتاب بالبسملة. ويكون المدح أيضًا
لأقارب الأمير والاعتماد على المشيئة. واللجوء إلى عون الله مستمر حتى في وسط
الكتاب.