أولًا: الخصوصية اللغوية (العربية واليونانية)
يمكن عرض المصطلح الفلسفي بطريقتين: الأولى تتبع نصوص المصطلحات منذ الترجمات الأولى
حتى الشروح الأخيرة، بالإضافة إلى تحليل قواميس المصطلحات منذ الكندي حتى القواميس
المعاصرة، أسوةً بفصل التاريخ، وبالرغم من أهمية هذه الطريقة للتعرُّف على نشأة المصطلح
الفلسفي وتطوره، إلا أنها تُغفِل إشكاليات الترجمة العرضية، التي تخترق كل النصوص
الطولية. والثانية عرض الإشكاليات الرئيسية للمصطلح الفلسفي: الخصوصية اللغوية، الترجمة
والمصطلح، التعريب والترجمة، نشأة المصطلح وتطوره، اللغة المتوسطة، المصطلحات
الإسلامية. وهي تضم الطريقة الأولى في إشكالية نشأة المصطلح وتطوُّره.
ولفظ المصطلح أفضل من لفظ المفهوم؛ لأن المصطلح يتعلق باللفظ كتقنية للفكر، في حين
أن
المفهوم يتعلق بالمعنى، ويجمعها التصوُّر.
وهناك إحساس عند المترجمين بخصوصية اللغات؛ فاللغة اليونانية غير اللغة العربية؛
فالمعاش في الترجمة هو السيرة في اليونانية.
١ اللغة لا تكون إلا خاصة، ولا تُوجد لغةٌ عامة. العموم للمعنى وليس للفظ؛
وبالتالي كل ترجمةٍ هو نقلُ المعنى العام من لغةٍ خاصة منقول منها إلى لغةٍ خاصة أخرى
منقول إليها. هناك إدراكٌ واعٍ بمحلية المصطلحات داخل النص، والإشارة إلى طبيعة اللغة
اليونانية في التأنيث والتذكير، وشرح الكمِّ والكيفِ بالأمثلة وشرح اللغة العربية، الفعل
والفاعل.
٢ كل لغةٍ محليةٌ بالضرورة سواء في اللفظ أو في التراكيب.
٣ وقد يرجع مسار الفكر إلى محلية النص اليوناني وأمثلته المستقاة من الثقافة اليونانية.
٤ ومن مهام التعليق إبرازُ المحلية اللغوية، وربط الفكر بلغته حتى لا يأخذ هذا
الشمول الذي نعطيه نحن الآن الفكر الغربي، عندما ننزعه من حضارته ونجعله ممثلًا لكل
حضارة؛ وبالتالي يتحقيق هدف أجهزة الإعلام وسيطرتها. محلية اللغة والاستعمال معروفة من
علم أصول الفقه، وارتباط المنطق باللسان منذ الشافعي.
٥ وهذه الخصائص مستخلصة من البيئة والتجربة ونظرية السابقين، ومن اللغة؛ أي
اشتقاقًا واصطلاحًا وعرفًا.
٦ وبالرغم من اختلاف الألفاظ والمعاني في اللغات، إلا أن الموضوعات واحدة مثل
العقل والنفس والتخيُّل. كما نؤلف نحن في موضوعات الحرية والتقدُّم كألفاظٍ مشتركة بين
ثقافتنا المعاصرة والفلسفة الغربية.
وفي مقابل اللغة اليونانية وخصائصها تظهر اللغة العربية وخصائصها، ويظهر التمايُز
بين
الثقافتين اليونانية والإسلامية في تمايُز اللغتين اليونانية والعربية، مثل استعمال
زيد
وعمرو للدلالة على الشخص المجهول لضرب المثل، مثل بروسن في اليونانية أو بطرس وبولس في
اللغات الأوروبية الحديثة.
٧
وهناك أيضًا الإحساس بخصوصية الأسلوب العربي.
٨ كما يظهر أسلوب الحوار قال … قلت، وأسلوب الاعتراض وتخيُّل الاعتراض والرد
مسبقًا، حتى يتم تجاوز المعارض العقلي.
٩ وقد يبدو الأسلوب في الحوار، أرسطو يسأل والشارح يجيب؛ فأرسطو هو التلميذ
والشارح هو الأستاذ، أرسطو هو الذي يثير الإشكال والشارح هو الذي يحله له، أرسطو هو
الحائر والشارح هو الذي يعطيه اليقين.
١٠ وقد يتم الشرح بالتساؤل والاستعجاب؛ فالشرح ليس مجرد وضعٍ بل هو تساؤل،
وفكرنا شيءٌ نابع مخلوق، فكر يتموضع وليس مذهبًا جاهزًا،
١١ «فإن قال قائل: … يُقال»، حتى يتم الرد على الاعتراضات الممكنة سلفًا. ويتم
أيضًا تلخيص الموضوع كله في أول الكتاب، كما هو الحال في التأليف الإسلامي بعرض الأبواب
والفصول، أشبه بالفهرس الحديث.
وقد ينتقل الأمر من مجرد اللغة والمصطلحات إلى العادات والتقاليد والأعراف،
١٢ وفي الترجمة العربية لكتاب «النبات» لأرسطو إشارة إلى الصمغ العربي، فهل هي
من أرسطو أم من نيقولاوس أو من المترجم؟ وهل عرف اليونان الصمغ العربي، أم إنها ترجمة
تأخذ بعين الاعتبار البيئة النباتية العربية الخاصة، المخالفة للبيئة النباتية
اليونانية؟ وما أَبعدَ الشُّقَّة بين شبه الجزيرة العربية وجزر بحر إيجه!
١٣ كما أن التصورات الإلهية تختلف من شعبه إلى شعب.
١٤
وقد ينتقل الأمر من مستوى اللغة إلى مستوى المصطلحات والألفاظ والأمثلة التي تُعبِّر
عن
الثقافة العربية؛ فمثلًا تُترجَم المصارعة في الألعاب بالجهاد.
١٥ وهناك أمثلة من الثقافة العربية عن المَنيِّ والتولُّد فلا حياء في الدين.
١٦ وهناك أمثلةٌ أخرى من البيئة العربية.
١٧ وكثيرٌ من الأسماء الخرافية اليونانية تتم ترجمتها عن طريق مقابلها العربي
بعنز أيل وعنقاء مغرب. ويشير ابن رشد إلى الأول وابن عربي إلى الثاني.
ويمكن للمُحدَثين إضافة أمثلةٍ جديدة على خصوصية اللغات، سواءٌ في بناء الجملة أو
أنواعها
وضروب الكلام، أو في تعريف الأفعال أو في حركات الإعراب، وفي الرابطة بين الموضوع
والمحمول في القضية؛ أي المبتدأ والخبر في الجملة الاسمية، بل يمكن تقسيم اللغات إلى
مجموعات، كما هو حادث في علم اللغة في العرب، لغاتٍ سامية ولغاتٍ آرية، والعربية
والسريانية من مجموع اللغات السامية، في حين أن اللغة اليونانية من اللغات الهندية
الأوروبية، ولكن يكفي الاعتماد على مادة القدماء وملاحظاتهم، وتصديق الحكم في اللغويات
المقارنة من الباحثِين المحدَثين.
وهناك إحساسٌ بالتمايز بين النصَّين كموقفَين حضاريَّين مختلفَين بين الأنا والآخر،
ابتداء
من التمايُز اللغوي بين اليونانية والعربية؛ إذ يتحدث المترجم عن شيءٍ يُسمَّى باليونانية
كذا، وأرسطو اليوناني لا يقول ذلك.
١٨ وقد يُعبِّر المؤلف عن لغته بضمير المتكلم الجمع «لغتنا»؛ إحساسًا منه بأنه
يُؤلِّف في لغةٍ خاصة بمصطلحاتٍ خاصة.
١٩ وقد يُذكر صفة اليونانية للأسماء «يُسمَّى باليونانية» عشرات المرات في النص
اليوناني؛ إحساسًا بأهمية اللسان الخاص في النص الأصلي؛ مما يجعل نقله إلى اللسان
العربي نقلًا من لسانٍ إلى لسان، ومن ثقافة إلى ثقافة.
٢٠ وما يتم من اللغة العربية في علاقاتها باليونانية، يتم أيضًا مع اللغة
العبرية؛ فلكلِّ لغةٍ بنيتها وثقافتها، ولكل ترجمةٍ أهدافها داخل حضارتها؛ فالترجمة العبرية
ليست حكمًا في حالة الاختلاف بين الترجمة العربية والنص اليوناني. كما أن الترجمة
العربية الحديثة ليست مقياسًا لصواب أو خطأ الترجمات القديمة، عربية أو عبرية لاختلاف
اللحظتَين التاريخيتَين، بالإضافة إلى الموقفَين الحضاريَّين المتمايزَين.
٢١