ثانيًا: الترجمة والمصطلح
ونظرًا للاختلاف بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية تختلف المصطلحات. في الترجمة
الحرفية تكون المصطلحات حرفية، أقرب إلى اللفظ منها إلى المعنى، وفي الترجمة المعنوية
تكون المصطلحات معنوية، أقرب إلى المعنى منها إلى اللفظ. وهذا هو السبب في عدم استقرار
المصطلحات، فإذا نقل المترجم حرفيًّا عِيب عليه حرفيته، وإذا ترجم معنويًّا عيب عليه
تصرُّفه، وكأن المترجم العربي متهم في كلتا الحالتَين؛ ومن ثَمَّ فالحكم على الترجمة
العربية
بأنها هُراءٌ لا معنى له، إغفالٌ لدور الترجمة باعتبارها نقلًا حضاريًّا، وإعادة كتابة
النص من بيئةٍ ثقافية إلى بيئةٍ ثقافية أخرى.١
وقد تكون هناك مراجعاتٌ مستمرة للترجمتَين معًا، الحرفية والمعنوية، إصلاحًا وتحسينًا
وإتقانًا، انتقالًا إلى المراحل التالية، الشرح والتلخيص والجوامع، ثُمَّ إلى المرحلة
الثالثة العرض والتأليف. ولا تُوجد قاعدةٌ واحدة ولا منطقٌ واحد لترجمة المصطلحات يمكن
الاحتكام إليه.٢
ولم يخطئ المترجم العربي حين جعل الصفر للَّحن والمزامير للنغم، بل خصَّص لكل لفظ
شيئًا
من النغم في المزامير والوزن في الرقص والمحاكاة في اللفظ؛ أي الأقاويل المخيلة غير الموزونة.٣ ولم يخطئ أيضًا في ترجمته Dusmemo بالنافع؛
لأن الفعل وجميع مشتقاته تشير إلى شيءٍ ما حلو؛ فلا فرق بين النافع والحلو والحسن
والجميل. ولم يخطئ المترجم في نقل كلمة apongelia
بالمواعيد، وهي تشير إلى السرد لأنه كان يترجم حرفيًّا. وإذا كان الناقل قد ترجم
O tes ophews Kosmos بجمال الوجه والعبارة تعني
المناظر المسرحية، وقد تشمل ملابس الممثلين وزينتهم، ليس لأن المترجم غير يوناني لا
يعرف الثقافة المسرحية اليونانية. ولم تكن هناك كتب عن تاريخ المسرح اليوناني، ولا
قواميس كما هو الحال عند المترجم الحديث، بل لأنه يعطي المعنى الجزئي الدال، وليس
المعنى الكلي طبقًا لمنطق إعادة كتابة النص. ولم يخطئ المترجم العربي في نقله كلمة
Teratwdes بالتعجب؛ لأنها تعني الرعب والفزع كما هو
الحال في الترجمة الأوروبية الحديثة؛ لأن الموقفَين الحضاريَّين للمُترجمَين العربي والأوروبي
مختلفان. كذلك لم يخطئ المترجم العربي في ترجمة Eleein
ينبهر، وهي تعني يُشفِق طبقًا للترجمة الأوروبية الحديثة؛ فمعاني القواميس الحديثة ليست
مقياسًا للنقل الحضاري القديم.
لا تُوجد إذن أخطاء في الترجمة بل فقط الخلاف بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية،
بين ترجماتٍ متعددة لإصلاح الترجمات الأولى. الترجمة خارج منطق الصواب والخطأ. الترجمة
ليست مطابقة لفظٍ بلفظ؛ فكل لفظ في لغته له مدلوله الخاصة، ويثير في ذهن المترجم غيرَ
ما
يثيره في ذهنِ مترجمٍ آخر؛ لذلك استحالت ترجمة القرآن. لم يخطئ المترجم العربي إذن في
ترجمة Mythos الأسمار والأشعار، كما أن ترجمة الطرغوديا
والقوموذيا بالمديح والهجاء حُسنُ تصرُّف، وليس خطأ فاحشًا كانت له آثارٌ وبيلة. ليس
المقصود
أنهما يعنيان نفس المعنيَين عند العرب، ولكن النقل الحضاري بالرغم من اختلاف المعنى أفضل
تعريب الفارابي وابن سينا؛ إذ يؤدي ذلك إلى إدخال ألفاظٍ أعجمية على اللغة. كما يكشف
عن
العجز في النقل الحضاري، ويخلق بؤرًا ثقافية منعزلة تُحدث انشقاقًا في الثقافة بين وافدٍ
وموروث. لم يخلط أحد بين المحاكاة الأرسطية والتمثيل والتشبيه عند العرب فالمعنى الكلي
واحد، وهذا هو النقل الحضاري. الفروق الدقيقة ترجمةٌ أوروبية حديثة حرفية وضعية قاموسية،
وليست نقلًا حضاريًّا.٤
إن سؤال هل أخطأ المترجم سؤال خاطئ؛ لأنه يقوم على نظرية المطابقة في حين أن الترجمة
نقلٌ حضاري تُعبِّر عن قصدَين حضاريَّين مختلفَين ومستويَين ثقافيَّين مختلفَين، ولغتَين
مختلفتَين في
البنية والتركيب. لم يخطئ المترجم الذي ربط بين جملةٍ وجملة؛ لأنه يربط بين الجُمل من
أجل إيصال المعنى.٥ ليست وظيفة المترجم النقل الحرفي، بل إعادة بناء العبارة حتى يستقيم المعنى؛
فاللفظ وسيلة والمعنى غاية، فإذا كان النص اليوناني يشير إلى ما يقوله أوميروس في بيان
خيريةِ أخيل، وسقط الاسم وتحوَّل إلى اسمٍ آخر أجاثون ثم سقط، فإن الأسماء لا تهم بل
المعنى
وهو الخيرية. ليس المترجم العربي متقدمًا لامتحان في الترجمة، أو لجائزةٍ أو حريصًا على
النص الأجنبي لخدمته أو مؤرخًا، بل هو مُفسِّر وشارح ومُلخِّص وقارئٌ ابتداءً. ولم يخطئ
المترجم
العربي في نقل الجزء الأخير من النص اليوناني وربطه مع النص التالي؛ لأن المقصود بيانُ
اتصال المعنى وليس العبارات المنفصلة، إيجاد المعنى الكلي بعد المعاني الجزئية، وإيصال
الرسالة واضحةً ومفهومةً إلى القارئ؛ فالترجمة وسيلة وليست غاية، هدف وليست مجرد إبراءِ
ذمة، رسالة وليست حرفة.
وقد يخالف المترجم العربي ما يقوله أرسطو في تقطيع الحروف، حتى ولو اتفق ذلك مع
القاموس الحديث؛ فعلم الأصوات العربي هو أساس تحديد المقاطع اليونانية؛ لذلك كثُرت
الإشارة إلى لغة اليونانيِّين.٦ وقد يعترض المترجم على أرسطو؛ فأرسطو بالرغم من أنه إلهي إلا أنه ليس
إلهًا، فإذا قال أرسطو إن الأسلوب الصحيح، يصبح جزلًا بعيدًا عن السخف، إذا استخدم
الشاعر تعبيراتٍ غير مألوفة، وهو يرنو إلى الألفاظ الغريبة والاستعارات وما أشبه، وإن
بالغ في ذلك أصبح كلامه كالألغاز أو شبه لغة البرابرة، فليس في ذلك خروجٌ عليه؛
فالمترجم ليس ناقلًا القُذَّة بالقُذة، بل هو محاور للنص، مُؤوِّل له، معيدٌ إنتاجه بما
يتفق مع
ذوق الشعر العربي عند المترجِم والمترجَم إليه.
ولم يكن هناك أدنى حرجٍ عند المترجم العربي في نقلِ نصوص، تتحدث عن تعدُّد الآلهة
كما هو
الحال في ترجمة متى بن يونس لكتاب الشعر، وبلا تصرُّف كما يفعل حنين ابن إسحاق؛ حرصًا
على
الثقافة التي يترجم إليها؛ فكل شيءٍ يُسلَّم إلى الآلهة يُرى ويُبصر. أمَّا ما هو خارجٌ
عن النطق
فلا ينبغي أن يكون في الأمور. تعني الآلهة هنا الإدراك الإنساني، وما هو داخل في حدود
المعرفة. وكانت السُّنة في هذا البلد أن يُضحَّى لله ضحايا من البشر، وهو سبب الفداء
إنقاذًا
لإسماعيل. وهناك من يتضرع لرب السموات، بل إن المترجم قد يضيف الآلهة من عنده، وكأنها
عَبقر الشعر، وتُلهم «الأفى» في المديح دون أن يكون في ذلك «تحريفٌ فاحش»؛ فالله على
لسان
المترجم كأداة للتمييز، كما هو الحال في استعمالاته في اللغة في الحياة اليومية.٧
وقد أدرك المؤرخون أيضًا الفرق بين الأسماء والمسميات. ويضرب البيروني المثل باسم
الله في اللغات وترجمته من لغةٍ إلى أخرى والمُسمَّى واحد. وربما تحل مشكلة العقائد
والخلاف حولها لغويًّا خاصة قضية التثليث. يختص الله بهذا الاسم وحده دون غيره مثل الرب
في العبرية. كما يشير إلى منطق الترجمة من لغةٍ إلى أخرى عن طريق الاشتقاق.٨
١
هناك على الأقل ترجماتٌ لكتاب الشعر ليحيى بن عدي وإبراهيم بن عبد الله،
بالإضافة إلى ترجمة إسحاق بن حنين من اليونانية إلى السريانية (كتاب الشعر،
ص٧٣).
٢
لم تكن ترجمة يحيى بن عدي لكتاب الشعر ترجمة، بل مراجعة وإصلاح لترجمة أستاذه
متى، كما فعل في الكون والفساد.
٣
السابق، ص٦٠-٦١، ٧٦.
٤
السابق، ص١٧، ٥٧.
٥
السابق، ص١٠٣، ١٣٤.
٦
السابق، ص١٣٥، ١٤٣.
٧
فن الشعر، بدوي، ص١١٦، ١٢٠، ١٢٩، ١٣٧.
٨
«ولكن من الألفاظ ما يُسمح في دين دون دين، ويُسمح به في لغة وتأباه أخرى.
ومنها لفظة التألُّه في دين الإسلام فإنا إذا اعتبرناها في لغة العرب وجدنا جميع
الأسامي التي سُمِّي بها الحقُّ المحض متجهةً على غيره بوجهٍ ما سوى اسم الله؛ فإنه
يختص به اختصاصًا قيل له إنه اسم الأعظم. وإذا تأملناه في العبرية والسريانية
اللتَين بهما الكتب المنزلة قبل القرآن وجدنا الرب في التوراة وما بعدها من كتب
الأنبياء المحدودة في جملتها موازيًا لله في العربي غير منطلق على أحد بإضافة
كرب البيت ورب المال. ووجدنا الإله فيها موازيًا للرب في العربي» (البيروني، ص٢٧).
وذاكر من الأسماء والمواضعات في لغتهم ما لا بُد من ذكره مرةً واحدة يوجبها
التعريف، ثم إن كان مشتقًّا يمكن تحويله في العربية إلى مضادٍّ لم أَمِل عنه إلى
غيره إلا أن يكون بالهندية أخفَّ في الاستعمال (ص١٩).