خامسًا: طرق الترجمة
وتتم الترجمة بأربعِ طُرق: الأولى استبدال لفظٍ بلفظٍ مشابه لتغييره إلى لفظٍ أفضل.
الثانية تغيير لفظ إلى عبارةٍ شارحةٍ لأن اللفظ الفرد المنقول إليه يُعبِّر عن كل المعاني
المُتضمَّنة في اللفظ المنقول منه. والثالثة تغيير استبدال عبارةٍ شارحة إلى لفظ؛ وذلك
لأن
المنقولَ إليه أكثرُ تركيزًا وقدرةً على التعبير المختصر من العبارة المنقول منها.
والرابعة استبدال قولٍ بقولٍ مشابه في الطول والقِصر؛ فاللغتان المنقول منها والمنقول
إليها تتساويان من حيث القدرة على التعبير في الإسهاب والتركيز. ولا يعني التعليق
بالنسبة للترجمة القول الفصل والحد النهائي، بل قد يعني الاحتمال والترجيح والظن
والتردُّد بين مُصطلحَين، تعبيرًا عن الأمانة العلمية والرغبة في الاجتهاد، إن كان خطأً
فللمترجم أجرٌ وإن كان صوابًا فله أجران.
ويمكن القيام بعدة مقابلاتٍ عمودية بين ألفاظ الترجمة وألفاظ التعليق لمعرفة كيف ينشأ
المصطلح الفلسفي. وهو مجردُ نماذجَ دالَّةٍ من الترجمات العربية القديمة لمنطق أرسطو،
أرفع
مستوًى للعلم، والتعليقات عليها المذكورة في هوامشها كجهازٍ نقدي. ويمكن تعميمها على
باقي
الترجمات للطبيعة والنفس والأخلاق، ولباقي النصوص اليونانية للشراح أو لغير أرسطو من
الفلاسفة. ولا تعطي هذه النماذج إحصاءً شاملًا، بل يكفي في ذلك الاستقراء المعنوي الذي
يبدأ بالكمِّ إلى حد ظهور الكيف؛ فهو نوعٌ من الاستقراء الناقص الذي يفيد الاستقراء التام
طبقًا لمبدأ الإطراد.
وقد يكون القلق بدايةً من الترجمة ذاتها التي لم تستقرَّ على شكل اللفظ وإن استقرَّت
على
المصطلح؛ فأنواع الحُجج مثلًا تعليمية أو من جنسٍ تعليمي، وجدلية أو من جنسٍ جدلي،
وممتحنية أو امتحانية من جنسٍ امتحاني. وقد يتغير اللفظ نفسه؛ فالحُجج إما التعليمية
أو
البرهانية، في الممتحنية أو المماحكة. هناك ترجماتٌ عدة يتم اختيار أفضلها وأقربها
احتمالًا. والاختلاف الكبير بين الترجمات يدل على أن كل ترجمةٍ شرح وفهم المعنى.
١
وهناك أمثلةٌ عدة للانتقال من لفظ المترجِم إلى لفظ المُعلِّق البديل. وتدُل جميعًا
على
تطوُّر المصطلح الفلسفي نحو مزيدٍ من الإحكام.
٢ ويتمُّ أحيانًا على مرحلتَين لفظ المترجِم في مقابل لفظَين للمُعلِّق، ثم قسمة هذَين
اللفظَين اثنَين، واحد للترجمة وواحد للتعليق مثل الإبطال في الترجمة إلى النفي والفسخ
في
التعليق، ثم الفسخ في الترجمة إلى النفي في التعليق، وكذلك المكروه في الترجمة والصعوبة
والنصب في التعليق، والفقه في الترجمة ثم الفهم (أثانس) والفهم (إسحاق) في التعليق.
وقد
يؤدي الخلاف في اللغة إلى نشأة المصطلحات؛ فالإمكان قد يعني القدرة أو القوة.
٣ وإن إيجاد البدائل في الألفاظ هو أيضًا بدايةٌ لنشأة المصطلحات. ويتكرر
الأمر أكثر من مرة. والرأي هو البيان والظن،
٤ والشُّكاك هم الذين يلزمون الحَيرة؛ فالحَيرة لفظٌ عادي من اللغة يتحول إلى شكٍّ
كلفظٍ إصلاحي.
٥
وأحيانًا تتم الإشارة إلى أن السبب في نقل اللفظ من الترجمة إلى التعليق، هو تحويل
الألفاظ العادية إلى مصطلحاتٍ فنية؛ مثل تحويل لفظ الأخص في الترجمة إلى لفظ الأشرف
كلفظٍ مصطلح. وقد يتم تغيير نفس اللفظ المترجم أكثر من مرة إلى ألفاظٍ من التعليق، مثل
تغيير لفظ الإبطال مرةً إلى النفي أو النسخ ومرةً إلى النقض، ولفظ خير إلى لفظ أجود مرة
ونافع مرةً ثانية. وقد يتغير شكل اللفظ المترجم من اسمٍ مثل خير إلى أفعل تفضيلٍ مثل
أجود، وموافق إلى أنفع. وقد يتم تغيير اللفظ المترجم إلى لفظ التعليق، ثم يعود لفظ
التعليق ليصبح هو نفسه اللفظ المترجَم؛ فلفظ الموضوع المترجَم يصبح لفظ الموصوف في
التعليق، ولفظ الموصوف في المترجَم، يصبح لفظ الموضوع في التعليق. ولفظ المجاهدة المترجَم
والمحاورة في التعليق، يصبح لفظ المحاورة المُترجَم والمجاهدة في التعليق، ولفظ المناقضة
المترجَم والمعاندة في التعليق، يصبح لفظ المعاندة المترجم والمناقضة في التعليق. وقد
يكون اللفظ المترجم هو نفسه لفظ التعليق ولكن ليس على التبادُل؛ فالإبطال المترجَم هو
لفظًا النفي أو الفسخ، وهو لفظ التعليق للفظ الرفع المترجم. وكثيرًا ما يكون الفرق بين
لفظ الترجمة ولفظ التعليق، هو الفرق بين العموم والخصوص؛ مثل لفظ المنطقية في الترجمة
يصبح لفظ الجدلية في التعليق، والقول في الترجمة يصبح القياس في التعليق، انتقالًا من
العموم إلى الخصوص. وقد يكون انتقالًا من الخصوص إلى العموم، من القياسات في الترجمة
إلى الأقاويل في التعليق. ولا يكون التغيير اللفظي فقط في الأسماء، بل يكون أيضًا في
الأفعال؛ مثل يناقض في الترجمة ويغالط في التعليق، يحل في الترجمة وينقص في التعليق،
ويتكلم في الترجمة ويسأل في التعليق.
ومن مظاهر الانتقال من الخصوص إلى العموم إسقاط أسماء الأعلام مثل أوميروس الواردة
في
الترجمة، وتحويلها في التعليق إلى شيءٍ ما أو شاعر، ومن نوع في الترجمة إلى نوعٍ من
أنواع في التعليق، ومن الإيجاب والسلب في الترجمة إلى التناقُض في التعليق.
٦
وفي استبدال لفظٍ بلفظ تبدأ المصطلحات من اللغة العادية؛ فالاستقراء كمصطلح يبدأ
لغويًّا بلفظٍ عادي هو التقاط؛ أي أخذ من الأرض، في الأصل التقاء وفي الهامش استقراء.
٧ وأحيانًا لا يظهر الفرق المُميِّز بين لفظ الأصل ولفظ التعليق، مثل الضروري في
الأصل والاضطراري في التعليق، إلا من حيث بدايةِ استقرار المصطلحات واختيارِ أحدهما
لعلم المنطق والآخر لعلم الطبيعة.
٨ والواجب في الأصل والضروري في التعليق،
٩ وكذلك ألفاظ القبول والرفض، الحسن والقبح، الاستحسان والاستهجان كلُّها تدُل
على موقفٍ ذهنيٍّ واحد، الإثبات والنفي. ويتوقف الاختيار بينها على طبيعة العلم: هل هو
المنطق أم الأخلاق أو الجمال؟ وقد يكون شرح لفظٍ بلفظ لتعريف الشيء وحده أو لتوضيح
المعنى والبداية ﺑ «يعني»،
١٠ بل ويقوم التعليق بشرح تركيب العبارة كلها في حالةِ تبديلِ لفظٍ مكانَ آخر،
١١ في النص اليوناني في البط وفي التعليق العلاج. والبط من ربط الجرح، يبطه
شقه؛ أي إجراء عمليةٍ جراحية من بترٍ وغيره.
١٢ الهدف إظهار المضمر وعدم الاكتفاء بالإشارة إليه بضمير؛ فالأمران في النص
هما في التعليق الإثبات والإبطال.
١٣ وقد تتحوَّل اللغة العادية أيضًا من لفظٍ حرفي إلى لفظٍ معنوي، دون أن يرقى
إلى مستوى المصطلح مثل تحوُّل أنالوطيقا في الأصل، إلى أنالوطيقا الثانية في التعليق.
١٤
والطريقة الثانية أن يتحوَّل قولُ شارح في الترجمة إلى لفظٍ في التعليق، الترجمة
هنا
إسهاب والتعليق تركيز؛ فالزمان للماضي في الترجمة تذكر في التعليق، والزمان الحاضر
والمستقبل في الترجمة تعلم في التعليق، وتبكيت السوفسطائيِّين في الترجمة توبيخ في
التعليق. وعادةً ما يكون التركيز عن طريق تحويل العبارة المنفية إلى لفظٍ مُثبَت، مثل
اللاعدالة في الترجمة تصبح الجور في التعليق، وقلة الأذى في الترجمة تصبح النعم في
التعليق، وعدم المعرفة في الترجمة تصبح الجهل في التعليق.
١٥
والطريقة الثالثة عكس الثانية أن يتحول اللفظ في الترجمة إلى قولٍ شارح في التعليق،
وهو الأقل استعمالًا. الأمثلة إلى ذلك كثيرة؛ فلفظ سوفسطيقا هو «تبكيت السوفسطائية» وهو
«التظاهر بالحكمة» وهو «التبصير بمغالطة السوفسطائية» زيادةً في لفظ التبصير؛ أي التركيز
على الغاية والوجهة والوظيفة؛ فالخلاف في اللفظ والمترجم يدُل على بداية تخلُّق المعنى
واستقلاله، من أجل التعبير عنه في مصطلحٍ فلسفي عربي نهائي ومحدد. كل ترجمةٍ تُظهر أحد
جوانب المعنى حتى يأتي مصطلحٌ واحد يجمع هذه الجوانب كلها. وغالبًا ما يكون الهدف من
ذلك
هو التوضيح؛ فالقول الشارح في التعليق أكثر وضوحًا من اللفظ في الترجمة، وأكثر تعبيرًا
عن المعنى بلغةٍ أسهلَ وأكثرَ تلقائية؛ فالمقابلان عند المترجمين مثلًا هما الداخلان
تحت
التضاد في التعليق. القول الشارح إذن يدل على أن المعنى حاضر في الذهن، وليس مجرد نقل
لفظٍ بلفظ. كان الناقل صاحب قضية، يحمل حضارة الغير ويتمثَّلها في حضارته، وهي في النهاية
ثقافة الأمم المفتوحة التي على الأمة رعايتها وحمايتها
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.
١٦
والطريقة الرابعة أن يبقى القول الشارح في الترجمة قولًا شارحًا في التعليق؛ مثل
مرسلة مشاعة في الترجمة تصبح كلية عامة في التعليق.
١٧ وقد لا يكون التعليق على الترجمة لفظًا بلفظ، بل لفظ بعبارةٍ شارحة أقدر
على التعبير عن المعنى، خاصة ولو كان اللفظ الأصلي مركبًا؛ وبالتالي يتم تحليل التركيب
إلى مجموعة من الألفاظ الأولية يتم استعمالها كعبارةٍ شارحة، وذلك مثل لفظ «أنتلخيا»
الذي هو باليونانية
Ein Telos Exein، والذي تحول في
نقله إلى عبارةٍ شارحة «كمال أول طبيعي لجسم إلى ذي حياة بالقوة». قد يكون التعليق
تصحيحًا للأمر وتقويمًا له؛ فالمعلق يقول: «كان ينبغي على الناقل أن يقول …»
١٨ وقد يكون إبرازًا للمعنى وشرحًا له، وانطلاقًا منه لتأليفٍ محدود جديد
بداية لنموذج الشرح الأوسط عند ابن رشد.
١٩