(١) نشأة المصطلح الفلسفي
وأهم شيء في النقل هو المصطلح الفلسفي؛ فاللغة العادية لا إشكال فيها، الأسماء
والأفعال والحروف يتم النقل فيها بسهولة. إنما الإشكال في المصطلح فالمصطلح هو عصب
الفكر، المناطق الحساسة التي يُسبر غَورُها فيتم تدفُّق النفط ما دمنا في عصر النفط.
أحيانًا تتغير ألفاظ اللغة العادية مثل أنالوطيقا الثانية أو أنالوطيقا الأواخر، ولكنها
لا تدل على مصطلحٍ فني، إنما مقياسها الأسلوب الأدبي والجمال اللغوي.
واللغة العادية عند القدماء في الغالب لغةٌ عربية سليمة مستساغة، مفهومة لا غموض
فيها ولا لبس، تكشف عن احترام كامل النص المنقول، والتعرُّف على معناه الداخلي، دون
تأويل أو قراءة أو تعسُّف في بداية الترجمة؛ فالنقل هنا نقلٌ أمين يخضع لشروط الأمانة
العلمية. وفي حالة التعريب وتحويل النقل الصوتي إلى لفظٍ معرب، قد يقع قديم
الاختلاف في صياغة الجمع فيه، مفرد مؤنث أو جمع مذكر مثل لفظ سوفسطيقا، والإشارة
إلى أصحابه باسم السوفسطائية أو السوفسطائيون، كما فضَّل القدماء وكما فضَّلنا نحن في
العصر الحالي، ثم تبدأ المصطلحات في التكوين من اللغة العادية إلى المصطلح الفني.
١
إن أهم ما يميز مرحلة الترجمة قبل التأليف، هو نشأة المصطلحات الفلسفية. والفلسفة
في النهاية هي مجموعة من المصطلحات تُستخدم في التعبير عن بعض المواقف الإنسانية،
التي تعبر عنها أيضًا في الأدب والفن بل في السلوك والممارسات العملية. وما يجعل
الفلسفة متميزة عن الفن هو المصطلحات الفلسفية، التي ما زلنا نعيش عليها حتى الآن
دون شكاية من صعوبة المصطلحات الأجنبية وفقر اللغة العربية.
٢
إن الشبهة التي تُقال عن قصور اللغة العربية من حيث المصطلحات، إنما هو في الحقيقة
تنطعٌ ورعونة وكأن المفكر أصبح غربيًّا صِرفًا قادرًا على التعبير عن المعاني باللغات
الأجنبية وحدها دون اللغات الوطنية، ودعاية للنفس في مجتمعٍ متغرب؛ فاللغة العربية،
بدليل نشأة المصطلح الفلسفي عند القدماء، ليست قاصرة عن إيجاد المصطلحات العلمية.
إنما هو عالم اللغة المُجتث الجذور، والذي يشعر بعقدة النقص أمام الآخر هو الذي يدعي
ذلك. وهو ضحية أسطورة اللغة العالمية والثقافة العالمية والعلم الواحد. إنما
الصعوبة تنشأ قبل اللغة في الإبداع الفلسفي ذاته، لو كان الإبداع ذاتيًّا من الداخل
وليس منقولًا من الخارج، من اختراع الآخرين واكتشافهم، لأصبَحتِ اللغة طيعةً كأداةٍ
للتعبير؛ فالإبداع الذاتي يُعبِّر عن نفسه بلغةٍ ذاتية. أمَّا الاكتشاف الخارجي المنقول
فإنه يواجه مثل هذه الصعوبة في إيجاد اللغة الطيعة كأداة للتعبير؛ لأن النقل في
المضمون والشكل؛ أي في الفكر واللغة، في المعنى واللفظ؛ لذلك نشأ السؤال: بأية لغةٍ
نفكر؟ وكأن اللغة مضمون الفكر وليست مجرد أداةٍ من أدوات التعبير. ومن يفكر بلغةٍ
أجنبية يصعب عليه إيجاد إبداع المصطلح الفلسفي، ويكتفي بالتعريب؛ أي النقل الصوتي
للمصطلح الأجنبي. ومن يُفكِّر باللغة الوطنية يسهُل عليه إيجاد المصطلح الوطني،
وبالتالي تنشأ المصطلحات الفلسفية مواكبة لنشأة الفكر؛ فالإبداع الذاتي في الفكر
واللغة، في المعنى واللفظ، في الشكل والمضمون.
وينشأ المصطلح عند الكندي داخليَّا من تحويلِ أدوات الاستفهام إلى مصطلحات مثل
تحويل هل، ما، أي، لم، كي تصبح العلل الأربعة معظم المصطلحات في رسالة الهلية، المائية،
الأيية، اللمية قبل
أن تُصبح المادية والصورية والفاعلة والغائية. وعند جابر تتحول أدوات الاستفهام إلى
مصطلحات، الهلية من هل، والمائية من ما، والكيفية من كيف، واللمية من لم؛ فالمنطق
لغة قبل أن يكون تصوراتٍ وأحكامًا.
٣ وهذا الذي جعل أسلوب الكندي ضعيفًا ودون المستوى الأدبي، مستعملًا
ألفاظًا غير مألوفة، تتداخل مصطلحات المنطق والطبيعيات والإلهيات. كانت المصطلحات
من اللغة العادية اجتهادًا؛ فابن المقفع يسمي الجوهر عينًا؛
٤ لذلك يستطلع الآمدي رأي الجمهور؛ أي غالبية العلماء والفقهاء، في وضعهم
للمصطلحات وشرحها.
٥ ويتضح تطوُّر الأسلوب من «أن يكون الشيء علة كون ذاته» إلى «أن تكون ذاته
مهوية» إلى «الموجود بذاته». كما تتطور المصطلحات من طينة إلى عنصر إلى هيولى عودًا
إلى التعريب. وينشأ المصطلح من أجل تحويل الثقافة الواحدة إلى ثقافةٍ موروثةٍ عن طريق
اللغة، إما بالتعريب والترجمة أو باستلام اللغة القديمة، وتحويلها من لغةٍ عادية
إلى لغةٍ اصطلاحية، أو تحويل بعض العلوم الموروثة المنقولة أو العقلية النقلية إلى
مصطلحاتٍ فلسفية خالصة، وتكشف نشأة المصطلح على التفاعُل الحضاري على مستوى اللغة.
وواضحٌ الانتقال من مفاهيم العلوم النقلية إلى المفاهيم الفلسفية، مثل الانتقال من
القول المرسل، وهو مصطلح علم الحديث، إلى القول المطلق.
وتظهر بعض المصطلحات العربية القديمة، مثل الذهل الذي يعني الثأر أو العداوة أو
الحقد، والرصيد اللغوي القديم هو المعين الأول في صياغة المصطلحات المقابلة
اليونانية، مع تلمس المعنى الاشتقاقي له الذي يعني الكمون والرصد، ويتضح هذا عند
الكندي في استعمال مصطلحات القنية؛ أي الماهية، والأيس والليس؛ أي الوجود واللا وجود،
التأييس؛ أي الإيجاد.
٦
ويعتمد تعريف بعض المصطلحات على بعضها البعض، دون الوقوع في الدور، مثل الخاطر
علته السانح والإرادة علتها الخاطر،
٧ ومعظم المصطلحات في رسالة الكندي مفردة وليست مزدوجة؛ أي المصطلح
البسيط وليس المركب في عبارةٍ شارحة، وتعريف القوة بأنها ما ليس بظاهر، حتى ولو
تباعَد التعريفان.
وبقَدْر ما تُوجد في المصطلحات أبعادٌ إلهية ودينية، تُوجد في مصطلحاتٍ أخرى أبعادٌ
إنسانية خالصة، مثل تعريف الفضائل الإنسانية، قادرة على احتواء الوافد داخل
الموروث؛ نظرًا لاتفاقهما في العقل والطبيعة؛ فالمصطلح مفتوح من الجانبَين، من
الخارج لاحتواء الخارج ومن الداخل لتعشيقه في الموروث؛ ومن ثَمَّ أمكن إدخال تعريف
الفضائل الإنسانية وتقسيمها عند أفلاطون ولفضيلة الاعتدال، وجعل الفضيلة وسطًا بين
طرفين ضد الإفراط والتفريط. كما أمكن احتواءُ بقراط في تحديد مصطلح الطبيعة بمعانيها
المختلفة تأسيسًا للفلسفة على العلم. وهو الوحيد المذكور في رسالة الكندي بالرغم من
اعتماد «رسالة الحدود» على العقل الخالص.
٨
ويكشف تحديد بعض المصطلحات عن التيار الفلسفي وراءه مثل التعريفات البيولوجية
للظواهر النفسية، تعريف الغضب بغليان دم القلب، والضحك باعتدال دم القلب، وقسمة
الأخلاق إلى ما يتعلق بالنفس وما يحيط بآثار البدن، التي تقوم على نفس التصور
الثنائي للإنسان وقسمته إلى نفس وبدن، كما يعطي الكندي الأولوية المطلقة للعلة
التمامية (الغائية)، ويعتبرها العلة المطلقة على باقي العلل الثلاثة.
٩
ويشمل المصطلح الفلسفي كل أقسام الحكمة، المنطق والطبيعيات والإلهيات، النظرية
والعملية؛ فكثير من مصطلحات الكندي في رسالته أخلاقية، يغلب عليها الفلسفة ثم
المنطق ثم العلم ثم التصوف؛ نظرًا لورود بعض مصطلحاته مثل المحبة والعشق والرضا،
وبعضها رياضية مثل الجذر والضرب والقسمة، وبعضها موسيقي مثل الإيقاع أو نفسي مثل
التوهم أو منطقي مثل كل وجميع أو أسماء علوم مثل الطب والفلك، والغالب عليها
الفلسفة ثم المنطق ثم الإنسانيات ثم الرياضيات ثم العلوم. وأقل المصطلحات في
السياسة والاجتماع باستثناء تعريف الصديق، ويظهر البعد النفسي في تحديد العلم. وقد
تميز الطب بمفرده كمصطلحٍ مما يدل على اهتمام الكندي بالطب؛ لذلك كان التعريف الرابع
للفلسفة من جهة العلة من التعريفات الستة، هو تعريف من حيث تصنيف العلوم؛ فالفلسفة
صناعة الصناعات، وحكمة الحِكَم، تبدأ بالقدماء إعطاءً للحق لصاحبه، واعترافًا بدور
القدماء دون نسبة القول إلى النفس، أمانةً واعترافًا للفضل وليس نقلًا أو تقليدًا.
١٠
ويعطي جابر بن حيان في القرن الثالث مدخلًا لتصنيف المصطلحات، هو تقسيم العلوم
كما يفعل التهانوي في القرن الثاني عشر. وهي قسمةٌ داخلية صرفة، ليست الموروث
والوافد، بل الدين والدنيا وكلاهما موروث. والدين شرعي وعقلي؛ فالعقل والشرع من
الدين. والدنيا شرع ووضع؛ فالوضع مقابل للشرع، والوضع يشمل العلوم والصنائع.
والعقلي حروف ومعانٍ، أشياء في الخارج وأشياء في الذهن. والطبيعة في الخارج تشمل
الحرارة والبردة والرطوبة واليبوسة. ينشأ المصطلح الفلسفي إذن من هذه القسمة
الشاملة للعلوم؛ فاللغة أداة العلم.
١١
ويبدأ الخوارزمي رسالته في الحدود والفلسفة أيضًا بتقسيم العلوم مثل الرازي
التهانوي. وتشمل العملة الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة، ويُلاحظ غياب المنطق.
١٢
ومدخل «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي، هو تقسيم العلوم، البداية بعلوم اللغة
والانتهاء بعلوم الشرع، وقد رُتِّب على فنَّين: فن الألفاظ العربية وفن الألفاظ
الأعجمية، وتعني الفارسية. ويبدو أن الكتاب لم يتم أو لم يُطبع أو لم يُترجم. وتنقسم
العلوم المدونة سبعة أقسام؛ فهي إمَّا نظرية أو عملية، غير آلية أو آلية، عربية أو
غير عربية، شرعية أو غير شرعية، حقيقية أو غير حقيقية، عقلية أو تعليمية، جزئية أو
كلية. وتدخل كلها ضمن إطار نظرية المعرفة. وتشمل علوم العربية الصرف والنحو
والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية. وتشمل العلوم الشرعية الكلام والتفسير
والقراءة، والإسناد والحديث وأصول الفقه والفقه والفرائض والسلوك. أمَّا العلوم
الحقيقية فهي التي لا تتغير بتغير الملل والأديان مثل المنطق والحكمة، أمَّا الفقه
فيتغير بتغير الزمان. ويُفصِّل المنطق ويذكر أرسطو وأقسام كتب المنطق، وعلم الحكمة
وقسمتها إلى نظريةٍ وعملية، وقسمة كلٍّ منها إلى الثلاثية، وكلها مستفادة من الشريعة
كما بين الشيخ الرئيس، الإلهي والرياضي والطبيعي والمنطقي، ولكلٍّ منها أصول وفروع.
ثم يختتم التقسيم ببيان العلوم المحمودة والمذمومة، والمحمودة منها فرض عين وكفاية،
والمذمومة التتارخانية السحر والنيرنجيات والطلسمات والتنجيم. وأمَّا علم الفلسفة
والهندسة فيبعُد عن علم الآخرة، استخرج ذلك الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة،
١٣ وهي صورة الفلسفة عن ابن الصلاح.
(٢) تطور المصطلح الفلسفي
وقد تطوَّر المصطلح الفلسفي بعد نشأته، لمزيد من الإحكام حتى استقر الآن على النحو
التالي:
وبالإضافة إلى مسار التطور نحو مزيدٍ من التركيز والإحكام، هناك مسارٌ آخر في نمو
الانتقال من التعريب. وهو نفس المسار الذي تم أيضًا في الترجمة، من أرسطو حتى
جالينوس. والنماذج على ذلك عديدة في رسائل عن المصطلحات الفلسفية، والمحك في ذلك
ليس التطور التاريخي الزماني التتابعي المتوالي، بل الزماني البنيوي طبقًا لقانون
تناقُص نسبة المعرَّب وزيادة نسبة المترجَم.
وقد ظهر التناقُض التدريجي في تطوُّر المصطلح من التعريب إلى الترجمة عند المؤرخِين
والفلاسفة على حدٍّ سواء؛ فما زال الخوارزمي في «مفاتيح العلوم» يستعمل التعريب أكثر
مما يستعمل الترجمة أو استعمالهما معًا. يذكر «ميخانيقون» ثم يعطي تفسيرها كما يفعل
مع السريانية في شمعا كيانا؛ أي سمع الكيان والأرتماطيقي، والجغرافيا، والجوماطريا،
والاصطرونوميا، واصطرلابون، وأرغانون؛ أي الموسيقى، مع التمايز بين اليوناني والعربي،
بين لغة الآخر ولغة الأنا، والسوفسطائيون، وغرماطيقي؛ أي النمو، والأدراج؛ أي الخراج،
من الفارسية، بل إن تسمية الخوارزمي «مفاتيح العلوم» إنما تشير إلى المصطلحات
باعتبارها مدخلًا للعلم. في كل علم يضع الخوارزمي قسمًا من مصطلحاته ومواضعاته
وألفاظه عند الفرس والروم في الجاهلية والإسلام.
٢١ وفي «الحدود الفلسفية» تتجاوز المصطلحات المترجمة المصطلحات المعربة،
ويغلب عليها اليونانية باستثناء القليل السرياني مثل «شمعا كيانا» و«مليلوثا».
٢٢
ويزداد التحول عند المؤرخين المتأخرين، الشهرزوري، حيث لا تظهر لديه إلا خمسة
مصطلحات معربة: الميتافيزيقا، المتروطيطوس، اللوغس، الهيولي، الميكانيكا، أما
الناموس فهو مصطلحٌ عربي وليس معربًا، أما الفلسفة فلفظٌ قديم قد تم تعريبه حتى أصبح
عربيًّا،
٢٣ وفي رسالة الكندي «في حدود الأشياء ورسومها» تزداد نسبة المترجم على
المعرب بل كلها مترجمةٌ باستثناءِ ثلاثةٍ منها معربة، الهيولي والأسطقس ورابع بين
التعريب والترجمة مثل التوهم؛ أي الفانطاسيا، وحتى الألفاظ المعربة يتم تعريفها
بعبارةٍ عربية شارحة، وكأن التعريب في الصوت وليس في المعنى، واستقر المعرب منها
حتى دخلت في التذوُّق في الشعر العربي الحديث،
٢٤ وعند الآمدي في «الكتاب المبين» في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين لا
يظهر إلا مصطلحٌ معرب، وهو أسطقس مع اللفظ العربي عنصر، ومرةً واحدة فانطاسيا في
الشرح وليس في النص؛ مما يدل على اختفاء التعريب بتطوُّر الزمن،
٢٥ وتزداد النسبة عند الجرجاني في «التعريفات» حتى لتصبح كل المصطلحات
مترجمةً باستثناء اثنين: الأسطقس والهيولى،
٢٦ وتختفي المصطلحات المعربة كلية في البداية عند جابر بن حيان في «رسالة
الحدود» والجرجاني في «اصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات الملكية»،
٢٧ وعند ابن سينا في «رسالة الحدود» مجموعة من المصطلحات يزداد تحوُّل
النسبة فيها من التعريب إلى الترجمة،
٢٨ ويقع مزيد من التحوُّل من التعريب إلى الترجمة عند الغزالي في الحدود من
معيار العلم،
٢٩ ومع ذلك يظهر ما تبقى من مصطلحاتٍ معربة، بعد أن تحوَّلَت إلى ألفاظٍ
عربية في تطورها، وإن كانت في نشأتها وافدة حتى العصور المتأخرة، عند القفطي في
القرن السابع، والتهانوي في القرن الثاني عشر.
٣٠
ثم يبدأ التعريب من جديد في الظهور في هذا القرن، بعد اختفائه في نهاية المرحلة
الإسلامية الأولى لمزاحمة الوافد الغربي الحديث للموروث، الذي استطاع تمثيل الوافد
القديم واحتوائه كليةً؛ ففي «المصطلحات الفلسفية» تزداد نسبة المعرب على العربي،
وتزداد هذه النسبة أكثر في «المعجم الفلسفي»؛ مما يدل على ازدياد التوجُّه نحو الغرب،
من الدول إلى الأفراد.
٣١
وتظهر أخيرًا قضية اللغة العربية ولسان العرب والترجمة والتعريب، والمصطلح
الفلسفي والأسماء العربية والبيئة العربية؛ فكل فكرٍ مرتبط بلغته؛ الفكر اليوناني
باللغة اليونانية، والفكر الإسلامي باللغة العربية، وهو موقف الفقهاء منذ الشافعي
حتى ابن تيمية؛ لذلك يشير ابن رشد كثيرًا إلى لسان العرب، ويضرب الأمثلة على ذلك
مثل الصريح الذي يدل على الضوء والظلمة، والجليل الذي يدل على الصغير والكبير؛ مما
يوحي بأن الشرح هو نقل الفكر اليوناني من مستوى اللغة اليونانية إلى مستوى اللغة
العربية. ويشرح ابن رشد كيف ينشأ المصطلح الفلسفي؛ فاسم الهوية ليس مشكلًا عربيًّا،
ولكن اضطُر إليه بعض المترجمين واشتقوه من حرف الرباط، هو بالمعنى الذي يدل عند
العرب على ارتباط المحمول بالموضوع، على عادة العرب من اشتقاق اسم من اسم وليس
اسمًا من حرف يدل على ذات الشيء، كما هو الحال في اللسان اليوناني
Einai فعل الكينونة. ولفظ الهوية أفضل من
الوجود؛ لأنه في لسان العرب من الأسماء المشتقة التي تدل على الأعراض؛ لذلك كان أحق
بالدلالة على المقولات العشر التي تصف الأعراض، كما هو الحال في لسان العرب، زيد
أبيض وليس زيد في بياض، ليس الشرح مجرد تكرار المعلومات، بل إدخال النص المشروح في
النص الشارح، ويعتمد الشرح على ترجمة القدماء وفهم طرقها، وكيفية التغلب على
المصطلح اليوناني، وإيجاد مرادفٍ عربي طبقًا للسان العربي وعادة العرب في الكلام،
هناك إبداع على مستوى اللغة ونشأة المصطلح الفلسفي، فقد كان المترجمون مثقفين عربًا
وليسوا أجانبًا، ولاؤهم للموروث وليس للوافد، الوافد علوم الوسائل والموروث علوم
الغايات. ومع حرص المترجمين لم يأمن ابن سينا من الوقوع في الخطأ، يُحلل معاني بعض
الأسماء والاستعمالات في اللسان اليوناني، ليعرف إلى أي حدٍ هناك ما يقابلها في
اللسان العربي، مثل الجنس وضرب المثل بالينوس وبأينوس وعدم استعمال اسم الجنس في
اللسان العربي على الأب الأول. كما أن هناك بعض الاستعمالات اليونانية مثل العلة
والأرقام مستكره في اللسان العربي، هناك تقابل بيننا وبينهم، بين الأنا والآخر، بين
اللسان العربي واللسان اليوناني، بين لغة الوافد ولغة الموروث،
٣٢ ففي اللسان اليوناني يطلق اسم الفعل على العمل، وهذا له دلالته
الفلسفية، أن الفعل من جنس العمل مما يدل على التمام والكمال، كما أن الجنس يدل على
العنصر لا على الجنس بمعنى القوم كما هو الحال في لسان الهرقليِّين، ويعتمد ابن رشد
على لسان العرب، الإيجاب الذي يُراد به السلب، والسلب الذين يُراد به الإيجاب،
والاستشهاد على ذلك بآيات القرآن، وكذلك مثال الشيء أو العرض في وصف الأمور
الصناعية والطبيعية، وقد يتفق اللسان العربي مع اللسان اليوناني، وقد لا يتفق مثل
تكرار الفصول الخمسة للشيء الواحد، ومثل الفرق بين «أم» و«أو» في اللسان العربي،
ومقارنة ذلك باللسان اليوناني، ففي السان العربي «أم» قد لا يكون كلاهما، في حين أن
«أو» تعني بالضرورة واحدًا.
٣٣
ويشرح ابن رشد نشأة المصطلح الفلسفي، ناقلًا القضايا الميتافيزيقية العامة إلى
قضايا لغوية، ابتداءً من تحليل الألفاظ كما هو الحال في علم الأصول في تحليل معاني
الألفاظ، وأنواعها: المعنى الاشتقاقي، والمعنى العرفي، والمعنى الشرعي الاصطلاحي؛
فمصطلح القنية الذي ظهر منذ الكندي من الاقتناء عند المترجمين في نص أرسطو، وكذلك
مصطلح الأيس الذي ظهر منذ الكندي، وما زال موجودًا عند ابن رشد في النص المترجم، ثم
اختفاؤه في الشرح وظهور الأشياء بدلًا عنه، ويمكن استعمال قواعد النحو العربي لشرح
ألفاظ المنطق؛ فالمنطق لغة، واللغة نحو مثل شرح «له» في المنطق بلام الكمية في
النحو العربي.
وبالرغم من التركيز على أهمية لسان العرب، وعادة العرب والجهل في النقل، ونشأة
المصطلح الفلسفي، فقد بقت بعض المصطلحات معربةً مثل أسطوخيا بتعريبٍ صوتي، وحرفي
الأسطقس بتعريبٍ صوتي مُعدل جمعًا ومفردًا، السوفسطائي، السوفيطقي مما يوحي بنقل
الأسلوب العربي من كثرة التكرار، والبعض صعب نطقه مثل الأسطقسية ونادر الاستعمال،
وأحيانًا يظهر لفظ أسطقس في صفحةٍ واحدة أكثر من عشرين مرة، مما يجعل الأسلوب أقرب
إلى الوافد منه إلى الموروث،
٣٤ وتظهر بعض المصطلحات المعربة من الموسيقى مثل الأنيطادياسيس؛ أي البعد
اللفظي، أو النغمة المشتركة لبعدَين لا تنقسم أي التون، أو الفلسفة مثل الفانطاسيا
أو النطق مكون أبوفانسيس التي تعني النقيضة، الأنطيفاسيس، ومصطلحات العلم مثل
الأيطيقي التي تعني علم البصر والجيوميطريا، علم الهندسة، والجاردوسيا، علم الأمور
المحسوسة البالية الفاسدة، أطاليلي أي المائة رطل، وقد يتبادل التعريب مع الترجمة
مثل قاطيغورياس والمقولات. والغريب أن تبقى هذه المصطلحات معربةً حتى القرن السادس،
ولم يتحول نص أرسطو نهائيًّا إلى نصٍّ عربي.
كما ترك ابن رشد أيضًا بعض الأمثلة اليونانية دون استبدالها بالعربية كما فعل في
تلخيص الخطابة، وترك بعض الأسماء والأماكن اليونانية دون استبدالها وتركها المترجم
اليوناني غير مفهومة، وأحيانًا يقول فلان تهربًا منها، وهو ثقيل في الأسلوب العربي.
وترك أسماء الشعراء اليونان ودون استعمال الرخصة العربية مثل زيد وعمرو إلا في أقل
القليل. وأحيانًا تسقط الأسماء مثل هرمس وبوسوس وأثينا، ودون أن يأتي ببدائلٍ عربية
عنها. وأحيانًا يُعرِّب ابن رشد أسماء المواقع الحربية، فيترك مثال حرب طروادة وحرب
ميديا، ويقع محلها حرب الجمل وصفين لضرب المثل بالزمن المتقدم، واستبدال بموقعتَين
يونانيتَين وقائعَ عامة بالنسبة للمستقبل، وعلامات الساعة مثل طلوع الشمس من مغربها.
يستعمل أمثلة أرسطو اليونانية في بداية نصه ثم يسقطها لصالح الأمثلة العربية.
٣٥
ويلجأ ابن رشد إلى المصدر الثاني للمصطلحات الفلسفية، وهي اللغة العادية والآراء
العامة لتجريد المنطق منها؛ فالمنطق ليس فقط هو علم المنطق بل منطق الفطرة، مثل
مصطلحات الجمهور مثل العرض والجوهر؛ فالمنطق الشعبي يسبق المنطق الصوري وأحد
مصادره، وأرسطو نفسه لم يفعل أكثر من أنه نظر لمنطق الكلام من أفواه الناس. والفكرة
موجودة في النص المشروح وفي النص الشارح على حدٍ سواء، سواء كانت من أرسطو أو من
تأكيد ابن رشد لها. وأحيانًا يستعمل ابن رشد لفظ المشهور؛ أي المعروف عند كل الناس؛
أي الثقافة الشعبية الجماهيرية، وهو موجود عند الأصوليِّين على مستويَين، عند العقل
وعند الجمهور؛ أي في العقل البديهي وفي الفطرة.
٣٦ وفي تلخيص السفسطة ترجمة القيثارة اليونانية بالعود العربي والحكمة
المرائية هي الحكمة السوفسطائية، مُستعملًا للفظ العربي والمترجم في آنٍ واحد.
وترجم السنة اليونانية بالشريعة وهو لفظ إسلامي.
٣٧ وما زال لفظ الأسطقسات معربًا.
واستمر الحال كذلك في عصر النهضة الثاني في مصر خاصةً عند الطهطاوي، حنين ابن
إسحاق الجديد. وقامت مدرسة الألسن في القاهرة بنفس الدور الذي قام به ديوان الحكمة
في بغداد … وتمت الترجمة الثانية طبقًا لخطةٍ مقصودة وبداية بالعلوم الطبية
والطبيعية؛ تلبية لمطالب جيش محمد علي والصناعات العسكرية الحديثة، وبإشراف الدولة
وتوجيهها؛ فالتاريخ يعيد نفسه. أما نصارى الشام وبعض أقباط مصر، فإن البعض منهم لغة
وثقافة كان أكثرَ ولاءً للثقافة الغربية، وقام بالترجمة ترويجًا للثقافة الغربية التي
ينتسب لها، ويستعمل طريقة التعريب والنقل الصوتي للمصطلحات الأجنبية إلى اللغة
العربية، بدعوى فقر اللغة العربية في المصطلحات العلمية؛ فالعلم إبداع الغرب وحده
وبحجة الثقافة العالمية. وقد أدَّى ذلك إلى إدخال أكبرِ قَدْرٍ من الألفاظ المُعرَّبة
في
تاريخ اللغة العربية.
٣٨
وتجاوز الأمر المصطلحات العلمية إلى مصطلحات العلوم الإنسانية،
٣٩ بل وصل الأمر إلى تحوُّل كثيرٍ من تعبيرات الحياة اليومية إلى عباراتٍ
عربية، خاصة أسماء محلات الطعام والملاهي العامة،
٤٠ وأصبحت ترجماتهم عويصةً غيرَ مفهومة؛ من أجل إثبات عجز اللغة العربية،
وفصل الأمة عن لغتها وتراثها وثقافتها وإحساسها بعجزها عن الحداثة، إلا عن طريق التقليد.
٤١ وقد سبَّب ذلك رد فعل الحركة السلفية في الحفاظ على اللغة العربية
ونقائها، ومواجهة مجامع اللغة العربية لنحت مصطلحاتٍ عربية للمقابل الغربي، ناجحةٍ
مرة ومدعاة للتندر مرةً أخرى.
٤٢ وقد شمل ذلك الفلسفة بحجة أن تلك كانت عادة القدماء أيضًا: فلسفة،
هيولى، موسيقى، سفسطة، في حين أن القدماء لم يفعلوا ذلك إلا في أقل القليل،
وبطريقةٍ مستساغة ونحتٍ عربي أصيل،
٤٣ ثم وجدوا مصطلحاتٍ عربيةً أصيلة في الترجمة الثانية، وتركوا قاطيغورياس
إلى المقولات، وباري أرميناس إلى العبارة، وأنالوطيقا إلى القياس (الأولى)،
والبرهان (الثانية)، وبويتيقا إلى الشعر، وريطوريقا إلى الخطابة.