(١) هل الترجمة نظرية في المطابقة؟
ليس النص وثيقةً تاريخية يتم الحفاظ عليها طِبْق الأصل بلا زيادةٍ أو نقصانٍ فهذا
نص
القرآن. أمَّا النص الحضاري فهو عملٌ مشترك بين المؤلِّف والناقل والقارئ والمُعلِّق
والشارح، حتى يتم الاستغناء عنه كليًّا بعد استنفاذ أغراضه، قضمه ومضغه وابتلاعه
وهضمه وتمثُّله وإخراجه. لا يهم النص المنقول كوثيقةٍ تاريخية، بل الذي يهم هو كل
تعليق زيادة أو نقصانًا، سواء بالنسبة للنص اليوناني أو النص السرياني، سواء كان من
المترجم الثاني أو الثالث أو الرابع أو حتى من الناسخ الأول أو الثاني، أو كان من
صاحب المخطوط أو قارئه. النص سِجلٌّ يكشف عن الموقف الحضاري الشامل، الذي يكون النصُّ
مُجردَ حاملٍ له، والزيادة التي يعطيها الناشر الحديث على النص العربي القديم الذي
حذفها، إنما هو تشويه للنص القديم كعملٍ حضاري وليس دقةً علمية. تاريخيًّا النص
اليوناني هو الأصل والنص العربي هو الفرع، وحضاريًّا النص العربي هو الأصل والنص
اليوناني أو السرياني هو الفرع.
١
لا يهمُّ في الترجمة ونشرها دقةُ معرفة العرب بالتراث اليوناني والعناية التي أحاطوا
بها هذه النصوص؛ بحيث تكون لديهم أدقُّ صورة عن الأصل. ليس نقل الأصل هو الغاية بل
تمثُّله واحتواؤه، وتحويله إلى حاملٍ حضاري لعملياتٍ إبداعية تالية.
٢ ليس الهدف من نَشرِ الترجمات العربية القديمة هو إظهار إمكانيات الناشر
اللغوية كما يفعل الاستشراق، بل بناء الموقف الحضاري كما يفعل الباحث الوطني. وإن
ترقيم صفحات النص العربي القديم طبقًا لنشرة بيكر الحديثة للنص اليوناني، هو جعل
النص اليوناني هو الأصل، حتى ولو كان النص والترقيم المعتمدَين؛
٣ فليستِ الغاية إعادةَ نصِّ أرسطو كتاريخ، بل إبراز النص العربي كحضارة. كما
أن الترجمات الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية الحديثة لنص أرسطو هي مُجرَّدُ
ترجماتٍ تاريخية طِبقَ الأصل، وليست عملياتٍ حضاريةً لنقل النص، وتمثُّلِهِ من أجل إبداعٍ
لاحق.
٤
وإذا كان الأمر مباراةً في المعرفة بالترجمات الحديثة، فأين الترجمات الإيطالية
والإسبانية والبرتغالية والروسية والهندية والصينية واليابانية والعبرية، ومدى
مطابقتها للأصل اليوناني؟ هذا هو تصور الاستشراق لصلة الأصل اليوناني بالفرع
البربري، صلة المركز بالأطراف. وإن تقسيم النص إلى فصولٍ وعناوين طبقًا للعناوين
الحديثة المقترحة، هو تبعية للنص اليوناني الحديث وللعناوين الحديثة، في حين أن
العناوين العربية القديمة أكثر دلالةً من حيث تعبير العنوان عن المعنى؛
٥ لذلك لم ندخل في دقيقات الاستشراق العلمية، بالرغم من الاستفادة منها،
لا ندَّعي علمًا فوق علمهم، بل فهمًا للموقف الحضاري الذي لا يعيشونه.
٦
كان نشر الترجمات العربية القديمة يمثل بدايةَ مشروعٍ فلسفي معاصر، وذلك لمعرفة
كيفية الانتقال من النقل إلى الإبداع ووصف العمليات الحضارية التي وراء هذا
الانتقال، ولكن تم حصر هذه الترجمة كما يفعل المستشرقون، وكأنها غاية في ذاتها،
مادة خام في دراسةٍ أو تعليق، إلا على الترجمات القديمة كوثائقَ تاريخية.
٧ ليس الباحث الوطني مستشرقًا، بل هو مُحلِّلٌ لإحدى تجاربه الماضية في النقل
من التراث اليوناني؛ من أجل قراءة تجربته الحالية من التراث الغربي. وعندما يجعل
الناشر العربي من نفسه مُستشرِقًا، فإمَّا أن لديه إحساسًا بالنقص ورغبة في المساواة
بينه وبينهم، وإما أنه ينظر نظرةً دونية للتراث الإسلامي باعتباره خليطًا من النصوص
المترجمة تحتاج إلى فحصٍ وتمحيص؛ وبالتالي يكون نشر العنوان العربي من باحثٍ عربي
لنصٍّ عربي باللاتينية تقليدًا أعمى للمستشرقين أو زَهوًا، خاصة إذا كان اسم الناشر
بالبنط الثقيل والكبير، أكثر من اسم أرسطو ومن عنوان النص.
٨ وبالرغم من نشر معظم الترجمات العربية القديمة من قبلُ في المجلات
العربية والأجنبية المتخصصة، إلا أن مُجرَّد تجميعها وإعادة نشرها وجعلها ميسورة
للقارئ العربي خدمةٌ جليلة، ولولاه لما أمكن قراءتها من جيلٍ ثانٍ لمعرفة دلالتها الحضارية.
٩
بل إن الاختلافات بين النُّساخ في الخطوط وأنواعها، قد تساعد في الكشف على قيمة
المخطوط، ولكنها تدل على حرفية النسخ وممارسته كعبادة؛
١٠ وبالتالي فإن نقل النص من التاريخ إلى الحضارة، ومن النقل إلى الإبداع
لا يعني التخلي عن الدقلة العلمية، بل يعني رفضَ تصوُّر أن النقل هو مطابقة الأصل
للترجمة؛ فهذا مستحيل ذهنيًّا وحضاريًّا، فرديًّا واجتماعيًّا. ومع ذلك يُظهِر
التعليق في الهامش بعض الأخطاء التاريخية، مثل نسبة الأقوال إلى أصحابها، سواء كانوا
حقيقيِّين تاريخيًّا أم حضاريًّا.
١١
ولا يهم خطأ الترجمة العربية أو صوابها أو عدم إلفها؛ فلا يُوجد مقياسٌ موضوعي
لذلك، هناك فقط الدلالات الحضارية للنص الجديد؛ فالنقل يحتوي في داخله على إبداع.
١٢ هل يجوز إذن إصلاح الاضطراب في المخطوط؟ ولِمَ لا يكون هذا الاضطرابُ
مقصودًا نتيجة للعمل الحضاري في النص؟
١٣ لا تُوجد أخطاءٌ في الترجمة بل نقلٌ حضاري لها،
١٤ وقد يكون الخطأ أكثر دلالةً على العمل الحضاري من الصواب. الترجمة
الحرفية حتى ولو كانت خاطئة إلا أنها تدل على الحرص على الحفظ؛ فمثلًا لفظ
Philomela «محب التفاح» حرفيًّا، وغناء البلبل
معنويًّا. الأول صحيح لغويًّا غير دالٍّ معنويًّا، والثاني خطأٌ لغويًّا ودالٌّ معنويًّا.
١٥ ولا يُوجد أيُّ اضطرابٍ في الترجمة العربية القديمة، بل تُوجد محاولةٌ للتحرُّر
من اللفظ لرؤية المعنى؛ لا تُوجَد ترجمةٌ عربية مضطربة، بل هناك بحث عن المعاني لِتجاوُزِ
اللفظ.
١٦
لا يُوجد فهمٌ مألوف للنص؛ أي فهمٌ حرفيٌّ موضوعيٌّ له بل تأويلٌ حضاري له؛ لا يوجد
فهم
للنص صوابٌ أم خطأ بل تأكيدُ قراءة له، دفاعًا عن الأنا في مواجهة الآخر؛ لا يُوجد
معنًى موضوعي للنص بل معنًى مقروء فيه من الحاضر إلى الماضي، رؤية الأنا للآخر. لا
يهمُّ معنى النص الخاص فذاك لا يعلمه أحد ولا حتى مؤلِّفه، بل النص كحاملٍ حضاري أعم
وأشمل، وكدلالة على موقفٍ حضاري يُبيِّن قراءة الأنا للآخر، وإعادة إنتاج نصه، ولا
يُقدِّر ذلك إلا من لديه تجربةٌ مماثلة لقراءة الأنا لنصوص الآخر.
١٧ لا يهمُّ معاني القواميس للألفاظ والمصطلحات؛ أي المعاني اللفظية
والتاريخية، بل ما يهمُّ هي المعاني الحضارية التي قد لا تكون في اللغة المُترجَم فيها،
بل في اللغة المُترجَم إليها؛ فالمعنى للاستعمال الحالي، ولا يُوجد في القاموس إلا
المعاني الحرفية والتاريخية.
إن أهمية نشر الترجمات العربية القديمة للنصوص اليونانية، خاصة أعمال أرسطو، ورصد
الاختلافات بينها، ليس فقط تَحرِّي الدقة العلمية، بل جعل النص تاريخًا للحضارة وحاملًا
لمواقفها؛ من أجل إعطاء القارئ امكانيةَ بناءِ المعنى من الترجمات المختلفة؛
١٨ فلا تُوجد ترجمةٌ مثالية واحدة صحيحة يمكن استنباطُها وجمعُها واستقراؤها
من عدة ترجمات؛ هذه الترجمة مُجرَّد افتراضٍ لا وجود له، الهدف منه إيجاد ترجمةٍ مطابقة
للأصل اليوناني، وتصحيح خلط الأطراف إلى بالعودة الأصل في المركز. إن كل ترجمةٍ على
حدة لها وجودٌ مستقل بذاته تُعبِّر عن رؤية المترجم، ونشأة المصطلح الفلسفي وبداية
التفَلسُف والبحث عن المعنى؛ كل ترجمة كائنٌ حي، شخصٌ معنوي، ولا يمكن من مجموع الأشخاص
الحية استنباطُ شخصٍ مُجردٍ عامٍّ لا وجود له. إنها عملياتٌ حضارية تكشف عن إبداعاتٍ
مستقلة
للمُترجمِين كبداياتٍ للإبداعات الفلسفية الخالصة، لا يمكن إسقاطها أو تجريدها من أجل
البحث عن النقل الأصلي، الذي لم يعُد له وجودٌ نصيٌّ في ذهن المُترجمِين باعتبارهم
مُبدعِين.
ويَرُد مرجليوث الخلاف بين الترجمة العربية القديمة لكتاب الشعر والنص اليوناني إلى
خطأ المترجم العربي أو السرياني، وأحيانًا يرُدُّه إلى فساد النص اليوناني الذي نُقلَت
منه الترجمة السريانية؛ فالترجمة لديه نسخةٌ طِبقَ الأصل في النص المترجم،
١٩ والحقيقة أن السبب لا هذا ولا ذاك، بل طبيعة الموقف الحضاري للمُترجِم.
ويقف مرجليوث أمام كلِّ كلمةٍ عربية ليلاحظ انحرافها عن النص اليوناني. والانحراف حكم
قيمة يقوم على أن النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هي الفرع، وهو
قلبٌ للموقف الحضاري، وقد يخلط مُترجمٌ آخر، ويضع كتاب الشعر ضمن العلوم النقلية عند
المسلمين.
٢٠ وقد يقصد بالنقلية الوافد وليس العلوم النقلية بالمعنى الاصطلاحي وهي
القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. يظن المستشرق وغيره من التابعِين العرب
أن الترجمات العربية القديمة هي ترجماتٌ مطابقة للأصل اليوناني، وأن قيمتها كلما
كانت مطابقةً له؛ فالترجمة وثيقةٌ تاريخية. وهي نظرةٌ استشراقية تاريخيةٌ تكشف عن لا
وعيٍ حضاري. العكس هو الصحيح؛ كلما كانت الترجمة العربية مختلفةً عن النص اليوناني
كان العمل الحضاري فيها أوضح. ليس المقياس هو النقل طِبقَ الأصل، وهو مستحيل في
النقل، بل الإبداع أي القراءة؛ فكل ترجمةٍ قراءة.
(٢) ما الأصل وما الفرع؟
لا تبدأ دراسة الترجمة من النص اليوناني إلى الترجمة العربية، ومن أرسطو إلى
العرب في تَصوُّرٍ شعوري أو لا شعوريٍّ لعلاقة الأصل بالفرع، وعلاقة الآخر بالأنا. هذا
هو
الظاهر أمَّا الواقع فالعكس تمامًا هو الصحيح، الترجمة العربية هي الأصل والنص
اليوناني هو الفرع، العرب هم الأول وأرسطو هو الثاني. الأنا تبدأ والآخر يأتي فيما بعدُ؛
٢١ فالترجمة العربية حامل لموقف حضاري نواته الأولى النص اليوناني، ولكنه
ليس نسخة مطابقة له، يمكن نشر الترجمة العربية القديمة ومقارنته بالنص اليوناني
القديم ليس بهدف المقارنة، مقارنة الفرع العربي بالأصل اليوناني بمنطق المطابقة، بل
لوصف طبيعة العمليات الحضارية التي تتم من خلال الترجمة، زيادةً ونقصًا أو فهمًا
وتأويلًا أو كيفية نشأة المصطلحات.
ليس الاتفاق والاختلاف مع النص اليوناني بِدالٍّ على الترجمة، مطابقة الفرع بالأصل،
وإكمال الفرع بما نقص فيه من الأصل، وحذفٍ من الفرع ما زاد عليه بالنسبة إلى الأصل؛
فليس النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هو الفرع بل العكس، النص اليوناني هو
الفرع والترجمة العربية هو الأصل. التصوُّر الأَوَّل يجعل الترجمة بالضرورة نسخةً طبق
الأصل من النص الأصلي، في حين أن التصوُّر الثاني يجعل الترجمة تعليقًا وشرحًا
وتأليفًا غير مباشر. النص اليوناني هو نقطة البداية فقط وليس نقطة النهاية، في حين
أن النص العربي هو نقطة النهاية، الأصل اليوناني وسيلة والترجمة العربية غاية. إذن
لا يجوز إكمال الترجمة العربية إذا كانت ناقصة من الأصل اليوناني، ولا يجوز حذف نص
من الترجمة العربية إن لم يكن موجودًا في الأصل اليوناني؛ فالنص المحذوف أو المضاف
له دلالةٌ حضارية؛ الحذف تلخيص، والإضافة شرح. ليس النص اليوناني أو النص العربي
وثيقةً تاريخيةً طِبقَ الأصل؛ فهذا تَصوُّرٌ وضعيٌّ تاريخي للنص. النص اليوناني مُجردُ
حاملٍ
لدلالةٍ حضارية والنص العربي هو المحمول، بل كلما كان النصَّان متفقَين غابت الدلالة
الحضارية، وكلما اختلَف النص العربي عن النص اليوناني حَضَرتِ الدلالة. ليست الدلالة
في
حالة الاتفاق مع النص اليوناني بل في حالة الاختلاف معه، في حالة الاتفاق يغيب
الإشكال الحضاري، وفي حالة الاختلاف تظهر الدلالة، وكلما كان الخلاف أعظم كانت
الدلالة أوضح. ليست مهمتنا تقويم النص اليوناني بالرجوع إلى مخطوطٍ يوناني قديم
أقدم من الذي لدينا الآن، الذي يرجع إلى القرن الحادي عشر أو العاشر بينما ترجع
الحديثة إلى القرون الرابع عشر والسادس عشر، ومملوءة بانحرافات عن المخطوط الأَوَّلي؛
فتلك مهمةُ المستشرق الذي يجعل النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هو الفرع.
كما أن إنقاذ فِقرةٍ طويلةٍ ضاعت من المخطوطات اليونانية القديمة أيضًا مهمة المستشرق.
كان الهدف من نشر المستشرقين للترجمة العربية القديمة لكتاب الشعر، هو التعرُّف على
النص اليوناني وليس النص العربي؛
٢٢ فاليونان هم الأصل والعرب هم الفرع. وكان الهدف أيضًا تعريف الغرب
بصورة كتابِ الشعر عند الشرقيِّين وأثرِه في شِعرِهم أو عدمِ فهمِهم له. وكلا الفرضَين
أوروبيَّان: إفادة الأنا الأوروبي وإبداعه، الأنا اليوناني وإنكار قدرة الآخر على
الفَهمِ ثم على الإبداع.
لا يهم ابتعاد الترجمات العربية القديمة عن الأصل اليوناني أو قربها منه؛ فهي
بداية الشرح والتلخيص.
٢٣ الترجمة تفسير وتأويل، مراحلُ متعاقبةٌ لا فصل بينها، هذا تصوُّر المحدَثين
للترجمة من اليونانية إلى الإنجليزية دون موقفِ حضاري وتحت تأثير الوضعية اللغوية
العربية في القرن التاسع عشر، لم تخطئ الترجمة السريانية لأنها قامت بنفس المهمة في
النقل الحضاري من الوافد اليوناني إلى الموروث السرياني كما قام بها الناقل العربي،
ولا عيب في أن تختلف الترجمات، فالمصطلحات ما زالت تتخلق، ولها دلالة على الفهم،
فالبرهان تعليم، والخطابة امتحان، والسفسطة مرائية وهو لفظٌ قرآني، ولا يُوجد خطأٌ
وصوابٌ بين المترجمِين بل درجاتٌ مختلفة في فهم النص، وإحساساتٌ متفاوتة بدرجاتٍ عمقه،
وطبقًا لثقافة المُترجِم الفلسفية ومعرفتِه بالمصطلحات وقدراتِه اللغوية، وكلها تدور
حول بؤرةٍ واحدة «مجانبة الرأي المشهور». لا يُوجد خطأٌ وصواب في الترجمة؛ لأن كل
ترجمة نقل حضاري. ليست الترجمة فرعًا على الأصل اليوناني، بل الأصل اليوناني فرع
على الترجمة. والمهم في الترجمة المعنى وليس اللفظ. والترجمة الحديثة خارج الموقف
الحضاري القديم.
٢٤ ولا يهمُّ الخلاف بين الترجماتِ ما دام لا يُؤثِّر في القصد الحضاري. ليست
الترجمة نقلًا حرفيًّا بل تأويلٌ وقراءة. وليس المهم إذا كان الشُّراح أقرب إلى النص
اليوناني أم لا؛ فليست المطابقة هي المقياس، بل كلما ابتعد كان أبعدَ عن النقل وأقرب
إلى الإبداع.
٢٥
ليس الهدف من الترجمة العربية القديمة مجرد استعمالها للاستفادة في النثر الفني؛
فلم تكن القضية عند القدماء مجرد أسلوبٍ أو صياغةٍ وهم أهل الأدب، بل كان موقفًا
حضاريًّا عامًّا من ضرورة التعرُّف على الوافد من أجل استعماله لفهم الموروث، وإيجاد
ثقافةٍ حديثة تجمع بين الاثنَين. والفلسفة أكثر من الأدب، بحث في الواقع وتحليل له من
أجل التغيُّر الاجتماعي.
٢٦
ليس المطلوب إصلاح الترجمة العربية القديمة، حتى يتفق مع الأصل اليوناني الحديث،
بل المطلوب هو فهم الترجمة العربية القديمة كموقفٍ حضاري، تمثلًا للآخر من أجل إعادة
إخراجه من جديد. لا يجوز إكمال الناقص في الترجمة العربية بالنص اليوناني؛ فالحذف
له دلالته الحضارية، كبداية للتلخيص، وليس عند المحدثين الذين يتصورون الترجمة
نقلًا آليًّا طبقًا للأصل. هل الغاية الترجمة العربية القديمة أم النص اليوناني في
اللغة العربية؟ هل الغاية حصار ثقافة الآخر كما فعل القدماء، أم انتشار ثقافته كما
يفعل المعاصرون؟ إذا كان هناك حذف في الترجمة العربية بالنسبة إلى النص اليوناني،
ولا يكون مفقودًا في المخطوط، فلا يجوز للناشر إضافته؛ فالحذف له دلالته الحضارية،
إما أن المحذوف لا يفيد في المعنى شيئًا؛ لأنه حشو أو لأنه أمثلةٌ محليةٌ صِرفة، لا
تدل إلا عند قارئها اليوناني، وليس عند قارئها العربي، أما النص المضاف في الترجمة
العربية، فلا يجوز حذفه في النشر الحديث؛ لأنه مُوضِّح للمعنى. وعلى هذا النحو تكون
الترجمة إعادة تأليف، وإنتاجٍ للنص من جديد بلغةٍ جديدة وبتركيزٍ جديد. لا فرق إذن
بين الترجمة والتعليق والشرح، الكل تأليفٌ جديد ابتداءً من النص الأوَّلي. ليست الغاية
إذن إيجاد النص اليوناني ابتداءً من الترجمة العربية، بل إيجاد الترجمة العربية كنصٍّ
حضاري؛ ليست الغاية نقل النقل بل إبداع الإبداع؛
٢٧ لذلك لا يجوز للناشر الحديث إضافة أيِّ زياداتٍ من عنده أكثرها مأخوذٌ من
الأصل اليوناني، بالمقارنة معه ويضعها بين < > كما أن الزيادة في الأصل المخطوط
يضعها بين [ ] ويقترح حذفها، مع أن النقص الأول والزيادة الثانية لهما دلالةٌ خاصة
فيما يتعلق بالترجمة؛ فالترجمة هنا لا تعني نقلًا طِبقَ الأصل، بل بدايات الشرح
والتلخيص؛ الشرح في حالة الإضافة، والتلخيص في حالة الحذف. ويكفي تحليل المضاف
والمحذوف للتعرُّف على بدايات الفكر الفلسفي. كان النص سِجلًّا للموقف الحضاري كله،
حالة النص، وحالة المُترجِم والمُعلِّق والقارئ، وليس عُريًا نفسيًّا وعقليًّا
Striptease. كان هناك تفاعُل بين النص والقارئ،
كما هو الحال في الغناء بين المُغنِّي والمستمع، أو في التمثيل بين نص المؤلِّف وإلقاء
الممثل واستماع المشاهد، أو في قراءة القرآن بين النص المكتوب والقراءة المتلوة
والمسموع، بل وأصوات الاستحسان التي يصدرها المستمعون، لا فرق في ذلك بين قراءة
القرآن وغناء المطرب أو شدو المطربة. مهمَّتُنا إخضاع النص لعمليةِ تحليلٍ وتأويل، وهو
عملٌ فلسفي ثانٍ على العمل الفلسفي الأول. ليس النص مُجرَّد مَصدرٍ للأخبار ولكنه تجربةٌ
حضاريةٌ متشابكة، علاقةٌ بين الموضوع والذات أولًا ثم بين الموضوع كذات عند القدماء
والذات ثانيًا عند المُحدَثِين. ليس المهم منطق أرسطو كنصٍّ تاريخيٍّ بل استعماله كموقفٍ
حضاري؛ ليس المهم هو البدن بل الروح؛ ليست الفكرة المنقولة بل الفكرة الناتجة عن
الفكرة المنقولة؛ ليست المعلومات بل العلم وهو ما يبقى بعد نسيان المعلومات. ولا
يجوز للناشر الحديث بدعوى وقوع خلط واضطراب في المخطوط إعادةُ ترتيبه بحيث يتفق مع
النص اليوناني الحالي؛ فقد تكون الترجمة القديمة إعادة إنتاج للنص اليوناني، حتى
تكون أَقدرَ على التعبير عن المعنى. قد تكون نصًّا جديدًا وليس نقلًا للنص القديم.
٢٨ لا يجوزُ إكمالُ الترجمة العربية القديمة بالنص اليوناني الحديث؛ فقد
يكون للحذف دلالةٌ حضارية، إن لم يكن مُجردَ ضياعِ جزءٍ من النص اليوناني القديم.
٢٩ والحكمُ بأن هناك بَترًا في المخطوط، إن كان ذلك صحيحًا، حُكمٌ على المخطوط
باعتباره وثيقةً تاريخية، وليس باعتباره حاملًا لدلالةٍ حضارية. وإكمال الناشر الحديث
له تدخُّلٌ تاريخي في عملٍ حضاريٍّ لا تاريخي. وإن كانت هناك أدلةٌ على البتر، مثلًا
غياب
اللازمة الدينية المعروفة في الخاتمة، فإن إضافتَها يُغيِّر الدلالة لأنها إضافةٌ
تاريخية دون دلالة.
٣٠
ليست الغاية من الترجمة العربية القديمة تصحيح النص اليوناني؛ فالأصل هو الترجمة
العربية والفرع هو النص اليوناني، وليس العكس على ما يبدو من التتابع الزمني؛
فالحذف من والزيادة على النص اليوناني لهما دلالتهما بالنسبة للنص كموقفٍ حضاري. ليس
النص وثيقةً تاريخية تجب المحافظة عليها، بل حامل لموقفٍ حضاري. ما يهمُّ في الترجمة
هي التغيُّرات الدالَّة وليس مُجردَ تغييرِ حرفٍ أو كلمةٍ لا دلالة لها قد ترجع إلى أخطاء
النسخ.
٣١ وهي أخطاءٌ غيرُ دالَّة؛ فالصلة بين النص والترجمة تتعلق بالجوهر، باللفظ
والمعنى والشيء ذاته موضوع الترجمة. ليست الغاية من الترجمة العربية الآن الإفادة
منها في تحقيق النص اليوناني، وكأن النص اليوناني هو الأصل والترجمة العربية هي
الفرع؛ هذا هو مفهوم المستشرق كباحثٍ أوروبي، ولكن الأمر يختلف بالنسبة للباحث
الوطني؛ فالأصل هو الترجمة بالعربية، والفرع هو النص اليوناني أو السرياني لمعرفة
مسار الفكر، والانتقال من النقل إلى الإبداع. كل مُستشرقٍ يعتمد على الآخر في رؤيةٍ
واحدة لعلاقة الأصل اليوناني بالفرع العربي،
٣٢ بل يُلحِق الترجمة السريانية بالأصل اليوناني، ويضعها في جانبٍ واحدٍ حيث
الاتفاق أكثر من الاختلاف، في مقابل النص العربي حيث الاختلاف بينهما وبينه أكثر من
الاتفاق، بل إنه يتم تغيير كلمات السرياني بحيث يكون النص متفقًا مع النص اليوناني
(تكاتش). ليس المهم إذن الانتفاع بالترجمة العربية لتحقيق النص اليوناني، بل
الانتفاع بالنص اليوناني لمعرفة الحذف والإضافة بالنسبة للنص العربي، والتعرف على
عمليات التمثُّل والاحتواء لثقافة الآخر ضمن ثقافة الأنا. لا يُعوَّض الفَرحُ بوجود النص
العربي، والحزن على فقد النص اليوناني، عن طريق إعادة تركيب النص اليوناني؛ هذا
يتفق مع عقلية المستشرق وموقفه الحضاري، الذي يرى أن اليونان هو الأصل والعرب هم
الفرع، وهو خليفة الأصل ويريد اكتشاف أصوله. في حين أنه عند الباحث العربي، الأصل
هو النص العربي المركب، والفرع مع فروعٍ أخرى صحيحةٍ أو منحولة هي النص اليوناني.
٣٣
(٣) الترجمة القديمة والترجمة الحديثة
ولا يجوز إكمال الترجمة العربية القديمة بترجمةٍ عربية حديثة؛ فليس الغرض إعادة
النص اليوناني بل شرح النص العربي، وشتَّانَ ما بين الموقفَين. يهمُّ المستشرقَ النصُّ
اليوناني كأصل، ويستعمل النص العربي كفرع، والنص السرياني كفرعٍ آخر، في حين أن
الموقف الحضاري للباحث الوطني، هو التعامُل مع النص العربي القديم بعبله، بأخطائه،
بنقصه وزياداته؛ فلا يُوجد سوء فهم في الحضارة بل تأويل، لا يُوجد خطأ أو صواب في فهم
النص بل قراءة له.
٣٤ وقد يكون الحذف العربي لإحدى نهايات المقالات، التي تُعلِن عن نهاية جزء
وبداية جزءٍ آخر خاصةً بالتراث اليوناني، لا يحتاجها المترجم العربي القادر على عمل
مقطعٍ آخر، ليُعلِن عن نهاية موضوع وبداية آخر.
٣٥ ولا يجوز إكمال الترجمة العربية القديمة اعتمادًا على الترجمة
اللاتينية القديمة، بدعوى أنها ترجمةٌ للأصل العربي القديم، ولمَّا كان اللاتين أكثر
حفظًا للنص، وأقرب عهدًا لنا كان النص العربي القديم ناقصًا؛ فربما كان الحذف من
الترجمة العربية مقصودًا؛ لأنه غير ذي دلالة. وربما كانت الزيادة في الترجمة
اللاتينية مقصودة؛ فقد قام اللاتين بعملياتٍ حضاريةٍ أخرى في نقل النص من العربية إلى
اللاتينية، فإذا كان الحال كذلك مع النص اللاتيني القديم، فالأَوْلى أن يكون مع النص
اليوناني الحديث؛ فلا يجوز إكمالُ فِقرةٍ «ناقصة» في الترجمة العربية، اعتمادًا على
النص اليوناني الحديث؛ لأنها ليست ناقصةً بل محذوفة عن قصد؛ فالترجمة العربية إعادة
إنتاجٍ للنص اليوناني، وليست ترجمة له، باستبعاد الإسهاب وتحصيل الحاصل، والتكرار،
والأمثلة المحلية اليونانية.
٣٦ لا يجوز إضافة شيءٍ محذوف في النص العربي من اليوناني؛ فالحذف له دلالته
على الثقافة المُترجَم إليها، إمَّا لشدة تركيزها ورفضها الإسهاب، وكما يبدو وذلك في
اللغة العربية، أو لمعارضة الفكرة المنقولة لتصوُّر الثقافة الجديدة؛
٣٧ فالله مثلًا لا يدخل كمثل للأنواع والأجناس أو كمحمول أو كموضوع، الله
فكرة محددها وحذفها له دلالة.
٣٨
ليس الهدف من نَشرِ الترجمات العربية القديمة الاستعانة بها؛ من أجل فهم وتصحيح
الترجمات الأوروبية الحديثة خاصةً فيما يتعلَّق بدقة المصطلح الفلسفي؛ فهاتان المرحلتان
تاريخيتان مستقلتان: مرحلة النقل الإسلامي، ومرحلة النقل الأوروبي الحديث، لكلٍّ
منهما طابعُها المستقل، وعملياتها الحضارية الخاصة؛ فالنقل الإسلامي لم يكن القصد
منه النقل الحرفي، بل التعرُّف على الوافد من أجل استعماله لإعادة عرض الموروث في
مرحلة الالتقاء بين الثقافات من أجل خلق ثقافةٍ فلسفية واحدة. كان النقل قراءةً
وتأويلًا؛ كان بداية التفكير الفلسفي. في حين أن النقل الغربي الحديث كان بهدف
إيجاد ترجمةٍ مطابقة للأصل اليوناني تحت تأثير النزعة العلمية، وإيجاد ترجماتٍ
باللغات الأوروبية الحديثة؛ فرنسية، وإنجليزية، وألمانية، وإيطالية، وإسبانية، وروسية
للنص اليوناني، من أجل التعرُّف على الثقافة اليونانية، أحد مصادر الثقافة الأوروبية،
وهما هدفان مختلفان تمامًا. أمَّا إيجاد ترجمةٍ عربية حديثة مطابقة للنص اليوناني،
فهذا أيضًا تقليد للنقل الغربي، ووقوع في النزعة التاريخية والنقلِ الحرفي. والنقلُ
القديم كان أكثر مطابقةً للنص اليوناني، من حيث الدلالة الحضارية العامة باعتباره
بداية الإبداع؛ فالنقل القديم كان مجرد وسيلة وليس غاية، في حين أن النقل اليوم
أصبح غايةً وليس وسيلة؛ من أجل التثقف والتعلُّم من حضارة المركز، ونقل المعلومات
والمعارف، واستهلاكها دون إبداعٍ مقابل. كما أن النص اليوناني اليوم لا يمثل وافدًا
أو غزوًا ثقافيًّا، كما يمثله النص الأوروبي الحديث؛ وبالتالي لا تكون ثَمَّةَ حاجةٌ
إلى
نقلٍ جديد للنص اليوناني، بل هناك حاجةٌ إلى نقلٍ عن النصوص الأوروبية الحديثة، التي
تمثل وافدًا ثقافيًّا من أجل تمثُّله واحتوائه، كما فعل القدماء مع النص اليوناني، ثم
تحويله إلى معانٍ؛ من أجل إعادة بناء الوافد كله داخل الموروث، والانتقال من النقل
إلى الإبداع. ليس الهدف إذن أثريًّا بل حضاريًّا استشراقيًّا، بل من أجل المساهمة
في تدعيم الثقافة الوطنية، ومحاولة تطويرها من مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع.
٣٩
إن إعداد ترجمةٍ يونانية قديمة لا فائدة منها بالنسبة للترجمة العربية القديمة؛
فالموقف الحضاري للمُترجِم القديم غير الموقف الحضاري للمُترجِم الحديث،
٤٠ الأَوَّل لم يكن فقط مترجمًا لنصٍ من لغةٍ إلى لغة، بل ناقلًا لثقافة
بأكملها من حضارةٍ إلى حضارة، متمثلًا الأولى في الثانية. في حين أن الثاني مجرد
ناقل لثقافة الآخر إلى ثقافة الأنا عبر اللغة؛ من أجل نشر المعلومات دون أن يكون له
موقفٌ حضاري خاص؛ ومن ثَمَّ استحال الحكم على الترجمة العربية القديمة، التي تعبر عن
الموقف الحضاري للمترجم بالترجمة العربية الحديثة، التي لا موقف حضاري لها أو التي
لها موقفٌ حضاريٌّ مخالف، وهو نشر ثقافة المركز في الأطراف. موقف المترجم القديم يُعبِّر
عن أصالةٍ ثقافية، بينما يُعبِّر موقف المترجم الحديث عن تبعيةٍ ثقافية. المترجم
الأول يتمثل ويحتوي ويُعلِّق ويُلخِّص ويشرح ويؤلِّف ويُبدِع، بينما المترجم الثاني مُجردُ
ناسخٍ
طبقَ الأصلِ للنص الأول في النص الثاني مع اختلاف اللغة. الترجمة الحديثة لا تعبِّر عن
موقفٍ حضاري جديد؛ فالثقافة اليونانية ليست غازيةً لنا، ولا تُوجد هناك حركةٌ
لاحتوائها، على عكس الثقافة الأوروبية الغازية، وعدم وجودِ ترجماتٍ عربية لنصوصها،
بغرض تمثُّلها واحتوائها وتلخيصها، وشرحِها من أجل التأليف في موضوعاتها ثم الإبداع
المستقل عنها. تهدف الترجمات الأوروبية الحديثة داخل حضاراتها، إلى معرفة النصوص
القديمة، كوثائقَ تاريخيةٍ دون تشويه الترجمات العربية لها، ومثل معرفة نصوص الكتاب
المقدَّس، وإعادة ضبطها كوثائقَ تاريخيةٍ ومصادرَ للتراثِ الغربي. إن أية ترجمةٍ حديثة
لكِتاب الشعرِ لا فائدة منها؛ فإصلاح النص القديم ليس هو المطلوب؛ لأنه يُعبِّر عن موقفٍ
حضاري وليس مُجرد ترجمةٍ حرفية. وبيان براعة الباحث الجديد ومدى علمه باللغات
الأجنبية، إحساسٌ بالنقص أمام التراث الغربي والباحث الغربي. وهو أيضًا تقليدٌ
للأوروبيِّين في نشرِ نصوصٍ تُعتبَر مصدرًا للتراث الغربي وليست مصدرًا لتراثنا. وخدمةُ
النص اليوناني وإظهاره في كل اللغات، وقوعٌ في ثنائية المركز والأطراف، المركز
اليوناني والطرف العربي. إن المواجهة الآن مع الغرب ليست مع كتاب الشعر، بل مع رأس
المال؛ فكما كوَّن كتاب الشعر وجدان القدماء، كذلك يُكوِّن كتابُ رأس المال وجدان
المُحدَثِين.
ومقارنة الترجمة القديمة بالترجمة الحديثة، تُظهر الموقفَين الحضاريَّين المتباينَين،
قراءة الأولى ونقل الثانية، تمثُّل الأولى ونسخ الثانية، رؤية الآخر من خلال الأنا
وتبعية الأنا للآخر في الثانية، تُعبِّر الأولى عن موقفٍ حضاري، بينما الثانية مجرد
نسخٍ وتقليدٍ لأهدافٍ لها.
إن كل التعليقات غير الواردة في الترجمة القديمة، والتي تأتي من الناشر الحديث،
إنما هي مستمدة من النشر الأوروبي الحديث، ولا دلالة لها إلا من حيث البحث عن النص
كوثيقةٍ تاريخية، وهو ما تم في الغرب، وله دلالته الحضارية عنده، إبَّان نشأة النقد
التاريخي للكتب المقدسة، بحثًا عن الرسالة الضائعة والوحي المحرَّف، والكلام غير
المدون. يهمُّ الناشر الأوروبي الحديث النص اليوناني، وليس الموقفَ الحضاري، على عكسنا
نحن. ولو أن النشر العلمي للوثيقة التاريخية، له دلالةٌ حضارية عندهم في اللاوعي، لا
يعرفونها هم ونعرفها نحن، وهو البحث عن الرسالة التاريخية والكتاب المدون بلا
تحريف. وما أَكثرَ اتهامَ الناشر الجديد للترجمة العربية القديمة، حتى يُظهِر قُواه في
ضبط المعنى، وإمكانياته باللغات الأجنبية ومعرفته بدراسات المُستشرِقِين! وما أهمية
الترجمة الحديثة للنص اليوناني القديم؟ هل بيانُ مدى جهل القدماء وعلم المُحدَثِين؟ إن
الموقف الحضاري مختلفٌ تمامًا؛ فالقُدماء لم يكونوا فقط مُترجمِين، بل ناقلِين للنص
الحضاري من بيئةٍ ثقافية إلى بيئةٍ ثقافية مغايرة، سُريانية أو إسلامية، في حين أن
المُحدَثِين مُجردُ مُترجمِين؛ بمعنى مطابقة الترجمة الحديثة للنص القديم، دونَ أيةِ
قراءة
أو تأويل؛ مُجرد ترجمةٍ مهنية آلية، طبقًا للموضوعية والحياد، وهما مستحيلان عمليًّا؛
فكل ترجمةٍ قراءةٌ أو تأويل شعوري أو لا شعوري، فردي أو جماعي، حتى وإن لم يكن ذلك
مقصودًا عند المُترجِم الحديث. أمَّا إذا كان الهدف بيان مدى دقة القدماء في إنشاء
المصطلحات، فإن القدماء قد أبدعوا في ذلك، ونحن ما زلنا نعيش على تُراثهم. ليست
المعركة مع النص اليوناني القديم، بل مع وريثه الغربي الحديث، الذي نصَّب نفسه
مقياسًا وأصلًا ثانيًا، يتم على أساسه إصلاح الترجمة العربية القديمة؛ فلا يجوز في
طبع الترجمة العربية القديمة إكمال النقص بها اعتمادًا على النص اليوناني، أو حذف
نصٍّ أصلي لم يَرِد فيها؛ فهذا قضاء على مادة العملية الحضارية التي قام بها القدماء
من خلال الترجمة. بالنسبة للأوروبي هناك تحريف في الترجمة العربية عن النص
اليوناني؛ لأن الأصل عنده اليوناني وليس العربي؛ يريد تصحيح اليوناني بالعربي دون
رؤية العمليات الحضارية التي تمَّت من النص اليوناني إلى الترجمة العربية. والترجمة
العربية بالنسبة للباحث الوطني هي الأصل، والنص اليوناني هو الفرع، ولا يجوز تصحيح
الأصل بالفرع.
٤١ كل ترجمةٍ مخالفةٍ للنص اليوناني تكون خاطئة عند المستشرق؛ لأن اليوناني
هو الأصل والعربي هو الفرع، مع أن الاختلاف بين النص والترجمة راجعٌ إلى منطقٍ
حضاري محكم.
(٤) الترجمة والنص
لا تعني الترجمةُ كعملٍ حضاري أيَّ خروج على النص، بل تعني البحث عن «نص كلامه»،
كما يقول حنين بن إسحاق في ترجمته لكتاب «النفس لأرسطو»؛
٤٢ ولذلك تبدو بعض الترجمات بأقلِّ قدْرٍ ممكن من النقل الحضاري، دون حذف أو
إضافة أو تأويل أو تعليق إلا في أقلِّ القليل في البسملات والحمدلات أحيانًا، كعلامة
على البيئة الثقافية الجديدة؛ ربما لأن الطب علمٌ دقيق، لا تُوجد فيه مواضعُ يسهُل فيها
التعشيق بين المؤلِّف والمُترجِم، بين النص اليوناني والترجمة العربية، كما هو الحال
في
نصوص الحكمة؛ احترامًا للعلم وعدم الفتيا فيما لا يعلم المترجم، بالرغم من إمكانية
الجهاد في ذلك عن طريق تصوُّر القرآن للطبيعة وأحاديث الطب النبوي، كما هو الحال في
التأليف عند ابن سينا في «القانون».
٤٣
وأحيانًا يبدو العمل المزدوج عند الناشر الحديث. إذا التزم المترجم بالمطابقة
فإن الناشر الحديث يعيب عليه حرفيته، وإذا أَوَّل ونقلَ حضاريًّا عاب عليه الناشر
الحديث خروجه وتحريفه وتأويله، بل وخَطَأه وخَلْطَه وسوءَ فَهمِه! فالترجمة العربية القديمة
مُعابة مُعابة، والمُترجِم العربي القديم مخطئ على الإطلاق.
٤٤ وقد يكون الدافع على تبني نظرية المطابقة أن المُحقِّق مُتخصِّص في الدراسات
اليونانية واللاتينية، مما يجعل النص اليوناني هو الأساس والترجمة العربية الفرع،
على نَحوٍ لا شعوريٍّ اعتزازًا بالتخصُّص.
٤٥ وقد يكون الدافع الاستشراق وتبعية وتعاليم المُستشرقِين والمركزية
الأوروبية التي تعتبر اليونان الأصل والعرب الفرع طبقًا لعلاقة المركز بالأطراف،
وقياسًا على علاقة الغرب الحديث بالغرب القديم.
٤٦
وقد ترجع الاختلافات بين الترجمة العربية والنص اليوناني، إلى عدةِ اعتباراتٍ ماديةٍ
صِرفةٍ بعيدة عن النقل الحضاري، منها مثلًا أن تكون الترجمة العربية القديمة قد تمَّت
من مخطوطٍ يوناني قديم، غير المخطوطات التي وصلت الغرب الحديث، والتي اعتمد على
نشرها في طبعاته العلمية، قد يكون فيها أخطاء من الناسخ أكثر أو أقل من المخطوطات
الأخرى، وقد تكون فيها خُرومٌ أو سَقْط، أو مَسْح أو بياض، لم يستطع المترجم العربي إلا
أن يتغلب عليها بالتخمين والإضافة طبقًا للمعنى، وقد تكون بعضُ الكلمات صعبةَ القراءة
أو الفَهمِ تم حذفها،
٤٧ ونفسُ الاعتبارات موجودةٌ بالنسبة للترجمة العربية. قد تكون الاختلافات
بين المخطوطات أكثر من الاختلافات بين الترجمة المطلقة والنص اليوناني المطلق. وقد
تكون الأخطاء من النُّسَّاخ، والسقْط والخَرْم والمَسْح وسوء الخط واردٌ فيها، مما يجعل
قراءتها صعبةً للناشر الحديث.
وافتراض الخطأ واردٌ دون أن يكون تصحيحه عن طريق القواميس والمعاجم، بل سرعة في
الفَهْم أو لَبْس في فَهمِ معنى، أو إيثارُ أحد معانِيهِ على المعاني الأخرى إذا كان
مُحكمًا
أو متشابهًا، أو مطلقًا أو مُقيَّدًا، حقيقةً أو مجازًا، ظاهرًا أو مُؤوَّلًا، مُجمَلًا
أو
مُبيَّنًا، خاصًّا أو عامًّا، طبقًا لمباحث الألفاظ عند الأصوليِّين، واختار المترجم
أحدهما دون الآخر، واختار الناشر الحديث المعنى الآخر، وكلاهما صحيح، والاختيار
خاضع للسياق، السياق النصي في نفس العصر، والسياق الحضاري في عصرَين مختلفَين، عصر
المترجم القديم وعصر المحقق والناشر الحديث، منطق الترجمة فيما وراء الصواب والخطأ،
في المناطق المتشابهة بين الحلال والحرام.
٤٨
واختلاف الترجمة بين المُترجمِين، يدُلُّ على الإبداع؛ فلا تُوجد ترجمةٌ نمطية واحدة
طبقًا لنظرية المطابقة، واعتمادًا على المعاجم والقواميس. اللغة تطوُّر، تُوحي
بالمعاني في النفس، ولا تستنبط من الألفاظ، ولا تهمُّ صحة نسبة القول إلى القائل أو
الشعر إلى الشاعر؛ فالمهم هو المحمول لا الحامل، والمعنى وليس اللفظ، والفكرة وليس التاريخ.
٤٩
وهناك ترجماتٌ «موضوعية»، مُجردُ نَقلٍ للنص اليوناني إلى اللغة العربية، بلا تَدخُّل
أو
فَهمٍ أو قراءةٍ أو استعمالٍ للموروث، لدرجة أنها قد تخلو من الدلالة تمامًا، هي
الترجمة التي تقومُ على نظرية المطابقة وليس القراءة. المُترجِم ناقل وليس فيلسوفًا،
موضوعي وليس ذاتيًّا، أقرب إلى النص اليوناني منه إلى الروح العربية. مثال ذلك
«رسالة الإسكندر الأفروديسي في الرد على جالينوس، فيما طعن به على أرسطو، في أن كل
ما يتحرك فإنما يتحرك عن مُحرِّك نقل أبي عثمان الدمشقي» (ﻫ). تمتاز الترجمة بجمال
الأسلوب وكأنها تأليف، بل إن المترجم لم يتدخل في تقطيع النص إلى أبوابٍ وفصول، أو
فِقراتٍ تبدأ بقال فلان إشارةً إلى المؤلف، ولم يقُمِ الناسخُ بذلك أيضًا، نيابةً عن
المُترجِم. وبالرغم من أن الموضوع يمكن تعشيقه في الموروث، المُحرِّك الذي لا يتحرك
دفاعًا عن أرسطو من الإسكندر ضد طعن جالينوس، إلا أن المترجم لم يتدخل لا بالتعليق
ولا بالقراءة ولا بالإضافة ولا بإيجاد الدلالة. وقد كان يمكن للمُترجِم أن يقوم بدور
القاضي وينتصر لأرسطو، بعد أن يستمع إلى دفاع الإسكندر عنه ضد جالينوس، أو أن يُصوِّب
جالينوس أحيانًا، خاصة وأنه فاضل المُتقدِّمِين والمتأخِّرِين، بل إنها خِلوٌ من البسملة
في البداية لا من الناقل ولا من الناسخ ولا من القارئ، وإن كانت الحمدلة في
النهاية «والحمد لله كثيرًا» تكشف عن بيئة المترجم. ربما الدلالة الوحيدة هي تعريب
اللفظ اليوناني الموسيقوس؛ أي الموسيقى، والذي استمر حتى الآن.
٥٠ وأيضًا «كتاب جالينوس إلى فسين في الترياق ترجمة حنين بن إسحاق» (٢٦٠ﻫ)
ترجمةٌ موضوعية حرفية دون قراءة، ونقلٌ على الموروث، باستثناء البسملة في البداية من
الناقل أو الناسخ، وربما الموضوع الطبيعي نفسه كنصٍّ نافعٍ للمُداوَلة ضد السموم،
وبالرغم من إمكانية التعشيق خاصة بالحديث عن المدرستَين في الطب، أصحاب القياس
وأصحاب التجربة، وذِكر آراء الأطباء السابقِين، وأن المترجم نفسه من الأطباء،
٥١ وتتسم «مقالة جالينوس في أن قُوى النفسِ توابعُ لمزاجِ البدن» بأسلوبٍ
عربي جيد، وكأنها تأليف وليست ترجمة. تخلو من النقل الحضاري، باستثناء الحمد والشكر
في النهاية، بالرغم من إمكانية ذلك نظرًا لاعتمادها على أفلاطون، وتعرُّضها لموضوعات
الموروث مثل علم الفراسة.
٥٢ أمَّا «مختصر جالينوس في الحث على تعلم العلوم والصناعات»، فنموذجٌ
للترجمة التي تقوم على النقل الحضاري؛ فالموضوع يشبه موضوعات الموروث؛ فللفارابي
رسالةً في نفس الموضوع وبنفس العنوان، كما يظهر البعد الديني للموروث؛ فغاية الفلسفة
الوصول إلى الخيرات الإلهية، والتقرُّب إلى الله تعالى، وكل أصحاب الصنائع يقبلون
بوجوههم نحو الله تعالى. ويشارك جنس الناس جنس الملائكة في النطق؛ فالإنسان ملاك.
وينتهي المختصر بحمد الله وشكره.
٥٣
ويدخل في ذلك كثيرٌ من الترجمات العلمية مثل «كتاب فيلون في الحيل الروحانية
ومخانيقا الماء»، وهو فيلون البيزنطي وليس فيلون اليهودي، مجرد ترجمة طبقًا لنظرية
المطابقة دون نقلٍ حضاري، بل ودون العبارات الإيمانية، البسملات والحمدلات والصلوات
والدعوات في البداية والنهاية.
٥٤ ومن هذا النوع أيضًا «كتاب إيرن في رفع الأشياء الثقيلة» أخرجه من
اليونانية إلى العربية قسطا بن لوقا البعلبكي، وهي ترجمةٌ مُوجَّهة إلى أبي العباس أحمد
بن المعتصم، يظهر فيها التقابُل بين اللغتَين العربية واليونانية، ويشعر المترجم
بوجود نقص في النص اليوناني؛ أي إنه يحترم النص ولا يسيء التعامُل معه بالحذف
والإضافة والخلط، بالرغم من إمكانية قراءته نظرًا لورود بعض أسماء الأعلام فيه مثل
أرشميدس وبوسدونيوس، وبه بعض العبارات الإيمانية مثل البسملة في البداية والحمدلة
في النهاية. ومثله أيضًا «صناعة الجبر لديوفانطس الإسكندراني» ترجمة قسطا بن لوقا،
بالرغم من كتابته بالأسلوب العربي المُرسَل وليس بطريقة الرموز، وهو ما يسمح بهامشٍ
محدود للنقل الحضاري، ولا تُوجد إلا البسملات في بدايةِ كلِّ مقالٍ والحمدلة في النهاية.
وبالرغم من أنه يبدأ من المقالة الرابعة إلا أن الباقي منه دالٌّ على الناقص.
٥٥
ويخلو «أجزاء الحيوان» من المقدمات والنهايات الإيمانية؛ لأن النقل الحضاري فيه ضئيل.
٥٦ وكثيرٌ من الترجمات أيضًا يغيب عنها النقل الحضاري الذي يتطلب وعيًا
حضاريًّا. وبالرغم من إمكانية العثور على العاشق والمعشوق؛ نظرًا لظهور صفة الإلهي
مثل «العضو الإلهي»، إلا أن النقل الحضاري يكاد يكون معدومًا؛ فالعِلم عِلم وليس
بالضرورة ثقافة، باستثناء البسملة في البداية دون الحمدلة والصلوات في النهاية.
٥٧
ولم تمنع العقيدة الإسلامية من ترجمةِ نصوصٍ وثنيةٍ مثل «كتاب الصلاة لياسميتوس
الوثني»، وهي بقايا من الكتاب، موضوعه شعائر القدماء من بين عبدة الصنام، الصلاة
الثالثة لزيوس «زفس الملك» لا فرق بين الإله والملك. وهو دعوةٌ ثالثةٌ مغربية التي
تقال ربما ساعة الغروب؛ أي وقت المغرب وليس جهة المغرب؛ فاللفظ أقرب إلى الدلالة على
الزمان من المكان؛ فزيوس هو عين الموجود، عين الواحد، عين الخير، هو من ذاته وبذاته
موجود، ليس معه أحد لامتناع الكثرة عليه، لا يحتاج إلى أحد، وهو الأشرف والأكمل،
بسيطٌ غيرُ مركبٍ قائم بذاته، واحد أحد، حي بذاته، كل ما سواه منه، أب الآباء وهو عديم
الأب، خالق الخالقين، قديم وما سواه كائن أي محدث، ملك الملوك، أعلى من جميع أولي
الأَمر، الممسك بكل شيء، كمال في ذاته، لا يجب عليه شيء بل هو الموجب لكل شيء، ملك
السادات، وجميع الأرباب، يتعبده الكل لأنه أحق بالعبادة. لا يحتاج إلى أحد، والكل
مفتقر إليه، فائض الخيرات وواهب الطيبات، كلٌّ يُسبِّح له وبحمده ويُعظِّمه، أزلي قديم،
سرمديٌّ لا يتحرك، خالق بذاته الموجد جواهر وذوات وآلهة فوق السماء، آلهة سماويِّين،
كل
ما سواه له نهاية وعدد، رئيس بوزيدون والطيطاني وقرونس، خالق الأجناس كلها، وأجناس
الآلهة، الخير المطلق، الجواد، واهبُ شرفِ الحقيقة الناطقة، هو الكبير في الحقيقة
والغاية، العلي الواجب، واهب السعادة للجميع، بشرًا وآلهة، غافر الخاطئِين، راجعِين
إليه باليسرى أو بالعسرى؛ هذا هو الإيمان الوثني الذي لا يختلف عن الإيمان الديني؛
فلا فرق بين العقل والوحي والطبيعة.
٥٨