تاسعًا: تدوين المصطلحات
وابن خلدون وحده هو الذي لا يجعل المصطلحات جزءًا من العلم «الاصطلاح ليس من العلم»، ويجعلها أقرب إلى مشاهير العلماء؛ فلو كانت المصطلحات من العلم لكانت واحدة. تختلف المصطلحات من عالمٍ لآخر، كما تختلف بين المتقدمين والمتأخرين، كما هو واضح في علم الأصول. ويعتبر المحدثون المصطلحات أقرب إلى الأيديولوجيا منها إلى العلم والتاريخ، وإلى الفكر منها إلى الرؤية العلمية للعالم. وهو تصورٌ حديث يفصل بين لغة العلم وبناء العلم، والحقيقة أن لغة العلم جزء من بنائه، وأن العلم لغة.
-
(١)
فأول نص في المصطلحات هو «الحدود» لجابر بن حيان، يتعلق بنشأة العلوم، وكلها عربية، ولا يوجد أي منها معرب، ومع ذلك بين تجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، بين الشرعي والعقلي؛ أي المنقول والمعقول، الطبيعي والروحاني، الفلسفي والإلهي، الحروف والمعاني، وكلاهما يخضع لثنائيةٍ واحدة في العلم أو الدين: نوراني وظلماني، روحاني وطبيعي، باطن وظاهر، دين ودنيا، شريف ووضيع، جواني وبراني، فاعل ومنفعل، حار وبارد، صفة لنفسه وصفة لغيره، جمعًا بين الطبيعة والطب والكيمياء، والدين أقله. وتخلو من أيِّ إشارةٍ إلى أسماء أعلام من الوافد أو الموروث.٨والرسالة إبداعٌ فلسفي خالص، تقوم على درجةٍ عالية من التنظير والتجريد مثل رسالة الكندي. تُحدِّد الفلسفة بأنها علم بالأمور الطبيعية وعللها القريبة، فالفلسفة علمٌ طبيعي وليست أخلاقًا أو إلهيات أو إشراقيات. ويتم تحديد المصطلحات على الاتساع دون إدخاله في علمٍ بعينه؛ نظرًا لوحدة الفكر ونسق العلوم؛ فهناك لغةٌ واحدة للطبيعة ولما بعد الطبيعة. والأسلوب عربيٌّ إنساني موجه إلى القارئ كعادة الحكماء «انظر يا أخي».٩
-
(٢)
ومن أجل ضبط المصطلح الفلسفي دوَّنَ الكندي «رسالة في حدود الأشياء ورسومها»، والتي تُعتبر أول محاولةٍ لإنشاء معجم للمصطلحات الفلسفية، حتى القواميس المدرسية والجامعية والمجمعية المعاصرة،١٠ الغاية منها توضيح معاني المصطلحات وإحكامها حتى لا يقع اللبس في استخدامها. وهي الألفاظ التي يكثر استعمالها في كتب الفلاسفة، وتعتمد في معظم الأحيان على التحليل العقلي الخالص، دون وافدٍ أو موروث أو ذكر أعمال أو أعلام، مع درجةٍ عالية من التنظير والتجريد، بالرغم مما يبدو على المادة من تجميعٍ أقرب منها إلى النحت، ويتم الحديث عن القدماء بطريقةٍ لا شخصية، وكأنهم تراثٌ ماضٍ، وعن الحكماء دون تمييز بين وافد وموروث، ودون استقرار على لفظ الحكماء أو الفلاسفة للوافد أو للموروث. ويدل العنوان على الدقة في التمييز بين الحد والرسم؛ الحد تعريفٌ تام بالجنس القريب والفصل المميز، والرسم تعريف الشيء بالجنس والعرض المميز، أكبرها حد الفلسفة والفضائل الإنسانية. وتتكرر بعض المصطلحات مثل المحبة والغيرية والطبيعية والإرادة والعمل؛ مما يدل على أن المصطلح في بدايته كان مجرد لغة الكلام. ولا يستقر ترتيب المصطلحات موضوعيًّا أو أبجديًّا كما هو الحال في المعاجم الحديثة. ويمكن تجميع المصطلحات وإعادة تبويبها طبقًا للعلوم، المنطق والطبيعيات والرياضيات والإلهيات، خاصةً أنه أول من قسم الحكمة إلى علم الربوبية والعلم الرياضي والعلم الطبيعي. وبعض المصطلحات من نفس الاشتقاق وبعضها متضاد.١١ وبعض الألفاظ لم تعد مستعملة مثل الذهل، والبعض الآخر غير فلسفي مثل الضحك. وبعض الألفاظ المشتقة تجعل مصطلحات المنطق أقرب إلى اللغة العادية مثل الصدق والصديق، والوهم والتوهم، والإرادة وإرادة المخلوق. والبعض منها غير فلسفي بل عام مثل الكتاب بالرغم من دلالته على الوجود في الأعيان أو الأذهان أو اللفظ أو الخط.١٢
-
(٣)
أما رسالة «الحدود الفلسفية» للخوارزمي (٣٨٧ﻫ) فإنها تعطي مجالًا أكثر للتعريب على الترجمة،١٣ ومعظم التعريب لأسماء كتب منطق أرسطو. وكل التعريب يوناني باستثناء مرتين: سرياني الكيان أي الطبع وبالسريانية شمع كيانا أي سمع الكيان، ومليوتا كما هو الحال عند جابر بن حيان. ولا يعتمد الخوارزمي على أسماء الأعلام، باستثناء أرسطو الذي ذُكر مرتين وابن المقفع مرةً واحدة. وهناك إحساس بالتقابُل بين الوافد والموروث، بين منطق اليونان ولغة العرب، كما هو الحال في المناظرة الشهيرة بين السيرافي ومتى بن يونس حول النحو والمنطق.١٤ ويظهر هذا التقابل بين ثقافة الآخر وثقافة الأنا في كثيرٍ من العبارات مثل علم الأمور الإلهية، ويُسمَّى باليونانية ثالوجيا، وهذا العلم، المنطق، يُسمى باليونانية لوقيا، بالسريانية مليلوثا، وبالعربية المنطق، ومعنى قاطيغورياس باليونانية ويقع على المقولات. وأحيانًا يظهر الوافد اليوناني بمفرده،١٥ فالموضوع والمحول في المنطق هما المبتدأ والخبر في النحو.١٦ والكم عرض في المنطق واسم ناقص في النحو، والكلية في المنطق هي الفعل في النحو، والرباطات في المنطق هي حروف المعاني أو الأدوات في النحو، والخوالف في المنطق هي الأسماء المبهمة والمضمرة وإبدال الأسماء في النحو.
-
(٤)
ورسالة ابن سينا (٤٢٨ﻫ) «في الحدود» أقرب إلى مقالٍ في فلسفة المصطلحات قبل القائمة الأبجدية للمصطلحات؛١٧ فموضوع الحدود جزء من صناعة المنطق، والحد الحقيقي يكون دالًّا على ماهية الشيء بالتمييز الذاتي، وبالجنس القريب والفصل البعيد، ويُفرِّق بين الحد التام والحد الناقص، ويبين عيوب الحدود الناقصة ويستعمل الأسماء الخمسة والقوة والفعل في المنطق. وينقد فرفوريوس لظنه أن الجنس يدخل في النوع، وأن النوع يدخل في الجنس. ويذكر الحكيم ويعتمد عليه في كتاب طوبيقا، وفي استعمال اسم الجوهر، كما يذكر كتاب النفس وكتاب البرهان. ويتحدث عن الفلاسفة القدماء والحكماء والفيلسوف الحكيم.
-
(٥)
ويذكر الغزالي (٥٠٥ﻫ) في الحدود ٧٦ مصطلحًا في الحد الأول من «معيار العلم». ويمكن قراءته قراءةً مستقلة كما لاحظ الرازي، بالرغم من عدم جواز أخذ جزء من معيار العلم، وجَعلِه رسالةً خاصة في الحدود؛ فالحدود هنا جزء من معيار العلم؛ أي من المنطق وليست موضوعًا مستقلًّا. وتغلب عليها المصطلحات الطبيعية ثم الإلهية ثم الرياضية.١٨ ولا يذكر من الوافد إلا أرسطو، ومن الموروث إلا الباقلاني في تحديد معاني العقل. ويشير إلى كتاب النفس مرتَين وإلى البرهان مرةً واحدة. ويُقسِّم الغزالي قوانين الحدود إلى كلية ومُفصلة، وفي القوانين الكلية يتحدث عن الحاجة إلى الحد، مادته وصورته، وترتيب طلبه بالسؤال، وأقسامه، وطرق تحصيله، ومثارات الغلط فيه واستعصاره. وتتوزع الحدود المفصلة بين الإلهيات والطبيعيات والرياضيات، بالرغم من صعوبة الفصل بينها نظرًا لدخول بعض المصطلحات الرياضية في الإلهيات والطبيعيات. مطلب الإلهيات على الإطلاق، ومطلب الرياضيات عقليٌّ خالص، ومطلب الطبيعيات حسي، وأطول الحدود حد العقل. ويحيل الغزالي إلى «تهافُت الفلاسفة» وخُلُوه من الرياضيات.
-
(٦)
أمَّا «الكتاب المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين»، للآمدي (٦٣١ﻫ)،١٩ فهو أكبر كتب المصطلحات، كتاب وليس رسالة، يتكون من فصلَين: الأول الألفاظ المشهورة وهو الأصغر، والثاني شرح معانيها وهو الأكبر. كما يدل العنوان على بداية عصر الشروح والملخصات واجترار الحضارة لذاتها، والعيش على نقل الذاكرة بعد توقُّف العقل عن الإبداع. وتغلب مصطلحات المنطق على الحكمة، مع تفصيل القياسات وكأنه كتاب في المنطق، وتتشابك الرياضيات مع الطبيعيات. ويغلب عليه الطابع المنطقي المجرد، لا يحيل إلى وافدٍ أو موروث.
-
(٧)
وكتاب «التعريفات» للجرجاني (٨١٦ﻫ) نموذج التحول كليةً من الوافد إلى الموروث، واختفاء اليونان لحساب القرآن. ويمثل كتاب المصطلحات بعد فترة الانهيار في عصر الشروح والملخصات، مصادره العقائد وليست كتب الحكمة بالرغم من الاعتراف بأنها مأخوذة من كتب القوم، ومرتبة ترتيبًا أبجديًّا إيذانًا بالمعاجم والقواميس الحديثة، معظمها تجميع أقوالٍ مأخوذة عن العلماء والفقهاء والمتكلمين والصوفية، وعلماء النحو والصرف والبلاغة. ولا يظهر أي وافد باستثناء تعريف النفس بأنها كمال أول لجسمٍ طبيعي آلي.٢٠ وفي تعريف المصطلحات يُبيِّن الجرجاني من أيِّ علم. يوافق على بعضها ويختلف مع البعض الآخر، ويكون محايدًا مع مجموعةٍ ثالثة. يحكم على بعض التعريفات بالزيادة وعلى البعض الآخر بالنقصان.
-
(٨)
وقد وضع ابن عربي (٦٣٨ﻫ) لنفسه «معجم اصطلاحات الصوفية الواردة في الفتوحات المكية». ولأول مرة يضع مؤلف معجمًا لكتاب بمفرده من تأليفه؛ مما يدل على أن معاجم المصطلحات موضوعٌ فلسفي وليس تاريخيًّا. المصطلحات عربية ولا يُوجد مصطلحٌ واحد مُعرَّب. ولا يذكر من أسماء الأعلام إلا علي بن أبي طالب بمناسبة الجبروت. وتُذكر طريقةٌ صوفية واحدة هي الملامتية تعريفًا للأمناء، وآيةٌ قرآنية واحدة كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.٢١
-
(٩)
ويعتبر «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي (القرن الثاني عشر)، آخر معجم ما زال يمثل رؤية لتدوين المصطلح الفلسفي.٢٢ وهو أشبه بدائرة معارفَ مكونة من مقالاتٍ مطولة، وليس مجرد معجم مصطلحات للتعريفات، وهي مرتبة ترتيبًا أبجديًّا كما هو الحال في المعاجم الحديثة. وتضطرب المقدمة «في بيان العلوم المدونة وما يتعلق بها» فمدخلها تقسيم العلوم، ويختلف عرض الأقسام إجمالًا وتفصيلًا. وتتدخل موضوعاتٌ أخرى داخل تقسيم العلوم مثل أجزاء العلوم، الموضوع والمسائل والمبادئ مع عرض الفرق بين المتقدمين والمتأخرين نظرًا لتطور العلوم، ثم تعرض الرءوس الثمانية للحديث عن كل علم: الغاية والمنفعة، والسمة (اسم الكتاب) والمؤلف، والعلم، والمرتبة، والقسمة، والأنحاء التعليمية (التقسيم والتحليل)، والتحديد والبرهان، ويعرض أحد جانبَي القسمة دون الآخر؛ فتُعرض العلوم العربية دون غير العربية، والشرعية دون غير الشرعية، والحقيقية دون غير الحقيقية. ويتم الاعتماد على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
-
(١٠)
وخُصِّص صدر الدين الشيرازي (١٠٥٠ﻫ) في آخر الجزء الثالث من السفر الأول من «الحكمة المتعالية»، خاتمة «في شرح الألفاظ المستعملة في هذا الكتاب»، وكما وضع ابن عربي لنفسه مصطلحات «الفتوحات المكية». وتضم خمسًا وعشرين مصطلحًا، كلها من الموروث في نظرية المعرفة. لا تعتمد إلا على الداخل مثل الرازي صاحب المباحث الشرقية، والشيخ الرئيس والمعتزلة من المتكلمين، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية.٢٣ وهناك تجميع من مصادرَ أخرى غيرِ معلنة، مثل الفارابي في رسالة «معاني العقل»، لتحديد الشيرازي معاني العقل المختلفة.٢٤ ويظن أنها مترادفة مع أنها متمايزة؛ فالغاية التمييز بين معاني المصطلحات المتشابهة.٢٥ ويتكرر لفظ الذكر مرتَين: الأولى كصورةٍ محفوظة والثانية كصورةٍ زائلة. وقد يذكر في تحديد كل لفظٍ عدة آراء واعتراضات وردود؛ فالمصطلح عليه خلاف في المعنى حتى بعد استقرائه كلفظ.٢٦
-
(١١)
وتنتهي معاجم المصطلحات الفلسفية في العصور المتأخرة بغياب الرؤية والهدف فكان المصير. مثال ذلك «الكليات» لأبي البقاء (١٠٩٤ﻫ). وهو معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أبجدي الترتيب، يطغى فيه الموروث كليةً على الوافد، فهارس ألفاظ وآيات قرآنية وأحاديث نبوية، وأبيات شعر عودًا إلى أصول الثقافة العربية قبل الإسلام وبعده، الشعر واللغة، والقرآن والحديث، وكأن الوافد اليوناني أصبح في الماضي البعيد، والحضارة الإسلامية في حاجةٍ إلى رؤيةٍ جديدة، ودمٍ جديد، ووافدٍ جديد.٢٧
-
(١٢)
ومثل ذلك «جامع العلوم في اصطلاحات الفنون الملقب بدستور العلماء» للقاضي عبد الرسول في القرن الثاني عشر. وهو معجمٌ أبجدي مثل الكليات، يغلب عليه السجع والتكلُّف، وخالٍ من أيِّ مقدمةٍ نظرية مثل الكليات، بالرغم من الإعلان عن الجمع بين العلوم العقلية والنقلية، وإنه مكتوبٌ ضد المتعصبين «مصونًا عن نظر المتعصبين المتفلسفين، محفوظًا عن مطالعة المتغلبين المتعصبين». كما أنه يخلو من الفهارس الحديثة للمصطلحات أو لأسماء الكلام. وواضح أيضًا أن الدافع الحيوي الأول قد توقف، وأن الوافد القديم من العرب أو الشرق قد طواه النسيان.٢٨
-
(١٣)
وفي «مصطلحات الفلسفة باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية» يبدو أثر الوافد الغربي الحديث على الموروث القديم؛ فاللغات المعتمدة هي اللغات الأوروبية الثلاث الحديثة، والأولوية للفرنسية على الإنجليزية والعربية؛ فالترتيب الأبجدي للمصطلحات فرنسي والمعجم كله من اليسار إلى اليمين، والاعتماد الرئيسي على معجم لالاند، وكلها ترجمة أكثر منها صياغات تعريفات جديدة، مع الاستفادة على استيحاء من المصطلحات العربية القديمة عند المترجمين والمؤلفين، واستعملت المذاهب المشتقة من أسماء الأعلام كمصطلحات، والشرق لا يتجاوز تمثيله بمصطلحين، مما يُبيِّن التوجه الغربي شبه الكلي للمعجم.٢٩
-
(١٤)
ثم ظهر وافدٌ غربي حديث، فازدَوجَت الثقافة بين موروثٍ قديم احتوى الوافد القديم، ووافدٍ حديث من الغرب، فغلب الوافد الحديث على الموروث القديم، دون أخذ اللحظة الأولى كنموذج لاسترشاد، فظهرت مجموعة من القواميس والمعاجم المدرسية والجامعية والمجمعية والحكومية، مهمتها إعطاء المعلومات التجميعية من القدماء والمحدثين، دون رؤية أو استئناف للدور الحضاري الأول، فما أصدرته المؤسسات مثل «المعجم الفلسفي».٣٠ وقد قام على مبادئَ عامةٍ ستة:الأول: الاقتصار على المصطلحات دون العلوم، باستثناء تلك التي تحولت إلى أسماءِ مذاهبَ كالأفلاطونية والأرسطية. والثاني: الاقتصار على الميتافيزيقا والأخلاق والمنطق والجمال دون علم النفس والاجتماع، فصلًا بين الفلسفة والعلوم الإنسانية. والثالث: الجمع بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة الغربية، القديمة والوسطى والحديثة دون فسلفات الشرق، مما يدل على بداية إيثار الجناح الغربي على الجناح الشرقي في الوعي التاريخي، على عكس توازنهما في الوعي التاريخي القديم، باستثناء بعض مصطلحات الفلسفة الهندية المُؤثِّرة في تاريخ الفكر الإنساني الإسلامي في لغتها الأصلية؛ نظرًا لبداية ظهور الشرق خاصة الهند أثناء حركة التحرر الوطني المعاصرة. والرابع: إحياء المصطلح العربي القديم، إلا إذا توارى أمام الحديث، واستعمال الحديث الذي أصبح شائعًا ومتناولًا. ولا يتم اللجوء إلى التعريب إلا في حدودٍ ضئيلة، وبمادةٍ من المصطلحات الغربية. والخامس: وضع المقابل الفرنسي والإنجليزي بعد أن حلَّتِ اللغتان الحديثتان محل اليونانية واللاتينية القديمة، ووضع لفظٍ عربي واحد من مقابل الأجنبي. والسادس: التركيز وعرض الأفكار الرئيسية دون الإسهاب والتطويل على عكس إسهاب القدماء.٣١
-
(١٥)
وكتب المحدثون أيضًا مجموعة أو أفرادًا مثل «المعجم الفلسفي»، نقلًا لبعض المعاجم الفلسفية الغربية المبسطة بالإضافة إلى تجميعٍ من معاجمَ أخرى. ويتبع الترتيب الأبجدي العربي، ويضع أمام المصطلحات المرادفات الفرنسية والإنجليزية، مع فهارس إنجليزية وفرنسية في النهاية دون العربية، ودون ذكر للأصل اليوناني أو اللاتيني، ويُفرِّق بين المصطلح واسم العلم، ويذكر مع المصطلح أهم فلسفة دارت حوله. كما يُفرِّق بين مصطلحات الفلسفة وعلم النفس واللغة العامة، ويدعم المصطلح بمجموعةٍ من النصوص من القدماء ومن المحدثين، والمصادر، وفي النهاية كما هو الحال في دوائر المعارف. ويغلب الوافد الغربي على الوافد الشرقي فيه؛ مما يدل على ضعف حضور الجناح الشرقي للفكر الإسلامي المعاصر في الوعي التاريخي للمؤلفين لمسيحية البعض وغربية البعض الآخر. وبالرغم من صدوره في عصر التحرر الوطني وريح الشرق ومؤتمر باندونج، بدأ التعريب من الوافد الغربي الحديث، بعد أن كان قد انتهى تمامًا مع الوافد اليوناني القديم.٣٢
-
(١٦)
وكثرت مثل هذه القواميس المحدثة حتى أصبحت سباقًا على العلم وربما التعالُم، ومزاحمةً في النشر، وسعيًّا وراء الرزق وسدًّا للفراغ الاصطلاحي في المدارس والجامعات، بدعوى الموضوعية والحياد، وجمع المادة التاريخية، والحقيقة بسبب غياب الرؤية الحضارية عند المحدثين؛ ومن ثَمَّ ازدَوجَت الأزمة، أزمة نهاية اللحظة الحضارية الأولى مع الوافد اليوناني والشرقي، وعدم بداية اللحظة الحضارية الثانية مع الوافد الغربي وغياب الشرقي.٣٣