(١) التعليق وحصار النص
والتعليق بداية الخروج على النقل المعنوي إلى التأليف، إعادة إنتاج النص المنقول،
والاستقلال عن النص، وبداية القراءة. التعليق مراجعةٌ للنص، وتحويله من معيارٍ إلى
معار، ومن مقياسٍ إلى مقيس، ومن ذاتٍ إلى موضوع ومن مستوى الندية، ندية المنقول
والناقل، إلى مستوى التفوق، تفوق الناقل على المنقول. التعليق تحررٌ من النص الأول،
بعد استنفاذ أغراض النقل وهو المعرفة، والانتقال من المعرفة إلى النقد. التعليق
بيان وشرح للترجمة وتوجه بالنسبة إلى النص الأصلي ولو احتمالًا.
١ قد يعطي التعليق مثلًا توضيحيًّا لشرح النص، وقد يشرح معنى النص
ويتساءل حوله مستفهمًا، قد يشرح معناه ويعطي احتمالات أخرى،
٢ التعليق بداية الشرح، وبيان المعنى والغرض والقصد. هو جزء لا يتجزأ من
النص كموقفٍ حضاري، وإن لم يكن جزءًا من النص كوثيقةٍ تاريخية. التعليقات بداية
التفكير؛ وبالتالي فهي أكثر دلالةً من النص الأصلي على الموقف الحضاري. في التعليق
هناك إحساس باللغة، وتوجه نحوه، وذكر للفيلسوف باتجاهه نحو المعنى. الشرح هو الانتقال
من المعنى إلى اللفظ، وتحويل المعاني
المفهومة إلى لغةٍ عربية سليمة وليست مترجمة؛ لذلك كانت الترجمة المعنوية خطوة نحو
التعليق. وعندما يكون النص المترجم واضحًا، منقولًا بأسلوبٍ عربي سليم، لا تظهر
الحاجة إلى التعليق، إلا بقدرٍ ضئيل، قد لا يتجاوز عبارتَين أو ثلاثة أو فقرةً صغيرة.
٣ وإذا كان النص خصبًا فإنه تكون له عدة تعليقاتٍ وشروح مثل الشروح
الأربعة لكتاب الطبيعة.
٤
التعليق بداية الشرح والتلخيص، الأول بالإضافة والثاني بالحذف. والفروق بين
التعليق والشرح، أن التعليق من المترجم، والشرح والتلخيص من الشارح والملخص.
التعليق جزء من الترجمة المعنوية، في حين أن الشرح والتلخيص نوعان أدبيان مستقلان.
في التعليق الترجمة هي الأساس، والتعليق هو الفرع، وفي الشرح والتلخيص، الشرح
والتلخيص هما الأساس، والترجمة هو الفرع. التعليق داخل في الترجمة، وجزء من الترجمة
المعنوية، أما الشرح والتلخيص فخارجان عن الترجمة منفصلان عنها. مهمة التعليقات
محاصرة النص من الخارج في التعليقات الصغيرة في الهوامش كحراس للأطراف، ومهمة
الترجمة خلق النص في الداخل والحفاظ على المركز.
قد يكون التعليق سابقًا على النص، وكأن الترجمة هي التي تشرح التعليق. التعليق
هنا تلخيص للنص والتعبير عنه كرأس موضوع؛ فيصبح التعليق هو النص المشروح والترجمة
هي النص الشارح.
قد يكون التعليق أوضح من النص تعبيرًا عن النص المترجم حرفيًّا، بعباراتٍ عربية
أكثر سهولة ويسرًا من حيث فن الكتابة، فإذا كانت الترجمة حرفية بغية للدقة، فإن
التعليق معنوي حرصًا على فهم المعنى.
٥ ويُستعان على ذلك بضرب الأمثلة. ويغلب على التعليق القول الشارح، طابع
الأمالي والمحاضرات والسماع، حتى تتحقق الغاية من الترجمة وهي إيصال المعاني، خاصةً
وأن النص ذاته كان سماعًا؛ أي محاضرات غايتها الإفهام وإيصال المعاني.
٦ وقد يكون فقرة شارحة لعبارةٍ واحدة أو لفقرةٍ واحدة، أو لإحدى مقالات
الكتاب أو لمجموع الكتاب كله. قد يكون التعليق أكثر إيصالًا للمعنى من النص؛ لأن
التعليق يبدأ بالمعنى فيخرج اللفظ طواعيةً، في حين أن النص يبدأ باللفظ ويحرص عليه
فيتوارى المعنى، ويتراوح بين الأقل غموضًا والاكثر وضوحًا؛ فهناك ترجمات تختلف فيما
بينها لغويًّا وضوحًا وغموضًا من حيث الصلة بين اللفظ والمعنى، فإذا كان في النص
«المسائل» ففي التعليق المطالب. وإن كان في النص للبعض ففي التعليق لواحد. وإذا كان
في النص فصل يتجاوز ففي التعليق يتعدى. التعليقات أكثر وضوحًا وأقرب إلى العقل،
وأكثر تركيزًا على المعنى من ترجمة النص لفظًا بلفظ، وحرفًا بحرف. التعليق لم شتات
النص واحتواء للنص بالروح لا بالبدن، بالمعنى لا باللفظ. وهو عمل فلسفي بالأصالة،
إذا كانت الفلسفة هي القدرة على التعامل مع المعنى كموضوعاتٍ مستقلة.
٧ وفي كثيرٍ من الأحيان يكون أوضح من النص؛ فتلك الغاية من التعليق،
المعنى للاستعمال والتطوير لمرحلةٍ قادمة؛ فالترجمة تمثل النقل، والتعليق هو
التمثيل، والشرح والتلخيص هو الاحتواء. يخرج موضوع من موضوع عقلًا بترتيبٍ منطقي؛
مما يسهل عملية الهضم فالنص ذاته عقلي، والشارح عقلي، وبالتالي يحدث الوئام. مراحل
الشرح تمرينات عقلية لتوضيح المعنى أمام النفس، تشغيل للمحرك بعد وضع الوقود فيه
واستعماله دون سير، النص هو الوقود، والإشعال هو الشرح، والسير هو الاحتواء.
ونظرًا لأهمية التعليق لفهم النص أو في ذاته، يُوضع مع الترجمة في نصٍّ واحد دون
خلط بينهما؛ فكل فقرة من الترجمة تحاصرها تعليقاتٌ أربعة، حتى يتم احتواء النص
الدخيل، ويتمثل الموروث الوافد؛ فالترجمة مجرد مناسبة للتعليق، والنقل مجرد وسيلة للإبداع.
٨ التعليق مع الترجمة منذ البداية؛ فلم تترك الترجمة بمفردها على
الإطلاق. لا يُوجد وافدٌ دون محاصرته بالتعليق، وقد تمت هذه المحاصرة أكثر مما تم في
المنطق الذي كانت تعليقاته على الهامش أو فوق الصفحة؛ فالمنطق عقل يمكن قبوله
بالبديهة، أمَّا الطبيعيات فهي موقف من العالم، يتم حصاره حتى لا يترك النص بمفرده،
وحتى يتم تمثله داخل الثقافة الرئيسية. وإذا كان الناسخ هو الذي قام بذلك وليس
المترجم، أو أنه ناسخ ومترجم، فإن ذلك يدل على موقفٍ حضاري لا يهم من الذي قام به.
ما يهم هو الفعل نفسه، وهو حصار الثقافة الوافدة بالتعليق.
وقد تُستعاد بعض فقرات أو عبارات النص حتى يُبنى التعليق عليها، ويظل هناك تواصُل
بين النص أو التعليق؛ فكثيرًا ما يتخلل التعليق عبارات أرسطو كما يفعل الباحث
المعاصر، وإدخال النص الشاهد داخل تحليله الخاص. وقد يكون النص الشاهد فقرة أو
عبارة أو حتى لفظًا أو اصطلاحًا؛ مما يدل على أنه تأليف أكثر منه تعليقًا. ويبلغ
التعليق أحيانًا ضعف حجم النص؛ مما يدل على أن النص كان مجرد مناسبة للتعليق، وأن
النقل بداية للإبداع. وبالرغم من وجود مسافةٍ زمنية كبيرة بين النص المترجم
والتعليق، من القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن العاشر بعد الميلاد؛ أي حوالي ألف
وربعمائة عام، إلا أن التعليق كان سهلًا ميسورًا، واستطاع احتواء النص القديم.
يتميز بجمال الأسلوب واستقرار العبارة وكأنه تأليفٌ مباشر، وليس قراءة على نص.
وللكشف عن العمليات الحضارية، لا يهم النص بقَدْر ما يهم التعليق أو مقارنة النص
بالتعليق، لمعرفة المحذوف والزائد، الغامض والواضح، المتطابق مع المختلف. وهي دراسة
تقوم على تحليل المضمون، دراسةٌ مستقلة، يكفي فقط التنويه بها والإشارة إلى جداولها.
وتحتاج إلى معرفةٍ باللغات اليونانية والسريانية والعربية معرفةً دقيقة؛ فاللغة مدخل
الفكر.
وتبدأ مرحلةٌ أخرى من الترجمة، عندما يتحول المترجم إلى معلقٍ على ما ترجم،
ويلاحظ على طريقة المؤلف في التأليف. هنا يبدأ التمايُز بين المترجم والمؤلف، ويصبح
المترجم ملاحِظًا والمؤلف ملاحَظًا. ويبدأ التعليق على النص المنقول ليس فقط باعتباره
نصًّا ولكن باعتباره تعبيرًا عن شخصية المؤلف. المترجم هنا دارس للنص، ومعلق عليه
المترجم ذات، والنص المنقول موضوع. وتبعد المسافة بين المترجم والنص، حتى يستغني
المترجم كليةً عن النص المنقول، كلما بعُدت المسافة، وينتهي النص كليةً من مجال رؤية
المترجم لإفساح المجال للمترجم المؤلف، الذي يُبدع نصًّا بديلًا في مرحلة التأليف.
يحلل المترجم شخصية المؤلف، ويعبر عن إعجابه بها وبصفة التواضُع فيها، وهي قيمةٌ
حضارية في ثقافة المترجم العربية إن كان نصرانيًّا؛ فالعروبة ثقافة أو الإسلامية لو
كان مسلمًا، فالإسلام استمرار للعروبة وازدهارها.
٩
قد يقوم الناقل بشروحٍ على نقَلةٍ آخرين، وبالتالي يبدأ التعليق والاستقلال عن
النص المنقول،
١٠ وقد تكثر التعليقات وتصل إلى مجلدٍ بأكمله منفصلًا عن النص، يمكن نشره
مستقلًا باعتباره النواة الأولى للتأليف في الوافد.
١١ وإنَّ فصل التعليقات عن النص يدل على احترام النص، وفي نفس الوقت تحويله
إلى نصٍ دال داخل الحضارة التي تُرجم إليها. وإن طول التعليقات لا تعني خروجًا على
النص، بل بداية الشرح كمرحلةٍ نحو التأليف، خاصةً إذا كان الهدف من التعليقات توضيح
موضوع الكتاب كالمقولات مثلًا؛ أي الاتجاه نحو الموضوع مباشرة توضيحه عقلًا فيما
وراء النص المسهب.
١٢ التعليق صراحةً هو فهم للنص حسب الاجتهاد. كان الناقل ينفعل بما يكتب؛
يفرح إذا فهم، ويغتمُّ إذا استغلق عليه الأمر.
١٣ وقد يحتوي التعليق في الهامش على بعض الأمثلة التوضيحية للفكرة، مثل
الرحمة والغضب للانفعالات، وإذا كان الناشر الحديث يضيف بعض الألفاظ لإيضاح المعنى،
فلماذا تُعاب مثل هذه الزيادة على القدماء، حلال على المحدثين لتوضيح المعنى حرام
على القدماء لخلطهم.
١٤
ويظهر التمايز بين الناقل والمنقول في صيغة الخطاب وبداية النص بلفظ القول، كما
هو الحال في ألفاظ الرواية في علم الحديث قال «أرسطوطاليس».
١٥ وتوحي العبارة بالتمايُز بين الناقل وموضوعه؛ فالنص ليس محايدًا بل
منقولًا، ليس مجهولًا بل كتبه أرسطو. يتحدث الناقل عن موضوعٍ مغاير له، وقولٍ آخر
غير قوله، وقد استمر هذا التقليد في مرحلة التأليف عن طريق الإملاء أو الكتابة،
عندما يتقدم النص المُملَى أو المكتوب عبارة قال «أبو علي» (أبن سينا) أو قال «أبو
النصر» (الفارابي) أو قال «أبو الوليد» (ابن رشد)، وضعها الناسخ للتمايُز بينه وبين
النص المملى عليه أو المنسوخ منه. وبعد هذا التمايُز والتباعُد بين الناقل وموضوعه
يصدر الناقل الحكم على أرسطو، ونقله بمعنى يظهر مضمونه مثل مباكتة السوفسطائيِّين،
وأنها ليست مباكتات بل مغالطات؛ فهو يصحح لفظ أرسطو اليوناني بلفظٍ عربي أفضل، أكثر
تعبيرًا عن موضوع الكتاب. المترجم هنا ليس ناقلًا حرفيًّا بل مؤلفًا مشاركًا،
فيتناول الموضوع المترجم بدرجةٍ من الاستقلال عن الموقف الأصلي.
١٦ في التعليق يحدث التمايز بين الأنا والآخر، ويتم الحديث عن أرسطو كغائبٍ
مفرد بداية لموت المؤلف وحياة النص واستقلال الموضوع. في التعليق يتم الحديث عن
أرسطو باعتباره الآخر، وتبدأ الإشارة إليه عن بُعد بحيث يكون المعلق ذاتًا والنص
المعلق عليه موضوعًا؛ مما يوضح قدْر الاستقلال للمعلق، حتى لو كان القول ما زال
ظنيًّا. وهو تمايُز بين الأنا والآخر، مخالف لعادة القدماء في الحديث عن النص،
ونسبته إلى صاحبه في صيغة قال أبو علي، قال أبو محمد، «قال أبو نصر»؛ إذ إن هذا
التمايُز الأخير بين الذات ونفسها، وليس بين الذات والآخر؛ إذ يتحدث فرفوريوس عن
أرسطو باعتباره الآخر.
١٧
ويضم التعليق آراء المترجمين بل والقراء للنص. التعليق عملٌ جماعي، كل ما يقال حول
النص، ترجمةً وفهمًا، شرحًا وتلخيصًا.
١٨ يشمل التعليق الحكم بالجودة والتجويد من أحد المترجمين للنص الأصلي.
وقد يحتوي على تفنيد زعم بعض الشراح، ورفض أقوالهم خاصة الترجمات المتأخرة. ويكون
التعليق في صيغة المطلب والاقتضاء، وما ينبغي أن يكون لوجود معنًى معياري في النص.
١٩ قد يحتوي التعليق على حكم قيمة مفاضلًا بين الترجمات والنسخ المختلفة،
وعلى الزيادات: هل تحتوي على معنًى أم مجرد حشو؟
٢٠ وقد يدخل التفضيل بين الترجمات داخل الشرح، ولا يبقى مجرد تعليق في الهامش.
٢١ وقد لا يكون التعليق حاسمًا، فيُكتب بصيغة الاحتمال كالأظهر والأقوى.
٢٢
(٢) التعليق وتقطيع النص
وقد تكون «قال الفيلسوف أرسطوطاليس» من المترجم (إسحاق) أو من الشارح (نيقولاوس)
أو من الناسخ؛ فهو تمايُز واحد عند الثلاثة، بصرف النظر عما إذا كان المترجم إلى
السريانية أو إلى العربية، وعما إذا كان الشارح يونانيًّا أم عربيًّا؛ فالنص يُنسب
إلى الترجمة وليس إلى صاحب النص الأصلي أرسطو؛ مما يدل على أنه تحول من وافدٍ إلى
موروث، من نص الآخر إلى نص الأنا.
٢٣
وقد يكون التقطيع مجرد إظهار اسم المترجم، بعد نقل القول في صيغة «قال إسحاق»،
والصعوبة في ذلك صعوبة الحكم على ما بعد القول، هل هو النص المترجم أم هل هو تعليق
له على النص؟
٢٤
تبدأ الترجمة بقال أرسطوطاليس؛ أي إنه هو الآخر المتمايز عن الذات، والذات
المتمايز عنه، الأنا في مواجهة الموضوع؛ فالمترجم يتمايز عن المؤلف تمايُز الأنا
والآخر. ويستأنف الشارح نفس التمايُز، فيتحدث عن أرسطو في الشخص الثالث. ويُكثر
المعلق من استعمال قال أرسطو، يبحث أرسطو مما يدل على البُعد الزماني والمكاني
والتاريخي والحضاري بين الذات والموضوع؛ فأبو الفرج الشارح يقف أمام أرسطو على وجه
التقابل: «أرسطو يروم … وأنا أقول.» واحد لواحد، شخص في مواجهة شخص، مفكرًا لمفكر،
وحضارة لحضارة، وليس التمايز فقط مع أرسطو، بل أيضًا مع باقي فلاسفة اليونان مثل
أفلوطين، فيتم التحدث عنه باعتباره آخر؛
٢٥ ففي وسط النص تتقطع الفقرات بعبارة «قال الحكيم»، ووضع النص باعتباره
نصًّا لآخر غير المترجم والناسخ والشارح والملخص والقارئ؛
٢٦ فأرسطو يشرح ويبين ويحكي وكأنه أمام شيئَين لا شيءٍ واحد، أرسطو
وموضوعه، والشارح طرف ثالث. يتعامل الشارح مع موضوعٍ مستقل أرسطو فيه طرفٌ أول،
والشارح طرفٌ ثانٍ. هناك إذن مرجعٌ ثالث هو الموضوع. ليس الشرح لأرسطو بل لموضوع
أرسطو. قد يختلف الشارح مع أرسطو لاختلاف الرؤية نحو موضوعٍ واحد، ويصرح بهذا
الاختلاف، وقد يتفق معه فلا يعلق. وأحيانًا يعرض الشارح الموضوع مباشرة دون «قال
أرسطو»؛ فالموضوع له الأولوية على الشخص. يتحدث الشارح عن الشيء ذاته ويصفه فيخرج
الوصف مطابقًا لغرض أرسطو؛ فالموضوع له الأولوية على الشخص. يتحدث الشارح عن الشيء
ذاته ويصفه فيخرج الوصف مطابقًا لغرض أرسطو؛ وبالتالي يتحد الحكيم والشارح والشيء،
وتتفق النظرتان مع الموضوع.
٢٧ وفي هذه الحالة يبدأ الشارح بالجملة الاسمية مباشرة، بالشيء نفسه وهو
أرقى تعليق دون قال يقول أو بيان غرضه، الذهاب إلى الشيء مباشرة عن طريق
القول.
وظاهرة تقطيع النص إلى وحداتٍ بداية بأفعال القول «قال» أو «قال أرسطو»، تبدأ من
عمل المترجم قبل المعلق والشارح والمخلص، وكلِّ من يعمل في النص من أجل تحويله من نصٍ
وافد إلى نصٍ موروث.
٢٨ وقد يتدخل المترجم لتقديم النص، والتعليق عليه «قال المترجم». وينقد
أرسطو في استشهاده بشعر أسيودس وهو غير موجود بنصه، مع افتراض أن أرسطو قد أعطى
استشهادًا حرًّا أو لخص ما قال الشاعر؛ فالمترجم هنا مراجع ومحقق ومدقق ودارس للنص
المترجم. وقد يكون التعليق إضافة من مترجمٍ آخر، بل ومن ناسخ أو قارئ لاستئناف
عملية تمثل النص المترجم، وإعادة كتابته في المراحل التالية، الشرح والتلخيص
والجوامع والعرض والتأليف،
٢٩ وتكون في الهامش زيادة من المترجم أو الناسخ أو القارئ احترامًا للنص
الأصلي، وكصورةٍ أولى للتفسير الذي يفصل بين المتن والشرح؛ إذ يضيف الهامش أن أرسطو
قد بين عدم تداخل جسمٍ البتة، في حين يرى جالينوس أن الكيفيات تتمازج في مزاجٍ ثالث.
٣٠ وقد يكون التعليق مجرد شرح للفظ وإبراز معناه لمزيدٍ من التوضيح،
وبداية التحرر من الترجمة إلى الشرح.
٣١ وقد يكون التعليق في الهامش بالإحالة إلى مصدر الفكرة في كتاب، مثل
الإحالة إلى كتاب «القوى الطبيعية» لجالينوس، بعد أن تركه النص دون تحديد؛
٣٢ إذ تبدأ التعليقات على هوامش الترجمات من أجل المقارنة، مقارنة جالينوس
في النص بأرسطو في الهامش، زيادة على النص وتفصيلًا للموضوع، فإذا كان جالينوس يرى
كطبيب أن الكيفيات تتمازج، فيحدث من تمازجها مزاج، فإن أرسطو لا يداخل جسمًا جسمًا البتة.
٣٣ كما تتم مقارنة جالينوس وأبقراط في حُجج كليهما في مقدمة المعرفة. وقد
يكون التعليق إحالةً لمصدر وإرجاع الفكرة له، تخصيصًا لعامٍّ وذكرًا لاسم الكتاب وهو
«القوى الطبيعية» لجالينوس.
٣٤
وقد يتجاوز المترجم الحذف والإضافة والتأويل إلى تقديم النص وتقطيعه إلى فقرات
تمايزًا بين الأنا، المترجم، والآخر النص المترجم، وتحويل أنا الآخر إلى آخر الأنا.
كان المؤلف قد وضع الفواصل في نصه بداية للتواريخ بحياة الفلاسفة والشعراء. مراحل
التاريخ هي مراحل الفكر، وحوادثه حياة الفلاسفة. ويبدأ تقطيع النص إلى فقرات (٨١
فقرة)، تبدأ كلٌّ منها بعبارة «قال هروشيوس» أو افعال القول مثل ذكر، حكى، وتحويله
إلى وحداتٍ صغيرة طبقًا لموضوعاتها من أجل احتوائها داخل التأليف.
٣٥
وقد تتجاوز الإضافة كلمة أو عبارة إلى نصٍّ كامل، يقدم النص المترجم في موضوعٍ قد
يعرفه المؤلف، مثل قصص الأنبياء وخبر آدم وعدد سنين الدنيا من آدم حتى نوح. وقد
يختلط القصص القرآني مع القصص التوراتي؛ فالرصيد المشترك بين المترجم والمؤلف، هو
الذي تتم فيه عملية التعشيق بين النصَّين كعاشق ومعشوق. وغالبًا ما يكون هذا النص
المضاف تلخيصًا وتركيزًا وإبرازًا للدلالة، مثل الاحتجاج على جهل الرومانيِّين الذين
يفخرون بحروب أسلافهم، وينكرون فضل زمانهم، ويمجدون بركة الدين وفضل الإيمان. ولم
يتم السلم في الدنيا ولا هدوء أهلها، إلا بعد قدوم السيد المسيح «وله في ذلك كلام
كثير». وتحدث عن حرب الإيمان وأنه سبب هدوء الدنيا، «إلى غير ذلك من كلامه الكثير».
وقد اختصر المترجم بهذا الاستهلال لبيان غرض المؤلف أكثر من خمس صفحات.
٣٦ يُبيِّن الفاصل غرض المترجم الكلي خاصة إذا كان الموضوع مألوفًا في
الثقافة الجديدة، مثل الرد على قِدم العالم وإثبات أنه محدَث، وإثبات توحيد الباري،
والإقرار بأنه لم يزل عالمًا حيًّا. لم يفصل المترجم بين النص المترجم وتلخيصه؛ فلم
يكن لدى القدماء تصوُّر للملكية الفردية للإبداع الذهني، كما هو الحال عند المحدثين
في تسجيل براءات الاختراع. وفي الفاصل يختصر المترجم استرسال المؤلف، الذي لا
تحتاجه بيئة المترجم. وقد تكون من الناسخ؛ فالنص عملٌ جماعي. وقد يكون الهدف من
الفواصل بيان التواريخ والمراحل مشاركة في التأليف؛ فالنص المترجم ليس ملكًا لأحد؛
مات المؤلف عاش النص بلغة المعاصرين. قد يوجز المترجم فصلًا إيجازًا شديدًا ليفصل
الجسد عن الروح، ورفض استعمال التاريخ للدفاع عن العقيدة المسيحية. ويعلن المترجم
عن ذلك صراحةً في النص «تركنا ترجمته رغبةً في الإيجاز وكراهيةً للتطويل.»
وقد يصل التعليق إلى إضافة مقالاتٍ بأكملها على النص الأول، مثل احتمال إضافة
المقالة السابعة على كتاب الأخلاق لأرسطو من المترجم أو من مؤلفٍ ثانٍ لا يكون
بالضرورة الناسخ أو القارئ. وواضح من أسلوبها أنها كذلك لأنها تتحدث عن أنواعٍ
أدبية جديدة مثل الاختصار الموسع، بالإضافة إلى أمثلةٍ من شعر هوميروس، سواء كانت
من اختصار الإسكندرانيِّين أو من أو من رسالةٍ مستقلة.
٣٧
وقد يكون التعليق من أجل نقل النص الأصلي إلى تصوره بعد ترجمةٍ في لغةٍ أخرى، فإذا
تحدث جالينوس عن مثال أحد أجداده القدماء فإن الناقل حنين من اليوناني إلى السرياني
يخصص ذلك في الهامش. ويذكر أسقليبوس ويزيد على كونه «مثالة» أنه يُسمى أيضًا
«إلهًا»؛ لأنه كان مثالة بعد أن كان إنسانًا فيما مضى.
٣٨
فإذا لم يكن النقل الحضاري كافيًا تم تأليفُ رسائلَ للقيام بذلك مجهولة المؤلف بين
التأليف والانتحال، مثال ذلك «مقالة في المدخل إلى علم الأخلاق» غير منسوبة إلى
واضع، ظننتها لنيقولاوش فألحقتها مختصرة في الفلسفة.
٣٩ كما يغلب عليها الطابع القصصي حتى يمكن التعبير عن الفلسفة بالأدب أسوة
بحيي بن يقظان، ورسالة الطير، وبلوهر وبوذاسف.
وهنا تظهر المصطلحات الإسلامية والأسلوب الإسلامي مثل الدعوة إلى الله؛ فالله
مقدر الأعمار، وهو جل وتعالى حي أزلي أبدي، وهو الإله جل اسمه، يجب الاقتداء به؛
فالسعادة الحقة هي الاقتداء بالله، بحسب طاقة البشر كما قال أفلاطون، إكمالًا
لأرسطو بأفلاطون وتجاوزًا للجزئي إلى الكلي، ومن أخلاق أرسطو إلى الفلسفة الخالدة.
والله عز وجل حكيم، وأفعاله كلها حكمة، والإنسان الفاضل السعيد هو المقتدي بالله.
الإله حيٌّ ناطق أزلي على عكس الإنسان الحي الناطق الميت، وهو الباري الضامن للفضائل.
وفي الضميمة الثانية من «كتاب الأخلاق اختصار الإسكندرانيِّين»، يتم النقل الحضاري
أيضًا بنفس الطريقة ولو على نحوٍ أقل؛ فالعبادة هي التقرب من الله، والله هو الغاية
المطلوبة من الأخيار العارفين.
٤٠ والنفس الإلهية، والخيرات أو الفضائل بعضها إلهية، وبعضها إنسانية.
والحكمة هي العلم بالأمور الإلهية والإنسية، والفضائل الأوائل تقصد الآلهة والحق،
ثم الآباء ثم الأموات وحسن الطاعة خدمة الآلهة، وهم المتألهون. ولا تختلف الفضائل
الإلهية عن الفضائل الإنسانية، ويكون الإنسان إلهيًّا إذا ما طهر نفسه أو عاش
للعقل، والكمال الخلقي غرض سماوي إلهي؛ لذلك يُوصف أفلاطون أنه إلهي. وبسبب هذه
النزعة الأفلاطونية الإشراقية يُحال إلى الهند وبراهمة الهند، حتى تتوحد حكمة الغرب
مع حكمة الشرق في الحكمة الخالدة.