خامسًا: مادة التعليق
ومادة التعليق من النص المترجم نفسه؛ أي من الداخل وليس من الخارج، كما هو الحال
في
علوم التفسير، تفسير الكتاب بالكتاب، أرسطو نموذجًا؛ فالتعليق إحالة إلى أعمال أرسطو
الأخرى، وشرح أرسطو بأرسطو، إدخالًا للجزء في إطار الكل، ليس فقط داخل كل علم وأجزائه
مثل أجزاء المنطق والتعليق على المقولات بالعبارة، أو على القياس بالبرهان أو على الجدل
بالسفسطة أو على الخطابة بالشعر وهو الأكثر شيوعًا، بل أيضًا خارج العلم والتعليق على
نصٍّ في المنطق بالإحالة إلى نصٍّ من الطبيعيات أو الإلهيات وهو الأقل شيوعًا؛ فالنص
كجزء
لا يُفهم إلا في وحدة العمل ككل، والنص يُمسَك من أعلى وليس من أسفل، من رؤيةٍ شاملة
له
وليس كوحدةٍ جزئية.
١ بل هناك جهدٌ لترتيب أعمال أرسطو زمانيًّا من أجل معرفة تطوُّر المذهب وليس
بناؤه فقط.
٢ في الشرح تتعدد العلوم والأمثلة والإحالات إلى باقي مؤلفات أرسطو.
٣
وقد تمت ترجمة منطق اليقين على ما يبدو قبل منطق الظن، أما من حيث الحاجة للأول قبل
الثاني أو من حيث القيمة، فاليقين أعلى قيمةً من الظن أو من حيث ترتيب كتب أرسطو كما
وصلت العالم الإسلامي؛ فقد تُرجم كتاب الشعر في أواخر القرن الرابع؛ أي في عصرٍ متأخر،
مما
يدل على أن المسلمين لم يكونوا متلهفين على ترجمة اليونان في موضوعٍ يهتمون به، وهم
الشعراء الذين كان الشعر لديهم قبل الإسلام يقوم مقام الوحي بعده، بؤرة الثقافة العربية
ومنطلقها الأول. وبالرغم من عدم وجود شعرِ ملاحمَ وتمثيليات في الشعر العربي، إلا أن
الترجمة لكتاب الشعر كانت من أجل العلم بالشيء، معرفة ثقافة الآخر معرفةً نظرية وإن لم
تنتج عنها آثارٌ عملية.
٤
وتقل الترجمة إحكامًا انتقالًا من منطق اليقين إلى منطق الظن، من المقولات والعبارة
والتحليلات الأولى والثانية إلى الجدل والسفسطة والخطابة والشعر. ربما لاهتمام المسلمين
بمنطق البرهان أي منطق العقل. وربما لعدم حاجاتهم إلى الخطابة والشعر وهم أهل فصاحة
وبيان. وربما لأن الذوق العربي الذي يجمع بين الحق والخير والجمال، ينأى عن الجدل
والسفسطة؛ أي الفصل بين المنطق والأخلاق.
٥
وتزداد التعليقات كلما سرنا مع كتب المنطق من الكتابَين الأولَين وهما المقولات
والعبارة إلى الكتابَين الآخرَين، القياس والبرهان. وتزداد التعليقات أكثر كلما انتقلنا
من منطق البرهان (المقولات، العبارة، القياس، البرهان)، إلى منطق الظن (الجدل، السفسطة،
الخطابة، الشعر)؛ ففي منطق البرهان إحكامٌ عقلي ووضوحٌ نظري، لا يسمح بالتعليق الذاتي
والقراءة الاجتهادية، في حين أن منطق الظن يسمح بذلك نظرًا لتراث الأنا في الخطابة
والشعر.
وأكثر الكتب في حاجةٍ إلى تركيزٍ وإبراز للمعاني دون تطويل القياس والبرهان؛ نظرًا
لكثرة الأشكال وتعدُّد طرق الاستدلال؛ وبالتالي تظهر الحاجة للشرح أو للتلخيص، لتحليل
المعاني أو لتركيبها. وكتاب البرهان، بالرغم من أنه أقل صورية من كتب القياس، إلا أنه
كان أيضًا في حاجةٍ إلى تعليق، شرح وتلخيص، حتى يتم تركيزه وإبراز معانيه استعدادًا
للاستعمال والإنجاب. التعليق عملية إعداد للعروس حتى يأتي فيها الإخصاب في مرحلة
التأليف؛ ففي البرهان نفس طابع الحشو الذي في القياس، بالمقارنة بالمقولة والعبارة؛ أي
المقدمات التعريفية اللغوية، الفكر اللغوي العلمي المحدد. أما عندما يعيش الفكر على
ذاته ويستدل مع نفسه، فتظهر الحاجة إلى الشرح حتى يتخارج الفكر ويظهر توجيهه
وخلقه.
ومثل وحدة أعمال أرسطو هناك أيضًا وحدة المنطق؛ حيث تتم الإحالات المستمرة من كتابٍ
إلى آخر، دون تمييز بين منطق اليقين ومنطق الظن، كما تتم الإحالة إلى القياس وإلى الجدل،
٦ وتظهر المقولات باستمرار حتى في التحليلات الثانية.
٧ كما تحيل الخطابة إلى الطوبيقا وإلى أنالوطيقا وإلى الأقاويل المدنية (السياسة).
٨ كما يحيل كتاب العبارة إلى القياس وإلى المواضع (طوبيقا أو الجدل).
٩ وحدة مذهب أرسطو في داخل النص وليس فقط من تصور المترجمين والشراح.
١٠ فبعد الفراغ من الآثار العلوية يتناول الكون والفساد ثم تطبيقاته في
الحيوان والنبات، وهناك إحالة إلى السماع الطبيعي في صلب موضوع السماء.
١١ وكذلك الإشارة إلى السماع الطبيعي وما بعد الطبيعة في النفس إحالة في وسط النص.
١٢
وكما أن هناك وحدة الفلسفة اليونانية، هناك أيضًا وحدة عمل أرسطو، بدليل الإحالات
من
كل علم إلى باقي العلوم؛ ففي الطبيعة تتم الإحالة إلى ما بعد الطبيعة وإلى الأخلاق.
١٣ وفي المنطق هناك إحالة إلى علم الأخلاق.
١٤ وقد بدأ ذلك عند أرسطو؛ فأرسطو ليس فقط فيلسوفًا بل هو أيضًا مؤرخ للفلسفة،
يذكر آراء الأولين قبل أن يعرض لرأيه الخاص؛ فالتطور يسبق البناء، وهو ما فعل القرآن
بتاريخ الأديان قبله، وانتقاد التجارب السابقة قبل أن يعلن بناء الموضوع.
١٥ وقد عرف المترجم العربي ذلك، فأدرج كلام أنبادقليس وأوميروس زيادةً في
الإيضاح، زيادة على نص أرسطو أي الاستشهاد بالنصوص نفسها لمزيدٍ من الدقة بعد أن اكتفى
أرسطو بذكر الفكرة وحدها.
١٦
والتعليق بداية إكمال النظرة الجزئية للنص في نظرةٍ كلية عامة وشاملة، عن طريق
المقارنات داخل الفلسفة اليونانية ذاتها، مقارنة النص داخل إطار حضارته قبل نقله إلى
حضارة النص المنقول إليها، فإذا ما ذكر النص أفلاطون فإن التعليق يقارن بين رأيه ورأي
أرسطو؛ فالموضوع عامٌّ وشاملٌ غير مشخص، وما أفلاطون وأرسطو إلا آراءٌ فردية فيه.
١٧ وهو ما سيتحول فيما بعدُ في مرحلة التأليف عن الفارابي إلى «الجمع بين رأيَي
الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم». يستعمل المترجم التعليق مستمدًّا من تاريخ
الفلسفة اليونانية؛ أي وضع النص في حضارته التي نشأ فيها قبل نقله إلى الحضارة التي تُرجم
إليها.
١٨ وقد يشير التعليق إلى جماعةٍ بعينها بدلًا من الضمير؛ فهم تعني المشائين.
١٩ فإذا أورد المعلق شكوكًا على النص، فإنه يُحاوِل حلها بالرجوع إلى تاريخ
الفلسفة اليونانية كله، من أفلاطون وشيعته، وأرسطو وشيعته والشراح مثل ألينوس. ويختار
أحد الحلول ويُرجِّحه على الأخرى ويحكم بحسنه، ويُعبِّر عنه بأسلوبه الخاص وعباراته العربية
السليمة، ويزيد عليه إثباتًا لصحته، ويشارك في صياغته والبرهنة على جودته، حتى يصبح
تأليفًا غيرَ مباشرٍ في الموضوع.
٢٠ كما يتناول الإسكندر الأفروديسي موضوع العناية، ليس فقط في مؤلفات أرسطو،
بل أيضًا عند ديموقريطس وأبيقورس.
٢١ وبعد الحديث عن القدماء استمر الوعي التاريخي عند الشراح بعد أرسطو، بل
أصبح أكثر ازدهارًا.
٢٢
وإرجاع النص إلى الفلسفة اليونانية يعني التفسير الحضاري للنص وإعطاء معلوماتٍ عنه،
باعتباره نصًّا محليًّا إلى حضارةٍ معينة وهي طريقة أرسطو مؤرخًا؛ فالشارح أيضًا مؤرخ
للنص داخل حضارته، خاصة وأن نص أرسطو نفس حوار مع الفلاسفة السابقين؛ فأرسطو يمثل
البنية والحضارة اليونانية قبله تمثل التطور، كما يفعل ابن رشد في «تفسير ما بعد
الطبيعة» بالنسبة لفهمه لدور أرسطو في تاريخ الفلسفة اليونانية، ودوره هو بالنسبة
لتاريخ الفلسفة الإسلامية، تأكيدًا للتشابه على الدَّورَين؛ لذلك يحتوي الشرح على ما
سماه
الأصوليون تحقيق المناط؛ أي تحويل النص إلى واقع، والحكم إلى تاريخ، والإشارة إلى
الأشياء التي يشير إليها النص. وهي في هذه الحالة إحالة الأفكار إلى أصحابها، والآراء
إلى الفلاسفة القائلين بها.
٢٣ وقد تكون الإشارة إلى النص اليوناني فرصة لإجراء تاريخ للفكر اليوناني،
ووضع النص في إطاره الحضاري الذي نشأ فيه، ووضع الجزء في الكل، والانتقال من أرسطو إلى
زينون، ومن التحليلات الأولى إلى حجج زينون في إبطال الحركة.
٢٤ وكما جرت العادة تم إلحاق مدخل فرفوريوس الصوري تلميذ أفلوطين اللوقوبولي
كتابه في المنطق بعد أن تمت ترجمته. وقد كان الشرح والإضافة من داخل النص من قبلُ. والآن
هناك زيادة من خارج النص، نصٍّ آخر في نفس العلم، وهو المنطق لمؤلفٍ آخر هو فرفوريوس
لإكمال مجموع الكتابات المنطقية في الحضارة اليونانية لأرسطو ولغيره.
٢٥ والعجيب أنه لم يتساءل أحد لا من القدماء ولا من المحدَثين، كيف يكتب تلميذ
أفلوطين هذه المقدمة، وهو ليس أرسطيًّا بل إشراقيًّا، وشتان ما بين العقل والإشراق، بين
المنطق والتصوف.
وقد تكون مادة التعليق من الخارج أكثر منها من الداخل؛ فقد يحتوي التعليق على ترجماتٍ
عربية أخرى مع تأييدٍ لها أو تصحيح،
٢٦ يفاضل بينها وينقد البعض منها ويقبل البعض الآخر. وقد تكون نسخًا مختلفة من
نفس الترجمة، تتفاوت فيما بينها دقةً وصحة. ليس الأمر مجرد أمانةٍ علمية ودقة في النقل،
بل يدل على موقفٍ فكري، وهو احتمال التأويل في ترجمة أكثر من الترجمة الأخرى. كما تذكر
الترجمات البعيدة الاحتمال، حتى ولو تم حذفها ما دامت مدوَّنةً كتابة، حتى لو تغير الناقل
واستمر النقل. يُشار إلى ذلك حتى ولو كان التغير من الأب إلى الابن.
٢٧ وقد تكون التعليقات مستحبة من تفاسير المترجمين والشراح. وأحيانًا يُطلق على
الترجمة تفسير؛ لأن كل ترجمة هي تفسير؛ أي إبراز المعنى وليس نقله نقلًا حرفيًّا.
مهمة التعليق أحيانًا الحكم على صحة الترجمة، صوابًا أو خطأ مثل الخطأ في الخلط بين
العجمة والسولوقسموس؛ فالعجمة الخطأ في لفظ حرف بينما لوقسموس هو اللحن في القول.
٢٨ وقد تكون التعليقات أحيانًا من أشخاصٍ معروفة وأحيانًا من أشخاصٍ أقل شهرة
وإحالة إليهم.
٢٩ وقد يذكر التعليق اسم المعلق وهو المترجم من اليونانية أو من السريانية وقد
لا يذكر.
٣٠ وقد يحتوي التعليق إحدى الترجمات أو بعضها.
٣١ كما يشير الشرح إلى اختلاف النقل وتُستعمل التعليقات في الهوامش لرصد
اختلافات النقل، وليس للشرح الكبير؛ أي للاختلافات في الفهم الناتجة عن اختلافات النقل.
٣٢
كان من الطبيعي أن تسقط أسماء الأعلام اليونانية الأبطال أو للأشخاص؛ لأنها لا تهم
المعنى في شيء أو استبدالها بأعلامٍ عربية في مرحلةٍ متأخرة؛ فهرقل وأجاكس لا يعيشان
في
الوجدان العربي الإسلامي مثل هبل واللات والعزى، وتبدو غريبة في أي استخدامٍ حضاري جديد
للنص؛ لذلك في مرحلةٍ لاحقة، الشروح والملخصات، سَقطَت هذه الأسماء للأشخاص والأماكن
في
ضرب الأمثال، وكذلك أسماء الكتب والمحاورات، وكل ما يوحي بمحلية الوافد مثل ملك
الأثينيِّين. إن الأمثلة المحلية تجعل حتى المعنى الذي يمكن أن يُفهم من خلال اللفظ غير
مفهوم؛ فكل ذلك لا يعيش في وجدان العرب، كما يعيش إبراهيم والأنبياء والشعر الجاهلي.
مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ، حتى يمكن للتراث أن يؤدي وظيفته كتوجيه للسلوك، وباعث
على الفعل خاصةً في الشعر والخطابة.
٣٣ أن النص المترجم نفسه محلي وتحويله إلى فلسفةٍ عامة وإكمالها بمادةٍ محلية
أخرى، لا يعني أنها أصبحت ثقافةً عالمية كما يفعل الغرب الحديث، عنصرية مقنعة أو صريحة
في اللاوعي أو الوعي الأوروبي تمركزًا على الذات، وإنكارًا لوجود الآخر أو دفعه إلى
الأطراف، بل يعني أن الآخر قد تمت قراءته في ثقافة الأنا من أجل خلق ثقافة إنسانية
عامة، تضم الآخر (العقل) والأنا (العقل والنقل) في رؤيةٍ واحدة، يتحدد فيها الوحي
والعقل والطبيعة، النص نفسه يؤكد محليته ولغته وثقافته، فمبحث المقولات مرتبط باللسان
اليوناني، وهو ما حدا بالأصوليِّين فقهاء ومتكلمين إلى نقد المنطق الأرسطي، بناء على
اختلاف اللسان العربي عن اليوناني.
وارتباط مبحث الألفاظ باللغة اليونانية، يؤكد محلية الحضارة وضرورة تخليصها من
الأمثلة الخاصة، من أجل إعطاء أكبرِ قدْرٍ من عمومية الفكر، واستبدالها بأمثلةٍ أخرى
محلية
لاحتواء الروح دون الجسد، خاصة في مرحلة الشرح والتلخيص بعد النقل والتعليق.
٣٤ وتبدو ضرورةُ تركِ أسماء الأعلام في الشرح بعد ذلك نظرًا لوجود كثيرٍ من أعلام
الأدب اليوناني.
٣٥ وكان من الطبيعي ترك هذه الأمثلة، التي ليست مخزونًا نفسيًّا أو تراكميًّا
حضاريًّا في الوجدان العربي في مرحلة التأليف، حتى ولو كانت الأسماء اشتقاقًا تعني
شيئًا في العربية، مثل أخيلوس كبر النفس أو تريسماجست المثلث العظمة. كان لا بد من
الشرح حتى تسقط أسماء الأعلام، التي لا تُعبِّر إلا عن واقعٍ تاريخي خاص، واستبدالها
بواقعٍ تاريخي آخر دال مخزون عند الناس في الوعي التاريخي. ويصعب إحصاء هذه الأسماء
لكثرتها في الترجمة، وأن الكم الهائل من أسماء الأعلام، الأشخاص، والفلاسفة، والخطباء،
والسياسيِّين، أسماء الأماكن من بلدان ومناطق وجزر لتجعل كل ذلك لا رنين له في الوجدان
العربي الحالي من أيِّ رصيدٍ فيه؛ وبالتالي كان من الطبيعي أن تسقط كل هذه المادة المحلية،
وأن تحل محلها أمثلةٌ عربية من اللغة والأدب والتاريخ العربي. وكانت أكثر كتب أرسطو
محلية ومملوءة بالبيئة اليونانية الخطابة والشعر؛ فالخطابة أكثر كتب منطق أرسطو ذكرًا
للأمثلة والشواهد؛ لأنها تحليل لكلام الخطباء والشعراء مثلنا الآن؛ إذ لا يستطيع الفكر
أن يكون كذلك دون ديكارت وكانط وهيجل (ماركس)؛ أي دون سقراط وأفلاطون وأرسطو من
القدماء؛ فقد تكرر سقراط في ديكارت، وأفلاطون في كانط، وأرسطو في هيجل. كما يشير كتاب
الخطابة إلى اليونانيِّين، كما يشير الغرب الحالي إلى حضارتنا وفكرنا ولغتنا وفلسفتنا.
ونحن نقول ذلك تبعيةً لهم بالرغم من التمايز الحضاري بيننا وبينهم؛ فالإنسان كائنٌ حضاري،
كما يكثر في الشيء الإحالة إلى شعراء اليونان واللغة اليونانية.
٣٦ على عكس المنطق حيث يعتمد البرهان على التحليل الصوري. الخطابة والشعر مثل
الإلياذة والأوديسة أقرب إلى الثقافة الوطنية مثل المعلقات. ومنها تخرج جماليات الشعر
اليوناني والغرب؛ فالشعر حالةٌ خاصة وليست عامة. كانت مهمة ابن رشد بعد ذلك وهو الفقيه
الفيلسوف معرفة القاعدة والأصل، كما درس فيكو الأدب القديم لمعرفة قوانين التاريخ.
٣٧
وقد يحتوي التعليق مادةً محلية من الوافد، وليس بالضرورة من الموروث وشرحًا للوافد
بالوافد، لمزيدٍ من الإيضاح قبل نقله إلى الموروث، اعتمادًا على اللغة اليونانية أو
الأساطير اليونانية أو الفلسفة اليونانية، لشرح الجنس والنوع وجنس الأجناس ونوع
الأنواع، أو شرح بعض عادات اليونانيِّين لفهم الشعر.
٣٨
وقد أمكن التحول من محلية الوافد إلى محلية الموروث في الترجمة والتعليق بالطرق
الآتية:
- (أ)
إنزال أسماء الأعلام في الهامش في التعليق للتخلص منها والإبقاء على
الموضوع المثالي من شوائبه التاريخية.
٣٩
- (ب)
اختصار هذه الفقرة المملوءة بأسماء الأعلام كلية لأن حذفها لا يُؤثِّر في
فهم المعنى.
٤٠
- (جـ)
الإبقاء على الأسماء الشائعة مثل سقراط، كموضوع في قضيةٍ حملية في مقدمةٍ
صغرى في قياسٍ منتج.
٤١ وقد يأتي سقراط نظرًا لشهرته محل كالباس.
- (د)
إسقاط الاسم اليوناني مثل كالباس الذي يعبر عن المجهول إلى ما يقابله في
اللغة العربية مثل زيد وعمر.
٤٢
- (هـ)
شرح اللفظ اليوناني على عادة اليونان في التعليق مثل تسمية الصوت الصافي أبيض.
٤٣ ولو كانت اللغة ليست مجرد أصواتٍ فارغة، بل تعبير عن سلوك،
يتحدث النص العربي عن المحبة التي تكون في فعل الجسم، ويضيف التعليق يريد
القبلة. وإذا تكلم النص عن التصاريف، فإن التعليق المقصود بذلك في اللغة
العربية.
وغالبًا ما تُترك البيئة اليونانية، لغةً وثقافةً ودينًا، في الترجمة بلا احتواء؛
فتلك
مهمة التعليق والشرح والتلخيص والجوامع، ثم العرض والتأليف قبل الإبداع؛ لذلك يظهر لفظ
«الآلهة» بالجمع.
٤٤ ويكون ذلك في الغالب وسط الترجمة لا في بدايتها ولا في نهايتها، خاصة إذا
كانت الترجمة حرفية، مجرد نقل. يترك الفكر الديني الوافد كما هو عليه بألفاظه، دون
إعادة نظر فيه أو التحرج منه أو التعليق عليه، لاحتوائه في البيئة الدينية الجديدة.
ربما لأن المعنى مقبول بصرف النظر عن اللفظ، مثل النطق بالواجب وإغضاب الناس والنطق
بالجور، وإغضاب الآلهة واستحالة الموت والخلق على الآلهة؛ فالله تصورٌ حدِّي مثالي يدل
على
الكمال. كان المترجم هنا مستغربًا أو مغتربًا، مهمته النقل الامين في مرحلة النقل
والترجمة قبل احتوائه وضمه في مرحلة الشروح والملخصات والجوامع، المراحل التالية.
٤٥ وأحيانًا يكون النص المترجم محتويًّا على ألفاظٍ دينية، دون أن يفهمها
المترجم، فتترك كما هي لمرحلةٍ لاحقة في الوعي التاريخي، تشد انتباه الناسخ أو القارئ
والمعلق أو الشارح، والملخص أو صاحب الجوامع فيما بعدُ مثل لفظ الإله. وقد يقتصر التعليق
على رفع أداة التعريف؛ لأنه ليس الله ويكون إلهًا. وقد يُستعمل لفظ الإله في النص دونما
يثير أي تعليق، وكأنه إله الوثنيِّين، لا فرق بين المثال من الله والمثال من الإنسان،
كلاهما مثلٌ يُضرب دون أن يكون له معنًى ديني خاص.
٤٦ ويعتبر النص أن هل ينبغي أن يُعبد الله من الأقوال المشككية، مع أنها من الأقوال
البديهية، مثل ضرورة احترام الوالدين، وكذلك مثل أنه ليس من المستحيل أن يموت أحد بظلم
الله، مع أن العدل من الواجبات العقلية.
٤٧ كما يتحدث النص المترجم عن المتوسطات إلى الله، وفي الحضارة الإسلامية
الجديدة لا واسطة بين الخلق والخالق، وكذلك الحديث عن الجن هل هو إله أم مخلوق.
٤٨