وكما بدأ التعليق كنوعٍ أدبي من الترجمة وداخلها، فقد استقل عنها عند المترجمين مثل
«تعاليق عدة على معانٍ كثيرة ليحيى بن عدي» (٣٦٤ﻫ)، والتعليق لفظ من المؤلف كثر المحقق
استعماله.
١ ويعني التعليق هنا بيان وجاهة ترتيب أرسطو قضايا الواجب البسيطة، وإيجاد
مزيد من التعقيل والتنظير لها. ويحدث نفس الشيء في التعليق على باري أرمينياس، وشرح
وجهة نظر أرسطو في ثنائيات السلب والإيجاب.
ويتحول التعليق من تطور للترجمة المعنوية، بالإضافة، من شرحٍ إلى نوعٍ أدبي مستقل
عن
الترجمة، أقرب إلى الشرح أو التلخيص أو الجوامع بتقسيم ابن رشد، والحد الفاصل بينها هو
تسمية العمل نفسه؛ فقد سمى ابن باجة جزءًا من تأليفه تعاليق مثل «تعاليق في الأدوية
المفردة». وقد يُشار إلى التعليق بمجرد القول أو الكلام. وقد لا يكون هذا ولا ذاك، إنما
الحجم الصغير للتعليق، الذي قد يتشابك حينئذٍ مع التلخيص أو الجوامع. وقد يجمع كل هذا
الشرح كنوعٍ أدبي، بصرف النظر عن حجمه وطريقة التعامل مع النص المترجم.
٢ ويُلاحظ على التعاليق المنطقية تكرار التعليق أكثر من مرة على الكتاب
الواحد، واختلاف الأسماء على الكتاب الواحد، وظهور نوعٍ جديد من الارتياض؛ أي التمرينات،
من أجل الاستيعاب والتمثل والتعليق على منطق اليقن لا منطق الظن. ويُلاحظ على التعليقات
الطبيعية التعليق على أجزاء من الكتب خاصة السابعة والثامنة، كما فعل ابن رشد مما يدل
على الدقة وتقسيم الكتاب الواحد إلى أجزاءٍ عدة، وعدم ذكر أسماء الحكماء والاكتفاء
بأعمالهم التي استقلت عن أصحابها، باستثناء جالينوس مرةً واحدة.
هل التعليق شرح على الوافد الموروث، في حين أن الشرح تعليق على الوافد المباشر، قبل
أن يتحول إلى موروث غايته التوضيح والتصحيح، من أجل تراكُمٍ فلسفي في الوعي التاريخي؟
هو
توضيح أمام النفس ونقل الوافد الموروث من عصرٍ إلى عصر، بعد عمق الزمن واتساع الرؤية،
فإذا كان الفارابي شارحًا للوافد المباشر، فإن ابن باجة يكون معلقًا على الشرح أو
شارحًا له أو مؤلفًا فيه؛ فالتراكم الفلسفي يحدث في الوافد بعد أن يصبح موروثُا قدْر
حدوثه في الموروث، مثل شرح ابن طفيل لحيي بن يقظان، في أسرار الحكمة المشرقية لابن
سينا.
فهل قام أحد غير ابن باجة بشرح الشرح والتعليق عليه؟ وقد ترك ابن باجة تعاليق على
معظم أعمال الفارابي، كنموذج للتواصل الفلسفي بين المغرب والمشرق. وهي تعاليق بالجمع
لأنها تتعلق بجزئياتٍ عديدة، وليست تعليقًا واحدًا، ويصعب التفرقة بين الوافد المباشر
من
أرسطو أو الوافد الموروث من الفارابي، نظرًا لاتحاد الأسماء مثل إيساغوجي لفرفوريوس
وللفارابي. ومع ذلك يمكن من السياق التمييز بين ما لأرسطو وللفارابي ولابن باجة.
(١) تعاليق ابن باجة على كتاب إيساغوجي للفارابي
وهو نموذج العبارة الشارحة على الداخل، مثل الشروح المتأخرة في عصر الشروح
والملخصات، عندما بدأتِ الحضارة تعيش على ذاتها، وتجتر إبداعها القديم، وبعد أن تحول
الوافد إلى وافدٍ موروث.
٣ ويظهر التناص داخل التعليق، التعليق على شرح الفارابي على نص أرسطو، إذ
يظهر نصان قصيران لأرسطو من كتاب الحيوان.
٤ تُقطع عبارات الفارابي أقرب إلى القصر منها إلى الطول، ثم تظهر صفحات
بأكملها أقرب إلى التأليف منها إلى التعليق،
٥ بل هو أقرب إلى الإبداع منه إلى التأليف؛ لأنه لا يشير إلى الوافد ولا
إلى الموروث ولا إلى الوافد الموروث. ولا يُوجد نسقٌ معين للتناص؛ إذ يذكر ابن باجة
أوائل رسائل الفارابي أو أواخرها، ويعلق عليها ويُسقِط أجزاء أخرى؛ فالتعليق هنا ليس
شرحًا أو تلخيصًا جامعًا كليًّا، بل تطويرًا لبعض الأجزاء.
ويثني ابن باجة على الفارابي لخروجه على إطار إيساغوجي؛ فبدلًا من حديث الفارابي
عن الألفاظ الخمسة، قسمها إلى قسمَين: الأول الألفاظ الخمسة، والثاني معرفة المركبات.
وجعل الكتاب أربعة فصول: الأول غرضه، والثاني الكليات والأشخاص، والثالث الألفاظ
المفردة، والرابع الألفاظ المركبة. وهو إبداعٌ من الفارابي وليس نقلًا عن أرسطو.
٦
وتظهر أفعال القول بأولوية الاسم، القول، على مشتقات الفعل، ويظهر السلب مع
الإيجاب. ويوضح ابن باجة ما لم يقله الفارابي قارئًا أرسطو بالإضافة إلى ما قال.
٧
وبطبيعة الحال يبرز الوافد في تعاليق ابن باجة على كتاب إيساغوجي للفارابي.
٨ ويتقدم أرسطو ثم فرفوريوس. وتتم الإحالة إلى باقي أجزاء المنطق. ويظهر
أرسطو مع الفارابي؛ فالتعليق هنا تتناصٌّ بين ابن باجة والفارابي وأرسطو، قراءة ابن
باجة لقراءة الفارابي لأرسطو. لم يرتب أرسطو الفصول، ولم يضعها، ولم يتكلم فيها
الفارابي من حيث هي نظرية ورتبها كالأجناس؛ فابن باجة لديه إحساس بإبداع الفارابي
بالنسبة إلى أرسطو، فإذا رسم أرسطو الكلي، وهو ما يُحمل على أكثر من واحد، يُقدِّم
الفارابي رسمًا إضافيًّا على أرسطو؛ فرسم أرسطو جزئي لا يشمل كل الأصناف، كما رسم
أرسطو العرض في كتاب الجدل، ولكن رسم الفارابي أعم وأشمل. ورسم أرسطو الكيفية ثم
شرح الفارابي أسماءها ومعانيها ومقاصدها؛ لأن أرسطو ذكر حدودها فقط كما فعل في كتاب الجدل.
٩ لم يرتب أرسطو هذه الفصول ولم يضعها، وتلك إضافة الفارابي على أرسطو،
وإكماله صناعة المنطق، وهي كأجناس الصناعة كلها؛ فالفصل الخامس من العبارة قائم
عليها، والأسماء المشتركة تطبيق لها، ونسبة الفصول إلى المنطق مثل نسبة أقسام
الكلام إلى النحو. كما أن المنطق بالنسبة للفلسفة مثل النحو بالنسبة للكلام؛
فالفارابي ينقل المنطق اليوناني على النحو العربي، ويرتب الفصول، ويكشف نظامها
العقلي وبنية الموضوع. ويدرك ابن باجة بدقةٍ دورَ الفارابي؛ مما يجعل التعليق ربما
نوعًا أدبيًّا متأخرًا بعد الجوامع؛ أي تراكم الوافد حتى يصبح موروثًا كمرحلةٍ وسطى
في التحول من النقل إلى الإبداع. كما يشعر ابن باجة بإبداع الفارابي في رسم الكلي؛
فهو عند أرسطو يُحمل على أكثر من واحد، ثم يقدم الفارابي رسمًا جديدًا، وهو رسم
بالإمكان الذي للمعنى من جهةٍ ما هو معقول، ورسم الشخص بعدم هذا الإمكان
وبالامتناع؛ فرسم أبي نصر أكثر منطقيًّا وفلسفيًّا وذهنيًّا. ويعطي ابن باجة عدة
تأويلات للفارابي؛ فهو أيضًا مبدع معه كما كان الفارابي مبدعًا مع أرسطو.
١٠
ويظهر الموروث في تعاليق ابن باجة على كتاب ايساغوجي للفارابي، وبطبيعة الحال يأتي
الفارابي في المقدمة، هو ومؤلفاته.
١١ ويُحال إلى اللسان العربي دون اللسان اليوناني. ويشعر ابن باجة أن
الفارابي مؤلف وليس شارحًا للمنطق. الفارابي وحده هو الذي وضع الفصل من حيث هي
صناعة لها أجزاؤها وترتيبها، وموجودة بالقوة في الوحي، جمع الفارابي هذه الفصول
وأحصاها. ليست جزءًا من الصناعة إنما هي تقرير وتحصيل للأشياء التي ينبغي معرفتها
قبل الصناعة، وعرضها هنا كجزء من الصناعة. أبدع الفارابي وأكمل المنطق وكأن ابن
باجة يقرأ نفسه في الفارابي؛ ومن ثم يكون الفارابي مبدعًا بالنسبة لأرسطو. الإبداع
إعادة قراءة للترجمة والشرح أو مرحلة انتقال أو تحوُّل من النقل إلى الإبداع. واسم
صناعة المنطق مشتق مما ذكره أبو نصر، علم مشتق من اللغة العربية من النطق وليس وافدًا
من اليونان.
١٢
ويحيل ابن باجة إلى كتاب الفصول للفارابي مفسرًا الجزء بالكل، واسمه المدخل أو
الفصول أو اللفظ المعرب إيساغوجي؛ لأن أحدًا غير الفارابي لم يؤلِّف فيها. ويستعمل
الفارابي الشرط كثيرًا في الفصول، الغرض منه تعلم الأشياء التي تساعد على إحصاء
المقولات، وعلى فهم المنطق كله أو الفصول الخمسة. ويستعمل لفظ إيساغوجي عندما تكون
الإشارة إلى فرفوريوس والمدخل أو الفصول لتأليف الفارابي فيه. وينقسم إيساغوجي
أربعة فصول ولكن المدخل عند الفارابي لم يلتزم بالتقسيم الأول، وجعل مهمته شرح
الفصول الخمسة أسمائها ومعانيها. ويكون إيساغوجي مجرد التوطئة لكتاب المدخل
للفارابي الذي يأخذ مكانه. لم يكرر الفارابي ما قاله فرفوريوس من قبلُ، ولكنه أضاف
عليه وتممه وأعاد قراءته.
١٣
ويحيل ابن باجة إلى كتاب الفارابي «الألفاظ المستعملة في كل صناعة الذي يبين فيه
اشتقاق صناعة المنطق». كما يحيل إلى كتاب «قاطيغورياس» الذي استعمل فيه لفظ العرض
إضافة بين الكليات والأشخاص وكأنها جنس لموضوع. كما يستشهد بكتاب «الجدل».
١٤ ويشير ابن باجة إلى بعض أعمال الفارابي مثل «في الوحدة»، ويقصد في
معاني الواحد ويبني عليه مذهبه في توحيد العقل الفعال، وكتاب «الموجودات المتغيرة»،
وكتاب «الرد على النحوي»، ويعني الرد على أبرقلس في أزلية العالم. ولم يذكر من
المشارقة بعد الفارابي إلا الغزالي وإخوان الصفا. أما الحديث عن المصادر
الأفلاطونية والأرسطية عند ابن باجة، معلقًا على الفارابي فهو استشراقٌ خالص، الآخر
مصدر للأنا وليس الأنا متمثلًا للآخر.
١٥
يشرح ابن باجة الألفاظ باللجوء إلى لسان العرب استئنافًا لشرح الفارابي واقتباسًا
لنصٍّ منهح فالكلية في المدخل هي الفعل العربي، والأداة هو الحرف، والكلية الوجودية
مشتقة من فعل الكينونة الذي يعني الوجود. وكل الألسنة تستعمل الرابطة التي تدل على
الوجود باستثناء اللسان العربي، فالوجود مضمر.
١٦ والحرف قد يكون اسمًا لنوعه أو اسمًا لنفسه. كما أن زيد علامة يُعرف بها
الشخص. والمعنى المدلول عليه باللفظ صنفان، الأول معقول والثاني شخصي باستثناء
المعاني الخيالية، مثل العنقاء والغول وعنز أيل.
١٧
ويظهر اشتراك الاسم أيضًا طبقًا لمبحث الألفاظ في علم الأصول؛ فالسوفسطائية تُقال
باشتراك الاسم، وكذلك الجدل والخطابة والشعر والخبر؛ فمرةً يفيد الألفاظ من حيث هي
تأليف، ومرة المعاني الدال عليها؛ لذلك أتت أهمية الفصول لحل الاشتراك في الأسماء.
ويشرح الفارابي الأسماء وفائدتها ومعانيها، وهي أسماء مشتقة مما جعلها أقرب إلى
الحد والرسم.
١٨ ويظهر أسلوب الفقهاء في تخيل الاعتراض والرد عليه مسبقًا، والإجابة على
أسئلةٍ مفترضة، والرد على الشكوك باليقين من أجل إكمال الموضوع، وتغطية كل جوانبه
بطريقة السؤال والجواب، طريقة الأصوليِّين.
١٩ كما يضرب المثل بالعربي والزنجي على الإضافة مثل تمايُز الشمس والقمر
والكواكب، بالإضافة وعلى رسم الكليات المشهورة. ويستعمل ابن باجة أمثلة من الشعر
العربي من امرئ القيس وجرير والأخطل، كمجرد موضوعات أو محمولات في قضيةٍ موجبة أو
سالبة؛ مما يدل على حضور الثقافة العربية في المخزون الثقافي للشارح.
٢٠ كما يظهر الأسلوب الإيماني في التعبيرات الدينية مثل «اللهم»، «الحمد
لله»، «رضى الله وتوفيقه».
٢١
(٢) تعاليق على المقولات
ويبدو التناصُّ واضحًا في هذا التعليق في صورة نصوصٍ مُقتبَسة من الفارابي، أطول من
النصوص المقتبسة في إيساغوجي. وأحيانًا يُسمَّى التعليق الارتياض مما يدل على أن
الغاية منه التدريب والتمرين. ومع ذلك هناك فقرات بأكملها أقرب إلى الإبداع منها إلى
التعليق. ولا تبين الإحالات إلى تعاليق المقولات هل هي كتب أرسطو أم شروح الفارابي؛
فلم يعد هناك فرق بين الشروح والشرح. الشرح إعادة إنتاج للنص في نصٍّ جديد، وأكمل
وأدق تعبيرًا وأوسع وأشمل أفقًا، بل إن الإحالة تجاوزتِ اسم الكتاب إلى موضوع العلم.
كما تجاوزتِ العلم إلى الموضوع ذاته.
لذلك تدخل التعليقات في الموضوع مباشرة بلا أفعال القول؛ فهي في غالبها القول
المنسوب إلى الفارابي، الموضوع لا الشخص، موضوع القول لا فعل القول.
٢٢ ويظهر الوافد في تعاليق المنقولات، أرسطو في المقدمة ثم فرفوريوس في
مقابل الموروث، والفارابي بمفرده. وتتم الإحالة إلى كتاب العبارة والمقولات
أوقاطغيورياس، دون تمييزٍ دقيق بين ما لأرسطو، وما للفارابي، بين الوافد المباشر
والوافد الموروث.
٢٣ ويؤسس ابن باجة المقولات العشر عند أرسطو في الفطرة دون فكر أو روية،
والفطرة مقياسٌ إسلامي. ويبدأ بالألفاظ المتواطئة، وهي من مباحث الألفاظ عند
الأصوليِّين؛ فالغرض من التعليق هو بيانُ مجمل، وتخصيص العموم وهي مقولاتٌ أصولية. وهنا
يتعامل ابن باجة مع أرسطو مباشرة دون توسط الفارابي. كما يحيل ابن باجة إلى
فرفوريوس في تفرقته بين الحد والرسم، الخاصة للرسم والفصل للحد.
٢٤ ويُحال إلى كتاب العبارة في وجود الضدَّين في الأقاويل في العبارة، في حين
أنهما في كليات الموجودات في المقولات. كما يُحال إلى كتاب المقولات أوقاطيغورياس
لمعرفة هل هي معانٍ مفردة مستندة إلى محسوس، ولا تعم غيرها معلومة بغير استدلال، أم
هي معانٍ عامة تضم غيرها، وفي كلتا الحالتَين هي عشرة. وللمقولات معنًى محدد ينطبق
على ما يدخل فيها لا ما يخرج منها. وهي الأجناس في المنطق التي تسبق العبارة.
٢٥
ويظهر الموروث في تعاليق ابن باجة على كتاب المقولات. ويأتي الفارابي بطبيعة
الحال في المقدمة مع باقي مؤلفاته، الخمسة، المدخل، إيساغوجي، المقولات ثم
قاطيغورياس. ومن الموروث أيضًا يُحال إلى المتكلمين باعتبارهم وافدًا موروثًا للحكماء.
٢٦ الحركة من الكم عند الفارابي، ولكن إبداعه في تقديم المقولات على أنها
ألفاظ، مقدمة لصناعة كلها. وقد اكتفى ارسطو بالعدد الذي يستطيع القطر استيعابه
واستعماله في المقاييس. ويمكن استنباطها من إيساغوجي وحدها وفصلها، بالرغم من ظن
البعض أنه أخطأ في جعل مواضعَ متساوية وكمياتها مختلفة؛
٢٧ فالاتفاق مع الفارابي وليس مع أرسطو أو مع أرسطو من خلال الفارابي.
وينقد ابن باجة المتكملين لأنهم لم يشعروا بالفرق بين ما يميز الشيء عن غيره وما
يُعرف في نفسه. وهي التفرقة المشهورة بين الشيء لغيره والشيء لذاته.
٢٨ ويحيل ابن باجة إلى كتاب الفارابي الفصول الخمسة، خاصة لواحقها التي هي
بمثابة المبادئ العامة للمنطق. ويذكر حد الحد الذي في المدخل من حيث هو معنًى، بينما
تحديده في الفصول من حيث هو لفظ؛ فالموضوع عند ابن باجة معروف في أكثر من كتابٍ
للفارابي، وليس فقط من النص موضوع التعليق. والمدخل عند الفارابي آلة وجزء من صناعة
المنطق، وغرضه أن يكون نافعًا في استنباط أجناس المقولات. ويشير ابن باجة إلى
الفصول باعتباره بديلًا عن إيساغوجي.
٢٩ ولا يذكر ابن باجة ابن سينا في كل مؤلفاته إلا مرةً واحدة، على عكس ابن
رشد يُصوِّب عليه سهامه مع الأشعري. وإذا لم تصل مؤلفات ابن سينا إلى الأندلس، فكيف
وصلت لابن رشد؟ هل تفضيلًا للفارابي عليه؟ لقد ذُكر ابن سينا عرضًا في كتاب المقولات
من خلال الفارابي، صراحةً أو ضمنًا لدرجة الشك في صحته. وقد ذكره في إطار الطبيعيات
وليس الإشراقيات، فيعترض عليه لمخالفته الفارابي. وعندما يذكر ابن باجة قسمة
الفلسفة أحكام العقول القسمة الشائعة إلى ضروري وممتنع وممكن، فإنه لا يشير إلى ابن
سينا؛ لأنه مجمع تنقصه الأصالة والإبداع اللذان يجدهما ابن باجة عند الفارابي.
٣٠
وكل لفظ من المقولات يدل على أكثر من معنى؛ فهو اسم مشترك وإلا وُجد معنًى يعم أكثر
من واحدٍ منها. وهي أسماء مشككة منها متواطئ ومنها ما يُقال بتقديم وتأخير منها ما
يُقال بتناسب، فإذا كانت المقولات أسماءً مشتركة فأسماء الطبيعة أولى. وهي محاولة
لإعادة تفسير المقولات ابتداءً من مباحث الألفاظ، كما هو الحال لإعادة تفسير
المقولات، ابتداءً من مباحث الألفاظ كما هو الحال عند الأصوليِّين وليس كتصورات.
٣١ ويظهر أسلوب الفقهاء في توقُّع السؤال والرد عليه سلفًا، وتخيل الاعتراض
والرد عليه مسبقًا. كما يُضرب المثل بزيد وعمر طبقًا للعادة العربية لبيان الإضافة.
وتظهر المقدمات والخواتيم الإيمانية من المؤلف أو الناسخ، وطلب الرضى له والرحمة عليه.
٣٢
(٣) تعاليق على العبارة
والعنوان الدقيق «من كتاب العبارة»، ولكنه أشبه بالتعليق. ويعني تقطيع القول
لإعادة تركيبه على المعنى، وليس على اللفظ، من أجل تحويل الوافد الموروث، أرسطو من
خلال الفارابي، إلى موروثٍ إبداعي، والانتقال من مستوى الألفاظ إلى مستوى المعاني
والأشياء. يقوم ابن باجة بالتعليق بمعنى التأليف في الموضوع، ابتداء نم الفارابي
بعد أن تحول أرسطو من خلاله، ثلاثة أجيال فكرية، أرسطو والفارابي وابن باجة. يدرس
ابن باجة الموضوع عند الفارابي الذي درسه من قبل عند أرسطو. ويدافع ابن باجة عن أبي
نصر إذ ظن الناس أنه لم يعرض لإثبات الممكن. وهذا ليس من صناعة المنطق بل من
المعلومات الأول. وقد جعل المتناقضَين يقتسمان الصدق والكذب على غير التحصيل، وإلا
تساوق الضروري والممتع، وارتفعت الرؤية والاستعدادات وبطل الممكن.
٣٣
وتظهر أفعال القول في صيغٍ عديدة مع أفعال الظن والاعتقاد والكلام؛ فالظن هو
الاعتقاد الشائع الذي يُبدِده التعليق. ويغلب على ضمائر أفعال القول، قوله «إشارة
للفارابي»، «قولنا» إشارة لابن باجة، بالإضافة إلى الصيغ الأخرى. والتعليق كله حجاج
وسجال ومُحاجَّة، وردود على اعتراضات. ويظهر لنا التمايُز بين المعلق والمعلق عليه وقوله.
٣٤ كما يظهر مسار الفكر، مقدماته ونتائجه.
ومن الوافد يتعرض ابن باجة لجالينوس ثم أرسطو ثم بارمنيدس. ينقد ابن باجة جالينوس
المنطقي في أنه جعل الموضوعات المتغيرة واحة، وأنه جعل ما بالجوهر بالعرض لذوات
الطبائع المتغيرة. وقد ارتاب جالينوس كما ارتاب في شهادة الحس، مما يدل على ارتباط
المنطق بالميتافيزيقيا. وإن أخطاء المنطق تعود إلى أخطاء في الميتافيزيقا. كما أبطل
جالينوس الممكن في جعله المتناقضَين يقتسمان الصدق والكذب؛ لأن الممكن لا ينقسم.
والحقيقة أن جالينوس لم يقصد إبطاله بل نتج عنه ارتفاعه. وابن باجة ليس ضد جالينوس
على طول الخط، ولكنه أيضًا يدقق النظر، ويصحح العبارة، ويبين المجمل، ويحكم
المتشابه كما يفعل الأصولي. كما طعن جالينوس على حد الممكن تذرعًا بأنه يستعمل
الممكن، وهو جهل لأن الممكن في قوله غير ممكن معناه موجود، والممكن المطلوب حده هو
الطبيعة الزاهقة.
٣٥
ويشير ابن باجة إلى القدماء لمعرفة أجناس القول التام، وهو خمسة: جزم وأمر وتضرع
وطلبة ونداء. ويمكن أن تكون أكثر من ذلك على نحوٍ آخر. وهو يشبه أقسام القول عند
الأصوليِّين. كما يعرض لشك القدماء وأبطالهم أن يكون موجودًا يحدث من موجود؛ لأن جميع
ما يحدث قبل أن يحدث يكذب عليه «ليس بممكن»، فإذا كذب صدق «ممكن».
٣٦ ومن الأعمال يشير إلى العبارة والقياس والمقولات، سواء كانت لأرسطو أم
للفارابي أم لابن باجة، أو موضوعاتٍ مستقلة بصرف النظر عن الأشخاص. يُحال إلى كتاب
العبارة ذاته إحالةً للجزء إلى الكل، في الأضداد باعتبارها من توافق المقولات. وهي
جزء من صناعة المنطق. ويقتبس ابن باجة نصًّا حرًّا من كتاب العبارة، بمعناه لا
بلفظه؛ مما يدل على أن التعليق يتعامل مع المعاني لا مع الألفاظ، في حضارة تفرق بين
النقل اللفظي والنقل المعنوي، في علم مصطلح الحديث وفي علم أصول الفقه. كما يُحال
إلى كتاب القياس، باعتبار أنه مكون من مقدمات تتكون من مقولات، وباعتبار أن العكس
هو تحويل الموضوع محمولًا والمحمول موضوعًا. وأخيرًا يُحال إلى كتاب المقولات
باعتباره حاويًا لمبادئ الفكر وللعبارة كيف تفكر فيها.
٣٧
ويظهر الموروث في الإحالة إلى الفارابي، ومن الأعمال إلى العبارة والقياس ثم المقولات.
٣٨ كما يُحال أيضًا إلى اللسان العربي، ويقرأ ابن باجة أرسطو من خلال
اللسان العربي، الذي لا يعرف الاسم غير المحصل، وهو الاسم الذي لا يدل على أيٍّ من
النقيضَين مثل السماء لا خفيفة ولا ثقيلة، ناقلًا أرسطو من اللسان اليوناني إلى
اللسان العربي؛ فالفكر لغة وليس فقط منطقًا. ويضيف الفارابي على أرسطو لإكماله،
فإذا قال أرسطو في طباع أحدهما أضاف الفارابي أو في كليهما؛ لأن الموضوع يصدق على
أحد الشيئَين كما يصدق عليهما معًا. اكتفى أرسطو بما لزم الصناعة، ولكن الفارابي أخذ
الأمر بتمامه كالعادة لإكمال التصورات، وأحيانًا يتعامل ابن باجة مع أرسطو مباشرة
دون توسط الفارابي، مثل حد أرسطو للممكن من حيث هو في النفس، متصورًا تصورًا مجملًا
في القضايا، وأما حده بحسب الوجود ففي علمٍ آخر غير علم المنطق وهو علم الطبيعة.
٣٩
يضع ابن باجة الفارابي في منظور أوسع مقارنًا إياه بباقي كتب أرسطو، «المقولات»
و«القياس» وبآراء جالينوس وبارميندس المنطقية.
٤٠
وتظهر البيئة الجغرافية الإسلامية في ضرب الأمثلة والتاريخ الإسلامي لبيان
الامتناع، مثل ضرب المثل بإمكان السفر من مصر إلى بغداد في شهر وامتناع ذلك إذا وقع
عائق. كما يظهر الأسلوب العربي في استعمال زيد وعمر كأمثلة للموضوع في القضية أو
المبتدأ في الجملة وفي القياس وأشكاله المتعددة وفي صيغ الكلام، الخبر والإنشاء
والنداء والإضافة، والتمييز بين المثال والشخص، وبين الاسم والمشار إليه. ويظهر
الأسلوب الفقهي الأصولي في تخيُّل الاعتراض والرد عليه سلفًا. كما يظهر اللسان في وضع
علامة على المضاف إليه يعرف بها والعلامة لا تساوي الإعراب، بل هي كالجنس للأشياء.
كما جرت العادة في كل لسان، أن يكون الاسم المضاف إليه علامة معربًا. والعلامة في
اليونانية لا تساوي الإعراب في العربية، بل هي كالجنس للأشياء، التي يجعلها أهل
اللسان علامة، وهي في اللسان العربي الإعراب.
٤١
كما تظهر خصوصية اللسان العربي في استعمال لفظ السماء، بمعنى أنها لا خفيفة ولا
ثقيلة، وهو المعنى الذي قصده أرسطو. وكذلك يتميز اللسان العربي بعلامات الإعراب
المختلفة عن باقي الألسنة. كما يظهر الأسلوب العربي وضرب الأمثلة بزيدٍ
وعمرو.
وينتقل ابن باجة من اللسان العربي إلى اللسان العام، الذي يعم كل الألسنة كما هو
الحال في علم الأصول؛ فالعلاقة بين اللغة الخاصة وعلم اللسان العام مثل العلاقة بين
خصوص السبب وعموم الحكم. كما يظهر القرآن الكريم، آية واحدة
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا، كنموذج للسالبة التي
تسلب الإمكان والوجود؛ إذ إن النهي عن الأخس يتضمن النهي عن الأعز. ويظهر الموروث
الأصلي للدلالة على احتواء الأكبر للأصغر في المنطق. وبطبيعة الحال يبدأ التعليق
بالبسملة والصلاة والسلام على محمد وآله، وينتهي بلا خاتمةٍ إيمانية. وينتهي التعليق
بطلب الناسخ الرضا من الله، وطلب الرضوان للمؤلف.
٤٢
(٤) تعاليق كتاب باري أرمينياس
والسؤال هو هل هذا التعليق مستقل عن كتاب العبارة أم هو نفس الكتاب بعنوانٍ مُعرَّب؟
٤٣ يعني التعليق هنا الاتجاه نحو المعنى مباشرة دون اللفظ؛ ومن ثم أقرب
إلى التلخيص. التعليق هنا ليس على أقوالٍ، بل تفكير في معانٍ وتطوير لها، وإعادة
دراسة نفس الموضوع بعد أن وصل الوعي الفلسفي إلى مرحلة النضج والاكتمال. وإذا كان
دراسة الموضوع ذاته، فإنه يكون أقرب إلى الجوامع طبقًا للأنواع الأدبية التي وضعها
ابن رشد؛ لذلك لا تظهر أفعال القول لأنه عرض للمعنى أو تأليف في الموضوع. ونصوص
الفارابي داخل التعليق ليست كثيرة، تتساوى فيها العبارات القصيرة مع الطويلة.
٤٤ ويبين التعليق موقف الفارابي إثباتًا ونفيًا، إيجابًا وسلبًا؛ إذ لم
يتكلم الفارابي في القضايا ولا في المقدمات. ويبين ابن باجة غرض الفارابي من كتاب
أرميناس، أن يعطي ما يتألف من القول الجازم الحملي من الإيجاب والسلب، القابل من
جهة الألفاظ الدالة.
٤٥
وتحول التعليق عند ابن باجة إلى نوعٍ أدبي مستقل في كتاب باري أرمينياس للفارابي.
وله تعاليقُ أخرى ضمن مؤلفاته السبعة والعشرين.
٤٦ ويعني التعليق شرح الداخل وليس الخارج، تفسير الموروث، وليس الوافد من
أجل إحداث التراكم التاريخي الداخلي، وإيجاد تعددية في تفسير الوافد وتمثُّله. وهو
على نوعَين: إما تعليق مباشر من ابن باجة على كتاب باري أرمينياس، وإما تعليق مأخوذ
عنه بمعناه وليس بلفظه.
٤٧ ويظهر في التعليق المباشر فعل القول في البداية في صيغة المفرد الغائب
«قال» أو «قوله»، ثم تتوالى صيغ المتكلم الجمع الاسم في صيغة «قولنا».
٤٨ ولا يذكر أي أسماء أعلام ولا يضع الفارابي في إطار مقارن مع الوافد
اليوناني أو مع الموروث الإسلامي، خاصةً وأنه أتى بعده بما يقرب من مِائتَي عام،
ولكنه يعلق ببيان الغرض؛ إذ يتكرر لفظ الغرض عشرات المرات؛ فالتعليق مثل الشرح
والتلخيص بيان الغرض؛ فالنص هدف، والفكر غاية.
ولا يذكر أرسطو على الإطلاق، ويذكر الفارابي مرةً واحدة وباري أرمينياس واللسان
العربي مرةً واحدة؛ فالتعليق هنا على الوافد من خلال الموروث، وأصوله في الوافد
بدايةً للتراكم التاريخي، فالتعليق على الداخل وليس فقط على الخارج، أو على الخارج
من خلال الداخل وليس مباشرة. وتظهر الأسماء المشتركة كما هو الحال في منطق الأصول،
كما يظهر اللسان العربي في الأسماء المحصلة وغير المحصلة. كما تظهر مصطلحات علم
الأصول مثل الأخبار، وتقسيم الكلام إلى استفهامٍ وأمر وطلب وتضرع، واقتران لفظ
الشريعة بالوضع. وأكثر العلم يأتي عن طريق الطلب. والصدق والكذب يأتيان من الجهات
لا من الأخبار؛ أي من الحكم لا من القضية.
٤٩ ويظهر الأسلوب العربي في ضرب المثل بزيدٍ وعمرو في تحليل اللغة
العربية، اللفظ والحرف والاسم والجملة وليس منطقًا يونانيًّا؛ فقد تم نقل المنطق
اليوناني من مستوى الفكر في شكل القضية على مستوى اللغة. ويُضرب بزيدٍ المثل كما هو
الحال في الأسلوب العربي.
٥٠ وتبدأ المقدمة بالبسملة والحمدلة، وتنتهي بالصلوات على خاتم
النبيِّين.
وتشترك هذه التعليقات في الأسلوب والهدف، أو فيما يمكن تسميته بآليات التعليق؛
ففي التعليق على إيساغوجي تغيب أفعال القول لأرسطو والفارابي؛ لأنه تعامُل مع
الموضوعات مباشرة وتنظير لها. وفي تعاليق المقولات تظهر أفعال القول ومشتقاته في
ضمير، تعبيرًا عن الأنا أكثر من ضمير الغائب إشارة إلى الآخر وليس الفاعل بعد القول
بالضرورة أرسطو. وفي التعليقات على العبارة تظهر أفعال القول ومشتقاته أيضًا، بحيث
يأتي قوله أي قولٍ آخر في المقدمة، وليس بالضرورة قول أرسطو بل قد يكون قول أبي نصر؛
لأنه يتم أحيانًا تخصيص بالاسم ثم يأتي قول الأنا موزعًا بين الاسم والفعل. وإذا
ذكر أرسطو مرةً صراحة فقد ذكر الفارابي أيضًا مرةً صراحة. وفي التعليقات على
بارامنياس تظهر أفعال القول ومشتقاته في ضمير المتكلم المفرد والجمع؛ فالأولوية
للتعبير عن الأنا قبل الإشارة إلى الآخر، وبعضها من وضع الناسخ بعد تقطيع النص إلى
وحداتٍ صغرى.
٥١
وتتوجه التعليقات نحو المعاني وما ينبغي للإنسان أن يعلم. وتظهر أفعال الإيضاح
والانتقال من الظن إلى اليقين؛ فالبيان هو مسار الفكر وهدفه، ويظهر القصد والغاية.
٥٢ ويبدو المسار الفكري من المقدمات إلى النتائج.
٥٣
ويظهر الموروث المحلي في ضرب الأمثلة بزيدٍ وعمرو.
٥٤ كما يظهر التمايُز بين التعليق والوافد في بيان خصوصية اللسان العربي.
٥٥ وتظهر بعض المصطلحات الأصولية مثل الأخبار. كما يسهل التعليق على تمثل
الفارابي للوافد؛ نظرًا لأن الثقافة العربية ثقافة الكلام وأدبها الشعر؛ فالكلام
أربعة أقسام: نداء، وأمر، وتضرع، وطلب، وكذلك قسمة الأسماء المشتركة إلى مشككة،
ومستعارة، ومتباينة، ومترادفة. ويُعاد بناء نص الفارابي الذي يتمثل فيه الوافد بناء
على أبعادٍ جديدة في ثقافة الموروث، فإذا تحدث النص الوافد عن الإنسان في الرحم،
فإن التعليق يجعله خلق الله الإنسان في الرحم. هذا بالإضافة إلى البسملة والصلاة
والسلام على محمد وآله في البداية، حتى وإن اختفت في النهاية.
٥٦
(٥) تعاليق على البرهان
ويبدو ابن باجة هو الذي حوَّل التعاليق إلى نوعٍ أدبي مستقل، في تعاليق ابن باجة
على كتاب البرهان للفارابي.
٥٧ وهي أقرب إلى الشرح إذ إنها تقطيع نص البرهان إلى نصوصٍ صغيرة حتى يسهل
هضمها وابتلاعها؛ فتحول النص إلى جزئياتٍ صغيرة دون رؤيةٍ كلية.
٥٨ والهدف هو مزيدٍ من التفصيل والبيان للأقوال الجزئية، حتى غاب الهدف
الكلي والقصد بلا دلالة. التعاليق أقرب إلى التمارين العقلية التي يقوم بها ابن
باجة من المغرب على نص البرهان للمشرق لإحداث التراكم الفلسفي الداخلي؛ إذ يقوم
الفارابي بتمثُّل الوافد ويقوم ابن باجة بتمثُّل التمثل من جديد.
والتحليل صوريٌّ جزئي متناثر باستثناء بعض أمثلة من السياسة؛ أي من العلم المدني
الأثير عند الفارابي، علاقة الرئيس بالوزير.
٥٩ لا يُوجد موضوعٌ مترابط حتى البرهان؛ لذلك جاء الشرح والتلخيص والجوامع
لتحديد القصد والغاية والغرض وإجمال الموضوع، تحليله في الشرح ثم تركيبه في التلخيص
والجوامع. التعاليق بهذا المعنى أقرب إلى الشروح المتأخرة في عصر الشروح والملخصات
أيام الدولة العثمانية، عندما عاش الموروث على نفسه، مجترًّا إبداعه السابق وناقلًا
له، ومتمثلًا من قبلُ دون قراءة أو تأويل. ويضع ابن باجة تعاليقه بالإحالة إلى باقي
مؤلفات الفارابي، عارضًا كتب أرسطو المنطقية مثل إيساغوجي، والبرهان، والتحليل،
والقياس، وباري أرمينياس.
٦٠
وفي الغالب يبدو ابن باجة مؤيدًا للفارابي، وليس قارئًا أو مؤوِّلًا أو ناقدًا أو
رافضًا، كما فعل ابن رشد في «تهافت التهافت» مع الغزالي؛ لذلك تغيب عن التعاليق
المواقف الفكرية والسجال. يبدو الفكر الفلسفي في التعاليق مفلطحًا سطحيًّا
مستويًا، خاليًا من الإشكال والعمق والبدائل.
ومع ذلك يبدو مسار الفكر في صور الاستدلال، وأفعال الشرط وجوابه وأفعال البيان
والإيضاح. كما تبدو الإحالات إلى ما تقدم وإلى ما سيأتي، ربطًا للنتائج بالمقدمات.
كما تظهر الماينبغيات؛ فالفكر اقتضاء ووجوب. كما يبدو التعليق بحثًا عن السبب؛ يقوم
بدور التعليل. كما يبدو التقسيم للموضوع، والتقسيم أولى درجات الحد، ومع ذلك نادرًا
ما يبدو القصد والغاية الذي كان بإمكانه توحيد الأجزاء المتناثرة في كلٍّ واحد. كما
يُوجد فعل الأمر للنفس مثل «فلنترك»، وكأن هناك خطواتٍ متتالية في مسارٍ مقصود محدد،
له بداية ونهاية وقصد وغاية، ويخاطب القارئ «واعلم»، وكأن هناك قضية تهم القارئ غير
هذا التحليل المتناهي في الصغر، كما هو الحال في المدارس التحليلية الغربية
المعاصرة، وفي مناهج تحليل الخطاب.
٦١