سابعًا: من التعليق إلى الشرح
والتعليق أي التحرُّر من النص المعنوي، كما كان النص المعنوي تحررًا من النص الحرفي،
بداية الشرح والتلخيص؛ فكلما كان التعليق بالزيادة أو النقصان كان الشرح والتلخيص نوعًا
من التعليق؛ فالشرح زيادة، والتلخيص نقصان، الشرح إضافة، والتلخيص حذف. الشرح هو تعليق
وصلت منه الزيادة والإضافة إلى حدٍّ كبير أكبر من النص الأول فاستقل عنه، وأصبح له كيان
مستقل بذاته. التعليق خروجٌ نسبي محدد عن النص المنقول، في حين أن الشرح خروج كلي،
استقلال ذاتي، إعادة إنتاج للنص الأول، تفتيت للنص الأول إلى وحداته الأولى، حتى يسهل
بعد ذلك مضغها وهضمها وتمثلها وإخراجها في التلخيص. الشرح أسهل من التلخيص وسابق عليه،
والتلخيص أصعب من الشرح وتالٍ له. الشرح مدٌّ للنص المنقول والتلخيص جزرٌ له. قد يبدو
الشرح أصعب من التلخيص؛ لأنه أكبر حجمًا وأكثر حضورًا وأكثر استرعاءً للانتباه؛ لما فيه
من علمٍ دقيق، تفصيلات وأسماء أعلام ومصطلحاتٍ معرَّبة، وأن التلخيص أسهل فهمًا وأخف
ثقلًا، وأقل حجمًا، وأوضح أسلوبًا؛ ومن ثم فالتلخيص تاريخيًّا سابق على الشرح؛ لأن
التلخيص في مرحلة المران الأولى. والشرح تالٍ التلخيص؛ لأنه محشوٌّ بالمعلومات ومثقل
بالعلم. والحقيقة أن العكس هو الصحيح بنيويًّا، أن الشرح يسبق التلخيص، وأن الإسهاب
يمثل مرحلة المران الأولى، وأن التلخيص يتطلب قدرةً ومهارة، لا تُوجد إلا عند المتمرسين
للشرح الأول؛ ومن ثم كانت شروح ابن رشد من أعمال الشباب، وتلخيصاته من الأعمال المتأخرة
فكريًّا وليس تاريخيًّا.
وقد يكون التعليق لنفس الشارح، وفي هذه الحالة يكون تعليقًا تفصيليًّا في فكرةٍ واحدة
عليها خلاف مع غيره من الشراح، أو من نصَّين مختلفَين في الترجمة، وترك المعنى الكلي
الرئيسي للشرح الأصلي.
١ وقد يكون الشارح للوافد هو العالم بالموروث، والعالم الرياضي الطبيعي الذي
يلخص كتاب النفس.
٢
وقد يقوم النقلة أنفسهم بالشرح والتقسيم المستقل عن التعليق؛
٣ فالنقل ليس نقلًا حرفيًّا، بل تكون به شروح فقط من حيث تصحيحات النسخ بعضها على
بعض، بل أيضًا من حيث الحذف والإضافة. الترجمة أحيانًا شروح وتأويل للنص
اليوناني. ويستعمل البعض عبارة «تأويل أرسطو» في الترجمات العربية لإسحاق بن حنين.
٤
الشرح جزء من الترجمة وملحق بها، فلا فرق بين ترجمةٍ وشرح، كان أواخر المترجمين
مفسرين، كما كان أوائل الفلاسفة مترجمين،
٥ وأفضل الشروح يغني عن الترجمة كلية، ويكون بديلًا عنها؛ فهو أوضح وأكمل
حضاريًّا، شرح يكمل نصًّا وحضارة تكمل حضارة. وقد يكون الشرح أوضح من النص؛ لأن الغاية
منه الإيضاح والبيان.
٦ وقد يكون التفسير أطول من النص من أجل الإيضاح.
٧ ثم قد يصبح الشرح هو المتن ويظهر شرح الشرح، حواشيَ على الشرح، وربما
تخريجات على الحواشي حتى تبعُد المسافة بين النص الأول والنص الأخير، وكما هو الحال في
عصر الشروح والملخصات في الحضارة الإسلامية، شرح الشرح خالٍ من النقل، نقل الآخر على
مستوى الأنا، بل نقل الأنا القديم على الأنا الجديد.
٨
والشروح مثل الترجمة عملٌ جماعي؛ فقد يعتمد الشارح على تعليق الترجمة السابق أو على
شرحٍ آخر؛ فشرحه ليس مجرد تأملٍ عقلي أو ذوق ومزاج، بل هو شرحٌ موثَّق.
٩ الشرح عملٌ جماعي لا تظهر فيه شخصيات الشراح، هو عملٌ متكامل يُظهر كل شارح
أحد جوانب الفكر، حتى تكتمل بنية الموضوع؛ لذلك قد يظهر شارحان لنصٍّ واحد، تعاونًا في
المشروع الحضاري الواحد بعكس المقالات وكتب الفرق، حيث التشتت والتفرق إلى عشرات الفرق.
اعتماد الشراح بعضهم على بعض يدل على العمل الجماعي، وليس البطولة الفردية، والتأكيد
على نفس الشيء زيادةً في المطابقة وإبرازًا للمعنى. وأحيانًا لا يرِد اسم صاحب التعليق؛
فالمهم الفكرة لا الشخص. وأحيانًا يُذكر الشارحان معًا وكأنهما متفقان في الشرح، أو قاما
بالشرح معًا شرحًا جماعيًّا.
والشرح من حيث الكم ضروري لتفادي التطويل والإسهاب، وضياع المعنى وذوبانه داخل
العبارات والقضايا والأمثلة والاستدلال الذاتي في النص المترجم.
١٠ وهذا في التخليص أوضح، الشرح والتلخيص أقل حجمًا، وأكثر تركيزًا، وأوضح
عرضًا وأكثر دلالة، وأقصر توجهًا حتى يسهل بعد ذلك استعمال النص المترجم، فإذا كان النص
المنطق فإنه يتحول بعد الشرح من منطقٍ نظري إلى منطق للاستعمال، من منطق الآخر إلى منطق
الأنا، من منطق الوافد إلى منطق الموروث. كان الشرح ضروريًّا لأن النص المترجم طويل
ومسهب، به حشوٌ كثير، ليس له بؤرة يمكن التركيز عليها، مفلطح، مسطح، مبلطح، مستوٍ، لا
عمق
فيه. مهمة الشرح، وإن كان في التلخيص أوضح، لمُّ النص وإيجادُ بؤرته والعثورُ على عمقه
حتى
يصبح نصًّا فعالًا خصبًا يُدرُّ فكرًا. وقد يكون الشرح مجرد عباراتٍ قصيرة وجيزة في صيغةٍ
خبرية
تقريرية، مثل العبارات الفلسفية المحكمة، وكأنها طريقة القرن السابع عشر في الغرب في
تحرير الكتاب على هيئة أوليات ومصادرات.
١١ التلخيص تركيز الفكر، ضم العملة الفكة إلى الصحيح، حتى يمكن بعد ذلك
التعامل معها في البيع والشراء؛ فالصحيح أسهل حملًا. الشرح هو العملة الفكة والتلخيص
هو
العملة الصحيحة. قد يكون الشرح هو النص، أهم وأطول منه، فيصير النص الأول مجرد ذريعة
لإظهار التراث.
١٢ إذا كان النص قصيرًا قد يكون شرحه كذلك على مقاسه وقدِّه، وقد يكون أطول منه
بيانًا في الاستدلال ويكون شرحًا. وإذا كان النص طويلًا فقد يكون الشرح على مقاسه وقدِّه.
وقد يكون أقصر منه للتركيز ويكون تلخيصًا.
وقد يختلف الكمُّ طولًا وقصرًا ليس فقط في الكتاب، بل أيضًا في مقالات الكتاب الواحد؛
فهناك عدم تناسُب في الكمِّ، طولًا وقصرًا بين المقالات الثمانية في كتاب الطبيعة، وذلك
من
أجل إيجاد نوعٍ من التناسُب في التركيز على الأفكار، وإعادة إنتاج النص بما يتلاءم مع
أهمية موضوعاته في الحضارة المنقول إليها. وعندما يكون التعليق طويلًا بل أطول من النص
يكون الشرح خاطرات، والذهن في حالة قراءةٍ للنص وتقليب وتمثُّل واحتواء له. النص نقل،
والتعليق إبداع.
١٣ وعندما يكون الشرح متقطعًا عبارة بعبارة، فإنه يفسد المعنى الكلي، ويصبح
أكاديميةً خالصة في مرحلة النقل أن يتخلق المعنى الكلي.
مهمة الشرح استيعاب النص المترجم داخل الحضارة المنقول إليها، وتحويل الوافد إلى
الموروث، والخارج إلى الداخل، والدخيل إلى محلي، وذلك عن طريق التعبير عن معاني النص
بألفاظ وأسلوبٍ عربي طبيعي، ثم التعامُل مع معنًى مستقلًّا عن نشأته الأولى، لإكماله
وإيجاد
اتزانه، ثم الاستفادة له في أغراض الحضارة الخاصة المنقول إليها. مهمة الشرح نقل النص
المترجم من الجو الثقافي الغريب الذي نشأ فيه، والذي يشعر به القارئ خاصةً عندما يقرأ
المنطق، ويشعر بأنه كان لا بد من شرحه لتحويله إلى ثقافةٍ محلية وطنية خالصة، قضاءً على
التغريب، وإذابةً لهذه البؤر المنعزلة في الجو الثقافي العام. الشرح إذن ضروري لوضع هذه
المادة الجديدة الوافدة ضمن التصور الإسلامي، وحتى لا تظل مركز جذب بأعجميتها للثقافة
المحلية، فتُسبِّب ازدواجية الثقافة بين ثقافةٍ جديدة علمانية وافدة من الخارج وثقافةٍ
دينية موروثة من الداخل. ويتطلب ذلك في النص المترجم:
- (أ)
إسقاط غير الدال، والإسهاب، وعيش الفكر على ذاته، ودورانه حول نفسه،
وتحوله إلى تحصيل حاصل، غير منتج، عقيم بما في ذلك أسماء الأعلام والأماكن
والحوادث. أي كل الوقائع التاريخية التي تحمل الدلالة ولكنها وافدة من
لبنةٍ أجنبية.
- (ب)
إكمال البنية العقلية للموضوع، وإعادة التوازن إليه، ووضعه كموضوعٍ عقلي
مستقل يمكن لكل ذهن أن يعيه ويضعه من تلقاء نفسه. كما يتطلب إحكام البنية
وإيضاحها، وإيجاد المزيد من البراهين الداخلية عليها.
- (جـ)
الاستعانة بها لأغراض الحضارة المنقول إليها، ومقاصدها واستعمالها على
نحوٍ آخر، ثم صبها كلها في التيار الحضاري الأول، التوحيد، باعتبارها
وسيلة، ومقصد الحضارة المنقول إليها غاية.
- (د)
احتواءَها داخل الحضارة بدلًا من بقائها خارجها لتكوين ثقافةٍ مغايرة تُسبِّب
الاغتراب الثقافي وتحديًّا للذات، وينتهي الأمر بضمور الذات وتقليد الآخر،
ونشأة الازدواجية الثقافية بين دينية وعلمانية، والازدواجية السياسية بين
محافظةٍ وتحرُّر.
فلا يكاد يقرأ الإنسان الترجمات العربية القديمة، إلا إذا شعر بالحاجة إلى الشرح لفهم
المعنى أو إلى التركيز والتلخيص للتعامل معه وتذكُّره وتكراره؛ فهي مادةٌ خام في حاجةٍ
إلى عملٍ عقلي فكري حتى يسهل التعامل معها. يمر القارئ بتجربة الشرح، وهو أنه يجد ذهنه
في حاجةٍ إلى تنشيطٍ فكري وإلى تأمُّل وتأويل ومراجعة. وهنا تأتي مهمة الشرح والتلخيص
للتعبير عن هذا النشاط الذهني، والقارئ بصدد قراءة الترجمة أو المترجم بصدد النص الأصلي.
إن
المثابرة على نقل هذه النصوص كلها لهو في حد ذاته عملٌ بطولي، خاصةً إذا كان نقل النص
من
لغته الأصلية إلى اللغة الجديدة أُولى مراحل العمل الثقافي التالي، التعليق والشرح
والتلخيص من أجل مرحلةٍ لاحقة هو العرض والتأليف، حتى تتم عملية التمثل والاحتواء قبل
عملية الخلق والإبداع. الشرح لتوضيح المعنى، والتلخيص لإبرازه. الشرح لبيان التناسق
الداخلي، والتلخيص لبيان إمكانية التعامل الخارجي. شيءٌ طبيعي إذن أن يتحول المعنى إلى
دافعٍ ذاتي، فينشأ الشرح والتلخيص ثم عرض الموضوع، ثم التأليف فيه، وليس فقط فهم معناه.
فإذا كانت الترجمة تتم من اللفظ، والشرح والتلخيص من المعنى، فإن العرض والتأليف من
الشيء لما كان الفكر لفظًا ومعنًى وشيئًا هو موضوع الفكر. يمل الذهن من قراءة الترجمة
ويسأمها دون عملٍ كافٍ للعقل؛ لذلك كان من الطبيعي بعد أن يتشبع الذهن بالنص المترجم
واستيعابه، أن ينتقل إلى التمثل والاحتواء، ثم العرض والتأليف المستقل عنه، ثم تأتي بعد
ذلك مرحلة النقد ثم التأليف المضاد. فهم أعماق النص إذن يبدأ من الشرح والتلخيص بعد
الترجمة، بعد أن تم الاعتناء بالنص وتجهيزه حضاريًّا للفهم. لو لم تتم هذه العملية، لما
أمكن الشرح والتلخيص دون هذا التجهيز، مثل عملية الطهي للطعام النيئ حتى يتم التمثل
بالشرح والتلخيص، وإلا لما عمل النص ونشط العقل، ولظل الوعي متقبلًا ومستقبلًا دائمًا،
دون أن يتحول إلى وعيٍ مُعْطٍ وهَّاب، ويمكن الاعتماد على تحليل التجارب الشخصية، كخطوة
نحو
العرض والتأليف، من أجل الوصول إلى الإبداع الذاتي، الذي يُمحى فيه التمايُز بين الوافد
والموروث، ويصبح تعبيرًا عن الواقع المباشر.
والانتقال من الترجمة والتعليق إلى الشرح والتلخيص، انتقالٌ طبيعي من النقل إلى
الإبداع من خلال مرحلةٍ متوسطة؛ فقراءة الترجمات عمليةٌ مملة بعد الاستيعاب، تتحول فيما
بعدُ إلى إعادة نظر في هذه المادة المقروءة، على عدة مراحلَ شعوريةٍ وتاريخيةٍ فردية
وجماعية في آنٍ واحد؛ فما يحدث في الشعور الفردي يقع أيضًا في الشعور الجماعي؛ أي في
الوعي الحضاري. وهذه المراحل هي:
- (١)
الشرح لتوضيح المعنى حتى يسهل تمثُّله واستيعابه واحتواؤه مثل شروح ابن باجة وابن رشد.
- (٢)
التلخيص لتركيز المعنى وضم المرسل، واختصار المسهب من أجل الاستعمال
والتعامُل، كبداية لتخلُّف الموضوع المستقل مثل تلخيص ابن رشد.
- (٣)
الجوامع للتوجه نحو الشيء مباشرةً، ورؤيته في تجربةٍ مشتركة مع النص
الوافد.
- (٤)
العرض للموضوعات الوافدة عرضًا مستقلًّا عن النص الأصلي، وكأن الشارح هنا
يأخذ موقف المؤلف، ويصبح هو المؤلف الأول مثل عروض الفارابي.
- (٥)
التأليف في الموضوعات تأليفًا شاملًا مع ضم الموروث مع الوافد كمصادر
للموضوع، وتوسيع رقعة الموضوع وإكماله مثل تأليف الفارابي.
- (٦)
نقد الفكر الوافد وبيان أوجه قصوره بعد التأليف المستقل في موضوعه، وهو
موقف الغزالي.
- (٧)
رفض الفكر الوافد كليةً والاكتفاء بالموروث ومواقفه في موضوعات الوافد
وفي غيرها من الموضوعات وهو الموقف الفقهي.
١٤