(١) الترجمة ترجمتان
كانت هناك ترجمتان، حرفية ومعنوية، الحرفية تُحاول أن تكون طِبق الأصل، حرفًا بحرف،
وكلمة بكلمة، وعبارة بعبارة، حَذْو القُذَّة بالقُذَّة؛ حفاظًا على الأصل، فكانت تحافظ
على
الشكل دون المضمون، تُبقي على اللفظ وتفقد المعنى، وتحرص على اللغة على حساب الفكر؛
فالنص لا ينقل لفظًا، النص معنى؛ أي كائنٌ حي، في حين أن النص كلغةٍ نصٌّ ميت. إنما النص
ينقل معنًى من الداخل وليس من الخارج، من المعنى وليس من اللفظ، من الفكر وليس من
اللغة، من القلب وليس من الأطراف؛ لذلك كانت هناك ترجمتان لكلِّ نص، ترجمة حرفية من
اللفظ إلى اللفظ، ومن اللغة إلى اللغة، ومن شكلٍ إلى شكلٍ من أجل المران على النقل
الخارجي، مجرد النقل أي الحركة من لغةٍ إلى لغة، من لغة الوافد إلى لغة الموروث،
وليس بالضرورة من ثقافة الوافد إلى ثقافة الموروث، فتنشأ الثقة بالنفس على هذا
الانتقال من لغةٍ إلى لغة، وعلى التعامل مع لغتَين. وبعد هذا المران واكتشاف حدود
اللغة واستقلال الفكر، وشكلية اللفظ وجوهرية المعنى، تأتي الترجمة الثانية من
المعنى إلى المعنى، ومن الفكر إلى الفكر، ومن الجوهر إلى الجوهر، سواء من نفس
المترجم أو من مترجم آخر، فتأتي الترجمة المعنوية الثانية أكثر سلاسة، وسهولة،
وفهمًا، وكأنها مُؤلَّفة من جديدٍ بلغةٍ ثانية، وكأن اللغة الثانية المنقول إليها هي
لغة التأليف الأول.
١ وأحيانًا يكون النص المنقول الثاني أكثر تعبيرًا عن المعنى من النص
الأول؛ فكل لغةٍ لها إمكانياتها في التعبير، واللغة الجديدة قد تكون أكثر إمكانية في
التعبير من لغة النص الأول. ولمَّا كان المترجم الحرفي الأول قد اكتسب المران الكافي
في النقل والحركة بين اللغات، فإنه في المرة الثانية يقفز إلى معنى النص الأول
قفزًا، ويتجه إلى القلب مباشرةً، وبقوة الدفع هذه يُعبِّر عما فهِمَه بلغة النص الثاني،
فيخرج التعبير وكأنه تأليف وليس ترجمة، يتجاوز حدود اللغة الأولى ويعتمد على
إمكانيات التعبير في اللغة الثانية، فتخرج الترجمة المعنوية نصًّا جديدًا له وجود
مستقل عن النص القديم. مراحل الترجمة إذن تدل على الانتقال من اللفظ إلى المعنى،
حتى وصل الأمر إلى النصف الثاني من القرن الرابع، عصر الفارابي الشارح للمعنى
والمُؤلِّف فيه.
وقد يكون الفرق بين النقل والإصلاح هو الفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية،
٢ بل إن العنوان نفسه لا يُترجَم ترجمةً حرفية، بل يتم اختصارها أو إطالتها
توضيحًا للمعنى؛ فالترجمة الحرفية لنص أرسطو في «السفسطة» هو «التبكيتات
السوفسطائية»، ثم اختصارها إلى «سوفسطيقا» أو كتاب «السفسطة»، وكذلك ترجمة السماع
الطبيعي أو «سمع الكيان» ترجمةٌ حرفية؛ لأن «سمع» تعني محاضرة و«الكيان» تعني الكون
أو الطبيعي، والترجمة الأفضل: محاضرات في العلم الطبيعي.
(٢) جدل اللفظ والمعنى
وكان المترجم على وعيٍ بجدل اللفظ بين اللغتَين المنقول منها والمنقول إليها؛
وبالتالي يكون أمام المترجم أربعة عناصر: اللفظ المنقول منه ومعناه، واللفظ المنقول إليه
ومعناه. تكون الترجمة
حرفيةً إذا ما تم الانتقال من اللفظ الأول إلى اللفظ الثاني، دون الأخذ في الاعتبار
معنى اللفظ الأول ولا معنى اللفظ الثاني. وتكون ترجمةً خاطئة إذا نُقل اللفظ الأول
إلى اللفظ الثاني مع اختلاف معنى اللفظَين. وتكون صحيحةً ولكن ركيكة إذ ما تم نقل
اللفظ الأول إلى اللفظ الثاني، حتى ولو كان المعنيان متطابقَين. وتكون الترجمة صحيحة
ولكن سلسة بليغة، إذا ما تم نقل معنى اللفظ الأول دون اللفظ، وعُبِّر عنه بلفظٍ من
اللغة الثانية، دون أن يكون بالضرورة هو اللفظ المقابل للفظ الأول. وهذا يتطلب
معرفة الناقل الجيدة باللغتَين معًا، المنقول منها والمنقول إليها. كما يتطلب ثانيًا
فهم قصد المؤلف الأول، وربما أكثر فهمًا من فهمه هو نفسه لنصه. ويتطلب ثالثًا
القدرة على التعبير عن قصد النص الأول بلفظٍ تلقائي من اللغة الثانية، حتى ولو لم
يكن مطابقًا حرفيًّا للفظ الأول.
٣
ولا يتم النقل فقط لفظًا بلفظٍ بصرف النظر عن المعنى في حالة الترجمة الحرفية، أو
معنًى بمعنًى بصرف النظر عن اللفظ في حالة الترجمة المعنوية، ولكن يتم أيضًا نقل النص
كله من بيئةٍ ثقافية وافدة إلى بيئةٍ ثقافية موروثة، فيُحاط النص بمقدماتٍ وتعليقات
ومؤخرات، تجعله أقرب إلى عادات النصوص الموروثة، فيضاف إلى المترجم «رضي الله عنه»،
«رحمه الله»، «أعلى الله منزلته»، وهي تعبيراتٌ إسلامية تُطلق على الناقل النصراني
رضى الله ورحمته وتدعو بعلو المنزلة.
٤
وتتفاوت الترجمات فيما بينها وضوحًا وغموضًا. كلما كان الانتقال من المعنى في
النص المُترجَم إلى اللفظ في النص المُترجَم إليه ازداد الوضوح (أنالوطيقا الثانية).
وكلما كان الانتقال من اللفظ في النص المُترجَم منه إلى المعنى في النص المُترجَم
إليه ازداد الغموض (الخطابة). الخلاف بين الترجمات إذن يرجع إلى طريقة الترجمة من
اللفظ إلى المعنى (الترجمة الحرفية)، أم من المعنى إلى اللفظ (الترجمة المعنوية).
وقد تكون ترجمة النص بعبارةٍ أخرى مشابهةٍ أكثر سلاسةً من الأولى، وليس فقط استبدالًا
للفظٍ مكانَ لفظ.
٥ وتكون الترجمة أحيانًا حسب المدلول العام للعبارة وليست حرفية. هنا
التعليق داخل في الترجمة منذ البداية وليس منفصلًا عنها، ولا يدل على أيِّ خروجٍ عن
دقة الترجمة بل عن تجاوُز اللفظ.
٦
(٣) الترجمة والاغتراب الثقافي
وهناك نصوصٌ بطبيعتها أقرب إلى الترجمة منها إلى التعليق، مثل نص الخطابة؛
فالخطابة مجردُ ترجمةٍ عكس كتب المنطق الأربعة الأولى، المقولات والعبارة والتحليلات
الأولى والتحليلات الثانية، بل إن الكلمة ذاتها «فنراطيطقي» لا تُقرأ عربيًّا، ولا
تُستعمَل في عبارةٍ عربية، مع أنه اصطلاحًا يفيد الجمع بين الجلد والثبات. ولا يهمنا
الترجمة البعيدة أو القريبة من النص اليوناني؛ فليس هناك مقياسٌ أو ميزانٌ لقياس مدى
البعد أو القرب. ما يهمنا هو دلالة البُعد والقُرب بالنسبة للنص الحضاري كموقفٍ جديد.
ليس المقياس هو إذا اقتربَت الترجمة من الأصل أصابت، وإذا ابتعدَت أخطأت، بل ربما
العكس، إذا اقتربَت أخطأَت (غياب الدلالة)، وإذا ابتعد أصاب (حضور الدلالة). ومع ذلك
إذا ما أخذ المترجم المعنى الحرفي للفظ، فإنه ليس خطأً بل حرصًا على اللفظ اليوناني.
أمَّا المعنى فمهمة الشارح والملخِّص.
٧ وتُمثِّل ترجمة الخطابة المرحلة الأولى من الترجمة، في الثلث الأخير من
القرن الثاني، مرحلة بناء المصطلحات الفلسفية. كانت الترجمة من السريانية لا عن
اليونانية مباشرةً،
٨ وهو النقل الوحيد الباقي من كتاب ريطوريقا. إن حرفية الترجمة لكتاب
الخطابة، تُثبِت أن الغاية منها الحصول على المعنى وليس اللفظ، والبداية بالمعنى
والتعبير عنه باللفظ، وليس البداية باللفظ، وإلا لما أمكن الحكم على الترجمة
الحرفية بأنها سقيمة. ومن هنا أتت ضرورة التعرُّف على المُترجِم، حتى يمكن معرفة اتجاهه
وموقفه ودرجة علمه باللغة، دون الاكتفاء بالمترجم المجهول.
٩ إن الدقة في الترجمة العربية إنما كانت تتم على حساب المعنى، ثم يأتي
دَوْر الشرح للتخفيف من حدة الحرفِ وإبراز المعنى على حسابِ الحرفية.
وترجمة الخطابة والشعر نموذج للاغتراب الثقافي، لا من حيث ترجمتها اللفظية، بل من
حيث عدم احتوائها المعنى، وترك النص بلا تعليق، وهو أَوْلى درجات التمثيل والاحتواء.
الخطابة نموذج للترجمة اللفظية التي لا تبدأ بالمعنى، فتنتهي إلى الاغتراب الثقافي
كما هو حادث في الشام والمغرب الآن؛ لذلك أصبح النص غير مفهوم؛ لأنه غيرُ مخدوم من
حيث المعنى ولا من حيث اللفظ. ويتساءل البعض: هل لجأ المترجم إلى ترجمةٍ حرفية كانت
تنتهي به أحيانًا إلى عباراتٍ لا تُفهم؟ هل لم يكن لديه إلمام بالأدب اليوناني؟ هل لم
يكن لديه إلمامٌ بالثقافة العربية؟
١٠ ومهما حاول البعض تقويم عباراته، إلا أن الذوق العربي كان ينكر هذ
الترجمات الحرفية. ووقف الجاحظ كأديبٍ موقف الشك منها، كما وقف السيرافي النحوي منها
موقف الازدراء والهزء بها؛ لذلك وقف الموروث في مواجهة الوافد، والأصيل ضد الدخيل.
كانت ترجماتٍ حرفية. إذا ما صادف السريان فِقرةً صعبة، اكتفَوا بترجمة كل كلمةٍ يونانية
بكلمةٍ سريانية، دون محاولة فهم العبارة أو السياق. وإذا جهلوا معنى كلمةٍ يونانية،
نقلوها بحروفٍ سريانية، مثل ما حدث في تعريب الكلمات اليونانية في نشأة المصطلحات
الفلسفية؛ لذلك حاولَت الترجمة العربية تجاوُزَ هذا النقل الحرفي إلى النقل المعنوي،
وترجمة المعنى مباشرة، معاني الألفاظ والعبارات، معاني الكلمات أو السياق. أَصبحَت
الترجمة السريانية حرفيةً لدرجة الجناية على المعنى. ومع ذلك كان حنين وحبيش أفضل
المترجمين السريان تعبيرًا،
١١ وكانت ترجماتهما حرفية دون التضحية بالمعنى؛ لذلك لجأ المترجمون العرب
إلى النقل من اليوناني مباشرة دون المرور بحَرْفية السرياني. أمَّا الترجمات الشعبية
الحُرة لكتب الفلسفة الشعبية فلم تلتزم بالترجمة الحرفية، وعمِلَت في النص الأصلي
بالزيادة والحذف والتبديل، مُؤْثِرةً وضوحَ العبارة على سلامة الفكرة. وكان هذا هو
اختيار بختيشوع.
وكتاب الشعر الذي ترجمه متى بن يونس نموذج الترجمة الحرفية، بالرغم من أنه مُترجَم
ومُفسَّر، بل إن البعض منهم كان متكلمًا، ينتسب إلى فرقة كلامية،
١٢ في لغته كلماتٌ عامية أو عربيةٌ محرفة، يونانيةٌ وسريانية وفارسيةٌ حديثة
دون عناية بالإعراب، متبعًا ترتيب الجملة اليونانية، ومستعملًا هو للربط بين أجزاء
الكلام بدلًا من فعل الكينونة، مع الإكثار من الرابطة، والحذف. لقد حرص على اللفظ
اتباعًا للحرفية، ومع ذلك حاول تقريب المعنى عن طريق التعريب بعد الاستقرار على
المعنى؛ فالصوت أجنبي والمعنى عربي، حتى يأتي وقت يفرض المعنى فيه لفظه العربي.
تأثر بلغة المنطق وعلوم الحكمة مثل المقولة والاستدلال، والكلية، والتصديق؛ فالمنطق
معيار الكلام، والشعر أحد أجزائه. كما تأثر بلغة الأطباء؛ فقد كان الطب ثقافةً
شائعة، وأحد الدوافع على الترجمة.
١٣
هناك فرق بين الترجمة الحرفية والترجمة المعنوية؛ فالترجمة الحرفية فهمها نقل
ثقافة الآخر إلى الأنا، والترويج لثقافة الآخر وطمس معالم الأنا، ولاء الأولى للآخر
من أجل الهيمنة الثقافية نقلًا، وولاء الثانية للأنا من أجل الإبداع الذاتي.
الترجمة الأولى من الآخر إلى الأنا نقلًا، بينما الثانية من الأنا إلى الآخر
إبداعًا. مهمة الأولى استيعاب الأنا في الآخر، بينما مهمة الثانية استيعاب الآخر في
الأنا. في الأولى الأنا منغلقٌ على ذاته ناقلٌ لغيره، وفي الثانية الأنا منفتحٌ على
غيره محتويًا للآخر ومعارفه، حتى يقضي على البؤر الثقافية الوافدة التي تُسبِّب
ازدواجية الثقافة، والقضاء على الوحدة الثقافية للأمة، والسؤال هو: هل الترجمة
الحرفية أقدم من الترجمة المعنوية؛ لأن المصطلحات لم تستقرَّ بعد أم لأنها نقص في
براعة المترجم؟ قد تكون الترجمة الحرفية أقدم من الترجمة المعنوية وسبب وجودها،
ولكن السؤال الأهم هو: هل الترجمة الحرفية سببها أنها تمَّت عن اليونانية مباشرة،
وبالتالي لم تتحول إلى معنًى في السريانية، أم أنها تمت عن السريانية أولًا، فتحولَت
إلى لفظٍ متوسط، فكان احتمال الخطأ مرتَين: مرة في الترجمة من اليونانية إلى
السريانية، ومرةً في الترجمة من السريانية إلى العربية؟