٤
محمد علي …
لم تعثر على الكثير مما اعتادت رؤيته، قبل أن تغادر القاهرة. اختفى الكثير من محال بيع آلات الموسيقى، حلت بدلًا منها معارض الموبيليا، واصطفت المعارض تحت البنايات الجديدة. غابت قهاوي «كوكب الشرق» و«حلاوتهم» و«نبيل العراقي» و«نجيب السواق» و«السبع كراسي»، حتى قهوة التجارة حل فيها وجوه لا تعرفها. غابت وجوه ألفتها بالتردد على أفراح المناصرة. اعتادت المرور على القهوة في طريقها إلى شارع عبد العزيز، أو وهي تخلف شارع محمد علي وراءها، الطاولات الخشبية، المستطيلة، عليها مشمعات من البلاستيك، تتناثر بينها طاولات معدنية، مستديرة، ذات قوائم ثلاثة. الراديو الموضوع على الرف في زاوية المقهى، مفتوح على الدوام، سواء استمع إليه الرواد، أو انشغلوا بأحاديثهم وألعاب الكوتشينة والنرد، أو بالدندنة على الآلات الوترية. حتى شبراوي الجرسون كان ينتبه إلى الراديو عندما يذيع مواد غير غنائية، يدير المؤشر إلى حيث ترتفع الأصوات بالغناء، يختلط بالنداءات والصيحات والشتائم، وروائح الدخان المحترق.
استعادت ملاحظة أحمد تاريخ: عدا دكاكين الحِرَفيين وتجار السلع المهربة وتجار الشنطة ومستوردو الملابس، فما في شارع محمد علي إلا بقايا محال الآلات الموسيقية والمكتبات وورش الزنكوغراف، كان الشارع فيما مضى شارعًا للصحافة، تطبع فيه العديد من الجرائد والمجلات. أسماء الأسطوات العوالم على واجهات الشرفات، حلت بدلًا منها أسماء محامين وشركات ومحاسبين.
لم تشعر بالتبدل؛ البواكي والمكتبات الصغيرة والمطاعم واللوكاندات والدكاكين المفتوحة وجلسات القهاوي، علقت على الأبواب وعلى أعمدة البواكي، آلات الطرب؛ العود والرق والطبلة والمزمار والناي والصاجات، وعربات اليد والباعة يفترشون الأرض، وسط الأقفاص والسلال المليئة بالسمك والخضر والفاكهة والجبن القريش.
تلوح في نهاية الشارع قلعة صلاح الدين.
بدت الجلالي والميراني مغايرتين لمعنى القلعة. ثبتت صورة قلعة صلاح الدين في ذهنها، القلعتان تنفصلان في الجبل العالي عن كل ما حولهما، كأنهما ليستا من مسقط.
قبل دكان تهامي الفسخاني، كان إصبعاها يمتدان بتلقائية إلى أنفها، يحكمان إغلاقه، خطوات، ثم تبدأ في استرداد أنفاسها.
يعروها إحساس مَن أمضت فترة طويلة لم تسر أثناءها في شوارع الحي. داخلتها نشوة وهي تخترق الشوارع، وتعبر تقاطعاتها. هي تسير في بيتها الذي تعرفه، الوجوه والنوافذ والشرفات ومناشر الغسيل والدكاكين وأطقم الموبيليا والتحيات والنداءات والشتائم والسباب.
حين مضت من الباب الكبير إلى داخل مسقط القديمة، طالعتها الحارات والبنايات القديمة، المتلاصقة، والمصاطب، والدشاديش، والعباءات، وعبق البخور، والجو الضبابي، استعادت شوارع الجمالية وبناياتها، وإن اختلفت اللهجة والأزياء.
قالت لأمها: منذ عودتي إلى القاهرة، يختلط عليَّ الأمر، لا أعرف إن كنت في القاهرة أم في مسقط.
يبدو عم مرهون حارس البيت في استرخائه على الكرسي أن الزمن لا يعني له شيئًا، لا شيء إلا هذا البيت، والمدرسات، والحياة التي تبدأ بصلاة الفجر، وتنتهي عقب العشاء. لولا أن شجرة القرم تشي بعمر يفوق إنشاء البيت، والمنطقة نفسها، لَتصورت الشجرة غرست لعم مرهون، معظم نهاره يستظل بها، ويلزم كرسيه عقب صلاة العشاء ساعة أو نحوها، ثم يتجه إلى حجرته يسار البيت.
يظل هادئًا، ساكنًا، يحدق فيما لا يراه أحد، يلتفت لوقع الأقدام، أو للنداءات من الباب الخارجي، أو من شرفة الطابق العلوي. يلحظ نصف الدائرة من المدرسات أمامه، تشكله محاولة الفرار من الملل، لا يجيب عن أسئلة، بل يتكلم عفو الخاطر، يروي ما تستدعيه الذاكرة، ما يفد إلى ذهنه. يعمق من الصمت صرير الجنادب والصراصير، ربما تعالى هدير موتور سيارة على الطريق، في نهاية الساحة الترابية.
يجاوز العبارات المتسائلة، المقاطعة، ذلك زمان قبل أن تولدوا، في بلد يختلف عن البلاد التي أتيتم منها. ينصح باللبان الظفاري علاجًا للكثير من الأمراض، يلحظ بعينيه الضيقتين غياب مدرسة، يبلغنه بمرضها، يجد في اللبان دواءً لأمراض القلب والمعدة والربو وآلام المفاصل. يشير به أيضًا لتقوية الذاكرة وصفاء الذهن.
في السنوات الأخيرة، تضاعف إحساسها بالغربة، هي بعيدة عن القاهرة، ولا تتصل بسكة المناصرة.
بنايات مسقط تعلو، آلات الحفر وشق الجبال وتفتيت الصخور هي الصورة الغالبة على جانبي الطريق، تقلص الجبال، تذيبها، تضيف إلى المساحات المعبدة، الشوارع تزدحم بالسيارات، المارة يتزايدون، لكن المدينة للرجال والنساء من كل الجنسيات، تلتقي بهم في الشوارع والبيوت والمطاعم، عدا المرأة العمانية، تلمحها في السيارة، داخل السوبر ماركت، تصحب ابنتها إلى المدرسة، نادرًا ما تلتقي بها في الطريق.
وهي تسير في شارع سوق الظلام، يتداخل في نفسها شعوران متنافران بالمؤانسة والغربة، ضيق، متعرج، تغشاه في أوقات النهار ظلمة شفيفة. تعود إلى ذهنها صورة الحياة في الأسواق المتفرعة من شارع الأزهر: الصاغة، العطارين، خان الخليلي، تظل فيها بروائح البخور والمعروضات وضيق الأسواق، تستعيد وقفتها في المناصرة ومحمد علي والأزهر أمام دكاكين الفول والطعمية والكشري والممبار ولحمة الرأس.
أبطأت خطواتها وهي تقترب من الدكان، على تقاطع محمد علي ودرب طياب. ابتسمت لرؤية عطية، يتطلع إلى الطريق بنظرات شاردة. على جانبَي الباب فاترينتان، تناثرت فيهما أدوات الموسيقى، وعلى الجدران تدلت الطبول وآلات الكمان، والتشيللو، والبونجو، والشخشيخة، والجيتار، والآلات النحاسية.
نظرت إليه. لم يعرفها، أدركت أن ملامحها تغيرت، لعله يذكرها وهي ممتلئة، أنقصت وزنها خمسة عشر كيلوجرامًا، ربما انعكست في ملامحها بما لم تفطن إليه.
تنبه إلى أن أيديهما تلامستا بالمصافحة للمرة الأولى منذ سنوات كان يمسك بيدها في الطريق، يصحبها إلى أماكن تطلب رؤيتها.
ظلت على صمتها، وإن أعادت النظر إليه: ألا تذكرني؟
علت وجهه إيماءة ترحيب: هالة؟
رددت النظر فيه: لم يتغير كثيرًا عما تذكره، الجسد الطويل، النحيل، والبشرة السمراء، والعينان السوداوان، النفاذتان، كما هو في ذاكرتها تمامًا. زاد عليه صلع خفيف في مقدمة رأسه، وإن لم يبدل صورة ملامحه.
وهي تدفع حقائبها على العربة الحديدية بين زحام المستقبلين على الجانبين، توقعت أن تلتقي عيناها عينَي عطية. ربما أخبرته أمها بموعد الرحلة، فوقف في انتظارها. ألفت وداعه لها، لا ينصرف قبل أن يلوح لها وهي تمضي داخل المطار، يحرص على استقبالها في أوقات العودة، يخبر خالته بأنه صحب هالة إلى بيت حسنة.
وهي تومئ برأسها: ذهبت إلى درب الدقاق.
وفي لهجة معاتبة: لم تنتظرني هذه المرة؟!
– عرفت أنك ستعودين، لكنني لم أعرف الموعد!
وهي تنغم في صوتها افتقدتني؟
– لا … كنت في بالي دائمًا!
قالت معزوزة كريم الدين: أحيا أول أعوامي في مسقط وآخرها.
أردفت بلهجة اعتزاز: سأتزوج.
واتجهت ناحيتها بنظرة متسائلة: لماذا لا تتزوجين؟
ذكرت عطية، وجدت في خطبة طفولتهما ما يدفعها للحديث عن زواج لم يشغلها، ولا طرأ في بالها، وجدت في كلام الأهل ردًّا على السؤال، دون أن تتأمل المعنى، مجرد أن تُرضي الفضول.
أحست بتغيُّر نظرته إليها. لم تعد النظرة التي اعتادتها، تغير تمامًا، لم يعد هو عطية القديم، في صوته شيء من التلعثم، فقَدَ ما اعتادته من جرأة، لا يسأل، ولا يناقش، ولا يقتحمها بنظراته، هو أميل إلى الخجل والارتباك، تبدو الكلمات مدغمة. إذا تحدث فإنه يتجه بعينيه إلى الناحية المقابلة.
لم تكن تنظر إليه كغريب، هو منها، وهي منه، لا تحدق فيه، ولا تُعنَى بغير ما يقول، لا تلحظ حتى ملامسة أصابعه لذراعها أو ركبتها.
أعادت النظر إليه.
لاحظت أن شيئًا تغير فيه، ربما مالت بشرته إلى السمرة، أو أن قامته تعاني هزالًا، كانت ترتدي حذاءً بكعب عالٍ، فبدا أقصر منها.
قطع الصمت من حولهما بزفرة: أنت تركت المناصرة لعمل وعدت.
ومال براحة يده المضمومة إلى أسفل: هنا بيتك، حيث يجب أن تكوني.
ثم وهو يتلفت: لماذا يهاجر الناس؟
تعمدت الاستهانة في صوتها: طالت عشرتنا للفقر، لماذا نتمرد عليه؟
لا تذكر أنها تحدثت في السياسة، وما يتصل بها، في سنوات دار العلوم، عزفت حتى عن المشاركة في النشاط الطلابي، الانتخابات والأسر والرحلات والندوات. حتى «الكورسات» لم تشارك فيها، قصَرت أوقاتها على المذاكرة، إقامتها في بيت خالتها حسنة بالوايلي أبعدتها عن ملاحظات أمها وتوبيخاتها.
لم تكن تتردد في إنهاء الكلام مع أي طالب يحاول أن يتجاوز صفة الزمالة.
مرة وحيدة، التقت طالبًا خارج الكلية، شدها إعجاب الطلاب بقصائده في حفلات دار العلوم، أهملت رسوبه المتكرر، اخترقا شوارع المنيل، ظنها شاعرة، فتكلم عن هوايتهما المشتركة.
وهي تجول بعينيها في المكان: لماذا هذه الوقفة؟
– قسَّم أبي وقت المحل ورديتين بينه وبيني.
أردف بلهجة متصعبة: لا أجد وقتا لاستكمال رسالتي للماجستير.
التقط تمازج التساؤل والابتسام في عينيها: عن استخدام آلات الغرب في الألحان العربية.
وشت لهجته باعتزاز: جعلت الكمان آلة أساسية في التخت الشرقي، طوعتها لعزف الألحان الغربية.
أردف في لهجته المعتزة: تبينت أن الآلة الغربية يمكن أن تؤدي أي لحن مقاماته عربية.
ومضت عروض للموسيقى السيمفونية، شاهدتها في تليفزيون مسقط. لم تستطع التخلص من تداخل آلات المناصرة، يتداخل في أذنها الكونترباص والناي والرق والكمان والفيولا والتشيلو والقانون والربابة والأورج والأكورديون والساكسافون.
ومضت في عينيها بارقة تذكُّر: وجدت في دولابي كتابًا استعرته منك قبل سفري.
ثم وهي تضغط بإصبعها جانب جبهتها: كتاب في الألحان الشرقية.
أطلق ضحكة يخفي بها انفعاله: لعله من كتب المعهد … كنت في السنة الأولى!
– لم يعد عندي للقراءة إلا ما أختطفه من الوقت.
ثم غيَّر نبرة صوته: أجيد العزف على معظم الآلات، لكنني أحب القانون والفلوت.
ولاح في وجهه طيف ابتسامة: تمنيت أن أصبح بهما موسيقيًّا، أو دارسًا للموسيقى.
ثم وهو ينقر بإصبعه على جبهته: لو أني أمتلك وقتًا ربما أعددت رسالة دكتوراه عن آلة الناي.
سكت، استحثته بإيماءة على مواصلة الكلام.
– تعبر عن الحزن ولا تخلو من التطريب.
لانت لهجتها: ما يمنعك؟
– أقف في المحل للرزق لا للفرجة على الناس!
وقال لنظرتها المتسائلة حول بقايا آلات موسيقية في الزاوية، وراء الواجهة الزجاجية: هذه آلات مستعملة … روبابكيا.
آخر ما استمعت إلى الكلمة في القاهرة، في المناصرة والوايلي وشوارع المدينة. خراب هي المرادف في مسقط لكلمة روبابكيا، الخراب لا يُباع، تنقله عربات القمامة إلى الوادي الكبير.
وهي تكوِّر فمها في دهشة: ما قيمة شهادتك في هذا الدكان؟
وعلا صوتها بالسؤال: هل اخترت عملك؟
– مؤقتًا.
وغالب شعورًا بالخذلان: أي مشروع يحتاج إلى مال.
– والوظيفة؟
– لم أجربها.
– جرِّب!
– هل تعملين بنصيحتك؟
فطن إلى أنها تهم أن تقول شيئًا، لكنها ظلت صامتة.
– دراستي في أكاديمية الفنون ليست بعيدة عن وقفتي في المحل.
وهي تغالب الشرود: شهادتك لا تتيح لك وظيفة.
وضيقت عينيها كأنها تركز على شيء ما: استبدلت بها وظيفة لا تصنع مستقبلًا.
سلاسل الجبال من وراء النافذة المفتوحة، نبهتها إلى اختلاف المكان. لم تَعُد في القاهرة. أضاف إلى ارتباكها سؤال الرجل ذي القامة القصيرة، النحيلة، والبشرة السمراء، والدشداشة، والمسرة: جئتِ لتدريس الدين واللغة العربية؟
رسمت ابتسامة على شفتيها، تداري بها ارتباكها.
وهو يتفحص الحذاء المفتوح، والبنطلون الجينز، والبلوزة البيضاء، وعلى موضع الصدر وردة حمراء كبيرة: أنت خريجة دار العلوم؟
ثم وهو يومئ بعينيه ناحية النافذة: ستعملين في العلوم التي درستها.
طال ابتعادها عن القاهرة، لكنه لم يقطع الأمل في عودتها إلى المناصرة، ومضات تعيده إلى أيام خلت: جلوسهما على الدكة أمام صندوق الدنيا في ميدان الرفاعي، اختراق زحام مولد الحسين، صيحاتها الساخطة على الغناء المترامي من الشقة المقابلة، مذاكرتها له في الحجرة المطلة على درب طاحون، سيرهما في الطريق الصاعد إلى القلعة، جلوسها إلى جانبه في سينما ديانا، يشاهدان فيلمًا لا يا يذكره.
لامست ظهر يده بأطراف أصابعها: كنت دائمًا أقرب الناس لي.
في آخر لقاءاتهما، قبل أن تغيبها الإعارة، عاودت تذكيره بالسنوات الثلاث التي تسبقه بها.
هل تبدل الحال؟
قالت لمجرد أن تبدد الصمت: لم يبقَ إلا أن تتزوج.
استطردت للدهشة في ملامحه: أنا على ثقة أن الكثيرات يتمنين القرب منك.
لاذ بالصمت، ربما ليكسب وقتًا يتيح له التفكير فيما يجب قوله: المشكلة ليست في مجرد الارتباط، الارتباط بمن؟!
وتبدلت نبرة صوته: إذا شعرت بانجذاب نحو فتاة، فإني أحرص أن أصاحب رأسها أولًا.
أردف لنظرتها المبحلقة: يصعب أن أقيم علاقة مع فتاة لها رأس فارغ!
– تزوجت أختك … لماذا لا تتزوج؟
– وافقت فاطمة على من طلب يدها.
وأشار إلى نفسه: أنا على فيض الكريم.
تعمدت تبديل الكلام: كنت أتشوق إلى صيف القاهرة الذي تُبدِّد حرارته مروحة، لما عدت شعرت أني لم أغادر الخليج!
قالت مها الصبَّان وهي تنظر بقلة حيلة إلى دوران المروحة في السقف: حر … يجبرني على الاعتراف أني قتلت!
جلست على السرير لصق الجدار، ركبتاها مرفوعتان لأعلى، وذراعيها ملفوفتين حول ساقيها.
تعاني الحرج للأصوات التي تصدرها الغازات الكثيرة في بطنها، لا يُدرَى سببٌ لها، وهي تلجأ إلى المسلوق، وتحرص على دواء للهضم.
قالت ميسون النداف بنبرة متصعبة: نحن ندفع ثمن ابتعادي عن الأردن … وابتعادك عن لبنان!