٦
حين نطق اسمها للمرة الأولى، لم تسمعه. كانت قد أودعت نظراتها اهتمامًا بكل ما يحيط بها، الاستعادة والتأمل والدهشة.
استغرقت فيما حولها تمامًا. لاحظ انشغال نظراتها، فأعاد النداء: هالة!
عاود نداءه، لكنها واصلت السير دون أن تلتفت ناحيته، أو تتوقف، كأنها لم تسمعه.
ساعات الليل المتقدم أنسب الأوقات للجلوس على قهوة التجارة، يحتسي النرجيلة دون أن يعاكسه الأولاد.
تعرفه، لا بد — كما يدل نداؤه — أنه يعرفها، لكنها لزمت الحذر للصباح الباكر، وللروايات المتعددة عن غياب التوقع في تصرفاته. خشيت أن يتكلم بما يحرجها، أو يسيء إليها. قالت أمها من بين ضحكة ممطوطة: إنه أراد تهديد شاب عاكسه، فأخرج له قضيبه. ماذا تفعل لو أنه أقدم على ما لا تتوقعه؟
ظهرت الدهشة على ملامحها لقول أبيها وهو يقدم الرجل: عم أحمد تاريخ، الزوج السابق للفنانة هدى شمس الدين.
بدَا على العجوز اطمئنان للصفة التي قدمه بها أبوها.
هل كانت تلك مهنته؟ وماذا يعمل الآن؟
التفتت — كالمستغيثة — إلى الجرسون هلال. كان يرش الأرضية بالماء، ثم بنشارة الخشب.
شغلت وجه هلال ابتسامة واسعة. قال وهو يمسح الطاولات بفوطة صفراء، مبللة: هذا عمك أحمد تاريخ، هل نسيته؟
عاودت النظر ناحيته بإيماءة تذكر، وواصلت السير.
كان دائم التردد على بيت درب الدقاق. يروي ما يجذب انتباهها. يعتز أنه يعرف كل شيء في محمد علي والمنطقة المحيطة، يحفظ واجهات البيوت ولافتات الدكاكين والقهاوي والفاترينات، أنشأ صداقات مع باعة الأدوات الموسيقية في طول الشارع، عم عبد النعيم صانع السرادقات بالخيامية، فكري السروجي أول محمد علي، الحارس الليلي لدار الكتب، الشيخ ياقوت خادم مسجد سيدي منصور، بائع الصحف في ميدان العتبة، الأسطى أحلاهم العالمة منذ انتقالها إلى البيت الحالي في بناية حيفا بأرض شريف. حتى باعة الأرصفة بينه وبينهم صداقة، أو معرفة.
حين أمر الخديوي إسماعيل بشق شارع محمد علي، فلأنه كان يريد وصل القلعة بوسط البلد، وبقصر عابدين وحديقة الأزبكية أيام عزها، لم يضع في باله أن يقتصر الشارع — أو يكاد — على الفرق الموسيقية والعوالم ودكاكين بيع آلات الموسيقى.
تعددت المحال الشهيرة لبيع الآلات الموسيقية: محمد الحفناوي الكبير، أحمد محمود وحسن الحفناوي، محل آلة العود، بابازيان، عزيز بولس، حنا جرجس. يعتز بأن الشارع آخر قلاع الآلات الموسيقية الشرقية؛ العود، الكمان، القانون، الأكسيلفون، الرق، الطبلة، وغيرها.
المصادفة وحدها — في روايته — هي التي أتاحت الاستقرار للعوالم في شارع محمد علي. لاحظت الحكومة ظاهرة انتشار رقصة البطن في الشارع والشوارع المحيطة، أصدرت قرارًا بمنعها، رفعت الراقصات دعوى ضد الحكومة. صدر الحكم بعدم اعتبار رقص البطن من المخالفات، استقرت فرق العوالم — من يومها — دون أن يتعرض لها أحد.
تتلمذ على أيدي الكثيرين، حتى مَن لم يُعاصرهم، وإن لم يَعُد يذكر سوى أسماء سلامة سيد درويش وعبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي ومحمد سالم العجوز ومحمد السبع وعبد الباري، تعلم سيم العوالم … فرح = رفح. المرأة = كوديانة. الرجل = برغل. نقود = أُبَيِّج. جنيه = سهلي …
اعتاد التنقل مع فرق العوالم من مناسبة إلى أخرى. ربما كانت المناسبة عقد قران، ليلة حنة، حفل زفاف، ختان، إنجاب بعد طول عقم، عودة من الحج، خروج من السجن.
أشد ما يعتز به سماعه لأم كلثوم، المطربة ذات البالطو والكوفية والعقال، وهي تغني ألحانًا معظمها ديني: كانت تغني بين الفقرات، لم أتصوَّر يومًا تحيي فيه السهرة كلها.
ثُم وهو يُخفي انفعاله بابتسامة شاحبة: لو أن الأسيوطية سنية حسنين اهتمت بفنها لغلبت أم كلثوم.
عمل في فرق المهدية واللاوندية والحاجة السويسية وبهية وتوحيدة ونعيمة، راقصات محمد علي والمناصرة رقصن على إيقاع طبلته، يجيد ملاحقة أداء الراقصة، اتساقه مع اللحن، يهتز صدرها وذراعيها وصدرها وخصرها وردفيها. جلس إلى المطرب القديم محمد سالم في قهوة الآلاتية [التجارة] بشارع محمد علي، وجد فيه أجمل الأصوات بين قدامى المطربين، أثقلته الشيخوخة في آخر أيامه، فهو لا يكاد يترك مقعده، إذا أراد القيام، أو الانصراف، فإنه يتكئ على كتف مَن يصحبه إلى البيت. كازينو «نزهة النفوس» في وجه البركة، كانت تغني فيه منيرة المهدية، وكانت اللاوندية تغني في وجه البركة، وغنت نعيمة شخلع أيام نفي سعد زغلول: يا بلح يا زغلول.
لاحق فرقة الموسيقى الملكية وهي تخترق شوارع عابدين، ثم تعود إلى مبنى الحرس الملكي المطل على الميدان، ربما تردد يومَي الجمعة والأحد على كشك الموسيقى بحديقة الأزبكية، لسماع فرقة موسيقى الشرطة في ألحان شرقية وغربية، تردد على مسرح دار الأوبرا، وصالة سانتي، ومسرح كشكش بك، ومسرح على الكسار بعماد الدين، ومسارح روض الفرج، زمن الفن الحقيقي.
عاصر اختفاء أغنيات ليلة الحنة، وليلة الفرح، والليالي الملاح التي تسبق الليلتَين. عرف الطريق إلى المقاهي، والكازينوهات، والمسارح، وصالات الغناء والرقص. تردد على مسارح برنتانيا والكورسال والرينسانس والإجبسيانا وأبي دي روز والبيجو بالاس، وملاهي الدرادو وكواكب الشرق ونزهة النفوس وألف ليلة وليلة، صفق لسيد درويش ومحمد تيمور في «العشرة الطيبة»، شاهد كشكش بيه وراسبوتين وأوبريت حورية هانم، وأوبريتات منيرة المهدية «الغندورة» و«قمر الزمان». جلس على مقهى المتروبول إلى نجيب الريحاني واستيفان روستي وأحمد علام، جالس — على مقهى الفيشاوي — أحمد الفار وكامل المصري وأحمد شفاتيرو والسيد قشطة، وغيرهم من نجوم الفكاهة القدامى، شاهد في سينما أولمبيا أفلام شارلي شابلن الصامتة والإخوة ماركس ورعاة البقر.
قدم نفسه إلى الإذاعة المصرية عند افتتاحها، تفحصه أعضاء لجنة الاختبار بنظرة رافضة. فسَّر الأمر بإهمال ثيابه: هل كنت سأغني في السينما أو في الإذاعة؟!
طالبه المعلم حسان في قهوة التجارة، أن يغني لسيد درويش. علا صوته — دون موسيقى — بأغنيات استعادها الحضور. حين أعطاه المعلم جنيهًا، لم يعتذر، وإن أزمع أن يظل الغناء شأنه الشخصي.
حاول أن يوجه خطوات إسماعيل يس عند قدومه إلى شارع محمد علي، غنى مونولوجات في المقاهي والكازينوهات القريبة، ثم سافر إلى الإسكندرية، وعاد إلى القاهرة، لينطلق منها إلى دمشق واللاذقية وحلب، ويتفوق على شكوكو بتعريفة.
مطربو ومطربات هذه الأيام — في رأيه — لا يستحقون هذه الصفة. المطرب من يطرب، صوته الجميل القوى لا يحتاج إلى ميكروفون، إنما يحتاج إلى أذن تحسن السماع والتذوق. هو يغني في الخلاء، وفي السرادقات المكشوفة.
حضر — بالمشاركة، أو بمجرد الحضور — حفلات أسما الكمسارية وأختها آسيا، والحاجة السيويسية، ونزهة، واللاوندية. يعتز بأنه كان تحت قدمي المعلمة شوقية سالم حين أدت رقصتها الأخيرة بالشمعدان، قبل أن تعتزل.
– لم يعد الرقص مجرد هز بطن … الرقص الحقيقي له أصول!
وهز قبضته في تأكيد: الجلابية تساوي بدلة الرقص العارية إن أجادت الراقصة أداءها! شاهد شفيقة القبطية وهي تؤدي رقصة الشمعدان في ملهى ألف ليلة: كانت فنانة صح … لكن الكوكايين قتلها.
عاصر في كازينو بديعة مصابني أربع راقصات: حكمت فهمي وببا عز الدين وسامية جمال وتحية كاريوكا.
ضرب ركبته بكفه، وأضاف: كان للراقصات دور في لعبة السياسة.
قبل أن تميل ناحية شارع عبد العزيز، لمحته يتناول قطعة حجر، تظاهر باعتزامه إلقائها على أولاد يعاكسونه. جروا. ألقى بها جانب الطريق!