تأسيس
نقد المنهج١
منذ فجره، ظل المنهج العربي السائد في التفكير على كل المستويات يدور في فلك التراكم وحده، ورغم المرور بحقبة انفتاحية واضحة أدت إلى بروز كوكبةٍ متميزة من العلماء والمفكرين، إلا أن تلك الحقبة وما صاحبها من اصطراعٍ فكريٍّ ثري، انتهت بقراراتٍ سيادية مع نهاية القرن الرابع الهجري، ولم تبقَ في الساحة سوى وجهة نظرٍ واحدةٍ سائدة تمثل النصوصية المغلقة بالكامل، وهو ما أفرز فكرة الشخصية الثقافية الثابتة الواحدة التي لا تقبل تحوُّلًا ولا تبدُّلًا، بعد أن تجاوزنا خير العصور إلى الذي يليه ثم الذي يليه، وبعد أن وُضعت الأصول لرفض كل جديد بحسبانه بدعة، والبدعة ضلالة، ولأن شر الأمور محدثاتها، وبقيت بيدنا نصوصٌ مغلقة، وثوابت هي المعيار الذي نزن به كل أمر في كل شأنٍ ممكن.
وبعدها اقتصرت الثقافة العربية على الاجترار، يتعدد فيها التوزيع ويتلوَّن، لكن وفق نوتةٍ واحدة لا غير؛ ومن ثم انهمك العقل العربي في المتاح فقط، وإبان ذلك تم زرع غابات من الموانع والتحريمات عبر مرور الزمن، لاعتباراتٍ كهانية أو طقوسية، أما أخطرها فكان ما يفرزه التحالف الكهاني السياسي السيادي.
كان المتاح هو إعادة توزيع النوتة كلما طرأ طارئ فامتلأت المكتبة العربية بكتب تُكرِّر وتُردد في التفاسير وتفاسير التفاسير وشروح المتن وشروح الحواشي وشروح الشروح، وتبرير كثير من المظالم للحاكمين، فحققنا تراكمًا كميًّا هائلًا لم ينتقل أبدًا إلى مرحلة التحوُّل الكيفي، وانتهت ثقافتنا إلى مُعلبات وصلتنا جاهزة لا دور لنا فيها ولا في إنتاجها، نستهلكها على الجاهز دون حتى أن نُعمِل فيها حاسة الذوق.
ثم كانت صدمة الحضارة والحداثة مع الحملة الفرنسية، التي فتحت عيون العرب على مدى التخلف الكارثي الذي آلُوا إليه، ومع الصدمة جاء رد الفعل في ظهور تيارات تطلب إعادة النظر في ثوابتنا الفكرية، وهي التيارات التي طرحت تساؤلات جديدة فتحت النوافذ لحركة النهضة، لكنها الحركة التي أصرت على الاحتفاظ بوحدانية الشخصية وثباتها مع ضرورة الأخذ بمنجزات العلم في الدول المتقدمة؛ من أجل اللحاق بها.
وعلى المستوى الفكري بدأت محاولات التغيير، لكنه التغيير الأعرج الذي طلب الفرز العلمي الغربي معزولًا عن بنيته التحتية التي أفرزته في بلاده، وقد بدأت تلك المهمة في بواكيرها بتقديم التبريرات الشرعية لقبول المنتجات التقنية للعلم الحديث.
وارتقت عمليات التبرير خطوة إلى عمليات تأويل للنصوص لموافقة المتغيرات، وتحركت تصاعديًّا لتؤسس لبدايات حركة ليبرالية على المستوى الاجتماعي والسياسي، توقَّف تناميها مع حركة الجيش في يوليو ١٩٥٢م، ومع توقف التصاعد الليبرالي تحول التنامي الفكري إلى منهجٍ تلفيقي، فأخذنا نكتشف أيامها أن الاشتراكية هي بنت الإسلام الشرعية، وأن العلم المتقدم الذي باغتَنا في كهوفنا فأبهرنا، إنما خرج من عباءتنا، وأنه كان موجودًا في ثقافتنا سلفًا ونحن عنه غافلون.
وتعالت حركات التلفيق لتقرن بين ما لا يمكن أن يلتقي، فرفعت يوليو كل لاءات الحرية، وارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستبداد، لكن في ظل دولة مباحث ديكتاتوريةٍ صارمة لا تقبل خلافًا ولا رأيًا، فرضت الصمت الكامل حيث كان لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وتم مزج الاشتراكية بالقومية دون الشعور بأي خلل بمزج مبدأ تحالف المقهورين في العالم مع مبدأ القومية العنصري.
وتراكم الخلل وتفاقم واتسعت خروقه حتى نفذ منها عدو البلاد إلى حدود الدلتا الشرقية في ١٩٦٧م، وهو ما لم يكن هزيمةً عسكرية أو كارثةً اقتصادية فقط؛ لأن التوابع أوضحت أن الهزيمة الأعمق والأكبر كانت للإرادة وللذات وللشخصية الوطنية، بعد اكتشاف العجز الكامل إلى حد الشلل، فكان الانتكاس في ردةٍ كاملة نحو الأسلاف نبحث عندهم عن تعويض ودفء وملاذ.
ولأن ثقافتنا الواحدية الشمولية الكاملة التي لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، تفترض أننا أمةٌ مكتملة لأنها خير أمة أُخرجتْ للناس، فلم نلتفت لحظة إلى عوامل التخلف والضعف في داخلنا، وأخذنا نبحث طوال الوقت عن شياطين تقبع في الخارج تحوك لنا المؤامرات وتتربص بنا الدوائر، هي التي تقف وراء هزائمنا وتخلُّفنا.
ولم نلحظ أننا نطلب من العالم الجديد بعلمه الحديث أن يكون تغيُّره لصالحنا ونحن نجلس نُبسمِل ونُحوقِل، وأننا ننزعج من كون الآخر يسعى لصالحه ولا يوافق شخصيتنا الثقافية الواحدية، فكنا كأهل الكهف الذين صحوا من نومهم على دنيا جديدة وفي أيديهم نقود سُكُّت منذ قرون، نطالب الناس في الدنيا الجديدة أن يقبلوا التعامل معنا بها، بل وأن يقدموا اعترافًا كاملًا برصيدها، بحسبانه رصيدًا ممتدًا لا تنفد خزائنه، يصلح لكل مكان وزمان.
نعم يجد منهجنا أصوله في النصوص التأسيسية، لكن أول من وضع له أسسه الفلسفية هو الإمام أبو حامد الغزالي (١٠٥٩–١١١١م) حيث رأى أن ارتباط أي سبب بنتيجته ما هو إلا ارتباطٌ ظاهريٌّ موهوم؛ لأن كمال الإيمان يكون في الرؤية التسليمية بالقلب وليس الحسية بالعقل، وضرب لذلك مثلًا مشهورًا فقال: إنك إن رميت قطعة من القطن في النار فستراها بحواسك تحترق، ولأن الحواس كثيرًا ما تخدعنا فهي غير موثوق بها كمصدر لمعرفةٍ صادقة؛ لذلك فإن ما تراه من تلازم بين النار والقطن وظاهرة الاحتراق إنما هو تلازم رؤيةٍ حسية وليس تلازمًا حقيقيًّا، والدليل الشرعي على ذلك أن خليل الله إبراهيم لم يحترق في النار عندما أُلقي فيها، فما يغيب عن الحواس والعقل ومبدأ السببية، هو الإرادة الإلهية التي لا تغيب عن مؤمن؛ لذلك أصبح من صدق الإيمان عدم الربط الموضوعي بين الأسباب والنتائج؛ لأنه يعني نقصًا في الإيمان وعدم اعتراف بالإرادة الإلهية.
وعلى طريقة المتتالية العددية أفرز هذا المبدأ كثيرًا من المفاهيم بالتوالد الذاتي، وهي مجموعة المفاهيم التي أسست لنا منهجنا في رؤية العالم وسُبل التعامل معه، ومثالًا لذلك الربط الذي حدث بين هذا المبدأ الغزالي وبين القرار السابق ذكره أننا خير أمة أُخرجت للناس، وأننا في رعاية الله لأننا حزب الله وغيرنا هو حزب الشيطان.
ثم تأتي الحدثان بما لم نحلم به من نكسات وهزائم وتخلُّفٍ مُروِّع، فلا نبحث أبدًا عن الأسباب الموضوعية وراء ما يحدث اتباعًا للفلسفة الغزالية، ويتبقى فقط البحث عن أسباب توافق منهجنا وهي بذلك لا تخرج عن أمرين؛ الأول هو كيد حزب الشيطان الذي يقف وراء مآسينا بمؤامراته الصليبية الاستعمارية الصهيونية الماسونية الاستشراقية، وأن العالم غير منشغل سوى بعالمنا المتخلِّف المتردي الذي لا يستطيع لنفسه دفاعًا أو ردًّا.
وضمن ذلك تتولَّد نتائجُ أخرى فيصبح العلم البشري بكل مُنتَجه الهائل حليفًا لحزب الشيطان، فنجمع في سلةٍ واحدة بين داروين وماركس وفرويد دون أن نعاني لحظةً قراءتَهم لنعرف ماذا قالوا، لكن لأننا حزب الله فلا شك أن حزب الله هم الغالبون، وهنا يطرح السؤال نفسه: إذن لماذا يحدث لنا ما يحدث؟ وهل تخلى الله عن أمته التي اختارها لتكون خير الأمم وقيادة العالمين؟ هنا كان لا بد من تبرئة الإله؛ فنكتشف أننا نحن الذين تخلينا عن عهدنا مع الله بالتباعد عن أصول الدين، والعودة إلى حياة الجاهلية الأولى، بنحت التماثيل وإباحة الفنون وإبداع الموسيقى والرواية والشعر، ثم ارتكبنا أكبر الأثافي فسمحنا للمرأة بالخروج إلى العمل، وانحرفنا عن شريعتنا إلى قوانينَ مدنيةٍ ما أنزل الله بها من سلطان، وأقمنا اقتصادًا على أسسٍ غير حلالية تَدخله أموال السياحة والربا، دون أن نلتفت إلى أن مجتمع السلف الذهبي كان بدوره مجتمعًا من البشر بكل سلبياتهم وإيجابياتهم، ولم يكونوا مجتمعًا من الملائكة.
ولأن الربط بين النتائج والأسباب ليس ديدن حزب الله، فإن الوقائع تفاجئنا لأننا لا نرى مقدماتها فتبهتنا وتفزعنا، وتنقضُّ علينا الهزيمة من المجهول بشكلٍ إعجازي، ولا علاقة لنا بها لأنها مؤامرة نسج خيوطَها أناس غيرنا، وما انتصار حزب الشيطان وفي قمته دولة إسرائيل إلا لأنهم أخلصوا العبادة لربهم ولم نُخلص نحن للعهد مع ربنا (كما لو كان هناك رب لكل شعب)، ومن هنا بات الحل الناجع هو استحضار القوى السماوية إلى جانبنا لنفتح البلاد ونسبي العباد وبخاصة النساء، وهو الأمر الذي لن يتحقق إلا بالعودة إلى مجتمع السلف الصالح الأول، والالتزام بجميع الطقوس والشرائع والمعارف، بارتكاسٍ واضح نحو المرحلة السحرية القديمة لاستحضار القوى الغائبة بتعاويذ وتمائم تم استبدالها بكتب الأدعية المتنوِّعة، الممزوجة بآيات من هنا وهناك.
ولما كانت الانتصارات الأولى قد حققت وجودها وأقامت دولتها، بل وإمبراطوريتها، على أنقاض أعظم إمبراطوريتين حينذاك هما الفرس والروم، فلا بد أن تقوم نهضتنا على دمار الآخر القوي المتفوق المستعلي وغيابه بالكلية، ولأن المنهج التأسيسي لا يرى في الربط بين الأسباب والنتائج سبيلًا إيمانيًّا قويمًا، فقد سجلنا في كتبنا التاريخية انتصاراتنا وسقوط الإمبراطوريتَين مصحوبة بأكبر حشد من المعجزات والنبوءات والمفاجآت القادمة من عالمٍ مفارق، فنصرهم الله وهم أذلة وأعزَّ جنده دون أي اعتبار للواقع الموضوعي، وأن الإمبراطوريتين الرومية والكسروية كانتا بالفعل في طريقهما إلى زوال، وأن الفراغ في المنطقة قد ظهر واضحًا ينتظر من يملؤه.
وإعمالًا لذات المنطق والمنهج تتالت النبوءات تترى مع ما سُمي بالصحوة الإسلامية، تنبئ بأن عالم الغرب المتفوِّق إلى زوال بأسرارٍ ربانية وفعلٍ غَيبيٍّ خارق، ودعَّم لهذه الرؤية موقفها سقوط المنظومة السوفييتية وتفكُّكها، وبقيت أوروبا وأمريكا، لكن قبل ذلك كان يجب تهيئة الأوضاع في بلادنا واستلام التيارات الإسلامية المتشددة لمقاليد السلطة فيها، تهيئة لاستلام قيادة العالم، وهذا بدوره إنما هو عاملٌ أساسي لاستحضار القوى السماوية؛ لأنه إزالة للطواغيت التي تمنعها من الحضور، وعند هذه النقطة بدأ نهر الدم في التدفق.
لكن على الوجه الآخر بالرؤية العلمية وحدها يتضح أننا قد وصلنا إلى مفترق الطرق الكبرى وإلى منطقة الأزمة، فمع إصرارنا على الثبات وعدم التغير، وفقْد القدرة على التكيف مع المستجَدَّات، تراكمت هزائمنا وتفاقم هواننا، وتلازم مستوى سرعتنا في الهبوط مع تسارعٍ هائل في التقدم العلمي والتقني والحضاري في جانب حزب الشيطان، ومنطقة الأزمة لا بد أن تدفع بالضرورة إلى طرح تساؤلاتٍ جديدة لم نعتدْ سماعها، وأن تُركِّز تلك التساؤلات على النقد الذاتي لكشف الخلل؛ حيث النقد هو مفتاح الحضارة ورسول التقدم، ولأنه لا يمكن إقامة بناءٍ سليم على أسسٍ معطوبة، إننا بحاجة الآن وبإلحاح إلى «نقد المنهج».