فلسفة الهكسوس١
قد يختلف كل الناس حول حقب بكاملها في التاريخ، لكن أحدًا لا يختلف في أية بقعة في الدنيا، وعلى أي مستوى، أن مصر قدَّمت للدنيا أول حضارةٍ سامقةٍ متكاملة، فاستحقت عن جدارة لقب «أمة» حقًّا وصدقًا وعلمًا، وأبدًا لم تتحقق لأي من دول المنطقة، ناهيك عن دول العالم، حتى العصور الحديثة، الشروط العلمية الضرورية اللازمة لمفهوم الأمة إلا مصر، منذ حققت وحدتها التاريخية الكبرى قبل قرونٍ طويلة من معرفة الإنسان الأوروبي للمدن المستقرة.
ورغم الترديد الببغائي — وأظنه المقصود — لأفكارٍ مغلوطة عن مصر وتاريخها، وكونها كانت دومًا الابنة الشرعية للدكتاتورية المطلقة، وأنها كانت وستظل في حالةٍ قدريةٍ مفروضة ومحكومة بنموذج نمط الإنتاج الزراعي الآسيوي، ومنظومة الاستبداد الشرقي، فقد أقامت هذه الرؤية نظريتها على فكرة السيطرة على نزوات النهر العظيم المفاجئة الدورية، بين فيضاناتٍ عالية وشح يصل إلى حد الجفاف، اضطرت المجتمع إلى تكاتف قوى العمل تحت قيادةٍ واحدة آمرةٍ ناهية لا تقبل الاعتراض أو الإرجاء، لأن الطوارئ المفاجئة طوَّرت الديمقراطية البدائية في المجامع والمشتركات المدينية والمعبدية نحو توطدٍ وطنيٍّ قومي، في دولةٍ مركزيةٍ ديكتاتورية بالضرورة، يمكنها اتخاذ القرارات الحاسمة لمواجهة الطوارئ المفاجئة؛ فابتعدت عن الشكل الديمقراطي الأول للمشتركات، التي كانت تتعدد فيها الآراء بتعدد المصالح ووجهات النظر، دون قرارٍ حاسم إزاء نهرٍ جبار وحاسم.
إن هذا الترديد كان ومازال — عندي — أبعد ما يكون عن العلمية وشروطها وقوانينها، فما كان ممكنًا على الإطلاق في ظل الديكتاتورية أن يبدع المصريون كل ما أبدعوه من علومٍ متقدمة وإبداعات لم تزل فخر الإنسانية على الكوكب الأرضي وفنون على كل الألوان والأنواع، من هندسة الري والمعمار إلى المسرح الملحمي في أول مسرحيةٍ ملحميةٍ ميلودرامية في التاريخ، كما في مسرحية آلام (أوزيريس) وقيامته، إلى الشعر الغنائي والشعر الثوري كما في القصائد التسع للفلاح الفصيح والحكيم (نفرر حو)، إلى الشعر الإلحادي الذي كان يلقى دون ملامة في حضرة الفرعون والمجمع الكهنوتي الرسمي وأمام الجماهير، وهو ما تمثله «أغنية العازف على الهارب»، إلى النقد اللاذع الناضج سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا في قصائد الحكيم (أبي أور) الذي وصفه الأركيولوجي عالم المصريات الأشهر (برستد) بأنه أول الأنبياء وأكثرهم علمًا وحكمة، إلى ألوان الرقص الإيقاعي والرمزي والترفيهي والأكروباتي والشعبي والرسمي، مزجوا فيها الروح بالجسد واحترموا كليهما دون انفصال؛ فأبدعوا الرقص شبه العاري ليقرءوا الروح في لغة الجسد المبدع، في مواسمَ احتفاليةٍ كرنفاليةٍ كثيرةٍ متلاحقة، لو تابعتَها لاندهشتَ متى كان هؤلاء الناس يبدعون، بينما هم كانوا يبدعون لهذا السبب تحديدًا بعد الترويح الضروري للعقل المنتج، إلى مواسم العمل الكبرى التي يتحوَّل فيها كل الوطن إلى رجلٍ واحد وساعدٍ واحد، إلى اختراعات كشوف تقنية هائلة التنوع كمًّا وكيفًا، ثم كان عشقهم العظيم للحياة وولههم وفرحهم بها دافعًا لاختراع عالمٍ آخر من بعد الموت، فهم لم يقتنعوا أبدًا وهم في مرحهم السعيد بواديهم الخصيب بسنوات العمر المعدودة؛ لذلك اتخذوا قرارهم بأن يعيشوا إلى الأبد، في عالمٍ آخر من بعد الموت هو نسخةٌ أخرى من مصر والحياة في وادي النيل، فعالم الخلد في بدايات الفكرة كان اختراعًا مصريًّا وبمواصفاتٍ مصرية، فكي يكون جنات خالدة لا بد أن يكون مصريًّا، حتى أعتى الشعوب عداوة لمصر لم يرَ الجنة إلا كما رآها المصريون، فتصف التوراة في سفر التكوين الجنة بأنها «جنة الرب، كأرض مصر» (تكوين ١٣: ١٠).
لقد وقفت الأغلبية مع معادلة تبدو — في الظاهر — سليمةً تمامًا، هي أنه كي تقوم دولةٌ مركزيةٌ قوية في تلك الأزمان، فلا بد أن تكون مصحوبة بقراراتٍ سريعةٍ قاطعةٍ حاسمة، وأنها لا بد — بسبب ظرفٍ مثل ظرف مصر الطبيعي — أن تُحكَم بالديكتاتورية المطلقة.
لكن الرؤية العلمية السليمة لا ترى بإمكان هذه النظرية تفسير كمِّ الإبداعات الفردية العبقرية البعيدة عن منظومة الحكم، بل وأحيانًا من داخلها، وهي الإبداعات التي ما كان يمكن للمجتمع أن يُفرزها ويُحقِّقها إلا في دولة مؤسساتٍ مدنية، تسمح بعَلْمَنةٍ ومدنية وحرية مساحة الفكر والإبداع، وكانت عبقرية مصر أنها تمكَّنت من تحقيق التوازن بين طرفَي المعادلة الصعبة، فحيثما كانت مساحة الفكر والإبداع، كانت هناك مساحة الحريات الكاملة.
فرغم المركزية الصارمة على مستوى الإدارة، والتي استدعت وجود ربٍّ أكبر للدولة يمثل منظومة الحكم في السماء «فتاح، ثم رع، ثم آمون للدول الحاكمة الثلاث»، فقد أدرك المصريون مبكرًا أن ما حققوه من درجات تحضُّرٍ فارقة في تاريخ العالمين، كان نابعًا من حرية المشتركات الأولى التأسيسية؛ لذلك — أبدًا — لم يتم إدماج كل آلهة الوادي في ربٍّ واحد، ولا تم إجبار مواطن على اعتناق عقيدة الدولة، بل لم يعرف المواطن العادي في أبعاد الوادي المترامية الأطراف رب الدولة المتعالي البعيد، لأن الآلهة كانت بالمئات، وكان في الإمكان ألا تعتقد في أي إله ولا تحرم من مظلة المواطنة، بل كان ممكنًا في ظل النضوج الأمثل للدولة، الأمة — أن يتم توجيه ألوان النقد والتجريح حتى يصل إلى شخص الفرعون، بل إلى الآلهة ذاتها، دون أي تحرُّج.
لقد كانت المساحة الفكرية — بمصطلحات اليوم — مساحةً مُعلمَنة حرة تمامًا، سمحت بكل هذه الإبداعات، ولتنظر معي — مثلًا — احتجاجات فلاح إهناسيا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو نصائح الفرعون (آخي توي) لولده (مري كا رع)، وهو يضع له أسس الحكم المؤسسي المدني.
كانت هذه مصر، فماذا حدث لمصر؟ اليوم أصبحنا نحاكم الفكر ونُدين الإبداع، لأن هناك فكرًا واحدًا ساد وأصبح سيد المناهج، يرى نفسه هو فقط الصحيح المطلق، وغيره باطل الأباطيل والخطأ المطلق، أصبحنا هكذا بعد ضياع التعددية، وأصبح النموذج الأمثل في ظل الرأي الأوحد الصحيح هو التوقف عن أي إبداع، وبدلًا من العطاء الفكري والثقافي والفني أصبحنا نسمع عن رحلة المفكرين من الضلال إلى الإيمان بالرأي الأوحد، وعن توبة الفنانين والفنانات وتأسلُم الشيوعيين، وفساد يستشري علنًا فصيحًا جهيرًا تحت سمع القانون وبصر الدولة، ومحاكمات للمفكرين لأنهم يفكرون، ويُقتَلون بيد من يكتبون من أجلهم، وإدانات للفنانين والفنانات وفضائح تشهير، مع عجلةٍ متسارعةٍ واضحة تميل إلى الإدانة الفورية كلما كان الشخص ممن يمارسون العمل الإبداعي، والمصيبة الكارثية أنه حتى في المؤسسات المفترض أن مهمتها الدفاع عن المبدعين تحوَّلت لتصبح أدوات إدانة وتشهير، لأن هذه المؤسسات لم تنشأ نشأةً سوية من بين أصحاب المصالح في قيامها، لكنها جاءت فوقية؛ لذلك سهل على التأسلم السياسي السيطرة عليها من فوق، ولم تفهم مؤسسة الحكم المصري حتى الآن، وترفض أن تفهم، أما الكرنفالات فقد انتهت من حياتنا نهائيًّا.
ويمتد الدرس بطول حقب التاريخ المصري، فالمتابع لتاريخ مصر القديم، سيجد هذا التاريخ الممتد من العبقرية يتوقَّف فجأة، لا إبداع، لا كرنفالات، لا علوم، بل ولا حتى كتابة أو تدوين، كما لو أن ستارًا كثيفًا من الظلمة قد هبط فجأة على التاريخ المصري، وكان ذلك إبان حكم الاحتلال الهكسوسي الاستيطاني البدوي لمصر.
والمفارقة المدهشة أن مصر الزراعية المركزية كان يفترض فيها عدم الإبداع لخضوعها لمنظومة الإدارة الديكتاتورية، لكنها أعطت وأبدعت للسبب الذي أعود فأؤكده: هو مساحة الحريات على المستوى الفكري، لأن تعدد ألوان الحياة في وادي النيل، أدى إلى تعددٍ مماثل في الرؤى، وتعدد مماثل في ألوان الولاء، فكان لكل كائن أو ظاهرة طبيعية إله، يمكنك أن تتبع مؤسسته الكهناية، أو تتبعه هو وحده، أو تتبع غيره أو لا تتبع أحدًا أصلًا، لأن التماسك الطبيعي الذي حققه النهر، مع الحدود الواضحة الفاصلة الكبرى الآمنة، بامتداد سيناء الصحراوي القاسي شرقًا، والبحر العميق شمالًا، ومجاهل أفريقيا جنوبًا، والصحراء الكبرى غربًا، عوامل شكَّلت أمنًا من لونٍ خاص، وتماسكًا مجتمعيًّا غير قابل للتفكُّك، رغم التعددية الهائلة على مستوياتٍ مختلفة، أهمها المساحة الفكرية، مساحة الرأي والاعتقاد، مساحة الإبداع.
بينما على الجانب الآخر البدوي، كانت القبيلة قد انتهت إلى نظام الواحدية الأولى، لأنها كانت لا تعرف معنى المواطنة ولا الوطن المستقر لتحركها الدائب وراء الماء والكلأ، أو للهجوم على حدود البلدان الزراعية المستقرة لسلبها عرق العام إبان موسم جمع المحصول.
لقد قامت فلسفة القبيلة على التماسك الكامل على كل المستويات، خشية الضياع، فكان كل الأفراد في واحد، كانت القبيلة مستعدة للفناء جميعًا من أجل الثأر أو الدفاع عن أحد أفرادها، ذابت جميعها في جدها البعيد وسلفها الذي أصبح ربًّا لها يضمن لها وطنًا متحركًا هو بدوره معها أينما حلت أو ارتحلت، هو رمزها وضامن وحدتها وبقائها، ويتمثل ذلك واضحًا في القبيلة الإسرائيلية التي كانت تحمل ربها في تابوت معها في حِلها وترحالها، وكانت تعترف بأن للقبائل الأخرى أربابها، لكن الرب الوحيد الجدير بالولاء هو ربها هي.
ورغم ذلك كانت القبيلة — ولم تزل — تتمتع بنظام حكمٍ شبه ديمقراطي له شيخٌ منتخب حسب الظروف التي تحتاج مهاراتٍ بعينها تتوافر في شخص بذاته، يتم انتخابه ليحكم بمساعدة مجلس القبيلة الاستشاري، لكن على المساحة الفكرية كانت الديكتاتورية كاملة والرأي أوحد، لا رب ولا فلسفة ولا رأي إلا الولاء لمنطق القبيلة وحده وربها وحدها، لأنه هو ذاتها وقوام استمرارها.
ألا ترون معي أننا بحاجة إلى إعادة النظر في كثير من قواعد قراءة التاريخ التي نظنها علمية؟
المهم … هكذا كان الهكسوس، حتى بعد أن وحَّدت قبائلهم ظروف المتغيرات الطبيعية فطردتهم من مساحاتٍ جغرافيةٍ واسعة، وجمعتهم في سعيهم وراء مواطنَ جاهزةٍ مفروشة.
لهذا أظلم الزمن المصري إبان حكم الهكسوس، وتوقَّفت مصر عن العطاء والإبداع، بعد أن توحَّد الجميع في واحد على المستوى الفكري، وساد الرأي الأوحد الصحيح على الإطلاق، وفجأة يرفع الستار مع عودة الحكم المصري الوطني الزراعي التعددي الفكر والرأي، بعد طرد الهكسوس من مصر، لنرى أعظم الإبداعات طرأ في العالم أجمع مع الدولة الثالثة (الحديثة) المعروفة بدولة الإمبراطورية.
ومرت مصر بألوانٍ متعددة من الاحتلال، لكن البدوي منها فقط كان يُعيد إغلاق ستار الهكسوس على الإبداع والعلم والفن.
احتلها قمبيز فدمَّرها، ثم احتلها اليونان بالفتح السكندري فازدادت عطاءً وعلمًا ومعرفة بمزج فلسفة اليونان بعلوم المصريين، واحتلها الرومان فتخضَّبت بالجديد فأعطت المزيد، حتى غزاها العرب، ولا أحد يماري في أنه كان غزوًا؛ فالإسلام يسمى حروبه غزوات، وأصبحت مصر عربية اللسان عربية الفكر، لكنها قامت تُمصِّر غزاتها ليصبحوا جزءًا من نسيجها، واستخدمت مفردات ولغةً خاصة ضفرتها من لغتها القديمة ومن اللغة العربية لكن وفق قواعدِ وقوانينِ المصرية القديمة، وفي كل الحالات التي كانت تستعيد فيها مصر استقلالها عن الدولة الأم ويتوقف نزح خيراتها مؤقتًا إلى مركز الخلافة، كانت تبدأ في استعادة عافيتها ويعلو صوتها الإبداعي مرةً أخرى.
واليوم في ظل الهجمة البدوية القبلية النقطية العاتية على المساحة الفكرية في مصر، أمكن عودة مناخ الهكسوس بكل ضراوة؛ فغاب النقد الفاعل المغير، وانتشر الفساد والرشوة، وأصبح للقانون حدودٌ مطاطية، ولأساليب الضبط أخلاقياتٌ ومقاييسُ زئبقية، وسادت الهستريا نتيجة توسيع مساحة التحريمات على الفكر لصالح الباشوات والعمائم وكبار الأفاقين الأماثل، ومن ثم لم تبق سوى مساحةٍ صغيرة لا تسع لكم غضبٍ هائل لدى مَن امتلك وعيًا مُزيِّفًا مع قلمٍ فاقد للمنهج العلمي والوطني، ومن هنا قام الغاضبون يأكلون بعضهم بعضًا في تلك المساحة المسموح بها في النقد والصراع.
بفلسفة الهكسوس تلك حاكمْنا نصر أبو زيد، وصادرنا العشماوي وخليل عبد الكريم، وبها كفَّرنا إبداعات عبد الوهاب ونجيب محفوظ، وبأمرها حوَّلنا كليات الفنون إلى كلياتٍ نظرية بعد تحريم الموديلات الطبيعية، ووسط هذا الصخب الهستيري ضاعت الرؤية، وقبع الإرهاب، وكمُن وراء كل باب يطلُّ على أية مساحة للحريات والإبداع، ومع الفرصة تقوم قوى المصالح تستثمر الواقع وأدواته لشغل الرأي العام عن القضايا المصيرية الكبرى للوطن.