المرأة والرق والاجتهاد١
هناك أمور لا يختلف حولها أحد من المخلصين من أبناء هذا الوطن؛ فأمن مصر يرتبط بالضرورة بأمن المحيط، وهو ما يعني أن هناك ارتباطًا مصلحيًّا مصيريًّا بين مصر وبين محيطها العربي، لكن هذا لا يعني تفعيل ذات الشعارات القديمة التي أودت بنا إلى مكاننا الحالي، لكن غاية ما يعنيه هو الحرص على التفاعل وتأكيد التعاون الذي يحمي هذه المصالح ويدعمها ويُقوِّيها في إطار يجمع التعدد ويثريه التنوع.
والأمر الثاني أن هناك أرضًا عربيةً محتلة لن تُحرِّرها الشعارات بقدر ما تُحرِّرها القدرات وممكنات التحضُّر والتفوق.
أما الأمر الثالث فهو أن القدرات العربية قد انتهت إلى ضعف يشير إلى خللٍ كبير في المنهج وفي الأداء، مقابل تقدم وقوة واضحَين في جانب المحتل، وهو ما يعني وجوب البحث عن أسباب هذا الضعف لتلافيه وتجاوزه.
والرابع أن هناك عالمًا كاملًا يأخذ بمبادئَ واضحةٍ أدَّت إلى تقدمه، وأن هذا التقدم لا يعني بالضرورة أنه عدو، ومواقفه تقوم على مبدأ الصراع المصلحي، وعلينا أن نعي مبادئ هذا الصراع وأن نمتلك أدواته، مع الأخذ بالحسبان أن الغرب قد تمكَّن من التفوق بمناهج وأدوات، ومن ثم علينا اللحاق بهذا المتفوق والاستفادة من منجزاته بعيدًا عن منطق العداء العنصري أو الطائفي الديني، فهي أمور لم تعُدْ تشغل الدنيا بل إن غاية ما يشغلها هو مصالحها، ومن مصلحتنا تلافي أخطائنا والاستفادة من خبرة الآخر التي أدت إلى تفوُّقه، فالحرب الآن هي حرب الحضارة التي تبدأ بسلامة منهج التفكير وتحرير الإنسان في الداخل من كل ما يعوق حريته في التفكير والإبداع والكشف، لأن العلم اللازم للتقدم لا ينمو إلا في مناخٍ حر تمامًا.
وضمن مبدأ الحريات كان لا بد أن نتحدث عن وضع المرأة تأسيسًا على أنه من اللغو أن نتحدث عن تحرير البلاد دون أن نحرر العباد، فنصف المجتمع شبه مشلول لا لشيء إلا لرفض مجرد إعمال العقل والرهبة من الجديد، ومن هنا استندنا إلى اجتهاد شخص في قيمة الخليفة عمر بن الخطاب بما له من ثقل في التاريخ الإسلامي، وتمنينا على الأفاضل من رجال الدين المعاصرين اجتهادًا يقرب من اجتهاداته، خاصةً وأن هذا الاجتهاد العُمَري سابقةٌ عظيمة الشأن تشير إلى تفتُّح الأمة آنذاك وثقتها بنفسها، فقد اجتهد الخليفة وأمضى اجتهاده وأنفذه بحكم ما لديه من سلطة آنذاك، حيث كان هو رأس الدولة وخليفة رسول الله ﷺ في المسلمين، وكان المسلمون جميعًا يعلمون أنه اجتهاد ورأى لإنسان مثلهم لم يكن يأتيه وحي بعد أن رفعت الأقلام وجفت الصحف برحيل المصطفى ﷺ إلى الرفيق الأعلى، وقد علمنا أن هذا الاجتهاد قد وصل حدَّ إلغاء فريضة قررتها الآيات بشأن سهم المؤلفة قلوبهم.
وقد سبق في أكثر من دراسة ومنتدى أن ربطنا بين قضية المرأة وقضية الرق في الإسلام، حيث تتقاطع القضيتان في نقطتَين تشغلان الأمة: الأولى هي موقعنا الحالي في العالم ووجوب إعمال مفاهيم الحريات والتكيُّف مع المتغيرات كي نلحق بالأمم المتقدمة، تأسيسًا على أن القرآن الكريم نصٌّ مفتوح لا يقبل الإغلاق على تفسيرٍ أوحد، والنقطة الثانية هي أنه علينا إبان هذا العمل على تأسيس مناخ الحريات أن نراعي الحفاظ الواجب على النص المقدس واحترامه بما يليق بمكانه في تراث الأمة التاريخي العريض.
والمعلوم أن الإسلام لم يشرع الرق ويبتدعه لأنه كان شرعًا سائدًا في أقطار الدنيا عند مجيء الدعوة الإسلامية، ومن هنا كان موقف الإسلام متوافقًا مع عصره، لكنه ارتقى بالموقف من الرق خطوة؛ تأسيسًا على مفهوم الأخوة الإسلامية في العقيدة، فحبب في العتق وحضَّ عليه، إلا أنه لم يُحرِّمه ولم يُجرِّمه، وترك ذلك للمؤمنين به وبدروس القرآن الكريم في التدرج بشأن الأحكام التي تتعلق بالحياة ومعاشها.
واستمر الرق زمنًا طويلًا في العالم، وكبقية العالم سايرت الشريعة الإسلامية قواعد زمنها، فعرفت رق الغزوات والسرايا والفتوحات، كما عرفت رق البيع والشراء، وتراكمت بها الأبواب الطوال التي استغرقت مساحاتٍ كبيرةً في موسوعات الفقه الإسلامي التي تناولت بالتفصيل الدقيق كل شاردة واوردة تتعلق بشئون الرقيق.
والمعلوم أنه كان للنبي ﷺ عبيده، كذلك للخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة وأئمة المسلمين وعامتهم، وانقسم المجتمع الإسلامي عبر قرونٍ طويلة إلى طبقات: طبقة الرجال وطبقة النساء، ثم طبقة الأحرار وطبقة الأرقاء، ولم تكن هناك مساواة في الحقوق بين هذه الطبقات خلال هذا التاريخ، وكان الأرقَّاء في عداد الأموال والحيوانات؛ يُشترَون ويُباعون ويورثون دون حقوق البشر الأحرار، كذلك كانت الإماء للمتعة الجنسية دون حقوق الزوجات الحرائر.
وخاضت البشرية نضالًا طويلًا حتى تمكنت من إلغاء الرق بل وتجريمه عالميًّا وإنسانيًّا وحضاريًّا بقوانينَ مدنيةٍ وضعية يحلو للبعض تسميتُها بالقوانين العلمانية.
لقد بدأ الإسلام بالتحبيب في العتق والتحريض عليه، وضرب أمثلة في تدرُّج أحكامه كما في أحكام الخمر، ليعطي الدرس حتى يتغير المؤمنون به عند تغير الظروف، لكن الأمة جمدت ولم تعِ الدرس العظيم حتى سبقها الآخرون إلى إلغاء الرق، وهكذا لم يعد بالإمكان تفعيل أحكام الآيات القرآنية بشأن العبيد وملك اليمين في هذا الزمن، ففرض الواقع بتغيره إيقاف العمل بأحكام هذه الآيات بعد أن ارتقت البشرية عن استعباد الإنسان لأخيه الإنسان.
وهنا تقاطعت لدينا قضية المرأة مع قضية الرق، فقمنا نطالب أهل الاختصاص باجتهادٍ مماثل لاجتهاد الفاروق عمر، اجتهاد يضع المرأة في موضعها اللائق إذا أردنا منهجًا نواجه به الأقوياء، وذلك قبل أن يفرض الواقع متغيراته مع حركته السريعة، ونظل لا نعي الدرس العظيم في إسلامنا الجليل، وتُفاجئنا الدنيا بما نرفضه، وحتى لا يحدث مع أحكام الآيات التي تتعلق بالمرأة ما سبق وحدث مع آيات الرق وملك اليمين، فهل هذه الأماني والمطاليب إلا من أجل حريات تضعنا على أول طريق الحريات ومن أجل الحفاظ على مقدسنا من تعطيل أحكامه بالفرض القسري، حيث يكون الأكرم هو التقدم باجتهاد من علماء الأمة، بشأن وضع المرأة، يتوافق ووضعها الحالي.
الكارثة أن العالم ألغى الرق وجرَّمه ولم يتقدم علماؤنا بإعلان وقف العمل بأحكام الرق، بل يتم تدريس تلك الأحكام في مدارسنا كما سنرى الآن، وعندما طلبنا منهم إعلان وقف العمل بأحكام آيات الرق وفقهه قامت الدنيا ولم تقعد لأشهر وليس لأيام، في صحفٍ تبحث عن قارئ ولو بإشعال الحرائق في الوطن. وقد انقسم المهاجمون إلى نوعَين، نوع من الباحثين لصحفهم عن قارئ وسوق، وهؤلاء أفصحت كتاباتهم عن جهلٍ مركب (وهو يختلف عن الجهل البسيط) بأبسط معالم الإسلام وقواعده الفقهية، أما الفريق الثاني فكان يعلم جيدًا خطورة الأمر وجدِّيته، ومع ذلك أبى الطبع الجامد إلا الجمود.
النموذج الأول لا يعرف الفرق بين الدعوة إلى إلغاء آيات — حاشا لله وحاشانا أن نطلب ذلك — وبين التمني بإيقاف العمل بالحكم (القاعدة). وإيقاف العمل بأحكام آيات للضرورة والمتغيرات، أو النسخ حسب مصالح البلاد وتغير الزمان والمكان؛ أحد المعالم الفقهية الكبرى المحمودة للفقه الإسلامي، وهي من بسائطه المعلومة، وتم العمل بها مرات خلال التاريخ الإسلامي زمن صاحب الدعوة ﷺ والخلفاء الراشدين، وتأسست لها القواعد في علوم الفقه، واتسعت مساحتها وضاقت باختلاف الفقهاء وأزمنتهم وأماكنهم؛ ومن ثم فالقول بذلك ليس جريمة تستدعي التكفير إلا ممن وضعتهم الصدفة في ساحة الكتابة، ومن ثم فلا مجال هنا لترديد ما قال هذا الفريق لسطحيته وسذاجته الشديدة رغم خطورة ما يكتب في صحفه.
أما الفريق الثاني فهو ما يشغلنا لأنهم الأزاهرة العارفون الدارسون المحترفون، وهم من يجب أن نسمع لهم جيدًا، ونبدأ بالدكتور عبد الصبور مرزوق الذي ظلَّ ردحًا طويلًا من الزمن على رأس رابطة العالم الإسلامي، ونسمعه يخاطبنا ساخرًا من مطلبنا: «هكذا يطلب أخونا إلى رجال الدين أن يعلنوا عدم العمل بآيات الرق في القرآن الكريم كده خبطة واحدة؟ لماذا يا رجل؟ أنسيت أن موضوع الرق والاسترقاق كان أبرز أهم تعاملات الإنسان في القديم؟ وأنه بهذا معلم تاريخي في سلوك الإنسان له خطره المدمر ومن ثم لا يصح تجاوزه؟!» الشيخ يرى أن موضوع الرق يجب استمراره؛ لأنه كان سائدًا عند الإنسان القديم من باب تحنيط التاريخ فقط! وأبدًا لم يتطرق للفرق بين الحكم والآية، وتقريبًا لم يقل شيئًا له أي قيمة ولا معنًى رغم كل التعالي والترفع.
لنرَ إذن موقفًا آخر من القضية، وهو موقفٌ واضحٌ صريحٌ فصيح، لم يلتف ولم يداور وإنما قالها سافرة، فيقول الدكتور صلاح غانم: «لا بد من وجود الرق ما دامت هناك حرب، وإلا فسوف يستمر القتل، ويصبح كل من كان أسيرًا ولم يُقدِّم فداء نفسه وجب عليه القتل؛ وبالتالي لا يمكن تحريم الرق لا وقت رسول الله ولا بعد رسول الله ولا إلى قيام الساعة.» فهذا رجل لا يشغله أن يصل صوته إلى المحافل الدولية، ونحسده على جرأته.
أما الدكتور عبد المعطي البيومي فقد وجد التبرير المعاصر لاستمرار العمل بأحكام آيات الرق فقال لا فض فوه: «وبقاء الآيات القرآنية في الرق مثل غيرها من الآيات كضمان لتغيير موقف القوى العالمية، ونحن نرى أن أكبر القوى العالمية الآن تتنكَّر للمواثيق الدولية في كل يوم، فماذا لو تنكرت لميثاق تحرير العبيد؟ إن موقف القرآن يمثل ضمانة للحرية، فنحن مع إلغاء الرق طالما احترمه الغير (لاحظ أن الدكتور بذلك وافقنا على إيقاف العمل بأحكام الآيات)، فإذا لم يحترم الغير ميثاق الحرية فكتابنا جاهزٌ باقٍ ليُفصِّل لنا كيف تكون معاملة من يتنكَّرون للمواثيق الدولية.»
الرجل الطيب مع إلغاء الرق لكنه مع استمرار العمل بأحكامه في فقهنا؛ فربما عادت القوى العالمية الكبيرة للعمل بنظام الرق، وهكذا تكون لدينا أحكام الرق عندما نتمكن من هزيمة تلك القوى العالمية الكبرى ونسبي رجالها ونساءها (؟!)، وهو ما يُذكِّرنا بالملحة الفكهة المصرية الواعية التي تقول إن دولةً صغيرةً فقيرة أصابتها مجاعةٌ شديدة؛ فاجتمع حكماؤها للبحث عن حل، فقال حكيم: الحل أن نعلن الحرب على أمريكا وطبعًا أمريكا ستهزمنا وتحتلنا وفي هذه الحال ستكون مضطرة لتوفير الطعام لنا، فردَّ عليه حكيمٌ آخر، له حكمة الدكتور البيومي، متسائلًا: وافرض أننا هزمنا أمريكا فمن أين سنوفر لها القوت؟!
هذه اعتراضات رجال الأزهر على أماني ومطاليب تخرج بنا من العصور الوسطى، وهذا ما يُدرِّسه رجال الأزهر لأولادنا وبناتنا، ثم نتساءل من أين أتى الإرهاب؟ ويبحث الدكتور مصطفى محمود عن مصدر الإرهاب فلا يجد سوى مؤامرة الأعادي الحاقدين على الأمة فيقول: «وما تلك الأصولية التي تدفع بالمسلم ضد المسلم إلا فتنة رسمها الأعداء بعناية وأنفقوا عليها بسخاء.» لكن هل هؤلاء الأعداء هنا بالداخل أم بالخارج؟! هذا بينما يستمر الكتاب الأزهري يُعلِّم أولادنا وبناتنا قائلًا: «للجهاد حالان أحدهما أن يكون الكفار في بلادهم فالجهاد فرض كفاية …» وسبق وقال: «ولا يُقتَل مسلم بكافر حربيًّا كان أم ذميًّا.» فالكفرة نوعان منهم الذمي في بلادنا، ثم نندهش لموقف الإرهاب من المسيحيين؟
لقد قدم الإسلام العظيم دروسه، وأكد تدرُّجه في أحكامه، وتركها بين أيدي أهله المؤمنين به فهل تشير تلك اللوحة إلى أن أهل الإسلام قد وعوا الدرس؟
«نمى إلى علمنا أنه بعد المعركة التي أثارها حديثنا بشأن أحكام الرقيق، أصدر الشيخ الدكتور سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر توجيهاته برفع المواد المقررة بالمعاهد الأزهرية بشأن الرق من المناهج.»