دروس الوحي١
عندما يختلف الناس حول قضية من قضايا الثقافة أو الإبداع الفكري أو الفني أو حول أمورٍ علميةٍ بحتة أو حول رؤًى بحثيةٍ، نجد كلًّا منهم يحاول أن يُقدِّم ما لديه من شواهد وقرائن وأدلة واستنباطات وبراهين وتجارب لتأييد موقفه ووجهة نظره، وقد يختلفون اختلافًا كبيرًا، لكنهم لا يصادرون رأي بعضهم البعض، بل يسلِّمون في النهاية بالرأي الصواب الذي حاز البرهان والحجة المقبولة من الجميع؛ لأن مثل هذه القضايا تخضع لمنهجٍ واحد يتفق عليه الجميع هو منهج البحث العلمي، بل قد يلجأ المختلفون إلى الاستعانة بآراء بعضهم البعض دون غضاضة، ولا يرون الآخر المختلف عدوًّا نقيضًا بقدر ما هو مكمل ومضيف ومتمم، من أجل الوصول إلى الحقيقة المرجوَّة.
لكن في بلادنا لا تعرف الاختلافات هذه الأصول وتلك القوانين والآداب، لأن الأغلبية لا يقرُّون بأصول المنهج العلمي في البحث والاختلاف، وهي الأصول التي تؤدي إلى اتفاق الجهود باتجاه الغرض، والوصول إلى نتائج يتفق عليها الجميع.
وعندما يمسُّ الاختلاف شأنًا من شئون التقديس الأيديولوجي أو الديني أو السياسي أو الأسطوري، نبقى في مساحة الرأي المختلَف حوله وليس مساحة قواعد المنهج العلمي التي لا يُختلَف حولها، علمًا أن الرأي يرتبط عادةً بالهوى والمزاجية والمصلحة الخاصة والعاطفة أكثر مما يرتبط بالعقل والعلم والمصالح العامة، وربما يكون صاحب الرأي صادق النوايا لكنه عندما يُعمل المزاج والهوى والمصلحة الخاصة يخرج من ساحة العلم إلى ساحة الخلاف غير المنتِج، ويؤدي منهج الرأي إلى عدم اتفاقٍ أبدي وخلاف لا يلتقي، تصحبه عادةً الرغبة في إلغاء الرأي المخالف بل ومحوه محوًا.
ومع الرأي والهوى والعواطف يتم مزج الرأي المخالف بصاحبه؛ مما يحمل على البعد عن الموضوعات المختلَف بشأنها إلى الأشخاص، وينتهي الأمر بالتكفير والتنفير الوطني والديني والطعن في الشرف والنزاهة وطهارة اليد، إلى آخر هذه القائمة من مصطلحات.
والخلاف الناشب اليوم يمكن تصنيفه بين طرفَين بينهما درجاتٌ متفاوتة؛ الطرف الأول محافظٌ تقليدي مُردِّد بحجة الأصالة والحفاظ على الذات من الذوبان في الآخر المخالف المعادي بالحفاظ على المأثور كما هو وكما كان، والطرف الآخر يُحاول الانتقال بالفكر والسلوك والوعي إلى مستوى التفاعل مع المتغيرات الجديدة والتكيُّف معها، دون أن يكون بالضرورة ضد الهوية أو ضد الحفاظ على المأثور، حيث نجد كثيرًا من المعتدلين المجدِّدين يسعون إلى الجديد عبر القديم، وبالاستناد إليه والتمسك به، ويؤكدون أن ذلك التجديد من باب الحفاظ على القديم والحرص عليه من الجمود والانغلاق فالضياع؛ إذ تؤكد دروس التاريخ أنك عندما تهمل حركة الواقع ترتكب خطيئة يكون عقابها أن يتجاهلك هذا الواقع، وهذه قوانين الكون ونواميس الطبيعة، والوقوف ضدها يعني الخروج من التاريخ بل ومن الوجود، وإن بقى بعضها فإنه يصبح علامات على حقب تطور ماضية رفضت التكيف وقاومته لعلل وأمراض ذاتية، فانتهت إلى حفريات حية تردد: «هذا ما وجدْنا عليه آباءنا.» فآلَ أصحابُ القول إلى تاريخٍ مضى ينعته المؤرخون بالجاهلية.
وإعمالًا لهذه المعاني نعود فنؤكد أن الإسلام دينٌ متحرك حي، وأن نصه المقدَّس نصٌّ مفتوح يقبل تعدد الأفهام حوله وتغيرها بحركة الزمن المتغير وانتقالها عبر المكان، وبهذا المعنى وحده يصح القول بصلاحية النص المقدس لكل مكان وزمان، وليس بتثبيته عند معانٍ بذاتها وتفاسير بعينها عند الأسلاف، مرت عليها أزمان وتغيرت أحوال، كما لو كان حق التفكير قاصرًا فقط على الأموات.
إن الصلاحية للزمن والمكان ليست بتحويل النص المقدس إلى كتلةٍ جامدة نستخدمها تعاويذ وتمائم نستمطر بها اللعنات على من تفوَّقوا من أعادي، لأننا جمَّدنا نصوصنا وتفكيرنا ولم نتحرك مثلهم، ولم يعدْ بيدنا سوى العودة إلى الزمن السحري عندما كانت الكلمات تُحرِّك الجبال وتشفي الأمراض؛ فقمنا ندعو عليهم رب السموات لإفنائهم، وهو النموذج المضحك المبكي الذي قدَّمه الدكتور حسن الترابي في السودان بعد ضرب الأمريكان لمصنع الشفاء، فدعا الشعب السوداني عبر أجهزة الإعلام لتكريس أسبوعٍ كامل للدعاء على الأمريكان تحت شعار أسبوع الدعاء المستجاب (؟!).
والمصيبة أن من جمَّد النصوص وأدى إلى تكلسٍ جماعي في عقل الأمة هم أهلها وليس أعداءها، رغم الدروس الواضحة التي قدَّمها القرآن الكريم وقدمتها أحداث زمن النبوة لأتباع الدعوة وأهلها، وأهم تلك الدروس الواضحة الناصعة الكاشفة التي لا يختلف حولها عاقل، أن القرآن الكريم لم يأتِ دفعةً واحدة وكتلةً واحدةً متكاملةً مصمتة، وكان الله قادرًا على إنزاله لنبيِّه دفعةً واحدة أو تسليمه إياه مكتوبًا وينتهي الأمر، كما حدث في ألواح موسى وصحف إبراهيم، لكنه لم يفعل إعمالًا للحكمة الإلهية في الكون وفي التاريخ؛ لأن محمدًا خاتم الأنبياء والمرسلين وليس هناك نبي أو رسول بعده، وهو ما يعني ختام تواصل السماء مع الأرض بالرسالات، وهو أيضًا ما يعني وجوب إيضاح الدرس الأخير للبشرية، درسًا عمليًّا نهائيًّا واضحًا، تمثل في مجيء آيات القرآن الكريم مفرقة على مدى زمنٍ طويل هو عمر الدعوة (حوالي ثلاثة وعشرين عامًا كاملة)، فجاء الوحي متفاعلًا مع واقع الزمن حينذاك، فجادل الناس وتغيَّرت أحكامه بتغير أحداث هذا الواقع حين كان يلزم التغير، وتبدَّلت عندما تحرك الواقع فلزم التبديل والتغيير، حتى يعمل أتباعه ومن آمنوا به وحملوا أمانته من بعدُ، ليغيروا فهمهم عندما تتغير الأحوال، ويبدلوا أحكامهم ليتكيفوا مع ظروف الزمن، فيظلوا متجددين بفكرٍ متجدد.
إن أول من لم يعِ هذا الدرس الكوني ولم يفهمه هم الجاهليون، فعمدوا إلى السخرية منه، وتندَّروا من هذا المنطق التطوري التاريخي الذي يوافق نواميس الكون وقوانين الخلق والطبيعة، فقالوا: «ألا ترون إلى محمد يأتي أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه؟ ويقول اليوم قولًا يرجع عنه غدًا؟» فكان رد الآيات الشارح البليغ: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ (النحل: ١٠١).
الوحي هنا يؤكد أن الله هو الذي يعلم بما ينزل؛ لأنه هو مَنْ خلق الكون، وهو مَن وضع له قوانينه، والله لا يخالف قوانين هو واضعها؛ لأنه الأعلم بها، ومن لا يفهمون هذه السنن والقوانين وصفتهم الآيات بالجهل فأكثرهم لا يعلمون، ومن هنا جاز للوحي أن يُطوِّر أحكامه بشأن قضايا عديدة، مثل قضية الخمر، وقضية الميراث، وموقفه من أصحاب الديانات الكتابية، لكن كان طبيعيًّا أيضًا أن يقف بأحكامه عند ظروف زمن الدعوة وواقعها ليتوافق مع الواقع، كما وقف بأحكام الرق ووضع المرأة عند مفاهيم ذلك الزمن، وترك الدرس لأتباعه من بعدُ ليتحركوا ويتغيَّروا ويتفاعلوا مع الواقع عندما يتغيَّر ويتبدَّل.
واستمرت الآيات تتغير وتتبدل فالله صاحبها وصاحب الكون وقوانينه ويعلم ما يفعل (أعلم بما ينزل)، فرُفعت آيات، وأُنسيتْ آيات، ونُسخت آيات مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة: ١٠٦)، بل ومحيت آيات يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ (الرعد: ٣٩)، وهو ما يعني أن روح القرآن في موافقته لنواميس الكون، وأن الدرس بمتابعة هذه الروح والتطور مع المستجدات لصالح البلاد والعباد.
وقد وعى المفكرون المسلمون الأوائل هذه الحقيقة وأدركوا حكمة النسخ والتبديل، وخشوا أن يأتي قوم يُنكرون هذه الحقيقة، فقال ابن عباس في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا قال: «الحكمة هي المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه.» وأورد أبو جعفر النحاس القول: «فمن المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ. وهذا القول عظيم جدًّا ويئول إلى الكفر.»
ولأن النسخ والتبديل يتعلق بمعاش الناس، ولأن هذا المعاش متغيِّر، ولأن منصب القضاء يجب أن يراعي ذلك التغير، قال الإمام عليٌّ لقاضٍ: «أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت.»
وكان من نفاذ البصيرة أن يُدرِك أوائلُ المسلمين حقيقة ارتباط حكمة النسخ بالتغير حسب مصالح البلاد والعباد، ونموذجًا لذلك ما أكده الإمام الألوسي في قوله إن الناسخ «لا بد أن يكون مشتمِلًا على مصلحة خلا منها الحكم السابق، لما أن الأحكام إنما تنوَّعت للمصالح، وتبدُّلها منوط بتبديلها حسب الأوقات؛ فيكون الناسخ خيرًا منه في النفع، سواء كان خيرًا منه في الثواب، أو مِثلًا له، أو لا ثواب فيه أصلًا.»
كذلك أدركوا أن درس نزول الوحي مفرَّقًا متفاعلًا مع الواقع، يعني وجوب التغيير كلما جدَّ جديد، وهو ما يدل عليه قول الإمام الزمخشري: «والله تعالى ينسخ الشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة بالأمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم وخلافه مصالح، وكانوا يقولون: إن محمدًا يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدًا … والتبديل من باب المصالح كالتنزيل، وإن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعةً واحدة في خروجه عن الحكمة.»
(انظر: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، المكتبة الثقافية، ص٢٠، وأبو جعفر النحاس: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، ص١، ٣، والزمخشري: الكشاف، ٢ / ٤٢٨، والألوسي: روح المعاني ١٢ / ٣٥٣).
لكن رجال الاحتراف الديني وحلفهم غير المقدس مع المنظومة السياسية وسلاطينها عبر تاريخ وظروف ومصالح ومنافع خاصة ضد مصالح البلاد والعباد، جمَّدوا العقل وفهم النص المتحرك، وما زال رجالهم اليوم على الحال نفسه لا يقبلون للأحكام المتعلقة بمعيشة الناس تغيرًا في الفهم بتقلُّب الأحوال وتغيُّر الأوقات، متمسِّكين بالمنطق الذي قال فيه الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (الفرقان: ٣٢).
لكن الله لا يخالف نواميسه، وإرادته أن يتعلَّم خليفته في الأرض مراعاة تلك النواميس؛ لذلك أكد للمؤمنين بهذا الدرس أن الحكمة الكبرى كانت في عدم نزول القرآن دفعةً واحدة، حتى لا يثبت الناس عند حرفية نصوصه؛ فقال تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (الإسراء: ١٠٦)، صدق الله العظيم.