نقد منهج الدولة١
لا زلنا نحاول العثور على مناطق الضعف في مناهجنا، التي أدَّت بنا إلى تراجعٍ حضاريٍّ كامل، وتخلُّفٍ فارق بيننا وبين دول العالم المتقدم، وانتهت بنا إلى متتاليةٍ كبرى من الهزائم والتراجعات، مع استمرار احتلال أراضٍ عربية من عدو جاءها شتاتًا من أنحاء العالمين، فانتهى قوةً كبرى تخطب دول العالم ودَّه، وذلك بفضل مناهجنا في التفكير على كل المستويات.
ومرةً أخرى نقوم بتبيان خريطة تَصوُّرنا لموقفنا الذهني المنهجي إزاء الأحداث التي جرت في منطقتنا، للتنقيب وراء أسباب الضعف لتجاوزها إذا أردنا مكانًا بين الأمم، حيث تم تكييف ما نُقدِّمه من نقدٍ ذاتي لمناهجنا بحسبانه تهجُّمًا على الأمة وثوابتها، وتوصيفه بأنه يصبُّ في النهاية في خانة العداء لها، وهو التفسير الذي يؤكد كل ما قلناه؛ فنحن قوم لا نقبل نقدًا، ويضيق صدرنا بالحق، ونحب مدح الذات حبًّا جمًّا إلى حد المبالغة بل والنرجسية المرضية، وتركبنا عصبية العنتريات إذا كشف لنا أحد عن عيوبنا وخروقنا، وتصبح محاولات الإصلاح في نظرنا تحالفًا مع أعداء الأمة الذين يتربصون بها الدوائر، غير مدركين أن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للأرض، لا يمكن أن تنجح بالمواجهة العسكرية وحدها، إنما أولًا بالعلم والثقافة والتحضُّر.
إن الخطوة الأولى في علاج السقم والعلل أن يعترف المريض أنه مريض وأنه بحاجة للعلاج، يجب أن نعترف بأننا شعوبٌ مهزومة ومتخلفة تستشري فيها الأمية المعمَّمة والأمية الثقافية، ويجب أن يأتي هذا الاعتراف عن قناعة وببساطة، ولا ندفن رءوسنا في أوهام تضخُّم الذات المرضي، حتى نجد لِعلَلِنا علاجًا ولحالنا صلاحًا، وبذات الهدوء والبساطة يجب أن نعترف أننا نعاني من تخلفٍ حضاريٍّ كامل، حتى بات نصيبنا صفرًا كبيرًا فيما تُقدِّمه شعوب العالم يوميًّا من ألوف الاكتشافات والاختراعات التي تعمِّق الهوة بيننا وبين المتقدمين كل ليلة، بل كل ساعة دون مجازٍ أو مبالغة، لأن التقدم لن يكون بغير العلم الذي يصوغه العقل البشري ويبدعه الإنسان بالمنهج العلمي وحده.
والعلم يحتاج إلى تربة يُبذر فيها ويُروى لينمو بتدريب العقل على المنهج العلمي في التفكير، وليس منهج الانتظار البليد لحدوث المعجزات وعودة الأساطير الحفرية، وبذرة العلم هي منهجه، أما تربته التي ينمو فيها فهي مناخ الحريات الكامل، الذي لا يعرف الوقوف في أحكامه بين الحلال والحرام وبين الإيمان والكفر، قدر ما يقف بين الصواب والخطأ العقلي على مستوى التفكير والمنهج العلمي، وبين المصالح والمنافع المرجوَّة على مستوى الفعل والسلوك، حيث أصبح من غير الممكن اليوم لعقل جاهل ومتخلف وعدواني أن يعارك معارك هذا الزمن، بعد أن انتهى عهد السيف والخيل بل والدبابة والمدرعة والمدفع والكثرة العددية، وأصبحت الحرب تُدار الآن من داخل الغرف المكيفة الهواء، كما لا يمكن لإنسان قد انتُقصت حريته ومواطنته أن يُحرِّر أرضًا أو يبني وطنًا.
والحريات الكاملة تعني ديمقراطيةً كاملة غير منقوصة، لتغييب المناهج الفاشية في التفكير، التي لن تغيب إلا بالاعتراف بالتعددية المؤدية إلى التكامل، وهو التكامل الذي لا ينفي التعارض بقدر ما يعني أن الرؤى المتعارضة لا تنفي بعضها، أو أن أحدها صحيح مطلقًا والآخر باطل، لأنها جميعًا في النهاية رؤًى بشرية، ومن ثم تصبح ممارسة الاعتقاد السياسي أو الديني عملًا حرًّا إراديًّا طوعيًا، تفرزه قناعة الناس وليس الإكراه أو غسيل الأمخاخ المبرمج، وهذا يعني عدم وقوف مؤسسات الدولة إلى جوار عقيدة دون أخرى؛ فعلى كل عقيدة أن تبرز بقواها الذاتية دون عون الدولة التي تفسد المساواة بينهما إذا ساعدت إحداهما على الأخرى، وفي الوقت ذاته، وحتى تكون هناك ديمقراطيةٌ حقيقية، يجب على مؤسسات الدولة أن تقف ضد كل ألوان الشمولية التي تزعم الطهارة المطلقة والوطنية المطلقة والحق المطلق، حيث الديمقراطية نصابٌ سياسي يقوم على مبدأ المواطنة لا الأيديولوجيا ولا العنصر ولا الجنس ولا الدين، والمواطنة مبدأ لا يقبل التجزئة أو الانتقاص أو الحصر، لأنها ملك الجميع حيث الوطن وطن الجميع.
وهنا لا يمكن الحديث عن ديمقراطية في ظل سيادة منهجٍ طائفيٍّ واضحٍ كامل على مستوى الإعلام والتعليم، حتى إنه أحيانًا يقف وراء اتخاذ القرارات السياسية، والملاحظ أن الخطاب السائد خطابٌ طائفيٌّ مُتعصِّب يضع المسلم خارج التاريخ فلا يعيش عالمه ولا يتصالح معه أو يتكيف مع جديده، بل يريد تغيير العالم كله ليتفق مع وجهة نظره، وهو المستحيل الذي أدى بنا إلى حيث نحن الآن، بعد أن ظللنا زمنًا نطلب من العالم موافقته على ما نطلب نحن إزاء قضايا كبرى مصيرية، وتوهَّمنا امتلاك قدرات القوة القامعة لإقناعه بمطالبنا، وعاندنا العالم بعنترياتٍ خطابية انتهت إلى كوارثَ كبرى، دون أن نعمل حسابنا بين الممكن والمستحيل.
وإذا كنا نطلب من العقل الجمعي الاعتراف بنواقصه وأخطائه، فيجب من جانبنا أن نعترف بخلل يَعتوِر مطلبنا بالحريات الكاملة والديمقراطيات غير المنقوصة؛ ففي ظل مناخ التجهيل العام السائد، ومع مطلب تطبيق الديمقراطية السياسية الفوري، فهو ما يعني أن من سيصلون إلى السلطة بالانتخاب الحر هم ألدُّ أعداء الحريات وأشد أنصار الرجعية وأكبر أنصار الفاشية، الذين يستخدمون لاءات الحرية والديمقراطية لا عن قناعة حقيقية، لكن كوسيلة فقط إلى غاية السلطة وساعتها يكون لكل مقام مقال ولكل وقت أذان.
فمجتمعنا لم يزل قبليًّا عشائريًّا طائفيًّا يذهب فيه صوت المواطن الجاهل بالحريات وبالمواطنة، ناهيك عن الأمي، إلى حليفه في القبيلة أو الطائفة الدينية أو الأيديولوجيا، ولا يذهب إلى من يُمكنه الحفاظ على الديمقراطية ومصالح الناس والوطن، هذا رغم أن ذات الجماهير في ذات الوطن كانت قد بدأت تجربتها الليبرالية بنجاحٍ واضح عبر ثلاثين عامًا انتهت بحلف العسكر والعمائم في يوليو ١٩٥٢م؛ مما وأد التجربة الوليدة بعد تكريس الإعلام والتعليم الموجَّه للواحدية الفاشية الشمولية العنصرية الطائفية، حتى عاد الشارع المصري إلى زمن التفكير أيام المماليك.
ومن هنا لا نجد بأيدينا لتحقيق الأمل كي يعيش أولادنا كرامًا في وطنٍ كريم سوى القنوات الشرعية، وتوجيه الخطاب لسلطات الدولة ومؤسساتها كلما كان ذلك ممكنًا، لبيان الأخطاء، في مناهجها، لأننا لا نستطيع أن نكون ضمن قافلة مدَّاحي الدولة المنتفعين، ولأننا لا ننتمي إلى حزب أو جماعة أو مؤسسة، حفاظًا على حق القول دون حسابات لأحد، سوى وجه الوطن، لهذا نوصل للدولة ومؤسساتها رسالةً واضحة تؤكد أن الشارع لن يحترم قانونًا لا يشارك في صياغته حقًّا، ولن يحترم قانونًا يكسره المتسلطون والمتنفِّذون، ولن يتحالف مع الأمن ضد الخارجين عليه طالما ظل حضرة الضابط مُتسلِّطًا مُترفِّعًا فاشيًا قاسيًا لا يرحم.
فمطلبنا نضال بالكلمة وبالحجة تحت مظلة الشرعية، وهو ما يؤدي في النهاية إلى احترام الدولة ذاتها وسلطاتها؛ لأن الواضح «في ظل السماح الديمقراطي» أن جهاز السلطة لم يعمل إطلاقًا حتى الآن على ترسيخ مفاهيم الحريات الليبرالية في الواقع حتى تكون الجماهير درعًا لدولتها صونًا للحريات، وإنما حدث العكس فزايدت مؤسسات الدولة على الإسلام السياسي والطائفية؛ مما أفرز في النهاية إرهابًا طائفيًّا مسلَّحًا يضرب مصالح الوطن الاقتصادية وينتقص من هيبة الدولة أمام مواطنيها وأمام العالم.
ومع تفاقم مشكلة الإرهاب ركزت أجهزة السلطة مواجهتها على المستوى الأمني وحده؛ مما أدى إلى تفاقم متتالٍ يخبو مرة ويطلُّ برأسه مرة في مجازر مفاجئة أحيانًا، بينما يستمر منهج مؤسسات السلطة في إفراز المزيد من الفاشيست المتعصِّبين عبر أجهزة تثقيفها العامة، هذا رغم تطوع كثير من المفكرين غير المسيَّسين طوال زمن المواجهات الأمنية بإسداء النصح وتأكيد أن المعركة مع الفاشية هي معركةٌ ثقافية في المقام الأول وليست فقط مواجهاتٍ أمنية، حيث مسئولية وزارة الداخلية هي حفظ الأمن ومنع الجريمة والحفاظ على النظام العام، أما مواجهة الفاشية فهي مسئولية الفكر المدني الذي غيَّبته ساحة الإعلام والتعليم من ساحتها تمامًا، وسمحت للفكر الأحادي بالمساحة كاملة.
فعلى مستوى الإعلام أصدر مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون قرارًا يفرز الفن الكافر من الفن المؤمن في قوله: «أن تراعي البرامج والدراما أن مفهوم الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى يجب ألَّا يُنظر إليه فقط من منظور فلسفي واعتقادي لكن يتعين ترجمته إلى سلوك يشمل كل مجالات الحياة، وأن الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.»
وإعمالًا لذلك فتحت ساحات الإعلام أبوابها لمجموعة من المشايخ يفتون في كل أمر، ويتحدثون حتى في العلوم المتخصصة بكثير من الجهل المُضحِك، وهو ما أدى لتلميع مشايخ التطرف وأساتذة الخرافة، وفي وقت كانت ماكينة التطرف الدموي والفتنة الطائفية تطحن قلب الوطن، كان التلفزيون يسمح للمرحوم الشيخ الشعراوي كي يجلس سنوات داخل كل بيت يُكفِّر ويُسفِّه عقيدة نصف الأمة، حتى انتهى الأمر بإحكام السلفية قبضتها على كل تجليات السلطة والقانون ومناهج الناس والرأي العام والقيم، وهو ما يعني في رأينا أن المنهج الذي مارسته وسائل الإعلام كان أحد المنتجين الكبار للإرهاب في مصر، والعامل الأعظم في تفشي الأمية الثقافية المعمَّمة، وتلاشي الفكر الليبرالي وانزوائه في صالونات المثقفين الديمقراطيين.
وبين أحاديث المشايخ المحترفين، والحوارات، والفتاوى، والتفاسير، والعلم والإيمان، والحيض والنفاس، وطاعة الزوجات للأزواج لم نطالع مرةً واحدة قسًّا مسيحيًّا يعظ طائفته عبر شاشة تلفازنا المبارك، كما لو لم يكن في مصر غير المسلمين، ولوضع حصوة في عين المعترض أو المحتج تتم إذاعة قداس الأحد من محطةٍ إذاعة جانبية غير مسموعة، مع إذاعة الاحتفاليات السنوية التي يتم إلغاء إذاعتها إذا توافق موعدها مع احتفاليةٍ إسلامية، هذا رغم أن التمويل الضرائبي لهذه الأجهزة يأتي من جيوب المسلمين والمسيحيين على السواء.
وفي المقابل نجد في بلاد الغرب التي يحلو لبعضنا نعتها بالبلاد الكافرة مثل سويسرا التي تطبق المبادئ المدنية كمظهر للرقي الحضاري الذي يحترم كافة العقائد دون تمييز، تتم إذاعة صلاة الجمعة على قناتين من قنوات التلفزيون السويسري احترامًا لبضعة ألوف من المسلمين الوافدين وأغلبهم من غير المواطنين، ويشكلِّون عمالة متواضعة طبقيًّا.
أما على مستوى التعليم فالمصيبة أعظم، نضرب منها فقط الأمثلة، فالطالب المسيحي يدرس في نصوص اللغة العربية والمحفوظات نصوصًا قرآنية وأحاديث نبوية ويؤدي فيها امتحان نجاح أو رسوب مع أخيه المسلم، بينما التلميذ المسلم لا يعلم شيئًا عن عقيدة أخيه المسيحي وشريكه في الوطن والجوار والمعركة والرخاء والجوع والسراء والضراء.
وكي يتم تدريس التربية المسيحية لأهلها تم تخصيص فصل في معظم المدارس الحكومية للمسيحيين فقط؛ مما أدى إلى انفصالٍ مخيف بين أبناء الوطن منذ نعومة أظافرهم مع نفور وكراهية متبادَلة كان طبيعيًّا أن تفرز إرهابًا وفتنًا دموية.
هذا ناهيك عن كون المواد الدراسية نفسها تكرس للإرهاب والفتنة بل وتحرض ضد الدولة والقانون، فنقرأ مثلًا ما جمعه الدكتور كمال مغيث من هذه المواد، كما في قول كتاب التربية الدينية للصف الأول الإعدادي: «إن الناس الذين يعيشون في مجتمعات يتولى فيها البشر التشريع، ويعيشون بمناهج غير منهج الله، يقعون في عبودية العباد وهذا منتهى الذل والإذلال.» ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد إلى تكريس العداء والفتنة الطائفية ضد إخوتنا في الوطن، فيقول كتاب الدين للصف الثاني الإعدادي: «إن أصحاب الديانات السابقة قد حرَّفوا رسالات الأنبياء، ونسبوا إلى الله ما لم يقله، وأضاعوا خاصية التوحيد، وأصبح التصور الإسلامي هو التصور الوحيد الذي بقي قائمًا على التوحيد الخالص.»
وفي كتاب الصف الثالث الإعدادي للتربية الدينية نقرأ قراره بأنه لا دين يقبله الله سوى الإسلام، ومن لا يؤمنون به يعلمون الحقيقة لكنهم لا يؤمنون عنادًا ومكابرة وضلالًا؛ لذلك على التلاميذ تغيير هذا المنكر بأيديهم عنفًا كما كسر إبراهيم أصنام قومه وكما نسف موسى عجل بني إسرائيل (انظر ص١٤ و٢٦).
ورغم قرار وزير التربية والتعليم رقم ٣٠٦ لسنة ١٩٩٣ بشأن التعليم الخاص الذي نص على عدم جواز تضمن اسم المدرسة ما يوحي بأنها لفئة أو طائفة بعينها، فإن تلك المدارس تكسر هذا القرار عيانًا بيانًا بل وتحصل على تراخيص من ذات الوزارة لأسماء منها: مدرسة آل بيت النبي، مدرسة عمرو الفاتح، مدرسة فجر الصباح الإسلامية، مدرسة الشبان المسلمين، مدرسة الدعوة الإسلامية … إلخ، «وهو ما يذكرنا بقرارات سابقة لوزير الداخلية برفع الشعارات والملصقات الطائفية من على السيارات، واليوم نجد سيارات الحكومة بل والنقل العام هي ما يكتظ بهذه الشعارات؟!» وتقوم تلك المدارس الخاصة بتدريب أرواح البراعم الصغيرة على كراهية أشقائهم في الوطن، فيشير كتاب منهاج المسلم الصغير إلى «الضالين» في سورة الفاتحة بأنهم النصارى، وتعلمهم كتبها الأحرف وفق الطائفة فحرف اللام (لحية) وحرف الحاء (حجاب) وهكذا …
إن ما يحدث لا يفصح أبدًا عن موقفٍ صادق من قضايا الحريات والليبرالية، ناهيك عن استثمار الدول الكبرى اليوم لمبادئ حقوق الإنسان وخاصةً حريات الرأي والاعتقاد والمساواة من أجل التدخل في شئون الدول الأخرى، وعلى مائدة الكونجرس هذه الأيام مشروع قد يسمح بالتدخل المباشر في الدول الأخرى التي تخالف تلك المبادئ، فهلَّا حرصنا على وطننا ومواطنينا وقمنا بترتيب بيتنا من الداخل حبًّا فيه وليس خوفًا من آخر، من أجل وطنٍ متماسك وقوي وحر.