كيف تتحقق الأساطير١
الأصوليون اليهود يعتقدون يقينًا أن ما يحدث للعراق الآن هو عقابٌ مؤجَّل منذ قرون، فحصار العراق اللاإنساني، وضربها الوحشي، هو التحقيق العملي للنبوءات التوراتية القديمة بشأن حضارة بابل وآشور في العراق القديم، بعد أن قام العاهل الآشوري (شمال العراق) بالهجوم على دولة إسرائيل (شمالي فلسطين) ونهب ثرواتها وسبي عشرة أسباط (قبائل) من بني إسرائيل إلى بلاده، حيث ضاعت تلك الأسباط العشرة هناك وذابت، واختفت من يومها من صفحة التاريخ والجغرافيا، ولم يمضِ من الزمن سوى سنوات حتى حذا نبوخذ نصر العاهل البابلي (جنوب العراق) حذو رفيقه الآشوري وهاجم دولة يهوذا التي كانت تقوم جنوبي فلسطين ونهب المعبد والبلاد، وسبي السبطين الباقيين إلى بلاد بابل.
في تلك الأيام الغابرة السوالف كان اليهود يعيشون أساطير التوراة ومعجزاتها، وينتظرون تدخل الرب التوراتي (يهوه) في كل شأن، وكان الدين ورجال الدين هم المرجع في كل أمر كبر شأنه أو صغر، ودارت حياتهم بين الحلال الديني وحرامه؛ فضعف شأنهم وهان أمرهم بين الأمم المحيطة بهم، التي كانت تعيش مناخًا آخر تُبدع وتُنتج حضاراتٍ سامقة، أما يهود فقد انغلقوا على ذواتهم خشية على هويتهم من الضياع وخوفًا من الغزو الثقافي، فعاشوا أساطير لم تغنِ عنهم شيئًا، ولم يملكوا إزاء قوة الأقوياء سوى استمطار اللعنات السماوية على بابل وآشور وإقامة الصلوات، تلك اللعنات والصلوات التي لم تغير شيئًا من معادلة قوة القوي وضعف الضعيف، ولم يعد بإمكان رب اليهود أن يفعل شيئًا لشعبه لأنه أمسى ضعيفًا ضعف شعبه، ومن هنا تحول الدعاء غير المستجاب إلى فعلٍ مؤجل سيحدث بالتأكيد، فالرب لن يتخلى عن شعبه الذي فضله على العالمين، وتحول الدعاء إلى نبوءات ستحدث في مستقبل الأيام، حيث سيرث أحفاد البابليين ذنوب الآباء والأسلاف حسب القاعدة التوراتية.
وبين تلك النبوءات نبوءة ترد في الإصحاح السابع والأربعين من سفر إشعيا، حيث يقول إشعيا لبابل سيدة الممالك آنذاك: «انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل، اجلسي على الأرض بلا كرسي يا ابنة الكلدانيين، لأنك لا تعودين تدعين ناعمة ومترفة … تنكشف عورتك وترى معاريك … اجلسي صامتة وادخلي في الظلام يا ابنة الكلدانيين، لأنك لا تعودين تدعين سيدة الممالك.»
كانت بابل توصف بأنها «سيدة الممالك»، لأنها تملك أسباب القوة والتحضر والاقتدار، بينما كانت إسرائيل ويهوذا دولًا ضعيفة لا تملك سوى دعاء رب السماء، فانتهى الأمر بهما إلى الشتات والضياع من جغرافية المنطقة وتاريخها، لأنهم كانوا لا يطلبون معرفة شيء خارج مقدسهم، فألقتهم حركة الدنيا خارج التاريخ.
وفي الشتات وبعد قرون وتغير أحوال الدنيا، أصبحوا يعيشون في دول ذات حضارات، فوعوا الدرس، واستخدموا كافة الأدوات الممكنة ليعودوا ويقيموا دولةً حديثةً مدنية، على غرار أنظمة الدول المتقدمة التي عاشوا فيها، وأخذوا بكل أسباب التقدم والتحضر والعلم والديمقراطية حتى أصبح الدخل القومي «لدويلة إسرائيل كما نحب أن نصفها» يعادل دخل الدول العربية المحيطة بحدودها مجتمعة.
ولهذه القصة التاريخية مقارنةٌ واجبة بقصةٍ تاريخية أخرى ذات شجون، فعندما قامت الإمبراطورية العربية، انفتحت على علوم الدنيا، وسمحت بالتعددية الفكرية، ولم تضع كل أمورها في دائرة المقدس وحده، فأخذت علوم اليونان والمصريين والعراقيين والفرس والهند والصين ولم ترَ ذلك غزوًا ثقافيًّا، ولم ترَ في علوم غير المسلمين كفرًا وباطلًا، ولم تصنف العلوم إلى طبٍّ إسلامي وطبٍّ بوذي، وعرفَتْ أن العلم ليس له وطن وليس له دين، ولم تصف عالمًا يهوديًّا بأنه يضع علمًا يهوديًّا كافرًا كما نصف بعض علماء الدنيا اليوم، ولا آخر بأنه يضع علمًا بوذيًّا وثنيًّا، فأصبحت الإمبراطورية الإسلامية سيدة الممالك، ومن هنا تمكنت من القبض على معادلة القوة، وأمسى بإمكان خليفتها أن يهاجم عمورية بالدمار والنار لأن امرأة صرخت: «وا معتصماه!»
وسواء كانت قصة «وا معتصماه» صادقة أو كاذبة فإنها كانت ذلك السبب الحقيقي الهيِّن، أو تلك الذريعة المفتعَلة وراء فلسفة القوة. لقد أراد الخليفة عمورية وهو يملك أسباب تحقيق الإرادة فأخذها، أخذها لأن أوروبا في ذلك الوقت كانت غارقة في أساطيرها وتُحيل كل أمر لرجال الدين ليفتوا في كل شأن، ويبيعوا صكوك الغفران، وأخذها لأننا كنا نجلس في حلقات النقاش بين آراءٍ مختلفة في مناخٍ مفتوحٍ متعدد وثري، لا يعرف تكفير الفكر أو الرأي أو العلم، ويزن أموره بين الصواب والخطأ وحسب مصالح البلاد والعباد، وليس فقط ودائمًا بين الحرام والحلال الديني، وعندما انتكس مناخ الحريات في بلادنا تخلَّت الأمة عن أسباب نهضتها وقوتها، وغرقت في أساطيرها تنتظر يوم ينادي الحجر على المؤمن أن وراءه يهوديًّا ليأتي فيقتله، وتبادلنا المواقع مع دول أوروبا ومع يهود، وأصبح شأننا مع دول العالم المتقدِّم ذات شأن يهود (أيام زمان) مع نبوخذ نصر وبابل سيدة الممالك، لهذا لم يعد يملك الترابي في السودان سوى دعوة شعبه للدعاء أسبوعًا على الأمريكان، ولم يعد بإمكان ديكتاتور العراق سوى القول: إن الأمريكان يعتمدون في ضرب العراق على ذراعٍ تكنولوجيةٍ طويلة ولا يواجهون بشجاعة الرجال. لقد وصل الأمر بنا إلى أننا نريد إعادة الزمن إلى الوراء، نطلب من الأمريكان أن يحاربوا رجلًا لرجل بالسيف والخيل والقوس والنشاب لأننا لا نملك مقومات القوة والتقدم.
لم نعد نملك سوى الأسف والأسى والشجب ومظاهراتٍ شعبية صادقة المشاعر، إزاء عدوان غاشم مفترٍ، مظاهرات تنادي: الموت لأمريكا.
لكن من سيُميت أمريكا؟
وماذا يفيد طرد السفراء؟ وماذا لو تجمعنا جميعًا واشترينا كل ألوان العتاد (لو سمحوا لنا بذلك)؟ ألم نخسره في خمس ساعات في ١٩٦٧م، وألم يخسر العراق ترسانةً عسكرية قلَّما توافرت لنا من قبلُ؟ إنه خطأ المنهج يا سادة وليس مسألة عتاد.
مرة أخرى إنها فلسفة القوة والضعف، كلينتون، نبوخذ نصر، المعتصم، وجميع الأسماء المنتصرة وراءها منهج فلسفة القوة، يقول كتَّابنا ويتفنَّنون في إدانة أمريكا وافترائها وخروجها على الشرعية الدولية وتقرير بتلر (رئيس لجان التفتيش) المزوَّر كذريعة لضرب العراق، وأن الضرب جاء كورقة يريد أن يكسب بها كلينتون محاكمته في قضية مونيكا لوينسكي، ولو قتل الأبرياء ودمَّر البلاد.
نعم كل هذا صحيح، ويا لوعة الكبد على ما يحدث في العراق، لكن لمن تكتبون يا سادة؟ ولماذا تكتبون المعلوم لكل الدنيا؟ ناهيك عن الفريق الذي يستطيب لطم الخدود وشق الجيوب، فهل هكذا ستموت أمريكا؟
أيها السادة الدروس القاسية تنهال على رءوسنا ولم نتساءل من يحقق الأساطير؟
إن من يحقق الأساطير ليس أصحابها الذين اخترعوها وألفوها لكن من يؤمنون بالأساطير.