دروس
في العاشر من رمضان/السادس من أكتوبر ١٩٧٣م تمكنت القوات المصرية من تحطيم أكبر خطٍّ دفاعي في تاريخ الحروب، وعبرت بارليف إلى سيناء لترفع العلم المصري فوق الأرض المحررة، بعد سنوات من إعادة بناء القوات المسلحة والتدريب والتخطيط، بذل فيها الجندي المصري عمره وعرقه ودمه حبًّا وكرامة، وأتيحت له الفرصة لأول مرة منذ ١٩٤٨م ليحارب معركةً حقيقية يثبت فيها جدارته بشهرته أنه خير أجناد الأرض.
ووسط هذا الزخم الرائع والفخر العظيم بأبناء الأمة ورجالها خرج علينا الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر أوانها (رحمه الله) ليعلن أنه قد رأى الملائكة بيض الوجوه يتقدمون جنودنا ويدمرون لهم سلفًا تحصينات العدو، وأنهم كالعادة المأثورة كانوا يلبسون أبيض في أبيض (؟!) والمعلوم أن مثل هذا المأثور من بقايا الفكر العنصري القديم الذي يميز الأبيض الذي يرمز للنهار والخير والنصر بعكس الأسود الذي يرمز إلى الليل والخوف والشر، وهو ذات المأثور الذي ميز الأبرار عن الآثمين الأشرار بالقلب الأبيض والوجه الأبيض، وميز أيام الخير للصائمين بالسبعة البيض أو الستة أو الخمسة البيض … إلخ.
والمرحوم الشيخ عبد الحليم محمود لم يجد أي بأس وأي حرج في أن يطفئ فرحتنا برجالنا وثمرة جهودنا بعد عرق السنين ومشقة التدريبات وقسوتها، ما بين هزيمة ١٩٦٧م وانتصار ١٩٧٣م، لم يجد أي بأس في أن يسلب الجندي المصري وهو في الغالب إما أسمر أو أسود؛ حقه في الفخر بثمار عرقه ودماء شهدائه وانتصاره المجيد لينسبه إلى الجنود البيض لابسي الأبيض في أبيض ساحقًا الفرحة بالآتين من المجهول، مُهدِرًا كل دماء الجنود المصريين المسلمين وبخاصةً المسيحيين على تراب الوطن بلا ثمن، بعد تأكيده ووراءه جوقة العمائم أن النصر لم يتحقق إلا بصيحة الله أكبر التي زلزلت العدو وهزمته، رغم أن ديكتاتور العراق قد دون على علم بلاده ذات الشعار منذ أم المعارك الكارثة، ولم يزل من يومها يقف تحت تلك الراية ترفرف فوق بلاده ومعها الإذلال والحصار والقصف، دون حضورٍ واضح للجنود البيض بثيابهم البيض.
ومع الله أكبر والجنود البيض في ١٩٧٣م لا عزاء لشهداء مصر من الأقباط، عندما لم تميز مدافع العدو وطائراته أتباع راية الله أكبر وأصدقاء الجنود البيض عن أتباع الإنجيل، كما لم تراعِ قنابل العدو فروق النسبة العددية بين المسلمين والمسيحيين التي يتنادى بها مفكرو التيار الإسلامي كلما تأزَّمت مسألة الأقباط، ووضع الرجل الإسفين بين أبناء الأمة في لحظةٍ تاريخيةٍ عظيمة من تاريخهم ورحل إلى عالم الخلد، رحمه الله وتجاوز عن سيئاته، لكن المصيبة أن «المطيباتية» من جوقة الكورال المتأسلم تُردِّد علينا كل عام ذات المفاهيم في أجهزة الإعلام لتؤكد لإخواننا في الوطن أن دماء أبنائهم قد ذهبت هدرًا ودون ثمن حتى لو كان الثمن فقط الفخر بهم والفرحة بصورهم المحلاة بالسواد.
وهذا يعود لأن هذا الفريق من العمائم — عافاه الله — لا يرى الواقع الموضوعي ولا الوطن ولا يفهم معنى المواطنة، وكل شيء لديه يجب أن يأتي من فراغ، وكي يكون مبهرًا لا بد أن يكون معجِزًا ملغِزًا قادمًا من العالم اللامرئي، منقطع الصلة بالواقع الأرضي وبالإنسان وقدرات فعله البشري، يجب ألا يكون واقعيًّا ويستحسن ألا يكون مفهومًا حتى يكتسي ثوب الرهبة القدسية. لقد انتكس هؤلاء إلى مرحلة ما قبل الأديان، إلى المرحلة السحرية، أيام كانت التمتمات غير المفهومة والحركات التي لا تحمل معنًى تؤدي فعلًا مطلوبًا في الواقع، وبالطبع فإن هذا المنهج يخدم وجودهم السيادي على قمة الهرم الاجتماعي ويُكرِّسه، حتى يكونوا هم المرجع في كل أمر ولهم الفتوى في كل شأن، ومن هنا أحالوا نصر العاشر من رمضان إلى عالم يوهمون الناس أنهم وحدهم العارفون بأبوابه ومفاتيحه والحارسون عليه والفاهمون لطلاسمه دون الناس جميعًا، هذا رغم أن المقارنة الدائمة التي يسوقونها بين نصر أكتوبر وتوقيته في العاشر من رمضان بنصر بدر الكبرى زمن الدعوة الإسلامية، يلقي بالظلال على منهجهم ويكذب أطروحاتهم ويشير إلى أنهم ينتقون بالهوى ما يتناسب مع بقائهم في مواضعهم في السلَّم الاجتماعي، لأن قراءةً واضحة لأحداث بدر الكبرى في الزمن المحمدي لا تقف أبدًا إلى جانب ما يطرحون، ولا تلتقي أبدًا مع رؤية المرحوم ولا مع جوقة الكورال التي لا تزال تُردِّد ترانيم الببغاوات، حيث الحقائق تفصح عن نفسها وتقول لنا قولًا آخر، إن النصر البدري زمن الدعوة لم يتم فقط بصيحة الله أكبر أو بمساندة الملائكة بل كان بالفعل البشري والتخطيط المحكَم الذي لم يترك شيئًا للصدفة.
في بدر الكبرى جاء الوعد للنبي عليه الصلاة والسلام بالمدد السماوي بملائكةٍ محاربين إلى جوار الصفوة الأولى للمسلمين، في أول وقعة كبرى بينهم وبين مشركي مكة، وانتهت الموقعة بانتصار المسلمين، لكن ليُعمِل ابن الراوندي عقله فيما حدث بعد أربعة قرون ليتساءل مُتهكِّمًا: «من هؤلاء الملائكة الذين أنزلهم الله يوم بدر لنصرة نبيه؟ إنهم كانوا مغلولي الشوكة قليلي البطش، فإنهم على كثرتهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين معهم لم يقتلوا أكثر من سبعين رجلًا! وأين كانت الملائكة يوم أُحد حين توارى النبي بين القتلى ولم ينصره أحد؟» (انظر د. إبراهيم البيومي، في الفلسفة الإسلامية، ص٨٣).
هكذا أثار حديث الملائكة والمعجزات منذ القرن الرابع الهجري تساؤلات واستهجان رجل مثل ابن الراوندي، لأنه أبدًا لم يدرك الحكمة والدرس الذي قدمته غزوة بدر ولم يقرأ دقائق الموقف والغرض من الأحداث؛ لذلك كان هناك حديثٌ آخر يعقب مثل حديث أبي الحسن السبكي وهو يقول: «سُئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي ببدر مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، فأجبت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي وأصحابه … وكان يكفي ملك واحد فقد أُهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة» (البيهقي: دلائل النبوة، ج٣، ص٥٨)، وهكذا أدرك السبكي الحكمة وعلم أن الفعل كان للنبي وأصحابه، للبشر وقدراتهم، لقد كان حامل الوحي جبريل صاعدًا هابطًا طوال الوقت ومع ذلك كان الدرس هو الاعتماد على معطيات الواقع والتعامل معه بالفعل البشري، فكان النبي يرسل الجواسيس يستطلع أحوال العدو، ولم يسأل جبريل إنما أرسل أشهر جواسيسه بسبس بن عمرو الجهني، وعدي بن أبي الزغباء يأتون له بأخبار العدو.
خطط المسلمون لبدر فأحسنوا التخطيط فانتصروا، أمرهم النبي أن يسيروا نحو بدر صامتين متخفِّين، يجتازون طرقًا غير مطروقة، وأمرهم أن يقطعوا الأجراس من أعناق الإبل حتى لا تحدث أصواتًا، وأجرى حساباته بحيث يصل قبل أعدائه لمكان المعركة بيومٍ كامل، وهناك قسم رجاله إلى ألوية لكل لواء رايته المميزة، وجعل لهم شعاراتٍ شفرية يتنادون بها أثناء المعركة ليعرفوا بعضهم ويميزوا أنفسهم عن العدو حيث كان الجميع يلبس الخوذ الحديدية والدروع.
وهناك اختار النبي أحسن المواقع وأمنعها قبل وصول عدوه، وأرسل قواته الخاصة تستبق وصول العدو ليخطفوا له من خطوطهم الخلفية رجلين تم استجوابهما عن أحوال العدو وعُدَّته وعدده وسلاحه (انظر ابن سيد الناس: عيون الأثر، ج١، ص٩٩، ٣٠٠).
أبدًا لم يركن المسلمون رغم الوعد السابق بمجيء المحاربين البيض، بل عملوا على حماية قائدهم بأنفسهم فبنوا للنبي عريشًا بعيدًا عن المعركة فوق تل يشرف على الموقع، وهو ما جاء في اقتراح سعد بن معاذ: «يا نبي الله ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ونعد عنك ركائبك حتى نلقى عدونا، فإن أعزَّنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا … فأثنى عليه رسول الله خيرًا، ودعا له بخير، ثم بنى للرسول عريشًا كان فيه» (انظر ابن كثير: ج٣، ص٢٦٦).
ومع كل هذا التخطيط البشري وتوقع كل الممكنات من أحداث، نجد العمل العسكري المتقَن، فقاموا يعملون بإمرة المحارب اليثربي الخبير الحباب بين المنذر فردموا الآبار بعد أن ملئوا لأنفسهم حوضًا كبيرًا أعلى التلال حتى يأتي أهل مكة مُجهَدين عطاشًا فلا يشربون، بينما يجد المسلمون زادهم من الماء. وقد بين القرآن الكريم موقع الفريقين عند المعركة، فقريش جاءت عطشى مُجهَدة بعد رحلةٍ طويلة لتخوض معركتها في بطن الوادي، بينما المسلمون يهبطون عليها من الأعالي ويرشقونها بحرابهم وسهامهم من مواقعهم الحصينة فوق التلال وخلف الصخور، فتقول الآيات الكريمة: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ (الأنفال: ٤٢).
أما الواقدي فيذكر خبرًا آخر يؤكد مدى أخذ المسلمين كل صغيرة وكبيرة في الاعتبار قبل بدء المعركة، وذلك في اختيارهم لوجهة القتال فيقول: «وقف رسول الله ﷺ ينظر إلى الصفوف فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه، وأقبل المشركون فاستقبلوا الشمس، فنزل الرسول بالعدوة الشامية، ونزلوا بالعدوة اليمانية» (الواقدي: المغازي، ج١، ص٥٦)، أي اختار المسلمون حتى موقعهم بالنسبة للشمس، فحاربوا القرشيين والشمس في عيونهم تعميهم عن المسلمين.
هكذا وعد الله المسلمين بملائكة بالألوف، على رأسها ملك له ستمائة جناح، حمل بجناح واحد — حسبما تروي مأثوراتنا — بلاد لوط بعمارها وناسها إلى السماء وقَلَبها فدمرها، ومع ذلك اعتمد المسلمون الأوائل على أنفسهم في كل خطوة فانتصروا في بدر الكبرى نصرًا غيَّر وجه التاريخ وخط سيره، لكن عندما ركنوا في غزوة أحد إلى هذا المدد الملائكي كان الدرس القاسي، وكانت الهزيمة النكراء، ليقارن أهل العقول ويعوا الدرس، وأن الفعل للإنسان كما قال أبو الحسن السبكي، ولو كان الفعل للملائكة لما قتل في المعركة البدرية من المشركين سبعون فقط، حتى وقف ابن الراوندي يسخر ويتهكم، وهو المعنى الذي جاء بين روايات المسلمين البدريين هادئًا يقول: «لولا أن الله حال بيننا وبين الملائكة التي نزلت يوم بدر لمات أهل الأرض» (الحلبي، مج ٢، ص ٤٠٧) لمات أهل الأرض وليس فقط مجرد سبعين قتيلًا من المشركين، ومع ذلك لم تزل جوقة السحرة يتمتمون ويبسملون ويحوقلون بملائكة نزلت بعد ألف وأربعمائة سنة من بدر الكبرى، ليسلبونا حقَّنا في النصر وفرحَنا به، وكي ينفث الكهنة في العقد بين عنصري الأمة في أشرف أعيادها وأمجادها.