مفهوم الوطن والمواطن في فلسفة القوميين والمتأسلمين١
هل ثمة تناقضاتٌ رئيسيةٌ واضحة بين دعاة القومية العربية وبين دعاة الإسلام السياسي؟ وأين يقع الوطن ومفهوم المواطنة بين كلتا الدعوتين؟
إن الباحث المدقِّق سيجد اتفاقًا أوليًّا ورئيسيًّا بين كلتا الدعوتين؛ فكل منهما يتجه في النهاية نحو غايةٍ رفيعة ومبدأٍ عظيم، فالإسلام السياسي يدعو إلى توحد كل المسلمين في كل العالم في اتحادٍ طائفي عماده الرئيسي وعقدته الجامعة هو العقيدة الإسلامية، وهو ذات ما يدعو إليه دعاة القومية العربية لكن مع قصر هذا الاتحاد على العنصر أو الجنس العربي وحده دون بقية المسلمين، نظرًا لأن معظم المسلمين يسكنون العالم العربي، وأن بقيتهم يتشرذمون في بلادٍ شتى يُشكِّلون في بعضها أقلياتٍ غير فاعلة، أما الغرض النهائي لدى كلتا الدعوتين فهو الاستقواء بالتوحد على أعداء يقبعون خارج الطائفة وخارج العنصر، ليس لهم من شاغل بالنهار أو بالليل سوى حبك المؤامرات للعرب والمسلمين.
هناك من يؤكد على وجود التناقضات التأسيسية مُرتكِزًا على الصدامات الدموية التي حدثت بين الفريقين منذ سنوات الاستقلال وقبلها وحتى اليوم، أما أوضح علامات التناقض فهو ما يقدمه تيار الإسلام السياسي ضد دعاة القومية العربية؛ إذ يؤكد أنه يدعو بدعوة الإسلام وهي دعوة شمولية (لا يقول إنها طائفية!)، بينما القومية عنصريةٌ عرقية، وأنها مفهومٌ مستورد من تاريخ أوروبا لا علاقة له بتاريخنا ومفاهيمنا، وأن الدعوة القومية تمكنت من حيازة فرصة تطبيق مبادئها في الواقع عندما تمكن القوميون بسلسلة انقلابات من الاستيلاء على السلطة في أكثر من بلدٍ عربي، ولم تحقق سوى الفشل الذريع، بل إن الظروف التي أوصلتهم إلى الحكم تشوبها الشوائب حيث كانوا مدعومين من الغرب الصليبي الكافر الذي استخدم الدعوة للقومية العربية لتفتيت الأمة الإسلامية إلى عرب وغير عرب، وأن جامعة الدول العربية ذاتها ليست سوى ابتكار بريطاني تحت إشراف وتخطيط ودعمٍ إنجليزيٍّ كامل، وعند التطبيق لم يجنِ القوميون وهم في السلطة سوى الخراب والهزائم لديار المسلمين، وهو ما يعني أنهم قد أخذوا فرصتهم واستنفذوها، وعليهم أن يتركوا مواقعهم للتجربة الإسلامية التي أثبتت نجاحها في الدولة الإسلامية الأولى.
الملحوظة البارزة هنا أن المتأسلمين وهم يبرزون التناقض مع التيار القومي، قد ضفروه مع اتهامات بالخيانة والعمالة، وهو ذات السلاح الذي لجأت إليه الأنظمة ذات التوجهات القومية إبان صراعها مع حركات الإسلام السياسي وتمرُّدها المسلح، عندما تم تسخير الأجهزة الإعلامية لإثبات خيانة الحركات الإسلامية للوطن وعمالتها.
وهكذا تُسفر قراءة هذا الصراع أو التناقض الظاهري عن اتفاقٍ منهجي عميق ورئيسي، وهو أن كلًّا من التيارين قام بنفي التيار المتصارع معه على السلطة من ساحة المواطنة، وألبس ذاته الشرعية الوطنية واتهم الآخر بالخيانة، ومن ثم أصبح هذا الاتفاق المنهجي هو المتكرر الثابت عند أي مخالفة، فإن أنت خالفتَ المتأسلمين أصبحت كافرًا دينيًّا متآمرًا مع المستشرقين الصليبيين الصهاينة … إلخ، وإن أنت قدَّمت ولو نقدًا لما آل إليه الحال بمناهج القوميين انتهيت كافرًا وطنيًّا متآمرًا تطبيعيًّا … إلخ، وأنت عند كليهما صاحب فكرٍ منحرف مستورد؛ وعليه فالمبدأ الأول والاتفاق الواضح فوق التناقضات الظاهرية بين كلا الطرفين هو إيمان كلٍّ منهما أنه وحده الصح المطلق والوطنية الخالصة، ولا مكان لمعترض أو ناقد أو مخالف لأنه خائن وعميل وكافر.
ولأن تاريخ العرب في جزيرتهم كان هو اللاتاريخ؛ قبائل متناثرة لا تقبل التوحد، لأن التوحد كان يعني أن يسود فرد من قبيلة على بقية القبائل، وأن تسود عشيرة على بقية العشائر، فلم يتوحد العرب إلا بقوة أعلى من قوة القبائل والعشائر، بإرادة إلهية فرضت تلك الوحدة باصطفاء فرد وقبيلة، بنبيٍّ موحِّد، وبعدها ظلت أدبيات الإسلام السياسي حتى اليوم تتحدث عن دولة تُقاس على ذلك النموذج الأول، عن ديكتاتورٍ عادلٍ مختارٍ قرشي في دولة خلافةٍ آتية يحكم بالشورى مدى حياته.
ولأن الدول العربية المعاصرة ظلَّت إما في مراحل البداوة أو الزراعة ولم تبلغ عصر الصناعة الذي يُفرز طبقةً برجوزاية ذات مصلحة في التوحد؛ لم يجد دعاة القومية سوى ذات أفكار التأسلم السياسي، فكرة البطل المنقِذ الملهَم العادل الحاكم مدى الحياة الذي جاء على موعد مع القدر من سجف الغيب، بطل يُوحِّد الأقطار فوقيًّا، يملك ترسانةً عسكرية تمكنه من إقامة ذلك التوحيد المرتقَب، مُلهَم من السماء ورمز للأمة، كذلك توسموا في سيد قطب ومن قبله حسن البنا ومن بعدُ جمال عبد الناصر ثم صدام حسين، أما الشعب فهو طوال الوقت غير موجود، غائبٌ سلبي ينتظر معجزة مجيء الخليفة أو ميلاد القائد الضرورة، أو كما تنبأ به الفيلسوف القومي ميشيل عفلق: «إنه يظهر في لحظةٍ عسيرة باصطفاءٍ قدري كالاصطفاء الإلهي للأنبياء ليقود شعبه نحو الانتصارات الكبرى.»
وبهذا النموذج انسحبت الطهارة الدينية من مساحة تيار الإسلام السياسي إلى التيار القومي، وزعم كلاهما لنفسه الطهارة المطلقة والمعرفة التامة، بتوافق فوق كل التناقضات؛ لذلك كان منهج كلا التيارين هو الوصاية على الناس؛ الذي انتهى إلى ديكتاتوريةٍ كاملة. ويتضح هذا المنهج الإرغامي وتلك الوصاية على الناس عند حسن البنا وهو يقول: «إن من واجبنا كإخوان مسلمين العمل على إصلاح القلوب والعقول وإعادتها إلى طريق الله.»
ذات الفكر وذات المنهج أكده عفلق وهو يبرر قسوة البعث العراقي؛ لأن تلك القسوة ليست ضد الناس بل معهم لأنهم يجهلون هويتهم الكامنة فيهم؛ لذلك أصبح هدف السلطة القومية هو تغيير الشعب ليكتشف ويعي دوره التاريخي.
كلاهما فوق الناس، مختار، مُوجِّه، صاحب واجبٍ مقدس، اعتقادي، رسولي، مبعوث عناية قدرية، أما الشعب الناس فهم يجهلون دورهم المرسوم في البروتوكولات الإسلامية والقومية، وهم في عفويتهم وطبيعتهم الاعتيادية واعتراضهم أحيانًا؛ بحاجة للإصلاح بالوصاية والهيمنة الفوقية، وللإنجاز فلا بد من المعتقل والتصفية الجسدية؛ فهي ضريبة وضرورة إنجاز المشروع الأعظم من الأفراد ورغباتهم وحقوقهم الإنسانية الطبيعية، وكان طبيعيًّا أن تنفي هذه الوصاية أي شكل للتمايز أو التعدد داخل المجتمعات؛ لأن المطلوب صهر الجميع في وحدةٍ واحدة كتليةٍ مصمَتة، بينما جرى تعظيم الجماهير كمجموعٍ معنوي فيما تم سحق المواطن الفرد.
إن المنظِّرين القوميين من فلاسفة أمثال عفلق والبيطار والأرسوزي وجدوا أمامهم نموذجَين يمكن دمجهما معًا من أجل الوصول إلى الهدف القومي الوحدوي: النموذج الإسلامي الأول، ثم النموذج الألماني المبهِر حينذاك، عندما تحالف العسكر مع الإقطاع ووحدوا الإمارات الألمانية، ومن هنا وعند التطبيق قام التحالف في بلادنا بين العسكر والإسلاميين، حتى يجد القوميون أُسسًا نظرية لدعوتهم مستمَدة من الخطاب الديني، ولضمان ولاء الشارع للشعارات الوحدوية المعلنة التي هي ذات شعارات الإسلام السياسي؛ فنحن أمةٌ عربيةٌ واحدة ذات رسالةٍ خالدة، تقوم على أسسٍ توحيديةٍ واضحة أهمها وحدة الدين ووحدة اللغة ووحدة التاريخ، فهل ثمة اختلافٌ واضح بين دعوة الإسلام السياسي وبين اللاءات القومية التي رفعتها الأنظمة السياسية القومية التي حكمت بعد الاستقلال؟
وحتى لا يبدو القوميون تابعين تمامًا لرؤية الإسلام السياسي لجأ بعضهم إلى شطب الدين من تلك التأسيسات الوحدوية، وبهدف الالتقاء مع النشأة الأولى للخطاب القومي العربي في بر الشام، وهو الخطاب الذي كان يهدف إلى الخلاص من ربقة الاستبداد العثماني مع الحفاظ على حقوق الطوائف غير الإسلامية، وكان أبرز دعاته من مسيحيي الشام، لكن مع ذلك تظل بقية الشعارات الوحدوية المعلنة كاملة التطابق بل وكاملة التبعية للخطاب الإسلامي السياسي.
خذ مثلًا وحدة اللغة، والمقصود اللغة العربية، واللغة العربية لم تكن لغة البلاد الشامية أو الشمال أفريقية قبل الفتح الإسلامي، إنما كانت بالتحديد لغة جزيرة العرب وبشكلٍ أدقَّ لغة قريش، وهي أيضًا لغة القرآن، وجاءت إلى الشعوب المفتوحة مقرونة ولصيقة بالإسلام وأهله القادمين من جزيرة العرب؛ فهي عنصرٌ إسلاميٌّ أساسي وفد مع الإسلام الفاتح ولم يكن أصيلًا في البلاد المفتوحة؛ وعليه فالمقصود هنا بوحدة اللغة هي تلك الوحدة التي بدأ تكوُّنها في الطور الأموي بالفرض القسري للغة العربية كلغةٍ جامعة لشعوب الإمبراطورية، ومعنى ذلك أن يبدأ تاريخ الأمة جميعه من تلك اللحظة، أو مع الفتح الإسلامي بمعنًى أوضح، وهو ما يعني إلقاء كل تاريخ المنطقة القديم والأصيل خارج التاريخ العربي، هذا علمًا أن التاريخ العربي بدوره هو تاريخ العرب الفاتحين وليس تاريخ البلاد المفتوحة، وهو ما تنطق به كتب التاريخ والأخبار والسير الإسلامية، التي لا تكاد تجد فيها ذكرًا للشعوب المفتوحة أو ما تعلق بها من أحداث بقدر ما هو سرد لسير الولاة والسادة العرب القادمين من جزيرة العرب؛ ومن ثم لا يخرج المنهج القومي في لاءاته الوحدوية عن الأصول المعتمدة لدى تيار الإسلام السياسي ورؤيته لتاريخ المنطقة جميعه كتاريخٍ طائفي بالكامل.
وهنا يطرح السؤال نفسه: أين الوطن ومفهوم المواطنة في كلا الخطابين؟ بل وربما أين المواطن؟
نحن نعلم بالطبع التقسيم التقليدي للدنيا حسب الرؤية الإسلامية التقليدية؛ فهناك حزب الله وحزب الشيطان، هذا تقسيمٌ تصنيفي للبشر، فأين الأوطان؟ هم يقسمون الأوطان بدورها قسمَين لا ثالث لهما أو دارَين: دار الحرب ودار السلام.
وهذا يعني أنه ليس هناك شعبٌ واحدٌ متجانس في وطن بعينه، فحزب الله أفراد؛ بعضهم داخل الوطن وبعضهم خارجه في السعودية وبلاد الأفغان وفي البوسنة وفي نيجيريا وبلاد تركب الأفيال، كذلك شأن حزب الشيطان فهو أيضًا أفراد؛ بعضهم داخل الوطن وبعضهم خارجه لأنه حزب غير المسلمين على الإطلاق.
وهنا لا يوجد وطن بالمعنى الدقيق للكلمة لأن الحدود بين دار الحرب ودار السلام متحركةٌ قابلة للتمدد أو الانكماش في الاتجاهَين وحسب الظروف، كما لا توجد شعوب إنما توجد أمة؛ كلمةٌ معنوية، مجرد عبارة فوق كل الأفراد، وأهم من كل الأفراد، والبديل المستخدم عادةً لدى القوميين بديلًا عن الشعب عبارة الجماهير، وهي بدورها معنًى مطلقٌ هيولي، لا يصحُّ تحديده، لأن التحديد سيُبرز التنوُّع والتمايز بين من يَدين بالإسلام ومن لا يَدين بالإسلام، بينما من لا يدين بالإسلام تحديدًا أصيل في مواطنته أكثر من الوافدين الفاتحين، ويمتد تاريخهم في مواطنهم قبل ظهور هؤلاء الوافدين بأزمانٍ طويلة؛ لذلك يصبح الوطن هو «وطني حبيبي الوطن الأكبر» الذي يمكن أن يتمدَّد فيضم فجأة الصومال وإريتريا وجزر القمر، تعيش فيه جماهير عربية هم حزبٌ معنوي في وطنٍ معنوي.
ومثل تلك الرؤية للوطن ومعنى المواطنة تعود إلى جذورٍ قديمة جاءت مع الوفود العربية من جزيرة العرب؛ فالقبيلة في جزيرتها كانت لا تعرف معنى المواطنة ولا معنى الوطن، فهي دومًا وأبدًا متحركة وراء الكلأ والعشب، ليس لها وطن بعينه؛ لذلك اخترعت شيئًا معنويًّا ينتقل معها أينما ارتحلت أطلقت عليه «الحِمى»، لا هو أرض ولا هو تاريخ ولا هو مواطنة، فقط هو معنى، ومن ثم انتقلت ذات المفاهيم للطروحات القومية والمتأسلِمة ليصبح الوطن معنًى وتصبح الجماهير معنًى يجمعهما معًا معنًى ثالث هو الأمة التي مصلحتها فوق كل الأفراد مهما كانت التضحيات بحقوق الفرد وكرامته.
بهذا المنطق كان طبيعيًّا أن يقبل الوطن احتلالًا إخشيديًّا أو عثمانيًّا أو فاطميًّا أو أمويًّا لا فرق؛ فهم سادةٌ عرب أو مسلمون وكفى بذلك سبيلًا، كذلك كان طبيعيًّا أن يحتل صدام حسين الكويت ويجد من يُصفِّق له من القوميين ومن يدعمه شرعيًّا من الإسلاميين، وكان طبيعيًّا أن تضيع هوية الوطن بعد الإلقاء بتاريخه بين النفايات لأنه لا عربي ولا إسلامي، وأن تظهر الطائفية والانقسامات داخل الوطن الواحد.
يبقى أن نعي أن التوحد لا يأتي من فوق بل من تحت، وأن الكرامة لا تُبنى بالمعتقلات والترسانات العسكرية التي نخسرها دومًا في ساعات، إنما تأتي من كرامة المواطن، وأن كرامة مواطن واحد تعدل كرامة كل الحكومات، وأن أول ما يعطي معنى الأمة وجودها المادي على الأرض هو المواطن الحر الواعي، وأن البداية تكون بالوطن ثم بالمحيط، وأن بين الوطن والمواطن علاقةٌ قانونيةٌ دستوريةٌ واضحة، أول ما تؤسسه هو حريات المواطن الفرد بكل حقوق المواطنة أيًّا كان دينه أو لونه أو جنسه، وأن الوطن لا يكون وطنًا بدون تاريخه الذي صنعه شعبه، ومن هنا نبدأ.