عقلية المؤامرة وتبرير الهزائم١
إن قدر أي مفكِّرٍ وطنيٍّ مخلص اليوم هو أن يحمل صليبه على كتفه ويسير وسط جحور الأفاعي وحقول الألغام، وبين أكاذيب وأباطيل تحوَّلت عبر التاريخ إلى حقائق وروايات وضعت داخل مناطقَ حدوديةٍ فكريةٍ حرام، وتحوَّلت إلى تابوهات أصبح من غير المسموح الاقتراب منها أو مناقشتها، لأنها أصبحت المشجب التاريخي العظيم الذي نعلق عليه أخطاءنا ونبرِّر به هزائمنا! ومن يحاول النظر خلف تلك الحجب المحرَّمة تنله لعنة التحريم وهتك ستر المصطلحات التي أصبحت شبه مقدسة بعد أن اكتسبت بالتكرار والتقادم مصداقيةً زائفة، وتتمثل تلك المناطق المحرمة في القول بمؤامرةٍ عالمية يقودها الشيطان وحزبه ضد العرب والمسلمين، فقط كراهيةً فيهم وحقدًا عليهم لما حققوه من إنجازات وتفوُّق (تاريخي بدوره)، وأن تلك المؤامرة هي التي تقف دومًا وراء هزائمنا ونكساتنا ونكباتنا، وتتلخص اليوم في عبارةٍ واحدةٍ متكررة هي «المؤامرة الصليبية الاستشراقية العلمانية الصهيونية» (؟).
توقف المنطق، وتعطل العقل، وأصبحت الألفاظ بديلًا مناسبًا تعويضيًّا، تحمل تاريخًا عاطفيًّا لا عقلانيًّا، وعند المحاولة للنبش وراء الأسباب الحقيقية لانهيار الأمة الكارثي، تخرج الأصوات التي تعفنت لكثرة ركودها بين موتى التاريخ باتهامات التكفير الوطني والديني، مع نغمات التحريض، تحريض الحكومة، وتحريض الفاشية الدينية، وبعضها يقوم بذلك لشعوره أن المراجعة وإعادة قراءة الذات ونقد التاريخ والمنهج يزلزل مصالح، يجنونها على حساب الوطن ومستقبل أبنائه، وبعضها يقوم بذلك عن إيمانٍ حقيقي وصادق بالمؤامرة، إيمان وصل به إلى حد العمى عن الرؤية، فيضرب الوطن في مقتل، من حيث هو يريد رفعته وقُوَّته، أو من حيث هو يتوهَّم ذلك.
وفي زمن محاولة النهضة وبداية إلقاء الضوء على خطأ الداخل، ومنهج التفكير الذي أدَّى بنا إلى هذا الحال، تعرض أصحاب فكر النهضة والأنوار لذات ما يتعرض له اليوم من يحاولون تجاوز الهزيمة نحو غدٍ أفضل، وفي هذا المقام نجد عباراتٍ كاشفةً للحال الذي يصل إليه المفكر الوطني نتيجة التهجُّم والافتراء من عقول بيوت العنكبوت، فيقول عميد الأدب العربي طه حسين: «ولستُ أتمدَّح بأني أحب التعرُّض للأذى، وربما كان من الحب أن أحب الحياة الهادئة المطمئنة، وأريد أن أتذوَّق لَذَّات العيش في دَعَة ورضا، ولكني مع ذلك أحب أن أفكر وأحب أن أبحث، وأحب أن أعلن على الناس ما انتهى إليه البحث والتفكير، ولا أكره أن آخذ نصيبي من رضا الناس عني، أو سخطهم عليَّ، حين أعلن إليهم ما يحبون وما يكرهون» (الأدب الجاهلي، ط١١، ص١٦٥).
ولكن رائد الأنوار لم يعش حتى زماننا ليرى الهوَّة بيننا وبين الآخر تتسع اتساعًا هائلًا، والفجوة الحضارية تصل في تجاوزها إلى حد الاستحالة فيما يرى الدكتور مراد وهبة، وأصبح الفارق يتسع يوميًّا كالمتتالية العددية، نسجل كل يوم تراجعاتٍ نحو مزيد من الفكر الطائفي الفاشي العنصري، ويُسجِّل الآخرون كل يوم مزيدًا من المكاسب لرصيد الحريات، نغوص كل يوم أكثر في متاهات الفكر الأسطوري الاتكالي المغلَق على ذاته وينذر بخروجنا من ساحة التاريخ، أو أنه بالأحرى قد أخرجنا بالفعل من التاريخ فيما يرى الدكتور فوزي منصور، بينما الآخر يتعمق إيمانه بالمنهج العلمي في التفكير، فيُنجز ويكتشف ويخترع وينفتح على كل علوم الدنيا، حتى إن أساطيره أصبحت (خيالًا علميًّا)، خيالًا مُقنَّنًا مدروسًا يقف على أرض العلمية، أصبح الخيال بدوره خاضعًا لشرط المنهج العلمي.
لم يعِشِ العميد حتى يرى إسرائيل بنت الخمسين عامًا تمارس جبروتها (بعلمها وانفتاحها) على كل العرب، بل وربما كل المسلمين (من وجهة نظر المسلمين)، بينما ينتظر العرب النتائج التي سيحسمها لهم الإسرائيليون في الانتخابات (؟!).
إن الفارق الهائل حسم الموقف مع المفكر الوطني؛ فلم تعد المسألة فقط أن «أحب أن أفكر وأحب أن أبحث.» بل أصبحت قضيةً نضالية في المقام الأول، من أجل وقف الهبوط إلى مزيد من التردِّي. إن الأمر قد أصبح مصير أمة، ويستحق شرف النضال الفكري لتجاوز كل الشعارات المعلنة، بل وتجاوز كل شروط المنهج السائد في التفكير، وهو ما يعني مخالفة السائد والسير عكس التيار، وهنا تكون الضريبة التي يدفعها المفكر بحجم ما يحمل من هم، وبقدر ما يُمعِن في المخالفة.
منذ الفتنة الكبرى في التاريخ العربي ولما يمضِ على رحيل الرسول المؤسس لدولة العرب ما ينوف على عقد من الزمان، لم يجد العربي تفسيرًا لما حدث سوى المؤامرة الشيطانية التي تمثلت حينذاك في الشخصية الأسطورية المزعومة «عبد الله بن سبأ»، وهي الفكرة التي لو أخذنا بها دون النظر للأسباب الحقيقية داخل دولة المسلمين أنفسهم لنال ذلك من الجميع؛ من الصحابة، ومن دولة المسلمين.
وساعتها لم يسألوا أنفسهم وهم يُبرِّرون الفتنة بمؤامرة ابن سبأ اليهودي: كيف تمكَّن شخصٌ منفرد من فعل كل ما حل بدولة الإسلام وهي في أوج قوَّتها؟ وهي تلزم كافة الفروض والسنن؛ مما يعني أنها كانت تحت رعاية الله مباشرة وحمايته (؟!). إن فكرة المؤامرة حينذاك تُصوِّر الأمة هزيلةً ضعيفةً مترنحة يستمع كبارها للوشايات، كلهم آذان، يسارعون إلى الفتنة مع أول همسة، بينما ابن سبأ يستمر في المؤامرة، وينشر كل ما يخالف الإسلام حتى بات مشهور الكفر، ومع ذلك يستجيب له صحابة رسول الله من فورهم، فينقسمون شيعًا ويقتلون بعضهم بعضًا؛ هو المنهج العربي التليد الذي يأنف من الاعتراف بالخطأ فتتراكم أخطاؤه وتتكاثر كبواته، منهج يأبى أن يبحث عن أسباب المصائب في الداخل لأنها الأمة المختارة وخير الأمم، فهي مبرأة عن الخطأ والنقص، وليست النكبات لأسباب تكمن فينا إنما هي خارجنا، وعلينا دومًا أن نبحث عن تلك الأسباب في المؤامرة الخارجية، الصليبية الاستشراقية الصهيونية العلمانية (؟!).
هل بالإمكان إذن مناقشة تلك المؤامرة المشهورة؟ مناقشة الفكرة ذاتها، على محك الفكر المجرد من المصلحة والعاطفة؟ إن هذه المناقشة هي بمثابة السير في وادي الأفاعي، الذي يحميه حراس المصطلحات المقدسة، لكن إذا لم يكن هناك مفر من إعادة مناقشة كل مفردات منهجنا، فلا بد من القول والمناقشة، بغضِّ النظر عن الحرس الديني والحرس الثوري والحرس القومي، لاعتقادنا بانتهاء صلاحية هؤلاء جميعًا، ولا بأس من بعض «حلاوة الروح» المسموح بتجلِّياتها في ضرباتٍ عشوائية تضر بأصحابها وبمناهجهم وتكشفهم أمام الناس، أكثر مما تضر بالمحاولات المخلصة للخلاص والتجاوز.
بفكرة المؤامرة نستدعي من التاريخ زمن الغزو الأوروبي المعروف بالصليبي، ونسقط سياق التاريخ جميعه وظروفه، ونتحدث عن مؤامرةٍ صليبية نقصد بها مؤامرة الغرب الأوروبي الأمريكي، ولم نتساءل: هل حقًّا تحتاج أمريكا لمؤامرة لتحقيق مصالحها في بلادنا؟ والعجيب أننا نقول في الوقت ذاته إن هذا الغرب علماني كافر يريد نشر الفكر العلماني في بلادنا للقضاء على الإسلام بمؤامرةٍ خبيثة! وهنا تقف محاولًا الفهم فلا تجد إجابة: هل الغرب مسيحيٌّ مؤمنٌ صليبي، أم علماني بكل ما يصفون به العلمانية من كفر وتحلل وانهيار قيمي … إلخ؟ أم أن عقلية المؤامرة قد أصابتها الشيزوفرينيا؟
المصيبة أن تسمع تلك النغمة عن المؤامرة الصليبية في إعلامنا ومقررات مدارسنا، وهي النغمة التي تقصد بوضوح مؤامرةً مسيحية ضد الإسلام والمسلمين؛ لأن المسيحيين هم أتباع الصليب، ويتم الحديث هكذا في الهواء الطلق بلا أي حسابات تراعي ماذا يفعل نشر فكرة المؤامرة الصليبية، في صُلب الوحدة الوطنية، وكيف ينظر البسطاء والصغار إلى إخوانهم في الوطن، أو حتى الكبار: ألم يدع السيد مشهور زعيم عصابة الإخوان المحظورة (محظورة كده وكده؟!) إلى تسريح المسيحيين من الجيش تحسبًا لخيانتهم للوطن؟
على المستوى التاريخي نعلم أن العرب خرجوا من جزيرتهم يحملون دينًا جديدًا هو الإسلام، احتلوا تحت رايته وباسمه بلدان حوض المتوسط الشرقي، وضمنه بيت المقدس، في زمن كانت فيه الإمبراطورية الرومانية قد انقسمت إلى شرقيةٍ بيزنطية وغربية حافظت على اسم الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
وهؤلاء وأولئك كانوا مسيحيين، ويرون أن من حق المسيحيين أن تبقى مقدساتهم مثل كنيسة المهد وكنيسة القيامة تحت حكمهم، ومن هنا شنَّت دول بقايا الإمبراطورية الرومانية المقدسة حروبها لاسترجاع المقدسات المسيحية للحكم المسيحي.
ونحن نعلم أن الجوهر والقلب من الديانة المسيحية هو المحبة، لكن مع التعصب الديني انقلبت المحبة حينذاك مدفوعة بأطماع الملوك والأمراء إلى فعلٍ عدواني جوهره الكراهية، ولم تتولد الكراهية إلا عن كراهيةٍ مماثلة على الطرف الآخر، فلم تقم تلك الحروب إلا بعد احتلال السلاجقة لبيت المقدس وانتزاعه من الفاطميين، واتِّباع السلاجقة سياسةً خرقاء وعنيفة في وجه الحجاج المسيحيين سواء المواطنون أو الآتون من أوروبا، وهنا جاء مسيحيو أوروبا ليُخلِّصوا وطن المسيح من الحكم الإسلامي، وبالطبع ما إن تدور آلة الكراهية العنصرية والطائفية حتى تطحن الأبرياء بتعصُّبٍ أعمى، وتم قتل مسلمين أبرياء بأعدادٍ هائلة إبان ذلك الغزو، ولم ينجُ اليهود بدورهم، بل تم اختصاصهم دون المسلمين بالإلقاء في اللهيب الذي أوقدوه في المذبح اليهودي ذاته لهذا الغرض (انظر محمد علي كرد: الإسلام والحضارة العربية، ج٢، ص٢٩٦).
إن مشروعية تحرير الأرض بالحديد والنار مبدأٌ عالمي يؤمن به العرب بدورهم، وهذا بالتالي من وجهة نظر مُجرَّدة يتمثل في إعلان الصليبيين عن مشروعية هدفهم كحركة تحرير لأرضٍ مقدسة من احتلالٍ مخالف في الديانة، وأنها مجرد استعادة للأرض التي سبق واستولى عليها العرب الفاتحون، بل واستوطنوها، بل وعرَّبوها، بل وأسلموها، هذه حجتهم فماذا لو تصوَّرنا أن ما حدث كان العكس؟ ماذا لو تصوَّرنا أن الكعبة هي التي تم احتلالها من قِبَل عنصرٍ غير عربي وغير مسلم الديانة؟ وما الذي كان سيفعله المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها؟ ولماذا نتصور؟ فقط، نستمع إلى المعلن الآن عن الدعوة إلى تحرير القدس من الاحتلال الإسرائيلي أول القبلتَين، وثاني الحرمَين، وموطن المعراج وقبة الصحرة، بتجييش الجيوش وتوحيد العرب، أليس ذلك مشروعًا؟ فلماذا نُلبِس الصليبية القديمة لبوسًا شيطانيًّا مستمرًّا إلى الآن نستدعي فيه فقط الكراهية للمسيحيين المواطنين، لأنه بالفعل ليس هناك الآن أية صليبية بمعناها الحرفي القديم؟ هل يمكن لهذه الفكرة التآمرية أن تصدَّ عداونًا أو تقيم وطنًا قويًّا؟ أم أنها تؤدي إلى العكس تمامًا؟ وهل كانت الحملة الصليبية ذاتها مؤامرة؟ إن المؤامرة تُحاك في الخفاء والسر، وتفاجئ العدو بحيث تشلُّ قدرته على المواجهة، فهل كانت الحملات الصليبية كذلك حقًّا؟ ثم هل يمكن أن نسمي دعوات التبشير حملاتٍ صليبيةً جديدة كما يصفها البعض؟ ألا نسعى نحن بدورنا للدعوة والتبشير بالإسلام؟ أم أنه حقٌّ مشروع لنا فقط؟ ثم ألا نحلم بعودة عصر الفتوحات واحتلال بلاد العالمين؟ وهل من الصدق مع الذات اتهام الآخرين بالكيل بمكيالين إضافة إلى التآمر، وهذا منهجنا واضح معلن؟!
وماذا عن المؤامرة الاستشراقية؟
ستجد كُتابًا كبارًا لا يخرجون على ذات المنهج، بل هم مَن أسسوه إزاء الاستشراق، منهم مثلًا محب الدين الخطيب في كتابه: الغارة على العالم الإسلامي، وفروخ والخالدي في كتاب التبشير والاستعمار، تم فيهما قرن الاستشراق بالتبشير بالاستعمار، وأن المستشرق لا يمكن أن يكون مُفكِّرًا مستقلًّا ومشغولًا بالعلم، بل هو لا بد تابع لجهاتٍ رسميةٍ معادية، وهو رأس الحربة في منظماتٍ سريةٍ متآمرة على دين الإسلام، وهو خلاصة ما تنتهي إليه من قراءة محمد الغزالي وأنور الجندي لأنهما يريان الصراع بين الثقافة الشرقية الإسلامية والثقافة الغربية المسيحية صراع وجودٍ مصيري. الاستشراق باختصار هو الوجه الأكاديمي الذي يُلبِس لبوس العلم للسياسة الاستعمارية الغربية المسيحية العلمانية (؟!)، ويشرح ذلك الكاتب الإسلامي رضوان السيد بالقول: إن النظرة العربية الإسلامية ترى في الاستشراق «فصلًا من مؤامرةٍ كبرى على الإسلام والمسلمين أسَّسها الغرب أيًّا كانت هويته، فهو عندما كان مسيحيًّا أراد ضرب الإسلام لنشر المسيحية بالقوة والتبشير، وهو عندما صار علمانيًّا أراد تخريب عقائد المسلمين لإضعاف مقاومتهم وحتى يسهل استغلالهم.»
إننا حتى لو سلَّمنا بوجهة النظر تلك جدلًا، فإن الاستشراق بهذا المعنى سيكون أسلوبًا غريبًا لفهم الشرق والسيطرة عليه، هو دراسة للشرق وأديانه وعاداته ونُظُمه دراسةً علمية من أجل التحكُّم فيه بشكلٍ علميٍّ سليم، لأن منهجه العلمي غير مناهجنا التليدة، فمنهجه يقوم على معرفة الطرف الآخر من خلال الدراسة العلمية وليس من المقدمات المقدسة وشبه المقدسة، بينما نحن ننطلق من كراهية الغرب بالتمايز والانغلاق عنه، والتهرب من معرفته رفضًا نفسيًّا فقط للاعتراف به، مع إنتاج معرفةٍ مشوهة عنه نحاربه بها فتصيبنا النكسات والهزائم والنكبات.
لقد حقق المستشرقون وترجموا ونشروا أكثر النصوص الإسلامية والعربية التي هي عُمد الإسلام الفكرية، إضافة لدراسة الشرق جغرافيًّا وتاريخيًّا واجتماعيًّا وسلطويًّا. ماذا أراد ج. فنكل مثلًا من ترجمة كتاب الجاحظ «الرد على النصارى» ونشره في بلاد النصارى؟ وماذا كان غرض ﻫ. س. نيبرج من نشر كتاب «الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد وما قصد به من الكذب على المسلمين والطعن عليهم»؟ ولماذا نشر الأب ريتشار يوسف اليسوعي كتاب الأشعري «كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع»؟! أو لماذا نشر صورنسن كتاب الإيجي «المواقف في علم التوحيد»؟ ولماذا نشر هو نفسه كتب مثل كتاب الباقلاني «التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة»؟ ولماذا نشر ج. د. لوسياني كتاب الجويني «الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد»؟ ولماذا نشر هنري لاووست كتاب العُكبري «الشرح والإبانة عن أصول السنة والديانة»؟ ولماذا نشر مرجليوث كتاب ابن الجوزي «تلبيس إبليس»؟
وغير ذلك كثير لو أردنا سرده لاحتجنا مجلدات؛ فهل كانوا ينشرون دعوة الإسلام في بلادهم؟ نعم كان هناك المستشرق السياسي الذي يخدم غرضًا سياسيًّا بحتًا، لكنا بمنهجنا نخلط الحابل بالنابل وفق الرؤية العنصرية، ولا نعي أن مواجهة الآخر هي بمعرفته جيدًا، لكن هذه المعرفة تواجَه في بلادنا بتهمتَين كبيرتَين: مساعدة الغزو الثقافي الذي يتهدد الهوية، والتطبيع مع العدو! تذكرتُ وأنا أكتب هذه الفقرات كيف احتار بعض المسئولين في بلادنا لوهلة إبان استقبال أول وفدٍ رسمي إسرائيلي بعد كامب ديفيد، وكانت حيرتهم حول ما هو شكل العلم الإسرائيلي ولونه ليرفع مع الزيارة والمباحثات؟ أليس ذلك بكافٍ لتفسير الهزيمة؟ إننا أبدًا لم نحاول أن نعرف عدونا قط، وفقط بدافع الكراهية النفسية التي ترفض الاعتراف بوجوده، أليست تلك بعقليةٍ طفوليةٍ غاية في البدائية والسذاجة؟
وإذا كانت سياسة الدولة قد اتجهت نحو التصالح والسلام من أجل تنمية الداخل، ولو مؤقتًا، فلماذا نسمح لإسرائيل بإنشاء مركزٍ أكاديمي في بلادنا يدرس عن قرب وتماس، ولا ننشئ مركزًا أكاديميًّا مصريًّا هناك؟ هل هو خوف التطبيع؟ الدولة لا تخشى التطبيع، والحجة المعلنة أن المركز الإسرائيلي ليس أكثر من وكر للتجسس، والرد البسيط هنا: إذن لماذا لا ننشئ بدورنا وكرًا مصريًّا للتجسس هناك؟ إنها ببساطة ذات العقلية وذات المنهج الذي يكتفي بذاته وبمعرفته الكاملة المقدسة وشبه المقدسة وكفى بذلك سبيلًا، لكن إلى مزيد من التراجع والنكوص والهزائم.
والآن ماذا عن المؤامرة الصهيونية؟ وهل كانت مؤامرة حقًّا؟ لقد كانت حركةً معلنة من البداية ومع أول اجتماع للنخبة اليهودية لتأسيس وطنٍ قوميٍّ لليهود، لكنا نحن من كان (ولم يزل) يعيش في زمن المعجزات، الزمن السحري، وأن كل ما يحدث لا يشغلنا؛ لأننا بفضل الله نحن الأقوى، وكل قوى السماء والأرض معنا، فليأتوا، وليستوطنوا، ولم يتم اتخاذ أي خطوة تفيد بعلمنا بما يحدث إلا بعد البداية الرسمية بأكثر من عشر سنوات، وعند قيام دولة إسرائيل لم تتم المعالجة بمنهجٍ علميٍّ واضح، لكن أيضًا بمنهج العنتريات الطائفي، فلا شك أننا نحن الغالبون لأننا جُند الله، لكن ما حدث كان انتصارًا ساحقًا على كل المستويات لتلك الأشتات وتلك الدولة الناشئة، ولا تزال تحقق كل يوم وجودها بين دول العالم.
…
فإذا كانت هناك مؤامرة في كل هذا، فمن هو المتآمر فعلًا وحقًّا وصدقًا؟
أما المؤامرة العلمانية، فهي ما يحتاج إلى قولٍ آخر، في حديثٍ آخر.