مرحبًا جارودي١
مثل هذا الهوس بجارودي له سابقةٌ أخرى أيام الملاكم الأمريكي محمد علي كلاي، هوس يشير إلى مرضٍ نفسي ينتشر انتشارًا وبائيًّا حادًّا بين أمة العربان، يمكن تعريفه بأنه «هستيريا النرجسية الجماعية المخصية».
والنرجسية كما تعلمون هي مرض حب الذات إلى حد المبالغة والتضخم والورم غير الحميد، فيعتقد المريض أنه إنما وُجد لتدور الأكوان من حوله، وأنه «خَيْر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»، بينما الواقع يجهر بتكذيب هذا التميز الواهم وينفيه، وهو ما يؤدي إلى سوء حالة المريض فتتعدد حالاته وتشتبك عُقده؛ لذلك نعاني من عقدة الاضطهاد، وأن العالمين جميعًا يتربصون بنا لأننا مسلمون فقط، وأن هبوطنا إلى مستوى دول من الدرجات الدنيا ليس إلا ناتج مؤامرةٍ كونيةٍ تاريخية يقودها حزب الشيطان منذ عبد الله بن سبأ والفتنة الكبرى، مرورًا بالصليبيين ثم الاستعمار الأوروبي، وانتهاءً بالكشف في تفاصيل المؤامرة عن تحالف العلم والمنهج العلمي مع المجتمعات الأوروبية؛ مما أدى إلى تقدُّمها وتخلُّفنا على كل المستويات، وأن علماء العالم وفلاسفته ما صاغوا علومهم وفلسفاتهم إلا كراهة في الإسلام وأهله، وحربًا عليه من ماركس إلى داروين إلى فرويد، حتى تجسد الشيطان الأكبر أخيرًا بنفسه في الأمريكان والإسرائيليين، لكن حزب الله إن شاء الله هم الغالبون، والسبيل إلى ذلك ليس بمتابعة العلم ومنهجه العلمي والمساهمة في الكشف والإبداع العالمي إنما بالعودة إلى السلف الصالح وكيف سلكوا فنصرهم الله وهم أذلة؛ ومن ثم قمنا بتقصير الجلابيب وإطلاق اللحى وكفرنا المفكرين ودعَّرنا الفنانين، بحسبان تلك هي الخطوات الضرورية لمجيء الملأ السماوي بقيادة الملاك جبريل على فرسه حيزوم، لينصر أمته بعد أن هبطت إلى قاع تراتب الأمم، وهان شأنها على العالمين، هذا دون أن نلقي نظرةً واحدة إلى داخلنا، وكيف نعيش وكيف نسلك وكيف نفكر، نحن لا نرى خروقنا وجهلنا ومنهجنا الواحدي الثابت المتخلف؛ لأننا نعتقد في كوننا أمةً مقدسة لا تخطئ، ولا شك أن ما يحدث لنا ليس لأننا نستحق ما وصلنا إليه، ولكن بسبب المؤامرة الكونية التاريخية! وهذا المنهج الملتبس بوباء النرجسية يدفع إلى الهروب من الواقع بالنفخ في الذات والعيش في حلم مدينة الإسلام الفاضلة المقبلة، التي ستُحرِّر بلاد المسلمين من هوانها وتخلُّفها ومن الاحتلال، لتحتلَّ هي بلاد الدنيا وتنفل خيراتها وتسبي نساءها (؟!).
وبين الحلم العنصري في السيادة واحتلال البلاد والسبي مع تسييد ثقافتنا المحنطة، وبين الواقع بكل مراراته نستعيد أمجاد العصور الخوالي، ونتنفس الخرافة ونمضغ الأسطورة، ونجتر العلامات اليتيمة للحريات والعدل الاجتماعي، في عبارات طنانة من قبيل: أصابت امرأة وأخطأ عمر، ولو عثرت دابة بالعراق … إلخ، وهي عبارات تعد على أصابع اليد الواحدة عبر تاريخ يمتد أكثر من أربعة عشر قرنًا، ولم تجد طريقها إلى إصلاح الواقع حتى في زمانها.
وينكشف خصاء نرجسيتنا أمام الدنيا ونحن نستقبل جارودي استقبال الفاتحين، فهو من سيرد عن أمته الإسلامية (؟!) الكيد الفكري الصهيوني الشيطاني بعلمه؛ لأننا في ظن أصحاب الاحتفالية لا نملك الإمكانات ولا القدرات العلمية والمنهجية الضرورية، وهكذا انفتح أمل العجزة بضم غير العجزة إلى حظيرة الإسلام.
ومع هذا النصر المؤزَّر والآيات الباهرات بإسلام جارودي، قرَّر الحمزة دعبس أن يدعو — بالمرة — كلينتون إلى الإسلام.
لقد وصل المرض قمته وأصبحت بلادنا مستشفى (طالباني) كبيرًا للأمراض النفسية المستعصية، فما الذي دعا دعبس إلى ذلك؟ الإجابة أن بلاد المسلمين بلاد تقبع في وراء مؤخرة الزمان، وأن كلينتون رئيس أقوى دولة في العالم، وأن كلينتون وأمريكا ينتصران لإسرائيل ويتعاملان مع المسلمين بكل غطرسة واستعلاء واقتدار، ولا حل إذن إلا على طريقة العثمانيين، أن يسلم كلينتون ونستسلم نحن لسيادته وسيادة بلاده، يعني يمكننا القبول باستعمارٍ كامل الأوصاف شرط أن يكون السادة مسلمين. لقد تدهور بنا الحال إلى موضعٍ أدنى من موضعنا زمن الحملة الفرنسية عندما رفض مشايخ الأزهر وجماهير الوطن الاستعمار الفرنسي رغم إعلان قادته إسلامهم، إن الوجه الآخر لدعوة دعبس كلينتون للإسلام هو اندماجنا الإرادي في أمةٍ عالمية سيدها مسلم يكون ونكون نحن ذيلها ومحل تجاربها العلمية.
لقد تحولنا إلى بشر كفُّوا عن التكيُّف مع المتغيرات، فلم يتطوروا، وأصبحوا حقبةً ساكنةً حفرية بين الإنسان الواقف على قدمَين، وبين الإنسان المتحضر؛ لذلك نطلب اللحاق بالسادة شرط أن يكونوا مسلمين، وهي دعوة لم يدعُ بها إخوتنا الأقباط شركاءهم في المسيحية في البلاد القوية المقتدرة، رغم ما يعانون منذ أيام الأنبا بنيامين والعرب الفاتحين حتى اليوم، أبدًا لم يفعلها الأقباط، ويفعلها دعاة الإسلام الآن؟!
ولأن جارودي يجهد نفسه في العلم وأصوله، ولأن فصيل رجال الدين المحترفين منهم والهواة، لا يملك من زاد هذا العلم شيئًا ولو يسيرًا، ولم يقدموا ما قدَّم جارودي من تفنيدٍ علميٍّ رصين للادعاءات الصهيونية والأساطير الإسرائيلية، فقد تساهل أهل شئون التقديس مع جارودي في انتهازية ومطاطية لا تليق في أمور الدين، ولم يستمعوا إلى الشهيد «فرج فودة» وهو يجأر لهم بالنداء: «اختبروه بالختان.» لتمحيص إسلام الرجل، لأن الختان شعيرةٌ حنفيةٌ فارقة لأهل القبلة، وقد يبدو تساهل وعَّاظنا مع قضية ختان جارودي موقفًا تقدميًّا متساهلًا، لولا أنهم ذاتهم من أدانوا تاريخيًّا بولس الرسول تلميذ المسيح لأنه أباح عدم الختان للراغبين في دخول المسيحية.
ومن المناسب التذكير هنا أن جارودي لم يلتفت إلى هذا التنازل الكريم والرشوة الفصيحة، وظن أن علمه سيُغنيه؛ فتصرف برعونة العلماء وغرور المفكرين، فقام يهاجم جمود الإسلام والمسلمين ومشايخهم العناتر وعنصريتهم وأساطيرهم، متصوِّرًا — سامحه الله وعفا عنه — أن بإمكانه تحت راية الإسلام أن يُفكِّر بحرية وأن يبدع دون قيود وتحريمات، كما هو معتاد في بلاد الإفرنج الفرنسيس، غير مدرك أن ما يفعله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وأن عليه أن يخلع كل أثوابه القديمة بما فيها عقله ورأيه وأفكاره الملوثة بالديمقراطية والليبرالية والعلمنة وحقوق الإنسان وما إلى ذلك من بدع الغرب الكافر.
ولم يزل الصدى يردد أصوات مشايخ الإسلام بتكفير جارودي بالأمس القريب واتهامه بالردة عن الإسلام، لكن مع الضعف والهوان أمام الدولة الإسرائيلية، ومع ظهور كتاب جارودي الأخير عن الأساطير الصهيونية، تم الصفح عن جارودي وإعادته مرةً أخرى إلى حظيرة المسلمين، وقامت هيئات الدولة الثقافية نفسها باستضافته في احتفاليةٍ رسمية، يقودها مفكرو الدولة ورجالها المسئولون عن التثقيف العام.
نحن نفهم سر حفاوة الوعاظ بجارودي؛ نظرًا لضعفهم الكامل عن أي مواجهةٍ فكرية مع الصهاينة، لكن غير المفهوم أن يحتفي به معرض الكتاب الدولي وهيئة قصور الثقافة والهيئة المصرية العامة للكتاب، وصحفنا القومية، والمعارضة على السواء! ولو كانت هذه الحفاوة التكريمية بالرجل لأنه يتعرض للاضطهاد بسبب رأيه وفكره وعقيدته، فهو موقفٌ كريم مشكور راقٍ وعظيم ونبيل وواجب، لكن هل كان ذلك هو سر الاحتفاليات المقامة على شرف جارودي حقًّا؟
إذا كان هذا الفرض صحيحًا، فأين كانت كل تلك الأجهزة التثقيفية المباركة عندما تم اضطهاد حسين أحمد أمين دون احتفالية تأييد واحدة؟ وأين كانت أصواتهم المحتجة عندما تم اغتيال الشهيد فرج فودة؟ وأين كانت مؤتمراتهم في أزمة نصر حامد أبو زيد؟ وفي أي جحور كانوا يختفون عندما اضطهد حسن حنفي ولم يزل، وأين هم الآن من محاكمة خليل عبد الكريم؟
الكارثة أنهم ليس فقط لم يكترثوا لهؤلاء، بل شارك بعضهم من مثقفي الدولة في مذبحة الرأي ضدهم؛ وعليه فإن افتراض سبب الاحتفالية باضطهاد جارودي لرأيه لا يفسر الاحتفاليات الكبرى به، لأنهم لو كانوا يحتفون به دفاعًا عن حقه في إعلان رأيه وما يعتقد، لكانوا فعلوها مع أبناء الوطن وهم الأولى بالتضامن «منهم من صودرت كتبه، ومنهم من حوكم، ومنهم من سُجن، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر.»
إذن السبب أن جارودي ينتقد أساطير الصهاينة نقدًا علميًّا بينما يقعدهم المنهج الحجري الثابت عن إتيان مثله!
إن هذا الفرض يسقط بدوره فورًا، لأن لدينا مفكرين كبارًا لا يقلِّون شأنًا في تناول الشئون الإسرائيلية بالنقد والتحليل وهم والحمد لله كثيرون، ومع ذلك لم يحتفِ بهم أحد، بل إن الأكثرية الساحقة لم تسمع بواحد منهم كما سمعت بجارودي، بل إن الفضيحة في أن من يقفون اليوم إلى جانب جارودي الذي فضح أساطير الصهاينة، هم أنفسهم من طالبوا بمحاكمة كاتب هذه السطور في كتاب كان مشغولًا بفضح أساطير الصهاينة بدوره «السبب هو التباس الأساطير الصهيونية بمأثوراتٍ إسلامية تُعدُّ مناطقها من المحرمات.» أي أنهم حاكموا كاتب هذه السطور لذات الأسباب التي وقفوا بموجبها إلى جوار جارودي، فهل هناك فصام أفصح من ذلك؟
إذن يسقط هذا الفرض لتفسير الاحتفاليات الجارودية بدوره، لنتساءل باحثين عن فرضٍ آخر: هل السبب أن الرجل خواجة؟ وللخواجة في تاريخنا عقدة ودلالات ومغزًى وقيمة لأنه رمز التفوق، ذلك التفوق الذي نحترمه في دواخلنا عندما نستخدم كل منتجه التقني، ونحتقره في العلن بحجة أنه حضارةٌ مادية أهملت الروح؛ لذلك نكرهه أيضًا، وجارودي فرز التفوق الغربي، نكره تفوقه عندما ينقد مناهجنا الحفرية وعقليتنا الأسطورية، لكنا نحبه ونحترمه عندما يفعل ذات الفعل مع الصهاينة الخواجات مثله! لكن هذا الفرض يسقط بدوره ولا تكفي عقدة الخواجة لتفسير الاحتفاليات الكبرى، والسبب أننا لم نحتف بخواجة آخر كان أشد اقتدارًا من جارودي على المستوى النضالي والحركي، وقدَّم بدل العمل الواحد عشرات الأعمال في نقد الصهيونية وتنفيد مزاعمها ومن بعض عناوين تلك الأعمال «الصهيونية في النظرية والتطبيق، الفاشية في ظل النجمة السداسية، التخريب الفكري الصهيوني، الفلسطينيون شعب لا يقهر، فلسطين في شراك الصهيونية … إلخ.»
كان هذا هو الفيلسوف الروسي «يفجيني يفسييف» الذي اضطُهد بسبب آرائه ونُكِّل به حتى لم يبقَ سوى تصفيته جسديًّا، وهو ما قامت به سيارةٌ سوداء في منتصف الليل أمام بيته، فعجنت لحمه بعظمه عدة مرات، وفي ٢٠ / ٢ / ١٩٩٠م شيع جثمانه عشرات الألوف، وتحولت جنازته إلى مهرجانٍ سياسي يُندِّد بالصهيونية، فهل سمع المحتفون من مثقفي الدولة الأماثل عن «يفجيني يفسييف»؟ لقد كان خواجة أيضًا لكنه لم يكن مسلمًا، لقد كان شيوعيًّا! لذلك لا يعرفه أحد في بلادنا.
وعليه لم يبقَ سوى سببٍ واحد يُفسِّر احتفالات منابر التثقيف الرسمي بروجيه جارودي وهو أن جارودي كان من أتباع الصليب ثم أصبح من أتباع المصحف والسيف.
لهذا فقط يحتفي بك العربان يا جارودي، ولا نظنك ترضى بالنزول إلى هذا الدرك، نعم مرحبًا بك ضيفًا عزيزًا، ومعك فكرنا وضمائرنا وأقلامنا دفاعًا عن حقك في إبداء ما تعتقد، لكنا أبدًا لسنا معك لمجرد أنك مسلم، فهذا درك لا نرضاه لأنفسنا، لأنه العنصرية ذاتها.