جنود الله والإفراط في التقديس١
لم تزل دولتنا الرشيدة تضع الأزهر في مقام أعلى هيئةٍ رقابية، ليس فقط على الرأي أو الفن أو الفكرة، لكن أيضًا على العقيدة باعتباره حارسًا لها، والعقيدة محلها القلب والضمير؛ لذلك أصبح من مهام رجال الأزهر التفتيش على مكنون الضمائر، ومع الضعف والرخاوة في الأداء المدني لمؤسسات الدولة، أمكن للأزهر أن يصبح سلطة؛ احتل بموجبها رجال الأزهر موقع الصدارة والوجاهة الاجتماعية، حتى قاموا يُملون على الدولة ودستورها شروطهم الأيديولوجية، ويصادرون الكتب والفنون والعلوم حسب تفسيرهم الخاص لنصوص الدين، حتى غطَّى المقدس كافة التفاصيل الدقيقة لحياتنا، وهكذا لم تعد الأصولية اصطلاحًا قاصرًا على أصحاب منهج الإرهاب المسلح، كما هو شائع؛ لأن أصحاب شئون التقديس الرسمي حليف السلطة، يكشفون كل يوم عن أصوليةٍ أشد تمسكًا بحرفية النص، بل والسعي إلى تطبيقها على الواقع بشموليةٍ جامدة لا تراعي المستجدات ومتغيرات الزمن، وبغرض إخضاع حاضرنا لمرجعيةٍ نصيةٍ إطلاقيةٍ حرفية واستخدامها كمعيار للسلوك وللتشريع وللحكم، مع رفض كل ما يخالف تلك الرؤية، لتحويل مؤسسة الدين إلى جهاز سلطة سياسي، يحمل أهل التقديس فوق رقاب العباد، ليصبحوا هم ومصالحهم في صيانة من عليين، والإيعاز المستمر بأنهم تحت سلطان الله مباشرةً فهم الوكلاء عنه والقائمون على حراسة دينه وتنفيذ شريعته، ومن ثم تصبح قراراتهم مبنية على أسسٍ مقدسة، تصاغ في أقوالٍ مقدسة، وتصدر عن شخوصٍ مقدسة.
هكذا تم في بلادنا منح رجال التقديس وحدهم دون بقية الأمة حق الكلام في العقيدة وباسمها، كما لو كان بقية الناس في هذا الوطن معتوهين ومعوَّقين بالكامل، بل وأصبح هؤلاء الأزاهرة — دون مبررٍ واضح — هم ضمير الأمة، وإبان إحكام تلك الحلقة السيادية المقدسة تم مزج مفهوم الدين بمفهوم الوطن، بحيث أصبح الحديث بما يخالف قواعدهم خروجًا على الأمة وخيانة للوطن، بل ومع مرور بعض الوقت غاب الوطن وأصبح الدين هو الوطن، حتى رفع المواطنون السلاح في وجه وطنهم باسم الدين.
ومع الوهم، وإشاعة الوهم، بامتلاك هؤلاء للحقيقة الكاملة المطلقة المقدسة، وأن ما دونهم ودونها باطلٌ كاملٌ مطلق، ومع السيادة التي حققتها لهم تراجعات الموقف الرسمي للدولة وضعفه، أصبحوا أسماء لوامع، وهو الوضع الذي جعلهم يشعرون بشعور أصحاب المناصب السيادية، وبالاستعلاء على الناس؛ لأن الناس أقل منهم درجة في الإيمان، فأين الناس من حراس الشريعة الكبار؟ ومن هنا ساغ لهم تصور أنفسهم وصاة على العباد، وأن عليهم واجب ردِّ الناس للمنهج القويم الذي هو منهجهم وحدهم.
ومن جانبها قدمت لهم الدولة كل المساحات الممكنة، وتخلَّت عن دورها التثقيفي المدني في إعلامها وتعليمها، وقررت أن تقوم بدور المهرج على مسرح تسلية المواطنين، وتركت العقل الجمعي فراغًا بلقعًا من أي فكر أو ثقافة أو علم أو حتى انتماء وطني، وتركت مهمة التثقيف كاملة لأهل التقديس بعد أن حوَّلتهم إلى أعلامٍ مشاهير، وباتت البرامج الدينية تُبثُّ تحت عنوان وضمن جداول البرامج الثقافية، وتحوَّلت أفلام الغرب العلمية المصنعة أصلًا لتكوين عقلٍ علمي في التفكير، إلى الدعاية للمنظومة الدينية وتفريغها من هدفها العلمي لصالح الغيب، وبعدها أصبحت أي معرفةٍ ممكنة في بلادنا لا تخرج عن المقدس الذي لم يُفرِّط في شيء.
لكن أهل التقديس أفادونا علمًا نافعًا في واحدة من مشاهير أقوالهم، وهي أن السحر غالبًا ما ينقلب على الساحر، بعد أن نبتت لهم أنياب صاحبتها شهوة الدم فقاموا بعد تكفير المفكرين والمبدعين بتكفير بعضهم بعضًا، من تكفير الشيخ يوسف البدري للشيخ عبد الصبور شاهين، إلى تكفير شيخ مشايخ الطرق التكفيرية وزعيم الجبهة المنحلَّة الشيخ إسماعيل حبلوش، لزميلته الأزهرية الدكتورة آمنة نصير عميدة كلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، بمصاحبة عزف تكفيري مساند من الدكتور عبد العظيم المطعني.
وقد شبَّت هذه الهجمة التكفيرية الجديدة لأن الدكتورة آمنة طعنت في صدق حديث البخاري «المرأة ناقصة عقل ودين.» لتَعارضه برأيها مع القرآن الكريم، ولأنه لا يتفق عقلًا مع زمن أصبحت فيه المرأة وزيرة ورئيسة وزراء وأستاذة في الجامعة.
وكعادتها الدءوب، أفردت صحيفة الشعب المتأسلمة صفحاتها للعازفين فوق حرائق الوطن، حيث نعى حبلوش على زميلته العميدة عدم علميتها، بل وزعم الكشف عن ضميرها وطويته ضد الإسلام، وذلك في قوله بتاريخ ٢٣ / ٣ / ١٩٩٩م بالصحيفة المذكورة: «من المسلَّمات الفقهية التي قام عليها البنيان الأزهري (العلمي) واستقامت عليه سيرته (المباركة) أنه ما على الأرض كتاب بعد كتاب الله تعالى أصح من صحيح البخاري، وقد اقتضت الأمانة على جميع مستوياتها ممن ولي ويلي في الأزهر الشريف منصبًا، أن يرعى حق هذه القاعدة التي تمثل ركنًا من أركانه، أو يريح المنصب من آفات نفسه ولسانه؛ ولهذا كان من أوائل ما يُلقَّن أبناء الأزهر من المعارف، قول زهير بن أبي سلمى:
هكذا قام الشيخ حبلوش بالكشف عن خليقة الدكتورة آمنة ليعلنها على الناس ليعلموها، والتي خالتها تخفى عليهم، فأي عبقرية، وأي كراهية يحملها هذا الرجل لمن يخالفه الرأي؟ وأي علمية يزعمها وهو يتحدث عن البنيان الأزهري العلمي المبروك معًا (؟!) إن قوله يكشف عن فهم هؤلاء السادة (العلماء) لمعنى العلمية؟ خاصة وأن العلم يصرُّ على قواعد لا يتنازل عنها للوصول إلى نتائجَ صحيحة، فحسب الدقة العلمية المشروطة في المنهج العلمي، لن تتمكن من قياس حجم هذه البركة، ومدى زيادتها أو نقصها وما دخلها من تغيرات نتيجة مرور أكثر من ألف سنة على إنشاء الأزهر، وكمية هذه البركة، وهل توزن بالكيلوجرام مثلًا، أم يجب أن تُقاس بالكيلومتر؟!
إن البركة أمر والعلم شأنٌ آخر، فتلك لغة لا يعرفها العلم، لكن حبلوش الذي جمع نواصي العلم يلقي كلامه إلقاءً من منطق الشعور الوهمي بالإحاطة الكاملة بالعلم وقواعده، فقط للاشيء، إلا أنه يعلم المقدس (؟!)، بل ويصاحب هذا الشعور بالعلم الكامل التعالي على علوم البشر الدنيا، ومن ثم الإحساس بالتفوق والاستعلاء، حتى لو ازداد العلم بركة باجتهاداته، أو لو ازداد أصحاب البركة علمًا بفعل البركة، وليس بفعل المتابعة والمعرفة، فالعلم عندهم علمٌ مبروك يخرج من لدنهم فقط، ودون ذلك ليس علمًا لأنه البشري الأدنى.
وهكذا رأى الدكتور حبلوش أن حديث العميدة «يفيض عدوانًا على المُسلَّمات الأزهرية، من حديث، وفقه، بل واعتداء على أئمته وعلمائه، فقد سوَّلت لها نفسها أن ترى حديثًا من أحاديث الرسول ﷺ الصحيحة، بل ومن أعلى درجات الصحة، بأنه موضوع.»
لنقف مع هذا الكلام الكبير نحاول أن نفهم، الرجل يرى أن الطعن في صحة حديث «المرأة ناقصة عقل ودين.» اعتداء على المسلَّمات الأزهرية، لكنه لم يشرح مدى قدسية هذه المسلَّمات الأزهرية؟ وهل تم الوصول إلى وضع هذه المسلَّمات بمنطق البركة، ولأن رجال الأزهر رجالٌ مبروكون؟ أم أنها وضعت بوحيٍ إلهي يستوجب القدسية وعدم المناقشة؟ ولماذا هي مسلماتٌ أصلًا؟ هل لأنها أزهرية (؟!)، ثم ما هي بالضبط حدود عصمة أهل شئون التقديس الأزاهرة؟ وما هو مصدر قدسيتهم لتكون مُسلَّماتهم معصومة؟
الرجل لم يسأل نفسه هذه الأسئلة قط، وإلا لما قال ما قال؛ فقد بات موقنًا من قدسية ما يقول، مع آخرين رأوا أنفسهم أعلى شأنًا أو توهموا أنهم قد أصبحوا أوصياء على أرواح الآخرين وعقولهم، وأن لهم وحدهم كل مفاتيح العلم وخزائنه. إن مجرد رفع السيدة الدكتورة لصوتها الحرام بالتشكيك في حديث ذكره البخاري يكون قد نال من أئمة الأزهر وعلمائه انطلاقًا من اعتقادهم أنهم حرَّاس الدين، أو كما لو كانوا هم أصحاب الحديث وقائليه، إنها سمة الفاشيست على أنواعهم، التوحيد والمزج بين المقدس وأصحابه، وما زلت أذكر لقاءً لي على شبكة تلفزيون «أوربت» بيني وبين الشيخ يوسف البدري، سألته عن دوافعه الشديدة وراء تكفير المفكِّرين والفنانين وهوايته في رفع قضايا الحسبة، فكان رده: «أنا جندي من جنود الله.» هكذا أصبحوا يتصوَّرون أنفسهم، رغم أن الشيخ يوسف لم يقدِّم أية أدلة على تعيين الله له بهذه الوظيفة، فلا توكيل لديه، ولا توظيف بأية أوراقٍ رسميةٍ ثبوتيةٍ واضحة، ولأن الشيخ حبلوش جندي من جنود الله بدوره فقد طلب محاكمةً عاجلة للدكتورة آمنة؛ لقولها: «هل يعقل أن يقال مثل هذا الكلام في وقت أصبحت فيه المرأة رئيسة للوزراء ووزيرة وأستاذة جامعة؟» وجاء طلبه هذا في قوله: «إن هذا المعيار منها يستوجب من القائمين على الأزهر المساءلة العاجلة؛ إذ جعلت المرأة من الزمان وما يجري به مقياسًا للقبول والرد للأدلة الشرعية؛ ومقتضى هذا الاختيار أن على الشرع أن يتغير إذا تغير الزمان.»
وهكذا رأى السيد الدكتور أن الشرع لا يتغير بتغير الزمان، ومن قال بوجوب تغيره بتغير الزمان يستحق التكفير والمحاكمة العاجلة، خاصةً وأن هذا الزمن الذي نعيشه لا يصلح معيارًا (!) لماذا (؟) لأنه كما يقول: «زمان كلينتون ومونيكا، وديانا ودودي أيضًا.»
أبدًا لم ينتبه الرجل إلى أن متغيرات الواقع (زمن) الدعوة وحده، وهو لا يزيد عن ٢٣ عامًا فقط، قد أدت إلى تغير واضح في التشريعات والتوجهات والأوامر والنواهي؛ فأحكام الميراث تغيرت ثلاث مرات، وأحكام حد الزنى تبدَّلت بدورها ثلاث مرات، وتغيرت وجهة القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المكية، وأُلغي صيام وفُرض صيام. وازدحم تاريخ الدعوة بمتغيراتٍ سريعة في الواقع واكبها نسخ وتبديل ورفع وإنساء في أبوابٍ طوالٍ من أبواب النسخ في علوم القرآن.
أبدًا لم يرَ الرجل فقيهًا كالشافعي ينتقل فقط عبر المكان وليس الزمان، من العراق إلى مصر، فيرى مجتمعًا مباينًا، والمصالح فيه تختلف عن المصالح في العراق؛ فيغير في فهمه وفي فتاواه، وإذا كان الشيخ حبلوش وحده على صواب، فهل يجب وفق هذا المنطق محاكمة الخليفة عمر لإيقافه تطبيق حد السرقة؛ لتغير أحوال الزمن في عام الرمادة، ولإلغائه فريضة فرضها الله في قرآن يُتلى وجعلها حقًّا على المسلمين هي فريضة المؤلفة قلوبهم، بعد تغير أحوال الواقع بتغير الزمان، حيث لم تعد هناك حاجة لشراء إيمان الجاحدين بالإسلام.
أبدًا لم يرَ الشيخ الدكتور سوى الثبات المطلق حتى لو تغير الزمان بالكلية عبر أكثر من أربعة عشر قرنًا! كلا! ولا يبدو أن هذا العالِم الأزهري يعترف بالقاعدة الفقهية التي تقول إن العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا، وهو الوجود والعدم الذي تفرضه متغيرات الزمان والمكان، فقط كل حجة الرجل لإسقاط معيار الزمان والتغير، أن زمننا معيار رديء غير صالح للقياس، لأنه زمن كلينتون ومونيكا، وهنا الجريمة؛ فهل يصح قياس حديثٍ نبوي من الزمن الجليل بزمننا الرديء؟ إن زماننا هذا نفسه بكامله، بنُظمه وحضارته، مرفوض منكور بكل إنجازاته العظيمة وكشوفه واختراعاته الكبرى من أجل كرامة الإنسان، فقط لأنه فيه رجلًا أقام علاقة غير شرعية بامرأة، ولعلنا لم نزل نذكر تكفير الإرهابي شكري مصطفى والمدارس الدموية التي تبعته للمجتمع كله وللزمان، ووصفه بزمن الجاهلية، تأسيسًا على المعايير الأخلاقية وحدها.
ترى هل يدرك الشيخ أن القيم الأخلاقية قيمٌ معيارية، أي متغيرة، تتغير بتغير المجتمعات، بتغير المكان، بتغير الزمان، وحسب الظروف البيئية والأوضاع الاقتصادية والأشكال السياسية، وأن قياس إنجازات زمن على زمنٍ آخر لا تكون على مستوى القيم الأخلاقية، إنما بقدر ما حقق من تحضُّر وقوة وعدالة وحريات وعلوم وكشوف وتقدُّم للبشرية، ولا شك أن الإنسان قد حقَّق في زماننا قفزةً نوعيةً كبرى في مجال الترقي والتسامي، وهو بكل المقاييس المعيار الأمثل لأي قياس، ولا يعيبه ولا يُدنِّسه ولا تبخسه العلاقة الشخصية الحرة في بلاد الغرب. لقد كان من أخلاقيات الكرم أن يذبح البدوي فرسه العزيز لضيفٍ أعز، وكانت بولونزيا أشد مبالغة، فكان المضيف يقدم لضيفه أجمل زوجاته وأقربهن إلى نفسه، ويعتبر من رضاها عن قدرة الضيف على العشق، دليلًا على تقدير الضيف للكرم ولذوق مضيفه، وعندما دخلت المسيحية تلك الجزر وانتشرت فيها قضت على هذه الضيافة المتطرفة والجانحة نحو المبالغة الأخلاقية في الكرم. هكذا القيم، معيارية، تختلف بمختلف المجتمعات والأزمنة، ولا علاقة لها بتقدُّم أو تأخر؛ فالقيم محايدة في الغالب، بل هي ذلك المحايد غير الفاعل غير الإيجابي، بل والسلبي الذي يتأثر دومًا بكل المتغيرات حوله؛ لذلك تتغير بسرعة في بلاد الغرب وتثبت في بلادنا؛ لأننا لا نخترع، لا نبدع، لا نكتشف، ثابتون في مواقعنا وعلى مبادئنا؛ لذلك تظل المعايير الأخلاقية في بلادنا ثابتة غير قابلة للتغير، أما في بلادهم فالمتغير قد أصبح هو المعتاد؛ نظرًا للتسارع الهائل في الكشوف والإبداعات والذي يتراكم يوميًّا، وكان لا بد أن يؤثر في بنية المجتمع وفي قيمه لضمان حرياتٍ فردانيةٍ كاملة، وفق القانون الليبرالي الاقتصادي «دعه يعمل، دعه يمر».
وهكذا أيضًا لا تنتقل القيم الأخلاقية على نطاقٍ واسع من مجتمع لآخر إلا إذا كان المجتمع الآخر مهيأً لقبول تلك القيم في بنيته التحتية، ونحن — والحمد لله — مبرءون من هذا النقص، ولا نخشى قبول مجتمعنا لأخلاق الغرب؛ لأننا لم نقبل بعدُ البنية التحتية التي أفرزت تلك الأخلاق.
ثم هل يدرك جنود الله هؤلاء أن المنهج الذي يعتمده الغرب في التفكير هو سر تفوق هذا الغرب، وأن العمد الأساس لهذا المنهج هي مبادئ الحريات المدنية، وأنه لولا تلك المبادئ لما عرف أحد عن كلينتون شيئًا، ولا كنا عرفنا نحن في شرقنا الذي يعيش كل التشوهات النفسية والأنانية وكل اللاأخلاقيات المستورة وراء الأبواب المغلقة والشعارات الزائفة، لولا مبادئهم تلك ما عرفنا شيئًا عن الحياة الخاصة لرئيس أكبر دولة في العالم. إنها الليبرالية يا شيخ حبلوش بإيجابياتها وسلبياتها، إنها المبادئ التي جعلت الشيخ حبلوش يدرس ويعلم بما يحدث عندهم وهو ليس منهم، وليس مشاركًا لهم في صنع مجتمعهم وليبراليتهم، ويقوم بإصدار الإدانات ضدهم وضد الزمن. إن شعب أمريكا قد حاسب رئيسه للكذب عليه، أما الشيخ حبلوش فلا يرى في الموضوع كله سوى الفعل الجنسي؛ لذلك يتطوع بإدانته وإدانة الزمن كله رغم أنه لا يملك حق تلك الإدانة، فأصحاب الحق هم الأمريكيون وحدهم الذين بيدهم يصنعون مصيرهم، ونحن نعيش هنا في غابات النفاق وأحراش الزيف والكذب على الناس وعلى الذات، نعيش زمنًا تجاوزته الدنيا باختراعاتها، بينما اخترعنا نحن لأنفسنا قرونًا وسطى جديدة غادرتها الدنيا إلى دنيا أخرى، دنيا الشفافية والوضوح والمحاسبة وسيادة القانون.
ومن الواجب هنا أن نتساءل: هل تكفير الدكتور حبلوش للدكتورة آمنة ووصفه لها ﺑ «المرأة العميدة»، وأن كلامها لا يصلح لغير المطابخ لأنها مغرمة ﺑ «السيستم الغربي» أي بمناهج الغرب، هل يتسم هذا التكفير وتلك اللغة بوضوح ذلك «السيستم الغربي» الذي أنَّب السيدة الدكتورة عليه أشد التأنيب؟ وهل يتسم بتلك الشفافية، الواضح لدينا أنه فقط قد هاجمها من منطق المصالح الذكورية وحدها، والحرص على الجمود، والتحذير والإنذار بعدم الاقتراب من مناطقهم السيادية، فلا صواب إلا صوابهم في مناطق حدَّدوها لأنفسهم حرامًا على غيرهم، واتخاذ الدين مجرد تكئة باحتسابه المرجعية الواضحة لكفرانها، رغم أن الدين كما سنرى الآن وفي الحلقة القادمة، لا يدعمه في موقفه هذا بالمرة.
وأيهما يضرب القيم في مقتل: ذلك الذي جعل الحريات نبراسًا، أم هذا الذي يستثمر الدين لضرب كل الحريات، مع تزييف مراد الدين ذاته للوصول إلى هدفه التكفيري؟ حتى يكون له وفريقه وحدهم السلطان على عقول الناس وأرواحهم.
هنا نستأنس برأي الدكتور عبد العظيم المطعني في الشعب (٢٦ / ٣ / ١٩٩٩م) الذي عزَّ عليه أن يترك مسرح التكفير لحبلوش يعزف عليه منفردًا، فقام يكرر تقريبًا توزيع ذات المعزوفة قائلًا: «إن جوابها اشتمل على أمرين: الطعن في الحديث الصحيح بأنه موضوع، والثاني الاستشهاد على وضع الحديث نفسه بأحوال النساء في هذا العصر! والحديث الصحيح الذي حكمت عليه بالوضع لم يخالف القرآن قط، فقد وصف القرآن النساء بوصفَين في سورة الزخرف، ففي الآية ١٨ من السورة المشار إليها جاء قوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ أي يتربى في الزينة والنعمة؛ ليس عنده بيان ولا يأتي ببرهان؛ وذلك لضعف عقولهن عن فطرة الرجال. إن المراد يا سيادة العميدة من الحديث هروب عقول النساء لحظات الانفعال الحاد وحلول مشاعرهن الرقيقة الناعمة محل عقولهن.»
لكن العبارة الأخيرة للدكتور المطعني تُبرز خلافًا واضحًا بينه وبين الدكتور حبلوش، والخلاف ليس حول تكفير العميدة من عدمه فهنا اتفاق أيديولوجي بالضرورة، لكن الاختلاف جاء حول المعيار المقدَّس للتكفير والذي يعتمده كلاهما؛ فتفسير الحديث بالمشاعر الأنثوية المؤدية لذهاب العقل عند النساء لا يجد صدًى عند الدكتور حبلوش؛ لذلك أورد الحديث الذي أخرجه الشيخان مالك والترمذي، والذي يؤكد أن المرأة ناقصة عقل ودين بقرار ديني يجعل شهادتها نصف شهادة الرجل، ولأسباب فسيولوجية كالحيض، وهو ما جاء عن أبي سعيد الخدري عن الرسول ﷺ يقول: «ما رأيت من نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ، أذهب للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن، قلن وَمَا نُقْصَانُ ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها.»
هنا يوضح الدكتور المطعني أدلته ضد السيدة العميدة بقوله: «إن الحديث الذي اجترأت العميدة الفاضلة على الحكم عليه بالوضع، ليس من أحاديث الآحاد التي عرض لها العلماء من أمثال الدارقطني والدمشقي والغساني، وأين نحن من هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين لم يجُد الزمان بمثلهم في الموهبة والإخلاص وسعة العلم؟»
وهكذا تمت إضافة شخوصٍ مقدسة جديدة إلى ساحة المقدس، فمع مشايخ الأزهر وأئمته المقدسين، أصبح لدينا الدارقطني مقدسًا، والدمشقي مقدسًا، والغساني مقدسًا، وقد تربَّعوا على كرسي القداسة فقط لأن الزمن لم يجُد ولن يجود بمثلهم أبدًا (؟!).
لقد دعمت السيدة رأيها في وضع الحديث من الوضاعين، بتذكيرنا بمدى حجية السنة القولية/الحديث، بأن الإمام البخاري كان يحفظ ٦٠٠٠٠٠ حديث لم يصحَّ عنده منها إلا ٤٠٠٠؛ مما يشكِّك في مدى قدسية الحديث كله كمرجعيةٍ إسلامية، ومن هنا عقب الدكتور المطعني بقوله: «يريدون بهذا أن يقولوا إن السنة جُمعت جمعًا عشوائيًّا، وقد جهلوا جميعًا أن قلة ما أثبته الإمام البخاري في صحيحه بالنسبة لما كان حفظه ليس معناه عدم صحة ما كان يحفظه، بل هو يرجع إلى منهج الإمام البخاري ومثله الإمام مسلم في تدوين الحديث، فالبخاري كان يدوِّن كل يوم حديثَين فقط، ولا يدونهما إلا بعد أن يصلي ركعتَين ثم يستخير الله في تدوينهما، فإن شرح الله صدره دونهما وإلا فلا. وكيف ساغ لعميدة الدراسات الإسلامية أن يرِد في وهمها أن الصحاح والمجامع والمسانيد من كتب السُّنة تحتوي على باطلٍ مكذوب عن رسول الله، وهي نبراس حياة الأمة مع القرآن طوال ١٤ قرنًا، أكانت الأمة حقًّا ضالة هذا الضلال المبين إلى هذه الساعة؟»
لقد وضع الدكتور المطعني السؤال وأجاب عليه إجابةً مبينة توضح لنا كيف يفكر أهل شئون التقديس في بلادنا، فهو يدَّعي أن كل الأحاديث التي دوَّنها البخاري والتي لم يدوِّنها صحيحة جميعًا، وذلك لتكريس قدسية السنة القولية جميعًا، ومن ثم قدسية قائلها وكل ما قال أو فعل، قدسية تربط البشري فيه بالإلهي، بحيث كان النبي ﷺ وفق هذا الفهم مجرد أداة سلبية ساكنة تمامًا بيد الله، وكل ما صدر عنه إن إلا هو وحي يوحى.
فإذا كان ذلك مبدأً فكيف جاز للمطعني وحبلوش التساهل مع الإمام البخاري وهو يلقي ﺑ ٥٩٦٠٠٠ حديث في المجهول، بينما يكفرون السيدة العميدة إزاء إنكارها لحديثٍ واحد فقط لا غير؟!
مناط احتجاج المطعني أن من يتشكَّكون نتيجة فارق النسبة الهائل بين المدوَّن والمجموع من أحاديث، هو أنهم يريدون القول إن السُّنة قد جُمعت جمعًا عشوائيًّا، بينما هي لا تحوي باطلًا ولا كذبًا؛ لأنها كانت نبراس حياة الأمة طوال ١٤ قرنًا! فالدكتور يرفض أي مراجعة خوف اكتشاف خطأ الأمة طوال تلك القرون، وليس بمراجعة الأخطاء أينما وجدت حتى يمكن تجاوز الخطأ إلى الصواب، ويجعل إجماع الأمة طوال تلك القرون دلالة صدق مطلق؛ لذلك لا يمكن أن يكون جمع الحديث قد تمَّ عشوائيًّا، لماذا؟ لأننا من جهلنا (؟!) لم نكن نعلم أن البخاري كان يصلي ركعتَين أولًا لله، ثم يستخير الله، وحسب ظروفه النفسية والمزاجية (إن شرح الله صدره) يقوم بتدوين ما انشرح له ويستبعد الباقي، فهل يمكن أن يشرح لنا الدكتور المطعني معنى العشوائية لديه؟ إنها عقلية البركة والتقديس المفرط مرةً أخرى، فالبخاري كان رجلًا مبروكًا يمكنه أن ينوب عن الأمة جميعًا وببعض الطقوس المباركة يستبعد أحاديث ويُبقي أخرى، وذلك بالاستخارة (؟!) وهنا نكرر سؤال المطعني: «أكانت الأمة حقًّا ضالة هذا الضلال المبين إلى هذه الساعة؟»
ولو كان ما قال النبي أو صدر عنه من أفعال وحيًا من السماء فماذا عن حادثة تأبير النخل ونهي النبي عن التأبير؛ مما أدى إلى فساد المحصول، وتعقيبه ﷺ بالقول: «أَنْتُمْ أدرى بشئون دُنْيَاكُمْ.» وكيف تصرَّف النبي مع الأعمى الذي جاءه لعله يزكَّى أو يذَّكَّر، فنبَّهه الله ووجَّه له اللوم على تصرفه، فهل كان النبي هنا يتصرف من نفسه كإنسان أم بوحي من الله؟ وإذا كان بوحي من الله، فهل كان الله يناقض نفسه في الموقفين؟ لقد كان قول النبي: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بشئون دُنْيَاكُمْ.» اعتذارًا مهذَّبًا بأدبٍ نبوي عن خطأٍ بشري ارتكبه بنهيه عن تأبير النخل وفساد المحصول على أصحابه، بكلامٍ بشري لا عصمة فيه عن الخطأ والسهو والنسيان؛ لأن محمدًا كان إنسانًا لا إلهًا.
والمعلوم أن علم الحديث نفسه (بما فيه من الجرح والتعديل) قد تأسس حول اختلاف علماء الإسلام وتنازعهم حول مدى صحة الحديث، والمعلوم أن علماء الحديث هم من أعطوا مقام النبوة درجة الشفاعة، إمعانًا وإفراطًا في تقديس النبي بتقديس كل ما صدر عنه، ليمكنهم إلباس الحديث قدسية صاحبه والعكس صحيح، أي تقديس النبي بتقديس الحديث القادم وحيًا من السماء، حسب مناهجنا في توحيد الأشخاص بالمبادئ، رغم تعارض حديث البخاري حول شفاعة النبي ﷺ مع عدد غفير من آياتٍ قرآنيةٍ صريحةٍ واضحة تنفي تلك الشفاعة وهذه القدسية، وتثبت بشرية النبي وإنسانيته.