مساحة القدسية في السُّنة القولية١
إن قدر الشيخ الدكتور محمد السيد طنطاوي الإمام الأكبر للأزهر أن يحمل على كتفَيه بعض أعباء هذا الوطن، والناس في هذا الوطن؛ من خلال إصراره على مصلحة الدين، وإبراز الوجه المضيء والسمح للإسلام، إزاء دعاة التشدد والتكفير وأصحاب المصالح والجهات التي تعادي الزمن والمجتمع والوطن، وإذا كان صاحب المقام الشريف يتعرَّض نتيجة موقفه التنويري التاريخي للحملات الضارية، فهي الضريبة التي دفعها عبر التاريخ كل عظماء الفكر والروح، وهو الشرف العظيم الذي سبقه إليه رفاعة رافع الطهطاوي، والشيخ الجليل الإمام محمد عبده، الذي لخَّص رحلة كفاحه الطويلة ضد التعصب والجمود والتقليد والإفراط في التقديس والتشدد في بيت شعري شديد الدلالة، يقول:
ورغم رداءة الحملة الظلامية، فلها فوائد ونفعٌ عظيم؛ لأنها تكشف كل يوم للناس عن وجوه الفاشية الكامنة وراء أقنعة التديُّن، وأن الأمر في النهاية ليس دينًا ولا يبغي وجه الله، بل دنيا ومصالح يتكالبون عليها، وهو ما سنحاول إثباته هنا، من خلال الحملة الأخيرة ضد عميدة كلية الدراسات الإسلامية بالأزهر، لطعنها في صحة حديث «المرأة ناقصة عقل ودين.» وهي الحملة التي تُذكِّرنا بحملةٍ سابقة أشدَّ وطأةً وأكثر ظلمًا وعدوانًا، تعرض خلالها الدكتور أحمد صبحي منصور لأشد أنواع الاضطهاد والتنكيل؛ لإنكاره حديث شفاعة النبي وقدسية النبي، حتى اضطروه اضطرارًا — دفعًا للامتهان اليومي الدائب — إلى الاستقالة، ولم يكتفوا بذلك لأن الرجل أصرَّ على رأيه ولم يخضع للتهديد والترهيب إيمانًا بسلامة موقفه؛ فشكَّلوا لوبي ضاغطًا في المؤتمر الإسلامي بإسلام آباد حتى استصدروا قرارًا بردة الرجل عن الإسلام، لكنه لم يتراجع عن أفكاره كما هو المطلب المعلَن من قِبلهم للصفح عنه؛ فحرضوا عليه الأمن الذي قبض عليه بتهمةٍ لم ترد لا في قانونٍ ديني ولا قانونٍ مدني، تهمة «إنكار السُّنة»، وبالطبع انتهت القضية إلى لا شيء، ومازالوا يحاربون الرجل في رزق عياله حتى اليوم بمنعه من الالتحاق بأي دار علم أخرى، ومطاردته أينما ذهب بأوراقه ودرجاته العلمية.
فهل ثمة تسميةٌ أخرى تليق بهم سوى أنهم فاشيست؟ والمسألة التي تحتاج إلى بحث وفهم هي إصرارهم على تكفير أي محاولة للبحث في السُّنة القولية لتحديد مدى حُجِّيتها على المسلمين، وهو الأمر الذي يدعو إلى إعادة ترتيب الأوراق بمنهج يحترم الأصول العلمية والعقلية والشرعية، للكشف عن سر التقديس المفرط للسُّنة القولية، وهل يتفق هذا التقديس مع مصالح البلاد والعباد، التي حيثما وجدت فثمَّ وجه الله؟ أو هل يتفق مع منهج الإسلام ومبادئه؟
-
أن الأحاديث النبوية تكتسب قدسية لدُنِّية؛ لأنها كانت وحيًا إلهيًّا كالقرآن تمامًا، وأي مساس بها يدخل في إطار الحرمة بل والكفران.
-
أن الأحاديث كي تكتسب هذه القدسية الكاملة فلا بد أن يكون النبي محمد ﷺ معصومًا عن كل ما يشوب البشرية من نقائص؛ لذلك فهو حسب هذا المنهج أقرب إلى الإلهي منه إلى الإنساني.
-
تقديس الزمن النبوي لوجود النبي فيه، بما في ذلك تقديس صحابة النبي وإنزالهم منازل فوق بشرية، لأنهم عايشوا الزمن الذهبي المقدس دون بقية الأزمنة السابقة واللاحقة، التي هي جاهلية وانحطاطٌ أخلاقيٌّ كامل.
-
إعمالًا للسُّنة القولية يتم تحديد الموقف من المرأة الناقصة العقل والدين، التي لا تصلح لغير المطبخ كما قال الدكتور حبلوش لزميلته العميدة، وهو نفسه من قال من قبلُ إن الإسلام كرَّم المرأة دون كل الأديان والمناهج حتى اليوم (؟!).
-
أن قدسية الإسلام تنتقل بالضرورة إلى العاملين بشئون التقديس الأزاهرة، وإلى الأزهر كمفرزة للعاملين بشئون التقديس ليصبح مقدَّسًا يعمل فيه بشرٌ مقدسون، رغم أنه من إنشاء الاستعمار الفاطمي لمصر لمساندة السلطة الشيعية آنذاك، ورغم أنه ليس في القرآن ولا في الحديث كله شيء اسمه الأزهر أو رجال الأزهر.
وقد تجمَّعت هذه المفاهيم في حديث الدكتورَين حبلوش والمطعني، وتابع الدكتور المطعني هجومه مرةً أخرى في صحيفة الشعب المتأسلِمة بتاريخ ٢ / ٤ / ١٩٩٩م ليقول: «فمطلب الدكتور بمثابة فقهٍ جديد وتفسيرٍ جديد أو شرح الأحاديث من جديد، يا سبحان الله! أليست الخطة التي تتبناها عميدة الدراسات الإسلامية بالأزهر هي غربلة صحيح البخاري ومسلم، بل محوًا كاملًا لمعالم الإسلام؟» قال هذا الدكتور حبلوش معقبًا محذرًا منذرًا: «إن من غربل الناس نخلوه، أليس معنى هذا أننا نعيش في ضلالٍ مركب منذ قرون؟ وما الذي تركته سيادة العميدة لخصوم الإسلام في الداخل والخارج ولم تقله؟! إن هذه التصريحات انطوت على إساءاتٍ بالغة للأزهر وللإسلام، وتركت علامات استفهام ضخمة خلاصتها: ما الذي يُراد بأزهر الإسلام وبإسلام الأزهر؟ والجواب متروك لمن يستطيع الإجابة عنه.»
إن كلام السيد الدكتور المطعني هنا يحمل دلالاتٍ عدة تشير إلى موقفه وموقف رديفه وفريقه، فهو أولًا يرى أن المطالبة بفقهٍ جديد وتفسيرٍ جديد للأحاديث هي دعوة يدعو بها خصوم الإسلام، «ومع ذلك يقولون بكل تبجُّح إن باب الاجتهاد لم يغلق؟! وفي الوقت نفسه يعترضون على أي فهم جديد.»
أليست تلك بثنائية نقائض تشير إلى انتهازيةٍ مركَّبة، وكيلٍ بأكثر من مكيال حسبما يتطلب الظرف من مواقف؟ بل إن التجديد عنده لا يعني أن متغير الزمن يحتاج إلى متغير في الفهم والتفسير، بل إن هذا التجديد دعوة من خصوم الإسلام في الداخل والخارج.
خصوم الإسلام في الخارج هم ذلك المشجب الدائم لخيباتنا وتخلُّفنا وهو أمرٌ معلَن دومًا من قِبلهم يمكن تفهُّمه، لكن مَن هم خصوم الإسلام في الداخل؟ الرجل لم يفصح لكن سهامه الموجَّهة تشير إلى ما يريد، فهذا الداخل يتمثل في العميدة الأزهرية كنموذج، وفيمن وراءها داخل الأزهر أيضًا بدليل قوله: ما الذي يُراد بأزهر الإسلام وبإسلام الأزهر؟ إنه يلمح إلى جهاتٍ تريد شرًّا بالأزهر وبالإسلام سُلطت عليه من داخله، وبما أن الأزهر مؤسسة تتبع الدولة، وبما أن العمادة ومشيخة إمامته مناصب تتم بالتعيين، فلا شك أن الدولة هي من يقف وراء ما يحدث، في تلميحٍ غير حميد إلى معركة مشايخ التطرف مع إمامهم الأكبر، وأن الإسلام كله في كفة مشايخ التطرف وحدهم.
هذا ما يريد الشيخ المطعني إلقاءه في ذهن قارئه بدهاء يُحسد عليه، مع التأكيد على أنه لا تجديد؛ فكل جديد كارثة، محدثة، بدعة، ضلالة، والمقدس فقط هو القديم، لأن حق التفكير عندهم غير جائز للأحياء، حق التفكير فقط لموتى التاريخ، وهم ورثتهم القادرون وحدهم على فهم لغة الموتى.
ولا يغيب على لبيب مزج السيد الدكتور بين الأزهر وبين الإسلام؛ مما يؤكد سمة الفاشية المعلومة التي توحد النص بحماته ورعاته، بالدمج بين المقدس وذوات الأزاهرة ليكونوا ناطقين باسم الله، وباطشين باسم الله، وجبارين باسم الله، وأوصياء على عقول الناس وأرواحهم باسم الله، لهم الأمر والتفسير والفهم والحكم، هم مؤسسة التشريع ومؤسسة القضاء، وأيضًا مؤسسة التنفيذ عبر أتباعهم المنتشرين في البلاد.
ولنبدأ بالأصل الأول المتفق بينهم وهو «أن الأحاديث النبوية تكتسب قدسيةً لدنيةً لأنها كانت وحيًا إلهيًّا كالقرآن، وأي مساس بها يدخل في إطار الحرمة بل والكفران.» لنحاول التأكد من صدق هذه المقدمة التي نعتها الدكتور حبلوش والمطعني بالمُسلَّمات.
إن الجميع يتفقون على أن كتب الإسناد قد اعتمدت على الثقة ببشر مثلنا، هم رجال الإسناد والرواة الذين انتقلت إليهم الرواية عبر بشرٍ آخرين في سلسلة العنعنات عبر الزمن لعشرات السنين التي انقضت بين زمن الرواية وزمن تدوينها، فهل تصح الثقة المطلقة ببشر غير معصومين، لإقامة تشريعاتٍ مقدسة ودستور لأمة؟ بنوازع البشر، وأهواء البشر، وأطماع البشر، وبموقعهم في سلم التراتب الاجتماعي، وبقناعاتهم المرتبطة بالضرورة ببشريتهم، بكل ما للإنسان وما عليه.
إن هذا السبب الواضح كان وراء عدم تدوين البخاري سوى ٤٠٠٠ حديث من بين ٦٠٠٠٠٠ حديث جمعها، وهي السبب الذي كان وراء موقف أبي حنيفة الذي لم يصحَّ عنده سوى سبعة عشر حديثًا فقط بين مئات الألوف، لكن علماء الحديث وبخاصة الأزاهرة المحدثون يقولون بصحة الحديث جميعه المدوَّن منه وغير المدوَّن، ويبسطون عليه جميعه رداء القدسية، بل وجعلوا السُّنة تنسخ القرآن (هكذا؟)!
والمعلوم لأي مبتدئ أن أحاديث المعاملات جميعها أحاديث آحاد، وتعني أن قائلها صحابي مفرد سمعها وحده من النبي، ومن النادر أن تجد بينها أكثر من قائل سمعها، والمعلوم أيضًا أن أحاديث الآحاد أدنى درجة من حيث الصحة عن الحديث المتواتر، والحديث المتواتر هو الصحيح صحةً كاملةَ مطلقة، لكن المشكلة أن علماء الحديث قد اختلفوا حول هذا المتواتر بدوره، المُكثِرون منهم قالوا إن عددها لا يزيد عن سبعة أحاديث، والمُقلُّون لم يعترفوا سوى بحديثٍ واحدٍ متواتر هو «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، وهذا يعني أن ما عداه من مئات ألوف الأحاديث هي أحاديث آحاد.
وهنا يطرح السؤال نفسه: هل من العدل أو من الدين أو من الحكمة أو من أصول فقه القانون، أن تُشكِّل حواراتٌ جانبية وأحاديث انفرادية قواعد للتشريع العام على المجتمع؟ (هذا بالطبع إذا سلمنا بالطهرانية والصدق المطلق للرواة ورجال الإسناد)، أليس الأصل الأول في التشريع هو إشهاره ليصبح معلنًا واضحًا بين الناس ليقبلوا العمل بأحكامه؟ أم أن شريعتنا ذات نشأةٍ سرية وعلينا لها الطاعة الجماعية بالفرض القسري؟
وقد نبه الدكتور أحمد صبحي منصور في إشارة لها مغزاها الساخر إلى أن مفهوم الإسناد نفسه يشير إلى بناءٍ آيل للسقوط يحتاج إلى الإسناد، ولأن هناك باطلًا وكذبًا قد تم من قبل الرواة، وتواطؤًا من رجال الإسناد، فقد تم تصنيف أحاديث الآحاد إلى حسن وضعيف وغريب، فهذا حقق نسبة نجاح ٧٠٪، وذلك ٥٠٪، وآخر لم يحصل سوى على تقدير ضعيف، ويبقى التساؤل الذي يكشف التواطؤ والهدف: كيف يمكن مراعاة هذه النسب المختلفة عند التطبيق؟
هنا لن نجد سوى رجال الحديث الأزاهرة الذين ألبسوا أنفسهم القداسة، وهنا الأمر الوحيد الذي يسمح لهم دون الناس بفهم هذا التصنيف النسبي، وعلينا أن نسلم لهم لتطبيق تلك النسب في حياتنا، لتحكيم تشريعات السُّنة لأنهم الأدرى بها والأقدر على فرزها، وهي ميزة لا يستطيع أحد ادعاءها، لكنهم يدَّعونها، فعندما تستشهد بحديث لا يلتقي مع هوى مصالحهم ورؤاهم، يقولون لك هذا حديثٌ ضعيف أو هذا من الإسرائيليات، لكن ليس عندهم أي مانع في مناسباتٍ أخرى أن يستشهدوا بذات الحديث عندما يكون في خدمة الهوى، إنهم يفعلون ذلك بادعاء الدراية التخصصية لديهم وجهل الآخرين بها، يفعلونه دون أن يطرف لهم رمش، مع إصرارهم على ترديد وتأكيد وترسيخ صحة الحديث المطلقة، مع الإصرار على إعماله في التشريع، وهنا سيكون لهم بدورهم وحدهم حق التطبيق كما لهم حق الفهم والفرز النسبي، إذن المسألة أبدًا ليست مسألة علم ودين وآخرة، لأنه باطل يراد به باطل، فهم مخادعون لأنهم يعلمون علم اليقين أن هذا التدوين الذي يعتمدون عليه قد أسقط أهم الأحاديث، أسقط ما يزيد عن خمسمائة خطبة للنبي في المسلمين، بل ويعلمون يقينًا أن ذلك لم يكن إهمالًا غير مقصود أو ضياعًا بالصدفة، أو استبعادًا بالاستخارة كما فعل البخاري، بل كان لأغراضٍ سياسيةٍ بحتة، حيث كانت هذه الخطب النبوية المشرفة تتناقض وتتعارض بالكلية مع أنظمة الحكم في الدولة الإسلامية زمن التدوين، والدنيا مصالح ومناصب يحسن الحرص عليها بعدم إغضاب ولاة الأمر منا، كما أن الله قال: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وحجتهم في صحة الحديث تتأسس على هذه الآية الآمرة بطاعة الرسول وهو ما يعني أنه كان لا ينطق عن الهوى بل كان وحيًا يوحى، لكنهم في الوقت ذاته، وبانتهازيةٍ فاضحة فضلوا طاعة أولي الأمر منهم؛ فأسقطوا أهم مأثور بين كل ما دُوِّن من أحاديث؛ خطب النبي في المسلمين.
وهم أيضًا يعلمون علم اليقين أن راوي معظم الأحاديث (أبو هريرة) كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب (؟!) ويعلمون علم اليقين أن أجلَّة الصحابة قد اتهموه بالكذب على النبي بوضوح، بل إن الخليفة عمر بن الخطاب هدَّد أبا هريرة وأنذره بالكف عن التحدث بأحاديث النبي، ولما مات عمر عاد أبو هريرة إلى سيرته الأولى يُحدِّث وينسب للنبي، لكن هذه المرة من داخل قصر معاوية بالشام، فماذا كان يمكن أن يقول في حضرة معاوية ومن قصر السلطان؟ وقد اعترف نفسه صراحةً قائلًا: «إني أحدثكم بأحاديث لو حدثتكم بها زمن عمر بن الخطاب لضربني بالدرة» (انظر الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج١، ص٧).
أما الراوي الثاني والأهم والملقب بحبر الأمة عبد الله بن عباس، والذي روى ١٦٦٠ حديثًا معظمها آحاد، فلا شك أن السادة الأفاضل يعلمون تمام العلم أن النبي قد مات وعبد الله بن عباس لم يتجاوز بعدُ العاشرة من عمره.
وهم يعلمون علم اليقين أن رواة الحديث أنفسهم قد أجمعوا على أن النبي ﷺ قد نهى عن تدوين أحاديثه، ولم يصرح بتدوين غير القرآن، وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لأبي هريرة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وغيرهم.
انظر معي مدى الوضوح والقطعية التي لا تقبل لبسًا في حديث أبي هريرة: «خرج علينا الرسول ونحن نكتب أحاديثه، فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا: أحاديث نسمعها منك يا رسول الله، قال: أكتاب غير كتاب الله؟ يقول أبو هريرة: فجمعنا ما كتبناه وأحرقناه بالنار.»
واستمع معي إلى أبي هريرة مرةً أخرى يقول: «بلغ رسولَ الله أن أناسًا قد كتبوا أحاديثه فصعد المنبر وقال: ما هذه الكتب التي بالغني أنكم قد كتبتم، إنما أنا بشر، فمن كان عنده شيء منها فليأت بها. يقول أبو هريرة: فجمعنا ما كتبناه وأحرقناه بالنار» (انظر الخطيب البغدادي، تقييد العلم، ص٣٢، ٣٣).
واقرا له في صحيح مسلم الحديث المتفق على تواتره وصحته الكاملة «لَا تَكْتُبُوا عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ …» (ج١٨، ص٢٢٩).
وفي رواية لأبي سعيد الخدري قال: «استأذنت رسول الله أن أكتب حديثه فأبى أن يأذن لي.» كذلك روى زيد بن ثابت: «إن النبي نهانا أن نكتب حديث» (انظر البغدادي، تقييد العلم)، أما عبد الله بن عمر فقال: «خرج علينا رسول الله يومًا كالمودع، وقال: إذا ذُهِب بي فعليكم بكتاب الله؛ أحلُّوا حلاله وحرِّموا حرامه.» ولم يذكر السُّنة (انظر مسند ابن حنبل).
فإذا كان هؤلاء السادة يعلمون ذلك بالضرورة، فهل يخدعون أمة المسلمين عن قصدٍ مُبيت؟ في اعتقادي أن الإجابة بنعم لسببين: الأول تغاضيهم الكامل عن الشهادات القرآنية التي تنفي حجية الحديث النبوي وعصمته المقدسة، ومن الأمثلة على ذلك ضربًا للمثل وليس حصرًا:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (الأعراف: ١٨٥).
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ (الأعراف: ٣).
أما السبب الثاني والجوهري، فهو أنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي تمثيل القرآن الكريم وفهمه فهمًا واحدًا مطلقًا للمقصد الإلهي من الآيات، ومن ثم لا يمكن اكتساب قدسية القرآن بزعم فهمه فهمًا شاملًا مانعًا، أما الحديث فهو مساحةٌ مناسبة للقرصنة والكذب على النبي، وهو أيضًا مساحة من الدرجات والأنواع يمكن فيها لهم أن يصولوا ويجولوا ليكتسبوا به وحدهم قدرة الفرز بين نسب الصحة فيه، ومن ثم تكون لهم السيادة المقدسة بحيث لا يتخلَّفون درجةً عن النبي، فكما كان النبي مُفسِّرًا للوحي، فهم بدورهم من يُفسِّر الحديث؛ لذلك يصرون على أن الحديث جميعه كان وحيًا.
وهم بسبيل ذلك لا يعدمون الحُجة؛ فالتاريخ فيه شبيه لهم أسس للانتهازية النفعية، حيث زعم نفعيو القصور الأموية والعباسية أن النبي بعد أن نهى عن تدوين السُّنة عاد فصرح بها، وذلك في أحاديث جاءت متأخِّرة، فقد روى راجح بن خديج: «قلت: يا رسول الله إنا نسمع منك أشياء أفنكتبها؟ قال: اكتبوا ولا حرج» (انظر السيوطي: التدريب)، كذلك روى أبو هريرة أن رجلًا كان يجلس إلى رسول الله فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يقدر على حفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله فقال له: «استعن على حفظك بيمينك» (انظر الترمذي، وانظر أيضًا البخاري) الذي وصفه بأنه من منكر الحديث.
وهكذا رجع صاحب الكمالات في كلامه، وقرر الله اتخاذ قرار ناقض لقراره السابق في شأنٍ مصيري يمس أعمق وأخطر شئون أمته المؤمنة ومعاشها وشرعيتها، فبحسبان الحديث جميعه وحيًا إلهيًّا، يكون الله قد قرَّر بالأمس قرارًا رجع عنه غدًا، فهل كان ذو الجلال يتلاعب بأمته التي أخلصت له الدين؟ أم كان مترددًا في مثل هذا الأمر الخطير؟ وهل يليق ذلك بجلال ذي الجلال؟
إن مثل هذه التساؤلات العقلانية لا تشغلهم، كما لا يشغلهم أن يسلبوا النبي عقله وإرادته، وتحويله إلى مجرد شيء كالمذياع، لأنهم يريدون الحديث مقدسًا لتكون لهم مساحة السيادة في رحابه؛ إذن لنبتعد عن العقل والمعقول والحجة المنطقية فهي ليست ضمن الأدوات المعترف بها لديهم للفصل في النزاعات، ولنعتمد الوثائق، ونعود إلى زمن الخلفاء الراشدين نستطلعهم الخبر، هل عملوا بنهي النبي عن التدوين، أم بتصريحه بالتدوين؟
أبو بكر أول الراشدين، روت عنه ابنته عائشة: «جمع أبي الحديث عن رسول الله وكان خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلَّب كثيرًا، فلما أصبح قال: أي بُنية، هلُمِّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فدعا بنار وأحرقتُها» (انظر الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج١، ص٥).
فماذا عن ثاني الراشدين؟
لقد صعد عمر بن الخطاب المنبر وقال: «أيها الناس بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إليَّ أحسنها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتاب إلا أتاني به فأرى رأيي فيه، فظن الناس الذين كتبوا عن رسول الله أنه يريد أن ينظر بها، فأتوه بكتبهم فجمعها وأحرقها، وقال: أُمنية عندي كأمنية أهل الكتاب، ثم كتب إلى الأمصار: من كان عنده من السُّنة شيء فليتلفه» (انظر ابن حزم، الإحكام، ج٢، ص١٣٩).
وهذا الموقف العمري يكشف عن موقف أزاهرة اليوم المتشنِّجين من ذوي المصالح، فأمنية أهل الكتاب أنهم دوَّنوا كلام أنبيائهم فتحوَّل بمرور الوقت مقدسًا، ومن ثم تقدس الأنبياء أنفسهم بقدسية مقالاتهم، وأصبح لهم نصيب من قدسية الله بحسبان كلامهم المرسل في المناسبات وحيًا لَدُنيًّا، ومن هنا نشأت وظيفة الكاهن الذي أصبحت مهمته تفسير ذلك الكلام وتطبيقه تشريعًا، ومن ثم يريد السادة الأفاضل اليوم اكتساب تلك الكهانة، إن لم يكونوا قد اكتسبوها بالفعل، رغم أ أن الإسلام لا يعرف الكهنة ولا الكهانة، ويرفض بصراحة اختلاط اللاهوت بالناسوت (كما في الديانة المسيحية التي تؤكد على لاهوت المسيح وناسوته) وذلك لتكريس القدسية لبارئ السماء وحده، لكن مشايخنا ينعون على المسيحية ربطها للإنساني بالإلهي في المسيح ويفعلون ذات الفعل مع نبي الإسلام بزعم اتصال الإلهي بالإنسان فيه، لينالوا بدورهم حظًّا من هذا الامتداد بوصفهم العلماء القادرين على فرز الحديث وتطبيقه تشريعًا.
ولم يقتصر الأمر في عدم تدوين السُّنة على الراشدين، بل كان أجلَّة الصحابة يعملون بالأمر ويَصدَعون به مما يشير إلى الكذب والتدليس في الزعم بتراجع النبي أو الله والتصريح بالتدوين، فقد روي أبو نضرة قال: «قلت لأبي سعيد الخدري: إنك تحدثنا عن رسول الله بأحاديثَ حسنة، فلو كتبناها، قال: لن أكتبكموها ولن أجعلها قرآنًا» (انظر جامع البيان).
ورُوي عن حبيب رسول الله، ومن أوصى النبي بحبه عبد الله بن مسعود: «جاء علقمة بكتاب فيه أحاديث عن رسول الله، فدخلنا على عبد الله بن مسعود ودفعنا إليه الصحيفة، فأمر بها فأُحرقت ثم قال: اذكر الله رجلًا يعلمها عند أحد إلا أعلمني بها، بهذا أهلك أهل الكتاب قبلكم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهرهم» (انظر سنن الدارمي، ج١، ص١٢٤).
ولا يغيب عن فطن أن الحديث لم يدوَّن إلا من بعد الراشدين، تحت رعاية سلاطين القصور، وبالطبع مصالحهم، وتبقى محاولة فهم: إذا كان النهي عن التدوين هو الصحيح فلماذا أصر أصحاب المسانيد والصحاح على جمع الحديث وتدوينه؟
ذلك موضوعٌ آخر، يحتاج إلى حديثٍ آخر، فللحديث بقية.
تعقيب
قام الدكتور مصطفى محمود بتبنِّي أفكار هذا الموضوع بل ونقل منه بالنص، وذلك في عدد ١٢ يونيو ١٩٩٩م من الأهرام القاهرية، وأثار زوبعةً كبرى لم تزل قائمة حتى طباعة هذا الكتاب، وعندما استنسخ سيادته ما كتبنا لم يراجعه في مصادره، حتى إن ما وقع أثناء نشر هذا الموضوع بروز اليوسف من أخطاءٍ طباعية قام سيادته بنقله حرفيًّا بذات الأخطاء، ونموذجًا لذلك ما جاء في حديث أبي هريرة (في تقيد العلم ص٣٢): «فجمعنا ما كتبناه وأتلفناه أو قال فأحرقناه.» وقد سقط منه «وأتلفناه، أو قال»، فنقلها الدكتور مصطفى كما تم نشرها.
وللقارئ هنا أن يراجع الموضوع، وأن يقرأ معنا قسمًا مما نشره السيد الدكتور في العدد المشار إليه بالأهرام، نعيد نشره للمقارنة، داعين الله للسيد الدكتور بالسلامة في معركة لا نعلم مدى ذخيرته العلمية فيها.
ليس إنكارًا للسُّنة
القرآن هو خزينة العلم الإلهي القديم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو العمدة في كل حقائق الدين، والمرجع الوحيد في أمور الغيب والحساب والقيامة والآخرة. أنزله الله الذي ليس كمثله شيء فكان على مثاله كتابًا ليس كمثله كتاب، لا يرتفع إلى ذروة مصداقيته كتاب، ولا يبلغ مدى حجيته مقال؛ فهو منفرد في صدقه وإحاطته وإعجازه.
أما السُّنة القولية التي جمعها رواة الأحاديث عن الرسول الكريم فقد جمعها ودوَّنها بشر مثلنا غير معصومين نقلوها عن بشرٍ آخرين غير معصومين في سلسلة من العنعنات عبر عشرات السنين (لم تُدوَّن الأحاديث إلا من بعد زمن الخلفاء الراشدين على أيام سلاطين القصور).
وقد أجمع رواة الأحاديث على أن النبي عليه الصلاة والسلام قد نهى عن تدوين الأحاديث وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لأبي هريرة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وغيرهم. وفي كلمات أبي هريرة، يقول في قطعية لا تقبل اللبس: خرج علينا الرسول ونحن نكتب أحاديثه فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا أحاديث، قلنا أحاديث نسمعها منك يا رسول الله. قال: أكتاب غير كتاب الله؟! يقول أبو هريرة فجمعنا ما كتبناه وأحرقناه بالنار.
وأبو هريرة نفسه هو الذي قال في حديثٍ آخر «بلغ رسولَ الله أن أناسًا قد كتبوا أحاديثه؛ فصعد المنبر وقال: ما هذه الكتب التي قد بلغني أنكم قد كتبتم؟! إنما أنا بشر فمن كان عنده شيء منها فليأت بها. يقول أبو هريرة: فجمعنا ما كتبناه وأحرقناه بالنار.»
وهو نفسه صاحب الحديث المتفق على تواتره «لا تكتبوا عني غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحُه.» وفي رواية لأبي سعيد الخدري قال: استأذنت رسول الله عليه الصلاة والسلام أن أكتب حديثه فأبى أن يأذن لي.
أما عبد الله بن عمر فقال: خرج علينا رسول الله عليه الصلاة والسلام يومًا كالمودع، وقال: إذا ذُهب بي فعليكم بعدي بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه. (انظر مسند ابن حنبل).
وأبو بكر أول الراشدين روت عنه ابنته عائشة «جمع أبي الحديث عن رسول الله وكان خمسمائة حديث فبات ليلة يتقلَّب كثيرًا فلما أصبح قال: أي بنية هلمي بالأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار وأحرقها» (انظر الذهبي، تذكر الحفاظ، ج١ ص٥).
أما ثاني الراشدين عمر بن الخطاب فقد صعد المنبر وقال: «أيها الناس بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبها إليَّ أحسنها وأقومها، فلا يبقى أحدٌ عنده كتاب إلا أتاني به فأرى رأيي فيه» فظن الناس الذين كتبوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يريد أن ينظر فيها فأتوه بكتبهم فجمعها وأحرقها. وقال: «أهي أمنية كأمنية أهل الكتاب؟» ثم كتب إلى الأمصار: «من كان عنده من السُّنة شيء فليتلفه» (انظر بن حزم، الأحكام، ج٢، ص١٣٩).
وكان خوف عمر أن يحدث ما حدث لأهل الكتاب من تأليه الأنبياء وتقديس كلامهم فيتحول مع الوقت إلى وحي له شأن الوحي الإلهي وكهنوت كما حدث في الأديان الأخرى، ثم كان الخوف الأكبر من الأحاديث الموضوعة والمدسوسة والإسرائيليات، وليس أدل على هذا الخوف من أن البخاري لم يدوِّن من أربعمائة ألف حديث جمعها إلا أربعة آلاف حديث فقط، وهو نفس الخوف الذي كان في قلب أبي حنيفة الذي لم يصحَّ عنده سوى سبعة عشر حديثًا من مئات الألوف.
وإذا كان هذا الشك والخوف عند الأكابر؛ فمن الطبيعي أن يكون عندنا أضعاف هذا الخوف، وألا نقبل من الأحاديث ما ناقض القرآن الكريم، ليس إنكارًا للسُّنة ولكن غيرة على السُّنة وخوفًا عليها من الوضاعين والمتقوِّلين الذين قوَّلوا الرسول عليه الصلاة والسلام ما لم يقل، إنما نحرص على تنقية السُّنة من كل دخيل عليها.
وفي سورة الأعراف الآية ١٨٥ يقول رب العزة والجلال عن قرآنه فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.
وحرص النبي عليه الصلاة والسلام على إحراق كل ما كان يكتب من أحاديثه باعتراف أبي هريرة نفسه واعترف الأكابر من رواة الأحاديث، وما فعل أبو بكر وعمر بإحراق ما وصل إلى أيديهما من أحاديث الرسول هو أكبر دليل على استنكار النبي وخشيته وخوفه من أن تتحوَّل هذه الكتابات إلى متاهة من التقولات والاختلافات وما نكتبه الآن هو السُّنة بعينها وليس إنكار السُّنة، إنما نخاف ما كان يخافه رسول الله ونخشى ما كان يخشاه.
وفي سورة الأعراف أيضًا الآية ٣ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.
أما الدكتور عبد العظيم المطعني فقد رأى في هذا التطابق بين ما قلنا وبين ما قال الدكتور مصطفى محمود مؤامرة من جانبنا نستغل فيها الدكتور مصطفى ونوعز له بها خفية، وهو ما جاء في صحيفة منكورة تدعي الحقيقة بتاريخ السبت ٣ / ٧ / ١٩٩٩م صفحة ٩ تحت عنوان: «الإسلام هو القرآن والسنة وإنكار أيهما كفر!» وهذا بعض ما قاله الدكتور المطعني النابه في حق زميله على ذات الأرض والملعب، انظره يقول بعبقرية يحسد عليها: «لقد علمت أن الدكتور مصطفى محمود يتردد عليه منكرو السُّنة ويزوِّدونه بهذه الخرافات التي لا يدري عنها الدكتور شيئًا، بدليل أنه يُصدر رأيًا في مسألة ثم ينفيه في الأسبوع الذي يليه، ثم يعود إليه لأن منكري السُّنة يذهبون إليه ويمدُّونه بالشبهات الباطلة فيقولها بحسن نية، كما قال في المقال الأخير إن السُّنة كتبت في قصور الأمراء، وهذا ما ردده صبحي منصور ود. سيد القمني، واعتمده الدكتور، فهؤلاء زناديق يجب ألا يسمع لهم الدكتور لأنهم يستغلون مصداقيته وثقله سلاحًا لضرب السنة وتشكيكًا في المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام، وهذه الفئة الضالة تستغل الدكتور الذي يفعل ذلك بحسن نية؛ ولذا فنرجو لنا وله الهداية، وأن يبحث في أي قضية يريد إثارتها مع المتخصصين ويتعمق فيها قبل أن يخرج بها إلى الناس.»
فهل رأيتم مثل هذا اللبيب لبيبًا؟!