عقوبة الرجم ومعيارية القيم١
كان مفترضًا أن نناقش اليوم إجابة سؤال طرحناه العدد الماضي، ألا وهو: إذا كان النبي قد نهى عن تدوين السُّنة القولية، فلماذا أصر أصحاب المسانيد والصحاح على جمع الحديث وتدوينه؟ لكن جدَّ في الأمور جديد، فقد أرسلت الدكتورة آمنة نصير بردٍّ إلى صحيفة الشعب المتأسلمة في ٦ / ٤ / ١٩٩٩م تؤكد أن عبثًا قد حدث بإجاباتها في الحوار الصحفي الذي أُجري معها، لكنها لم تتطرق إلى تراجعها عن التشكيك في حديث «المرأة ناقصة عقل ودين.» من عدمه، ولا موقفها من رفض عقوبة رجم الزاني المحصن/المتزوج لعدم وجود آيات في القرآن الكريم تحمل هذا الحكم القاسي، ولأن مسألة الحديث والسُّنة هي مناط نقاشنا، فإن ردَّها هذا يجعل المناقشة مفتوحة، لمناقشة «حد الرجم»، خاصةً بعد دخول طرفٍ جديد في النقاش هو الدكتور جابر قميحة، وغنيٌّ عن البيان هنا أن ما نكتبه ليس دفاعًا عن شخص العميدة الأزهرية؛ فهي في النهاية زميلة لمهاجميها، وعميدة بين الأزاهرة، وهي قادرة على الدفاع عن نفسها بطريقتها، فهي على المستوى الشخصي أعلم بمواطن النفع والمصالح والمضرة، لكن القضية لم تعد تتعلق بشخصها بعد أن انفتحت على المستوى العام في أمور تمسُّ معاش الناس وشرائعهم، وما نزعم الدفاع عنه هو حق الناس في القول وفي إبداء الرأي المختلف أيًّا كان، والدفاع عن مبادئ حريات وحقوق الإنسان الفرد، ورفض الوصاية على عقول الناس وأرواحهم، بتفنيد أسس المنهج الفاشي في التفكير، للكشف عن سمات تفكير التكفير، هذا بالطبع مع أهمية القضايا التي طرحها هذا الاصطراع بين الأزاهرة، وحساسيتها الشديدة في المناخ العام السائد الآن المتصف بالإفراط في التقديس.
ومن هنا ألحَّت قضية «حد الرجم» لتدفع إلى مناقشتها وتأجيل موضوع تدوين السُّنة القولية إلى عددٍ قادم، لمناقشة هذا المستجد لاتصاله الوثيق بالمناهج الفاشية في التفكير.
ولهذا الغرض نعود إلى الدكتور المطعني نقرأ له في الشعب المتأسلِمة بتاريخ ٢ / ٤ / ١٩٩٩م عبارة تصلح مدخلًا لحديث اليوم، شخَّص فيها رأيه في حديث زميلته الأزهرية بقوله: «إن الشأن في كل من يدلي بتصريحاتٍ عشوائية غير مدروسة، لا بد أن يقع في الاضطراب والتناقض.» وهو ما يعني أن الدكتور المطعني وفريقه لم يدلوا بكلامٍ عشوائي، بل كتبوا ودوَّنوا ولم ينشروا إلا بعد دراسة وتفكير وتدبر لا يسمح بتضارب ما كتبوا واضطرابه، وبما أن سيادته قد وضع هذه القاعدة فلا أظنه هو وفريقه سيعارضون في تطبيقها على ما كتبوا من كلام غير مضطرب ولا عشوائي.
ونعود إلى تصريح العميدة الأزهرية في إجابتها عن سؤال حول أحاديث رجم الزاني المُحصَن، قالت العميدة حسبما تم نشره: «أما بالنسبة لرجم الزاني فإني أرى هذه العقوبة تخالف النص القرآني الذي لم يتحدث عن رجم الزاني.»
وقد رد عليها الدكتور المطعني قائلًا: «كيف فهمت الدكتورة أن رجم الزناة المحصَنين يخالف القرآن؟ هذا وهمٌ كبير يقع فيه كثير من دعاة تحجيم السنة الذين ملئوا السهل والوعر! إن المخالفة يا سيدتي هنا معدومة، لأن القرآن لم يقل لا ترجموا الزناة المحصنين.» (؟!)، فهل حقًّا أن هؤلاء وأسلافهم من أهل شئون التقديس قد تمكنوا من تسليط حد الرجم على رءوس العباد طوال هذه العقود، فقط لأن القرآن لم يقل: لا ترجموا الزناة، فقرَّروا هم تقرير الرجم حدًّا؟
إن هذا التبرير فيما يبدو لم يقنع الدكتور قميحة، فقام يدعم زميله المطعني ببيانٍ أكثر إقناعًا يبرر الإصرار على حد الرجم مع عدم وجوده بالقرآن الكريم، وقد استند في بيانه إلى أحداث زمن الدعوة، حيث تم رجم «ماعز» و«الغامدية» زمن النبي، كما رجمت «سراحة» في خلافة علي بن أبي طالب، ولشرح الأمر قام يقول: «إن عدم إشارة القرآن إلى عقوبة الرجم لا يعني أنها لم تُفرَض، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كانت هناك آية نصها: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، ثم نسخ رسمها وبقي حكمها.»
فهل حقًّا كان ثمة آيةٌ قرآنية كتلك المستخرجة من كتب التاريخ الإسلامي وكتب السُّنة؟ إن السؤال الذي سيسأله أي مسلمٍ عاقل يرفض الوصاية عليه: فلماذا إذن هي غير موجودة بين أيدينا في القرآن الكريم الذي تعهد الله بحفظه؟ وهل يكفي قولهم بذلك ليصبح مرجَّحًا عن كفة القرآن المدوَّن؟ ثم لا شك أن التساؤلات ستستمر فيما هو أبعد وأجدى: لماذا إذن الإصرار على حد الرجم مع عدم وجود نصِّه في كتاب الله المتلوِّ بين المسلمين الذي لا يدخله باطل؟ وما الذي دعا أسلاف العاملين بشئون التقديس لفتح أبواب في علم الفقه أو على الأصح اختراعها اختراعًا، وإحداثها في شئون دين يؤكدون أنه ضد المحدثات، بوضع باب ضمن أبواب النسخ في علوم القرآن، أطلقوا عليه: باب ما نسخت تلاوته (رسمه، كتابته، تدوينه) وبقي حكمه، لإبقاء حكمٍ شديد القسوة على العباد، دون النص القرآني الواضح بشأنه، فهل تم إرسال القول بوجود آيةٍ قرآنية غير مدونة، فقط بغرض الإصرار على هذا الحد الرهيب، وتغطيته بالقداسة بالقول بوجود آية اختفت من التدوين؟
وحتى نستطلع تفاصيل حل هذا اللغز نبحث وراء الدكتور قميحة بين كتب الأصول، فنستمع إلى رواية يحيى بن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قد خطب من على منبر الرسول إبان خلافته فقال: «أما بعد أيها الناس، فإني قائل مقالة لعلها بين يدي أجلي فمن وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت راحلته، ومن لم يَعِها فلا أحل له أن يكذب على الله عز وجل. بعث الله محمدًا ﷺ بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله ورجمنا من بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف» (انظر فتح الباري ١١ / ١٩١، ١٩٢، أخرجه الصحيحان، مسلم ١٥ / ٨٥ وأحمد ١٦ / ٨١ / ٨٢).
«وعن يحيى بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب: وآية الرجم لا تضلوا عنها … وأنها نزلت وقرأناها: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ ولولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي.»
وفي رواية «زر» أن الآية كانت «إذا زنى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ، نكالًا من الله، والله عزيز حكيم» (انظر ابن الجوزي، نواسخ القرآن، ص١٣ / ١٤)، وفي رواية إمامة ابن سهل أن خالته قالت له: «لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ بما قضيا من اللذة» (انظر السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج٢، ص٢٥).
فما مدى السلامة في هذه الروايات عن الآية المختفية التي تحمل أشد الحدود وأخطرها طرًّا، خاصةً وأنها جاءت في أحاديث تناقلها بشر عن بشر غير معصومين وكان يمكن ألَّا تدوَّن إطلاقًا، لا هي، ولا السنة القولية جميعًا، لولا قرار الخليفة عمر بن عبد العزيز بجمع السنة وتدوينها، ناهيك عن تعلُّقها بأمر يمسُّ صميم القرآن الكريم وجوهر قدسيته.
وهنا ملاحظاتٌ واجبة: أولًا، الاهتمام الكبير والاحتفاء الواضح بخطب كخطب عمر بن الخطاب، وعدم الاحتفاء إطلاقًا بتسجيل ما يزيد على خمسمائة خطبة للنبي في المسلمين، ألا يشير ذلك إلى العمد والقصد في الانتقاء والاستبعاد والاستبقاء و(الغربلة) التي يرفضونها اليوم؟ وأي ظروف كانت تقف وراء اختفاء خطب النبي وظهور خطب عمر بن الخطاب؟
والملحوظة الثانية: إشارة الخليفة عمر إلى صحابة لا يعرفون بأمر مقالته حول حد الرجم في قوله: «ومن لم يَعِها فلا أحل له أن يكذب على الله عز وجل.» وهو ما يعني أن الحد المذكور لم يكن مشهرًا معروفًا بين جميع المسلمين، ونحن نعلم أن حجية التشريع تكون بإعلانه على الناس جميعًا.
أما الثالثة: فهي تضارب نص الآية المختفية بين الروايات فقد جاءت على تنويعات، فهي في خطبة عمر: «الشيخ والشيخ إذا زنيا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ» وهي في رواية زر «إذا زنى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وهي في رواية خالة أمامة بن سهل «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذا زنيا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ بما قضيا من اللذة»، فهل يمكن هنا الاستناد إلى ذلك والاعتراف بآية تضاربت فيها الأقوال لفظًا ومعنى، فقط عدا (الشيخ والشيخ، والرجم) المتفق عليها؟ وهنا قد يخطر على بال مؤمنٍ بسيط السؤال: فما هي إذن حجتنا على أهل الكتاب واتهامهم بتحريف مقدساتهم؟ ثم ماذا تعني الآية بالشيخ والشيخة؟ نحن نعلم جميعًا أن أهل الشرع ورعاة المقدس قد انتهوا بشأن جريمة الزنا إلى قاعدة رجم الزناة المحصَنين وجلد الزناة غير المحصَنين/غير المتزوجين، ولفظ الشيخ والشيخة سيتضارب مع تلك القاعدة، فمعنى الآية رجم الشيخ الزاني حتى لو لم يحصن، وجلد الشاب حتى لو أحصن، وهو ما عبرت عنه رواية يقول فيها عمر بن الخطاب: «لما نزلت آية الرجم أتيت النبي فقلت أأكتبها؟ فكأنه كره ذلك (؟!) فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن يجلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم؟» (انظر الإتقان ج٢، ص٢٦ للسيوطي)، وهي ذات الحجة المعترضة عقلًا وشرعًا التي ساقها زيد بن ثابت الذي قام على تدوين المصحف المجموع بأمر الخليفة عثمان بن عفان، عندما سأله مروان بن الحكم: «ألا تكتبها في المصحف؟ قال: ألا ترى أن الشابَّين الثيبين (أي المحصَنين) لا يُرجمان» (انظر ذات الصفحة بالسيوطي).
يبدو أن مثل هذا هو ما استند إليه الدكتور قميحة في الإصرار على حد الرجم رغم عدم وجوده في القرآن، لكن للعقل شروط لا يتنازل عنها للقبول والرفض مع الاحترام الكامل لنصوص الدين، بل إن هذا الاحترام ذاته هو ما يقف وراء هذه المناقشة كلها، وهو ما يدفع إلى مزيد من التساؤل: كيف حدث الأمر؟ أي كيف تم نسخ هذه الآية رسمًا كما قال ولماذا بقي حكمها؟ والأمر الأهم: هل جاء بالقرآن الكريم أي إشارة إلى آيات تم نسخها مع وجوب بقاء حكمها حتى يكون لادعائهم السمع والطاعة؟ أم أن ذلك من تصنيفات فقهاء تقديس السنة وهم بشر مثلنا لا عصمة لهم ولا قداسة؟
بشأن النسخ أحاط الله عباده علمًا في كتابه العزيز بقاعدةٍ إلهية لا يصح لبشر تجاوزها أيًّا كان وضعهم أو رتبتهم ومقامهم، من مقام الأزاهرة إلى مقام النبوة، والقاعدة يوجهها الله تعالى للناس متحدثًا بلسان ذاته العلية قائلًا: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة: ١٠٦)، وهو ما يعني بالضرورة وجود آيةٍ جديدةٍ بديلة تحمل حكمًا جديدًا ناسخًا لحكم آية الرجم المنسوخة؛ لذلك كانت دهشة «ابن الحصار» مبررة ومفهومة وهو يتساءل منزعجًا: «كيف يقع النسخ إلى غير بدل، وقد قال الله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها؟!» (انظر السيوطي في الإتقان ج٢، ص٢٦).
لكنك للوهلة الأولى تجد بكتاب الله بدل البديل الواحد اثنين:
الأول قول الآيات الكريمة: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا (النساء: ١٥، ١٦)، وهو ما يعني الحكم بحبس الزانية المحصَنة في بيتها، وإيذاء الزاني المحصن، وقد اتُّفق على أن هذا الإيذاء يكون بالسب والتعيير، أما البديل الثاني فهو ما جاء في قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ (النور: ٢).
لكن الفقهاء يقولون لنا إن الآية الثانية قد نسخت الأولى، لكن لأن الآية الثانية تحكم بالجلد دون تمييز بين المحصن والأعزب، فقد قاموا يؤكدون أن نسخًا ثانيًّا قد حدث بآية الرجم المختفية، نسخ فيه حكم الجلد عن الزناة المحصَنين بحد الرجم، لكن دون بديل لهذا الحكم المنسوخ في القرآن المدوَّن.
وهكذا يقول رجال شئون التقديس إن حكم السنة ينسخ حكم القرآن (؟!).
نحن نستخدم هنا تعبير (الآية المختفية) لأننا لا نملك اجتراءهم على كتاب الله وقرارات الله، ولا نسلم بوصفهم لها بأنها قد نُسخت لأن النسخ مرتبط بالضرورة بالبديل حسب القرار الإلهي بالقرآن الكريم؛ لذلك من المفيد هنا أن نستأنس ببقية الروايات المتعلقة بآية الرجم المختفية للتيقن من مدى صحة القول بنسخها، والنسخ في الوحي كما نعلم، هو أمر غير جائز لبشر، إنما هو أمرٌ إلهي لا مكان فيه لبشر، وبين تلك الروايات نجد عمر بن الخطاب الذي يصر الراوة أنه صاحب التشديد على العمل بحد الرجم يقول: «لما نزلت آية الرجم أتيت النبي ﷺ فقلت أأكتبها؟ فكأنه كره ذلك.» (؟!) وعمر بن الخطاب نفسه هو من وقف له أبي بن كعب يذكره بما حدث زمن النبي بشأن آية الرجم يقول له: «أليس أتيتني وأنا استقرئها رسول الله ﷺ فدفعت في صدري وقلت: تستقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر؟» (انظر السيوطي في الإتقان ج٢ ص٢٦، ٢٧) إذن فالروايات تقول بآية نزلت تحمل حد الرجم، لكن هذه الآية لم تدون في القرآن الكريم ليس بأمر إلهي، إنما بعمدٍ مقصود، بكراهة النبي ﷺ تدوينها، وللحجة العقلية الشرعية التي قدمها عمر وزيد بن ثابت حول عدم اتساق رجم الشيخ محصَنًا أو غير محصَن، وجلد الشاب محصَنًا أو غير محصن، وثالثًا لأن الناس كانوا يتسافدون (يتناكحون) تسافد الحمر (الحمير)، وهو ما يعني في حال تدوين الآية وتطبيق الحد، وقوع الرجم على أعدادٍ غفيرة من المسلمين زمن الدعوة، ثم رابعًا اختلاف نص الآية المختفية بين الرواة، ثم الاختلاف بينها وبين عقوبتين وردتا بآيتين مدونتين بالقرآن، ثم تضارب نصها مع قواعد عقوبة زنى الأعزب والمحصن المقررة، وهو ما لاحظه (ابن حجر) وهو يقول إن «السبب في رفع تلاوتها هو الاختلاف» (المصدر نفسه ج٢، ص٢٧)، هذا ناهيك عن غلظ الحد وقسوته؛ تلك القسوة التي لم تجد صدًى في نفس الدكتور قميحة وروحه فكتب يسخر من العميدة الأزهرية لاستبشاعها تلك العقوبة: «يفهم القارئ من كلام العميدة بصورةٍ ضمنية استبشاعها واستفظاعها لعقوبة الرجم؛ فالرجم بالحجارة حتى الموت قسوة لا تتفق مع الإنسانية أو مع السيستم الحضاري القائم حاليًّا، بل هناك من دعا إلى إنكار الجلد لأنه إنكار لآدمية الإنسان.» هذا بينما قدم الإمام جلال الدين السيوطي تفسيره لما حدث مع آية الرجم في قوله: «إن سبب التخفيف على الأمة بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف، وإن كان حكمها باقيًا، لأنه أثقل الأحكام وأشدها وأغلظ الحدود» (المصدر السابق ج٢، ص٢٦).
أليس من حق مؤمن يريد الاطمئنان لطوية فؤاده مع كل هذه المعوقات أمام القبول العقلي والشرعي والنفسي لآية الرجم المختفية أن يتساءل: إذا كان النبي والصحابة قد كرهوا تدوينها، وإذا كانت تتضارب مع تقعيدهم جلد غير المحصن ورجم المحصن شابًّا أو شيخًا، وإذا كانت العبرة في ذلك كما قال الإمام السيوطي لغلظ الحد وقسوته؛ أفلا يكون نسخ الحكم مع الآية هو الأكثر منطقية وانضباطًا؟ ناهيك عن كون ذلك يبعدنا عن شبهة الافتئات على الله والتزيد على كتابه، الذي كان وراء عدم تدوين عمر لها بيده فيما تقول الرواية.
أيها السادة من أهل شئون التقديس، هناك سؤالٌ منطقي من حق الناس لا يجب أن يستفز أحدًا: هل حقًّا تملكون يقينًا كاملًا بتلك الروايات حول الآية المختفية؟ وإذا كان ذلك حقًّا فلماذا لا تدونونها بكتاب الله؟ وإذا كان المانع من التدوين عدم اليقين، فلماذا الإصرار العظيم على عقوبة الرجم؟
ليس ثمة تفسيرٌ آخر سوى تلك السمة الواضحة التي تطبع العقول الفاشية منذ فجر زمانهم الأول، والتي تميل نحو التشدد والغلو والتطرف نحو القسوة والغلظة مع عباد الله، رغم سماحة الإسلام العظيم الذي كان دومًا مع التخفيف عن العباد، إنها لازمة فاشية متواترة تبحث دومًا عن الدلالات المتشددة وتُنقِّب عنها أو تخترعها اختراعًا إذا لزم الأمر، وهو أمرٌ واضح في كثير من المواقف، كالموقف من نصح الآيات باجتناب الخمر الذي تحول إلى ابتعادٍ كامل بالكلية، وكالموقف من قطع يد السارق الذي يجب أن يتم فعلًا، رغم أنه بالإمكان تأويل القطع بحبس هذه اليد مع صاحبها بعيدًا عن المجتمع إبعادًا لشرها بدلًا عن قطع يحوله إلى عالة غير قادر على الكسب، ثم الإصرار على الرجم رغم وجود بدائل في كتاب الله أكثر رفقًا بعباد الله؛ وذلك استنادًا للتقديس الكامل للسنة التي رأينا نموذجها المتخبط والمتضارب في الروايات، والنماذج كثيرة وغفيرة.
هذا مع ملاحظة تأسيسية، هي انطواء هذا الإصرار على عقوبة الرجم على إساءةٍ بالغة للإسلام ومقدَّسه القرآني الجليل، فالقول بكراهة النبي تدوين الآية إنما يعني أن النبي ﷺ قد أهمل عامدًا تبليغ كامل رسالته المكلَّف بتبليغها للناس، وهي ذات الإساءة الكامنة في الإصرار على تقديس السنة بحسبانها وحيًا مقدسًا إلهيًّا بالكامل، فإذا كان النبي قد نهى عن تدوين السنة فهو ما يعني — حسب منطقهم — تفريطه في تبليغ كامل رسالته، وهو ما يعني أيضًا أن الصحابة قد تدخلوا في التدوين واستبعدوا ما لم يرُقْ لظروفهم حين كان الناس يتسافدون تسافد الحمر، وهي كلها مما لا يطمئن إليه قلب المؤمن، وهي المعاني التي لا بد تعيدنا بالضرورة إلى موقف الدكتور يحيى إسماعيل حبلوش الرافض لتغير الأحكام بتغير الأزمان تأسيسًا على القيم الأخلاقية، حيث زماننا من وجهة نظره لا يصح مقياسًا سليمًا؛ لأنه «زمان كلينتون ومونيكا، وديانا ودودي أيضًا.» لنسأله بكل براءة: فماذا عن تسافد الناس تسافد الحمر زمن الدعوة (مثلًا)؟
لقد سبق وأشرنا إلى أن القيم معيارية تتغير بتغير الظروف والأحوال، باختلاف الأماكن وبتغير الأزمان، وهو أمر من بسائط علم الاجتماع البشري، لا يصح معه القول بإطلاقية سلوك قيمي بعينه لفرضه على كل البشر في كل مكان وزمان، لارتباط القيم بظروفها التي أفرزتها ارتباطًا وثيقًا، فعلاقة كلينتون بمونيكا حسب منظومة القيم الجديدة في الغرب المتقدم هي فعلٌ حر تم باختيارٍ واعٍ من قِبَل الطرفَين دون إكراه أو إرغام، ونحن نعلم أن النكاح في الإسلام يقوم على الاختيار الحر للطرفين، ناهيك عن زواج المتعة الذي كان معمولًا به زمن الدعوة ولم يزل معمولًا به عند الشيعة الاثنى عشرية وفي دولة إيران الإسلامية، هي عند الغرب فعلٌ حر والمحاسبة عليه ليست حقًّا للقانون الأمريكي ولا للشعب الأمريكي، فقط ربما هي حق الزوج أو الزوجة، حق المتضرر، والسيدة هيلاري زوجة كلينتون كما نعلم لم تضجَّ ولم تشكُ.
وكما يعلم الجميع فإن إجراءات محاسبة الرئيس الأمريكي كانت بسبب كذبه على شعبه، وهنا كبرى الكبائر عند هؤلاء الأباعد، ثم بسبب محاولته التأثير بمنصبه على شهادة الشهود، وهذا مساس بقدس أقداسهم الوثني: القانون (؟!).
وماذا لو ردَّ علينا أصحاب تلك القيم الحرة يتساءلون عن القيم لدينا، وعن القيمة الأخلاقية في شراء امرأةٍ حرة أوقعها سوء حظها في يد النخاسين من تجار الرقيق أو في الأَسر، وتشريع مواقعة هذه المرأة وهي لا تملك اختيارًا بالقبول أو بالرفض، بتصريحٍ شرعي بوطء ملك اليمين.
المسألة ليست إذن زمنًا ذهبيًّا لاتسامه بقيمٍ رفيعة ولا زمنًا دنسًا لاتسامه بقيمٍ دنيا، فالقيم ليست وصمًا ولا قدحًا ولا مدحًا للزمن، بل هي فرز ظروفه وطرائق الناس حسب أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ لذلك تتغير دومًا، ومن هنا يصبح الحكم القيمي بالضرورة مبنيًّا على ما تعارف عليه الناس في زمنه.
لذلك أمر الإسلام بالمعروف ونهى عن المنكر، ولا أحد يمكنه الاختلاف على أن المعروف هو ما تعارف عليه الناس وأن المنكر هو ما استنكره الناس، في مجتمعهم وزمانهم؛ لذلك تعارفت معظم دول العالم المتقدم في زماننا على تجريم العقوبات البدنية كالجلد والقطع والرجم، وأيضًا تجريم استعباد الإنسان لأخيه الإنسان وتجريم الاغتصاب واعتباره الزنى الحقيقي لأنه لا يقوم على الاختيار الحر، ومن الطبيعي أن يردوا علينا أن وطء الجواري هو الاغتصاب العلني، وأنه قيمة قد تجاوزتها الإنسانية مع تحولات الزمن ومتغيراته إلى غير رجعة.