منهج التكفير١
منطق القوة الغشوم هو بالضرورة منطق الكائنات التي منحتها الطبيعة القوة البدنية وسلبتها ملكة العقل والتفكير، وفي مملكة الأحياء يسير الارتقاء تطورًا نحو مزيد من العقل والمنطق يصاحبه انخفاض في مستوى القوى الجسدية، وذات الأمر ينطبق على النوع الواحد؛ فكلما قويت حجة الإنسان ورجح منطقه استغنى عن القوة في الصراع، كما أن ذات المنطق يؤكد أن الإنسان قد ارتقى من بين الكائنات جميعًا وحقق سيادته على كوكبه نتيجة لاستخدامه منطق العقل، فقد يلجأ إلى القوة والقتل والتدمير عندما تعجزه الحجة العقلية والبرهان في الصراع.
وفي السنوات الأخيرة شهدنا قليلًا من المعارك الفكرية الراقية انسحبت بسرعة لتفسح المجال للونٍ آخر يعبِّر عن عجز بعض الأطراف عن خوض المعارك بأسلحةٍ نبيلة وشريفة فيلجئون إلى الأسلحة الرديئة، وعادةً ما تكون فاسدة ترتدُّ في وجوههم دون حاجة الخصم لأي تعليق. وتتعدد سبل وأدوات العجز عن المواجهة الشريفة، فيلجئون إلى كيل الاتهامات والتخوين والتكفير والشتائم والبذاءات والمؤامرات دون الوقوف العقلاني مع ما يُطرَح أمامهم من منطق.
وغنيٌّ عن البيان أن التكفير والتخوين قد أصبح هو القاسم المشترك اليوم في لغة المشتغلين بشئون التقديس، سواء كان منهم المستتِّرون تحت لافتات من قبيل «الكاتب» أو «المفكر الإسلامي»، ولا نفهم ماذا تعني؟ اللهم إلا إذا كان الآخرون غير مسلمين، وهؤلاء تكون لغة التكفير لديهم ضمنية لكنها لا تصمد للفحص والفضح، أو سواء كان منهم المتطرفون الذين يعلنونها صريحةً واضحة دون لفٍّ أو دوران أو مواربة.
ورغم الزعم أن هذا المنطق جديد ووارد وليس من شيم الأمة لإلقاء اللوم طوال الوقت على العدو الموهوم خارجنا، فالمعلوم للقاصي والداني أن الأمر قد بدأ منذ معركة الجمل في ٣٥ﻫ، وربما قبلها في سقيفة بني ساعدة، ومن بعدها في صفين، ثم في النهروان، ثم كانت قمة المأساة في كربلاء، وكان الشاهد الواضح على أن ارتباط الدين بالسياسة وبالصراع على السلطة والنفوذ وصل إلى امتهان الدين نفسه بل ومزَّق الأمة، وانطلقت السيوف حتى استأصلت حفدة صاحب الدعوة أنفسهم، وإلى سيلان دماء المسلمين في مجازر كان ضحاياها أكثر من ضحايا صراع المسلمين مع غير المسلمين.
وكان ظاهرًا للعيان أنهم جميعًا على تناقضاتهم الصارخة واختلاف سيوفهم على رقاب بعضهم البعض من الصحابة الأكارم.
ويعلمنا درس التاريخ القريب أن الأنظمة الفاشية تعمد إلى تبرير مسلكها بعدد من الأدوات كان أبرزها وأكثرها جودة وكفاءة «الدين»، ولأن الدين عادةً ما يكون عنصرًا محايدًا يحمل أكثر من وجه، فإن الدولة في الأنظمة الفاشية، وأيضًا الضعيفة التي لا تجد حلًّا ناجزًا لمشاكلها، تلجأ إلى وسطاء الدين المحترفين ليقوموا بالانتقاء من بين النصوص ما يوافق هوى الحكومات، أو إعادة القراءة، أو تأويل النصوص بما يُبرِّر المسلك والخيار المطلوب.
وهنا يجد العاملون بشئون التقديس فرصتهم التاريخية لدعم مصالحهم والعودة بقوة إلى الصفوف الأمامية السيادية، وهو الأمر المتكرِّر عبر التاريخ في أكثر من موطن، لكنه كان واضحًا كل الوضوح في تاريخ البلاد العربية بشكلٍ خاص.
ومع تبدُّل الأنظمة الحاكمة وتوجهاتها تتبدل القراءات والتأويلات للنصوص، لسببٍ بسيط أَوضحه الإمام علي بن أبي طالب عندما أبان أنها لا تُنطَق بلسان لكن ينطق بها الرجال، وهو قول حق وقصد حق، لأن أي مُفسِّر أو مؤوِّل لا يمكنه الزعم أن رأيه هو الصح المطلق، وإلا كان كمن يزعم الاطلاع على المقصد الإلهي الرفيع.
وهنا تكمن جريمةٌ مزدوجة، جريمة في حق الدين وفي حق العباد؛ فيتم التفسير والتأويل ويُقدَّم بحسبانه الصواب النهائي، ويتم تطبيقه على عباد الله دون اعتبار للمظالم التي تقع وتُرتكب باسمه، والمقصد الإلهي بريء منها، وهو الأمر الذي شهدنا بشاعاته في تاريخ أوروبا الذي بلغ قمته إبان زمن محاكم التفتيش، كما شهدناه في تاريخ الدولة الإسلامية الإمبراطورية على تبدل الحكام في دولتها وفي دولها ما بين أموي وعباسي وما بين سني وشيعي وفاطمي، وكان كل نظام يجد لمؤسسته أسانيدها الشرعية والنصية، مع عددٍ غفير من فقهاءَ كبارٍ يبررون للنظام وجهة نظره ومنهجه السياسي، ومظالمه وقمعه للعباد.
ولأن مصر المحروسة هي شاغلنا وهمنا الأمس واليوم وغدًا، فلا مفرَّ من تسجيل حقيقةٍ واضحة بشأنها؛ فالدولة بمؤسساتها الدينية تُقدِّم كل إمكاناتها لإثبات حرصها على صحيح الدين من وجهة نظرها، بينما يُقدِّم تيار الإسلام السياسي وجهة نظر أخرى هي النقيض تمامًا، وكلٌّ منهما ينطلق من ذات النصوص، وكلٌّ منهما يعلم يقينًا أن هناك وجوهًا أغفلها للمقدس وسكت عنها وعتَّم عليها عن قصد لأنها لا تُوافِق خياراته السياسية.
وهنا بالتحديد يُحدِّد لنا الدكتور فؤاد زكريا نقطة الضعف الأساسية في خلط المقدَّس الديني بما له من احترامٍ واجب بأوراق السياسة وألاعيبها، لكن ذلك الضعف يُشكِّل في مستوًى آخر خطورةً شديدة لأن خلط أوراق السياسة بنصوص الدين سيؤدي إلى خسائر على المستويين، فالسياسة لها دسائسها ومؤامراتها وتكتيكاتها واستراتيجيتها وتقلُّباتها التي لا تراعي سوى المصالح الدنيوية المباشرة، وتعمل بإخلاص وفق مبدأ الغاية تُبرِّر أي وسيلة، فإذا خلطنا الدين بالسياسة أسأنا إلى الدين وعاملناه بانتهازية واستثمرناه في مراحل ثم أعدنا استثماره في مراحلَ أخرى هي على النقيض من الأولى، وهبطنا به من قُدسه إلى منطقة ومنطق لا يليق بقداسته، ولو تعاملنا في السياسة بأخلاقيات الدين وروحانيته وزهده وورعه وتقواه فستكون الخسائر محقَّقة وماحقة وسط عالمٍ يتعامل في ميدان السياسة بمنطقٍ أبعدَ ما يكون عن منطق الدين.
وبالإضافة إلى الضعف والخطر في هذا المنهج، هناك أيضًا تقع الجريمة في حق الدين وفي حق الناس وفي حق الوطن؛ لأن الذين يخلطون الدين بالسياسة هم الذين نسمع منهم صيحات التكفير والمصادرات والتخوين، وهم يعمدون بدهاء إلى مزج الدين وأصوله بآرائهم، ويُقدِّمونه من خلال طرائقهم في التفكير، بهدفٍ لا يخفى على لبيب، فالهدف النهائي أن يئول إليهم العمل نيابة عن الله باستبعاد وتكفير كل المخالفين، وبهدفٍ أبعد يطبقون فيه النصوص بما يوافق أهدافهم، ومثل تلك الانتهازية للدين، التي يقدمونها للبسطاء من المتدينين الطيبين حقًّا وصدقًا، هي جريمة بكل معنى الكلمة، تتحول بالوطن إلى فاشيةٍ كاملة، سبق وعانينا منها طوال العصور السوالف.
وما دمنا بصدد نقد المنهج فإن هذا النقد يصطدم أول ما يصطدم بأصحاب منهج التكفير المتمسِّكين بحرفية الأصول لتطبيق النصوص على الواقع الراهن برؤيةٍ شمولية لا تراعي مستجدات العالم المعاصر بعد مرور ما يزيد عن أربعة عشر قرنًا من الزمان، وإخضاع الحاضر لمرجعية ليست نصية حقًّا، لكن لمرجعية قراءاتهم هم للنصوص وفهمهم لها التي يقدمونها للناس بوصفها الحق المطلق.
ومن هنا فهُم يتنادون بدولة يصبح فيها جهاز السلطة السياسي هو الدين من وجهة نظرهم، وأن يقوموا هم على شئونه وكلاء عن رب العباد، ومن هنا تصبح قراراتهم مقدسة، ويصبح مجرد المخالفة ولو شكلية مخالفةً واعتراضًا على الدين وعلى الله، وإذا كان حكم البشر يمكن النضال ضده لتغييره فإن مثل ذلك النضال ضد حكم من يحكمون باسم الدين سيكون نضالًا ضد الله، ويتحول الصراع بين الناس إلى صراع بين الناس والله، ولنا هنا أن نتخيل حجم أنهار الدم التي ستجري في ديارنا، في زمن لم يَعُد فيه وقت للتجارب على الوطن وعباد الله، بعد أن خضنا ذات التجارب وعانينا منها طوال القرون الغوابر.
أما الرؤية العلمية والعقلانية فإنها تظهر هؤلاء بمظهر العجز الواضح والفصيح؛ فهم عَجَزة عن الأخذ بأسباب التقدم لأن التقدم يعني العلم والعنت والجهد والمشقة، كما يعني الحريات الكاملة للفرد، وهو الكفر الفصيح من وجهة نظرهم، والمعلوم أن العلم لا ينمو ولا يزدهر في مناخ القهر والاستبداد بقدر ما ينمو في مناخ الحريات، بل إن هذا العجز لا يحتاج لإثباته، بدليل لجوئهم للأسلاف لحل مشاكل لم توجد زمنهم، بحسبانهم عكاكيز يتوكئون عليها نتيجة الشلل الذي أصابنا، الذي نتج بدوره عن هذا المنهج ذاته الذي ران على تاريخنا الطويل المتثائب.
والرؤية السلفية التكفيرية تُقدِّم اقتناعها التام والكامل بتفوِّقٍ عنصري لا لسبب إلا للتميز بدينها على العالمين، رغم أنه ليس لمجتمع بعينه أية خصوصية تميزه بسبب دينه، لأن لكل الأمم أديانها بدورها، وإنك لا ترى على خريطة العالم من يقدم مثل تلك الرؤيا إلا بين الدول القابعة في قاع التراتب الحضاري.
والغريب أن منهج التكفير لا يلحظ وهو يلقي بتهم التبعية على كاهل المخالفين، لا يرى أنه هو المنهج التابع العاجز عن الاستقلال عن الأسلاف، ولا يرى أنه في تبعيةٍ كاملة لأجيال انقرضت في زمان غير الزمان وبلاد غير البلاد، أما الأغرب فإن هؤلاء المكفِّرين يخالفون ما اصطلح عليه فقهاء السنة وأهل القبلة أنفسهم، ويمكنك أن تجده عند ابن نجيم في «البحر الرائق في شرح كنز الدقائق» وعند الملا علي القارئ الحنفي في «شرح الفقه الأكبر للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان»، وعند ابن حجر المكي الهيثمي في «الإعلام بقواطع الإسلام»، وعند حافظ الدين بن شهاب في «الفتاوى البزازية»، التي جمعها ولخَّصها الشيخ خليل عبد الكريم، وكلها كما هو واضح مصادرُ ذات ثقل ووزن، وتحوز اعترافًا واعتمادًا واحترامًا، وتجد فيها أن حكم التكفير لا يتم بدون فتوى، وليس لآحاد الناس إصدار تلك الفتوى ولو كان قاضيًا، فصحيح الفتوى يلزمه إجماع الفقهاء وعلماء الدين، ولأن تحقيق ذلك أمر شبه مستحيل فقد أجمع أهل السُّنة على تخطيء المسلم لا تكفيره، ويعدُّ ذلك من ممادح أهل السُّنة ومحمودهم الطيب، بل وضعوا حدودًا قصوى لا يتم بموجبها تكفير من يصل به الشطط إلى حدودها، فهم لم يكفروا مثلًا من قال إن لله جسدًا كالأجساد المخلوقة، ولا من تمنى مناكحة الإخوة لأخواتهم، ولا من شك في أن النبي مدفون بمسجده بالمدينة، ولا من يؤمن بالحج لكنه لا يرى الكعبة المكية هي بيت الله المقصود، ولا من تمنى عدم تحريم الخمر، ولا من قذف جميع نساء النبي عدا عائشة لأن السماء برأتها في حديث الإفك، ولا من أنكر صحابة جميع الصحابة عدا أبي بكر، إلى هذا الحد لا يكفر من قال به.
ويلاحظ هنا (مسألة التمني) وأنها لا تُكفِّر مسلمًا، ولا شك أنه ضمن هؤلاء الذين يتمنون من ينشدون دولةً مدنيةً كاملة تأتي في شكل أماني ومشروعات وأسئلة، وضمن ذلك أيضًا يأتي نقد المنهج الذي يمكنه التشكيك في ثوابتَ جرى عليها التقديس بفعل الزمان لا لكونها كانت كذلك حقًّا، حيث نقد المنهج يبغي الخروج بالوطن من منطقة الأزمة سليمًا معافًى قويًّا مقتدرًا دون اعتبار أو حسبان لأهل التكفير والتنفير، بعدما علمنا مدى المساحة المتاحة للقول والرأي في الفقه الإسلامي، وبعدما رأينا مدى تناقض المكفِّرين وخطورة ما يطرحون على الأمة وعلى الدين وعلى الوطن، ودون ذلك هناك طريقٌ آخر على مفترق الطرق الكبرى، وهو طريق سبقتنا إليه أمم خرجت من التاريخ وآلت إلى علماء الحفائر والآثار، عندما قرَّرتِ الثبات وعدم التغير والحفاظ على الشخصية الثقافية الجامدة الواحدة.