اليولياويون والإسلاميون١
إن علاقة حركة ضباط الجيش اليولياويون بتيار الإسلام السياسي علاقةٌ تاريخيةٌ مركبة فيها الكثير من وشائج الاتصال لقيامهما على أيديولوجيا تتفق في تفاصيلها الدقيقة، وتختلف وتتناقض فقط عند منقطة السلطة والسيادة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى بعض الفحص لفك الاشتباك بين الخيوط المعقَّدة في تاريخ تلك العلاقة، وإلقاء الضوء على القواسم المشتركة وعلى مناطق المغايرة والانفصال.
والمعلوم أن حركة الجيش في يوليو ١٩٥٢م، والتي لبست عباءة التيار العروبي القومي الشامي لتوسيع مساحة الزعامة، قد بدأت تواصلها مع تيار الإسلام السياسي قبل يوليو ١٩٥٢م بحوالي عشرين عامًا، عندما كانت جماعة الضباط الأحرار تحت قيادة عزيز المصري، الذي عين عبد المنعم عبد الرءوف ضابطًا للاتصال بين الإخوان المسلمين والضباط الأحرار باعتباره عضوًا في كلتا الجماعتين، ومعلوم أن أنور السادات قد التقى بحسن البنا أكثر من مرة سنة ١٩٤٢م للتنسيق بين الحركتين تأييدًا للفاشية الألمانية.
وبعد هزيمة ١٩٤٨م اتُّهم جمال عبد الناصر بتدريب الإخوان على حمل السلاح والاشتراك في جرائم اغتيال ولم تثبت عليه التهمة، في الوقت الذي كان فيه صالح أبو رقيق الزعيم الإخواني ينقل بمساعدة عبد الناصر الأسلحة المُهرَّبة من المعسكرات إلى عزبة القيادي الإخواني حسن العشماوي بالشرقية، ومن المعلوم أيضًا أن الفريق الوحيد في مصر الذي تمت إحاطته بموعد قيام الحركة بالاستيلاء على السلطة كان الفريق الإخواني، وتم ذلك في مقابلة بين كمال الدين حسين وجمال عبد الناصر وبين صالح أبو رقيق.
وأصدر مجلس قيادة الثورة مع استيلاء اليولياويين على السلطة في مصر قراراته بحل جميع الأحزاب، لكنه استثنى من ذلك جماعة الإخوان المسلمين، بل وأشركت حكومة يوليو بزعامة محمد نجيب، ثلاثة من الإخوان في وزاراتها.
وبدأت بوادر الطلاق بين الفريقين مع اشتراط حكومة الثورة عدم اشتغال الإخوان بالسياسة، فكان رد مكتب الإرشاد صلفًا يطلب من الحكومة عرض أي قرار لها على مكتب الإرشاد للموافقة عليه قبل تنفيذه، وهو الأمر الذي أدى إلى مجموعة من التداعيات تحوَّل فيها الحلفاء إلى أعداء ألدَّاء، فصدرت الأوامر بحل الجماعة والقبض على قياداتها في ١٩٥٤م، فقرر الإخوان التخلص من عبد الناصر إبان خطابه في المنشية بالإسكندرية في ذات العام، وهو ما أعطى الفرصة لليولياويين للتخلص من الإخوان بعنفٍ انتهى باعتقال الآلاف وإعدام ستة من القيادات.
وبانتهاء مدة العقوبة خرج الإخوان عام ١٩٦٤م من السجون لكنهم عادوا إليها خلال عامٍ واحد بعد أن أعادوا تنظيم أنفسهم تحت مظلة أفكار سيد قطب بهدف تدمير المنشآت واغتيال القادة اليولياويين والاستيلاء على السلطة، لكنها كانت المرة الأخيرة لهم في الزمن الناصري؛ إذ انتهت بإعدام رؤسائهم وإلقاء بقيتهم في المعتقلات مع تجريم نشاطهم وطنيًّا ودينيًّا وتحريمه بالكلية، إلى أن أعادهم أنور السادات في صراعه مع التراث الناصري ورجاله، لكن لينتهي الأمر كما هو معلوم باغتيال السادات على أيدي الإسلام السياسي في تراجيديا علنيةٍ تاريخية تشهد بمدى التركيب والتعقيد في العلاقة بين التيارين، لكن ذكرى التعذيب والمعتقلات والإعدامات ظلت الهاجس الثأري الدائم لدى تيار الإسلام السياسي إزاء الناصرية، والدعوة القومية في عمومها.
ووشائج الاتصال بين التيارين تقوم على بنيةٍ تأسيسيةٍ مشتركة في عصب الأيديولوجيا ذاته؛ فالتعصب سواء للعنصر القومي العروبي عند اليولياويين أو للطائفة الدينية عند الإسلاميين سمةٌ واضحة أفصحت في حكومة الجيش عن عبادة البطل الفرد المنقذ، وهو الأمر الذي لم يحاول تيار الإسلام السياسي إخفاءه عندما وجَّه رسالةً مفتوحة في صحيفة الأخبار بتوقيع سيد قطب لرئيس الحكومة حينذاك اللواء محمد نجيب يطالبه بإقامة ديكتاتورية عادلة ونظيفة، وأفصحت السنوات الأولى لسلطة يوليو عن منهجٍ ديكتاتوري واضح فأقصت الدستور وحلت الأحزاب وألغت البرلمان ووضعت أقصى الإجراءات الاستثنائية، فكان الوجه الفاشي أول العلامات المشتركة بين الفصيلَين.
وطبقت يوليو مبادئ الفاشيست بإخلاص؛ فالفاشية تختلق الأعداء وتخترع المظالم التاريخية لتضمن ولاء الجماهير وانضواءها تحت قيادتها إزاء الأخطار ولمواجهة الأعداء، والفاشية تحول مناهج الإعلام والتعليم إلى تغنٍّ دائم بالقدرات الخارقة للبطل الملهم، والفاشية لا تترك أي مساحة للرأي فيصبح الرأي واحدًا والحزب أوحد، أما المعتقلات والمشانق فهي السلاح الأمثل بيدها لحسم أي خلاف، ولو حدث عكس ما حدث واستولى الإسلاميون على السلطة لفتكوا بحلفائهم بشكلٍ أكثر صرامة وبشاعة.
كذلك يتفق الفصيلان في مشتركٍ مُعلَن يعلي مفهوم الجماعة والأمة على حساب الفرد وحرياته وحقوقه الإنسانية؛ فالهدف الأعظم هو الأمة والجماعة أمام الأعداء، وتتماهى الأمة في شخص الزعيم فيُصبحا رمزًا واحدًا، وبسبيل ذلك لا بأس من إهدار كرامة المواطن والخوض في بحار الدم لأن الفرد لا يوجد ولا يريد ولا يفكر ولا يرى إلا من خلال الجماعة وبموافقتها، وعلى الجميع اعتناق عقيدة الأمة المتميزة بلسانها ودينها ورسالتها الخالدة، بغض النظر عن وجود مواطنين أصلاء في الوطن لا يدينون بالإسلام ولا يرون قدسية في لغته.
ولأن الأمة المقدسة هي الصح الأوحد المكتفي بذاته في المطلق، فلا وجود للفرد أو للرأي أو العقيدة المخالفة حتى لو كانت دينية، وحتى لو كان ذلك ضد مفهوم المواطنة السياسي الذي يضم المواطنين جميعًا بغض النظر عن ألوانهم وعقائدهم وعروقهم.
وعقيدة الأمة الجماعة مسكونة دومًا في المنطقة العربية بهاجس الفتنة والتفرق؛ لأن الدولة العربية الأولى قامت على احتلال دول المحيط وتعريبها ثقافة ولغة ودينًا ما أمكن، وهي على علمٍ يقيني أن لهذه البلاد حضارات ولتلك الحضارات أصحاب وعقائد مخالفة؛ لذلك كان منطق الأمة فوق العقائد وفوق الأفراد وفوق المذاهب وضد أي تعددية قد تفتح الباب إلى نزعاتٍ استقلالية تم تجريمها قوميًّا ونُعتت بالشعوبية الملعونة من العروبيين ومن المتأسلمين على حدٍّ سواء.
إذن هناك أرضيةٌ أيديولوجيةٌ واحدة تجمع الطرفَين، لكن هناك أيضًا تناقضاتٍ حادةً لا يمكن إغفالها، ويعلمها يقينًا التيار القومي الناصري ويتغافل عنها؛ تناقضات يُغذِّيها اختلافٌ جذري واستراتيجي عميق حيث يتناقض المشروع الإسلامي التاريخي مع الفكرة العربية القومية بل ويناهضها، ويغذي العداء لها ذكريات الإعدامات والمعتقلات والروح الثأرية المتربصة للقصاص الذي فيه حياة لأولي الألباب، ناهيك عن التناقض التأسيسي بين المفهوم العروبي الذي يقصر القومية على العنصر العربي، وبين المفهوم الإسلامي الطائفي الجامع لكل المسلمين بغض النظر عن غير المسلمين من عربٍ مواطنين.
وبات واضحًا أن معادلة النهضة التي أقامتها دولة محمد علي قد انتهت بكارثة الهزيمة الكبرى للناصرية في ١٩٦٧م، قبل أن يتمكن النظام العسكري من تحقيق الفكرة القومية وإقامة الإمبراطورية على غرار دولة الخلافة الغابرة، فاكتفى بإقامة أقواس نصر وهمية فوق ردم من جثث الشهداء والمعتقلين وكرامة الإنسان والاقتصاد المنهار، ليتكرر درس التاريخ الدائم: أن غياب الحريات يؤدي إلى غياب مفهوم الوطن، وأن التميز العرقي والطائفي تصحبه بالضرورة قوة القهر السياسي والمذهبي؛ فلا يفرز في النهاية سوى النكبات والهزائم، ومع الهزيمة ثم غياب الزعيم الملهم سقطت مراكز القوى السيادية التي كانت تعشش في أرجاء البلاد لكن لتفسح المكان للفصيل الإسلامي ليستعيد نشاطه ويطرح مشروعه البديل تحت ذات اللاءات الفاشية.
وبالهزيمة وغياب الزعيم وسقوط المشروع شعر المثقفون الناصريون بعد انحسار نفوذهم باليتم والضياع في العراء، فقاموا يبحثون عن ملجأ وملاذ يضعهم مرةً أخرى في مساحة السلطة عند المشروع البديل المنتظر، كان الملجأ وأقرب المشاريع لذات المنهج وذات الفكر وذات الأيديولوجيا هو مشروع الإسلام السياسي، فبدأ الغزل فالحوار فالتحالفات، لكنها أفصحت عن وجهٍ رديء أبان عما آل إليه حال المثقفين اليولياويين، في صحفٍ حزبية قامت تتكسب بنفحاتٍ بترودولارية لمجرد الاستمرار في الوجود، مقابل صفحاتٍ دينية موسَّعة تُردد أبشع المقولات الفاشية وتضرب كل مساحات الحرية، معتمدة على حجةٍ معلنة؛ وهي أن عداء الإسلام السياسي للغرب كافٍ وحده كمعيار لصدق التوجهات ومبرر للتحالفات، مع إغماض العين تمامًا عن دور هذا الغرب في دعم وإقامة عمد تيار الإسلام السياسي، وأن أشد أنصار هذا الغرب في المنطقة هو المركز القدسي للإسلام السياسي ومصدر التمويل الدائم للحركات الإرهابية الفاشية في الوقت ذاته.
وفي مواجهة الإرهاب أصدرت الهيئة العامة للكتاب سلسلة «المواجهة» المفترض أنها كرست لتأسيس وعيٍ وطنيٍ ديمقراطي في مواجهة الإرهاب الفاشي، لكن للمفارقة أن تجد هذه السلسلة تؤسس للحلف بين الفصائل الباقية من تيار يوليو وبين الإسلام السياسي، فنقرأ فلسفة هذا التحالف في كتاب جذور الإرهاب حيث يقول الدكتور محمد الفيومي صفحة ٩ موضحًا قاطعًا: «إنه لا مستقبل للأمة العربية إلا بهما، فلا عروبة من غير إسلام ولا إسلام من غير عروبة، وهما معًا من ركائز الأمة التاريخية والحضارية، ومنهما تستمد أصولها الإيمانية والعقائدية، والتشكيك فيهما يؤدي إلى زعزعة الثقة في نفوس الشباب ويصبح لديه كل شيء مباح، ما دام الإسلام قد أصبح قضيةً ثقافية يجوز حولها النقاش والجدل.»
الرجل يضع شروط التحالف واضحة؛ فهو لا يرضى مبدئيًّا بأي خلاف أو جدل، خاصةً حول الإسلام فذلك في رأيه سبب الإرهاب، هذا رغم اختلاف المسلمين فرقًا ومذاهب وفقهًا زمن الإمبراطورية، ورغم الحس الشعبي الذي رأى أن في «اختلافهم رحمة»، حيث يسمح الاختلاف بالتعددية في الرأي وعدم تسلط رأيٍ أوحد لا يرحم، وعليه فلا يرى الدكتور الفيومي مستقبلًا للأمة العربية بدون إسلام، متغافلًا تمامًا عن ملايين المسيحيين العرب، ولم يقل لنا هل نؤسلمهم جميعًا وهل هذا ممكن في عالم اليوم؟ أم نفعل معهم ما فعله النظام الناصري مع اليهود المصريين عندما طردهم من وطنهم ليعطيهم ذخيرة لدولة إسرائيل؟
هنا ننصت إلى صوتٍ آخر؛ صوتٍ مسيحي عربي هو صوت أنطوان عويس يردُّ على هذا التحالف في مؤتمر العلمنة والهوية العربية بلبنان فيقول: «إذا كانت العروبة مرتبطة بالإسلام فإني لا أقبلها، وأنا أتكلم كمسيحيٍّ ماروني من كسروان، وأظن أن ٩٩٪ من المسيحيين لا يقبلون بها، أما إذا قالوا إن هذه العروبة هي في الوقت نفسه ديمقراطية علمانية، فالمؤكد أن ٩٩٪ من المسيحيين يقبلون بها.»
هل يجوز هنا تكفير الرجل وطنيًّا وتخوينه قوميًّا على العادة الفاشية؟ وهل يختلف أحد سوى الفاشيست على أن الوحدة الوطنية هي القاسم المشترك الأعظم في الهوية التي توحد المواطن بالوطن؟ وهل الدعوة لتحالف القومي والإسلام تقيم حلفًا وطنيًّا أو قوميًّا في مواجهة الآخر أم أنها تُفتِّت الجبهة الوطنية وتنشر الفرقة في الصف الوطني؟ وهل نتج هبوطنا حيث نقبع الآن إلا عن تفعيل لاءات الصراع الديني العنصري مع إسرائيل؟ فأعطينا إسرائيل مشروعية وجودها العنصري الطائفي في المقابل، وأسسنا العداء العنصري الطائفي في وجدان الجماهير حتى دفع المسيحيون المصريون ثمنه على يد الإرهاب لأنهم ليسوا مسلمين، فهم ليسوا مواطنين، بعد أن غاب مفهوم الوطن وحلَّت محله الطائفة والأمة الجماعة.
هذه مجمل الاتفاقات والفروق والتداخلات، لكن الفارق الجوهري بين المفهوم القومي العروبي وبين الإسلامي، هو أن الإسلام دين فهو قيمةٌ روحية وليس وطنًا، أما العروبة فهي قيمةٌ حضاريةٌ تاريخيةٌ مادية، بدليل أن حضارة المسلم العربي ليست هي إطلاقًا حضارة المسلم الأفغاني والصيني، وأن حضارة المسيحي العربي غير حضارة المسيحي الأمريكي أو الفرنسي.
الفروق والتناقضات شديدة الوضوح لكن الأرضية الجامعة الأوضح التي تجمع التيارَين دومًا بشكلٍ سافر أن كليهما فاشيست.