الأبواق الفاشية١
لأسبابٍ وجيهة نعيد التذكير بالعلامة الكبرى بين السمات الرئيسية للمنهج الفاشي في التفكير ألا وهي زعم امتلاك الحقيقة الكاملة والحلول النهائية لكل المشاكل مع تشخيص الفكرة في شخص صاحبها الذي يصبح الزعيم الملهم البطل المنقذ، وهي السمات التي ينبني عليها رفض أي مخالفة أو اعتراض أو نقد، حيث تتوحد الفكرة بشخص الزعيم وبالوطن معًا، وتصبح مجرد مناقشة الفكرة أو نقد الأيديولوجيا أو مراجعة النفس للكشف عن الأسباب التي آلت إليها أحوال الأمة، أو الاعتراض على بعض ممارسات الزعيم أو ذيوله، تصبح خيانة للوطن بعد توحيد الأيديولوجيا والزعيم بالوطن «الذي هو أكبر من أي زعيم.»، ويتحوَّل النقد الذاتي إلى بيع لدماء الشهداء وسقوط في حبائل الإغواء الصهيوني الصليبي الاستشراقي وهلم جرًّا.
وليس أدلَّ على صدق هذا الطرح مما حدث عندما اقتربنا من مناقشة المنهج اليولياوي ومناطق اتصاله وانفصاله مع تيار الإسلام السياسي بحقائق لم نؤلفها ولم نخترعها أو نَفْتَرِها؛ فقد ثارت ثائرة ذيول الفاشية في صحيفة ترفع لواء الناصرية، وأبدًا لم تقف الصحيفة وقفةً رصينة محترمة لتناقش أو لتقول: أخطأت يا صاح أو افتريت كذبًا أو استنتجت خطأ. أبدًا لم تفند الحقيقة ولا الرأي بالرأي ولا الدليل بالدليل أو بالتكذيب الموثق، إنما فتحت معجم أدبيات الفكر الناصري، وفعلت ما أكدناه وقلناه أن كليهما فاشيست؛ فعمدت إلى بذاءاتٍ تقليديةٍ معلومة في قاموسهم الخطابي تعبر عن مدى العجز الذي انتهوا إليه، مع جملة من الاتهامات الرخيصة بالعمالة والتآمر على الوطن، كما لو كانوا هم أو الزعيم هم الوطن، بالضبط ودون فارق يذكر كما تفعل فرق الإسلام السياسي التي تزعم لنفسها الحق مطلقًا وغيرها باطل الأباطيل. ولأنهم كل الحق ولأنهم الوطن فقد رأت الصحيفة أنه لا يوجد مفكر في مصر المحروسة جميعها؛ فتطاولت على أعمدة الفكر الديمقراطي الوطني ما داموا لم يخرجوا من عباءة الناصرية، فإما أن تكون نفرًا تابعًا أو تكون خائنًا، رغم أننا لا نعلم لهم مفكرين حسب المصطلح الدقيق للكلمة، هذا إضافة إلى كون المفكر الوطني الحقيقي هو المفكر المستقل تمامًا عن أي سلطة وعن أي حزب وعن أي جماعة، ولا يكتب إلا بوحي يمليه عليه ضميره الوطني ودون أي غرض أيديولوجي، وإزاء المفكر المستقل لا يجدون في جعبتهم سوى العادة الرخيصة فيكيلون الاتهامات، دون أن يقدموا صحيفة اتهامات واضحة بالأدلة الثبوتية، ويطلبون من الخصم أن يثبت غير ذلك (؟!) نفس المنهج المباحثي في دولة المخابرات الغابرة: أنت متهم إلى أن يمكنك تقديم أدلة براءتك (؟!)، فإذا كان هذا حالهم حتى بعد زوال عروشهم الفاشية, وفي ظل مساحة سماحٍ ديمقراطي لم يصنعوه ولا يفهموه، يمارسون من خلاله ذات المنهج، ويكررون ذات الأساليب! فماذا ننتظر منهم إذا نجح حلفهم مع الإسلام السياسي في الوصول إلى السلطة؟ سوى تكميم الأفواه وإقامة المشانق، واستحضار عدو البلاد هذه المرة ليس إلى مدن القناة لكن ربما إلى عمق الصعيد.
إن ما كتبته الصحيفة الحزبية اليتيمة قد أكد دون حاجة إلى شرح أو إيضاح ما سبق وقررناه: إن الفاشيست قضيةٌ واحدة وأرضٌ واحدة وفكرٌ واحد ومنهجٌ واحد يقوم على تكفير المخالف دينيًّا ووطنيًّا لأنه تجرأ على المراجعة والنقد، الأقنعة متعددة والقسمات واحدة.
فقط رأينا ضمن سلسلة نقد المنهج التي نكتبها لروز اليوسف والتي تملكها حكومة مصر وليس الصهاينة كما قالت الصحيفة المذكورة؛ مراجعةً سريعة لكل المناهج التي آلت بنا إلى حيث نقبع الآن، فكان الرد الوحيد الممكن لديهم هو التكفير والتخوين الوطني والسباب والقذف، وكل ما أردناه ليس بغرضٍ أوحد هو النيل من التجربة الناصرية فهي تجربة لها إيجابياتها، إنما كان عرضًا في طريق نقد المنهج، ولبيان أن المنهج الفاشي الذي يعمد للتكفير والتخوين لا يقتصر على المتأسلمين وحدهم لكنه سمة عامة لدى أي منهجٍ عنصري أو طائفي، حيث تعلو فيه العقيدة والأيديولوجيا والزعيم فوق مصالح البلاد والعباد، هذا رغم أن مصر أمر وهؤلاء جميعًا أمر آخر، فالإسلام قيمة روحية وليس مصر، كذلك التجربة الناصرية كانت مجرد تجربة في تاريخ مصر العريض بما لهذه التجربة وما عليها لكنها أبدًا ليست الوطن بحال.
وإذا كان تقييم التجارب يتم بمدى ما قدمت التجربة للوطن من نجاحات أو نكبات، فهناك معياران واضحان لتقييم أي نظام: الأول هو معيار الداخل ومدى ما حققته التجربة داخل الوطن من إطلاق للحريات والمساواة بين المواطنين على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم ورؤاهم وتحقيق سيادة القانون على الجميع بلا استثناء والارتفاع بمستوى معيشة المواطن والحفاظ على إنسانيته وكرامته بحيث يعدل المواطن الواحد الدولة جميعًا في ميزان الكرامة، والمعيار الثاني هو معيار الخارج ومدى ما حققت التجربة من مكاسب وما أضافت للوطن، ناهيك عن مبدأ المبادئ جميعًا ودونه كل أمر آخر وهو الحفاظ على الحدود الوطنية للوطن وهو أدنى المطاليب إزاء أي نظام حاكم.
والشاهد الذي لا نخترعه للصدق مع النفس والوقوف مع الأخطاء لتجاوزها نهائيًّا هو ما قرره واقع التجربة، فعلى مستوى الداخل لا مجال للحديث عن الحريات وكرامة المواطن بعد إلغاء الدستور وحل الأحزاب ووضع أقصى الإجراءات الاستثنائية وتعيين صغار الضباط في كافة مواقع السيطرة السيادية، مع تطهير البلاد من دعاة الديمقراطية، بحبس رؤساء تحرير الصحف، وإغلاق حوالي خمسين مجلة وصحيفة، هذا على مستوى الإعلام، أما على مستوى التعليم فقد تم فصل ٤٥٠ أستاذًا جامعيًّا دفعةً واحدة، وتعيين الصاغ كمال الدين حسين الذي يحمل درجةً علمية أدنى من مستوى الثانوية العامة؛ وزيرًا للتعليم في المكان الذي كان يشغله عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قبل ثلاث سنوات، وغني عن التذكير أن الصاغ كمال الدين حسين كان عضوًا بجماعة الإخوان المسلمين.
ومع إنشاء إدارات الحكم المحلي حكم الضباط كل المحافظات ومجالس المدن والشركات والمصانع (وبالطبع الوزارات) واحتل غفر يوليو ٧٥٪ من مناصب وزارة الخارجية وسفاراتنا بالخارج.
وعلى مستوى القضاء تم التنكيل البدني بحجة القانون المدني الدكتور السنهوري ثم بعد سنوات كانت مذبحة القضاء المعلومة بعد أن أصبح الزعيم وكيل عموم مصر المحروسة.
وعلى مستوى الوحدة الوطنية اللازمة لتماسك الجبهة الداخلية إزاء صيحات الحرب، فقد تم وضع يد وزارة الأوقاف الإسلامية على الأوقاف المسيحية للصرف منها على الأزهر الذي أصبح مسئولًا بقرارات رئاسية عن كل تراث الأمة ورقيبًا على فكرها وحليفًا لزعيمها، مع تحويله إلى جامعة للعلوم الوضعية لكنها الجامعة التي كرست الطائفية بقرار المادة (١١١) من الباب الخامس الذي يقصر دخولها على المسلمين وحدهم، هذا ناهيك عن كون تنظيم الضباط الأحرار نفسه لم يضم مسيحيًّا واحدًا بينما كان معظم كوادره أعضاء في تنظيم الإخوان وجهازهم السري.
مع هذا كله (مع إيجازٍ شديد) لا مجال للحديث عن حريات، وبالتبعية عن مستوى معيشة واقتصاد آل إلى دمارٍ شامل، ويبقى معيار الخارج، معيار حماية حدود الوطن الذي هو مهمة العسكر الأولى والمهمة الوطنية التأسيسية لأي نظام في الدنيا وعبر التاريخ، مع ملاحظة أن العسكر لم يكن لديهم أية حجة بعد أن سيطروا على شئون البلاد جميعًا، يكفي هنا أن نطالع على خريطة فلسطين الشريط الضيق الساحلي للدولة الإسرائيلية قبل يوليو ١٩٥٢م، لنقارنه بمباحها المرتاح الذي أدت إليه سياسات الفاشية؛ فضمت الأرض حتى مدن القناة وابتلعت كامل سيناء وهي تملك مساحةً حدودية تعادل ما يزيد عن نصف حدود القطر المصري جميعه، ووصلت حدود إسرائيل إلى القدس شرقًا والجولان شمالًا.
إن أي كلام محترم أو وطني صادق لا يمكن أن يقبل أي تبرير أيًّا كان إزاء ضياع الأرض واحتلالها خاصةً وأن العسكر كانوا كل شيء ويملكون كل شيء وكرسوا كل مصر من أقصاها إلى أقصاها عبر زمن أهدرت فيه كل ممكنات الوطن وكرامة المواطن من أجل توسيع رقعة الحدود، وليس إهدار نصفها في فضيحةٍ عالمية مروِّعة ليس لها نظير في التاريخ.
تلك أيها السادة هي المعايير التي تقاس بها التجارب لكن بقايا ذيول الثقافة الفاشية يرون أن ذكر هذه الحقائق خيانة للوطن، وبيع للقضية، وخروج على الصف الوطني واختراق للإرادة العربية وتفريط بالحقوق التاريخية، وإنهم مازالوا يتصوَّرون أن بإمكانهم أن يخيفوا أحدًا، أو أن يفرضوا وصايتهم على أحد دون مسح عرق الخجل لما قدمت أيديهم في حق الوطن والمواطنين.
أما التباكي على فلسطين فقد أصبح كذبًا رخيصًا ومللًا مقيتًا بعد أن تاجروا طويلًا بقضية الحرب (التي خسروها في ساعاتٍ خمس أو بالأحرى وللدقة في ربع ساعة) للقضاء على قضية الحريات في الداخل. وإن حجرًا يلقيه صبي في الانتفاضة اليوم لهو الأكثر شرعية والأكثر شرفًا من كل الشعارات التي أضاعت فلسطين وأخرجتنا من التاريخ، لقد كشف أطفال الحجارة كم زيفنا وكم تاجرنا!
وكم ضللنا حتى أوصلناهم إلى الحجارة سلاحًا، ولم تزل ذيول الفاشية تعزف نغمات الحرب أو التخوين إزاء عدو كانت مناهجنا خير عون لقوَّته واقتداره، بعنصرية أعطته مبررات وجوده العنصري؛ عنصرية مارسناها إزاء أشقائنا في الوطن وليس إزاء عدوٍّ خارجي، ولم نزل، عنصرية مارسناها إزاء ثقافتنا المصرية الأصيلة «القبل عربية» وليس إزاء ثقافة الأعداء، عنصرية دفعتنا لطرد مصريين تاريخيًّا لمجرد أنهم يهود يخالفوننا العقيدة بدعوى تأمين الجبهة الداخلية، وأعطيناهم لإسرائيل تحاربنا بهم، فإن قلنا: أفيقوا يا قوم، قالوا: أهدروا دم الزنديق الخائن (؟!).
إن دق طبول الحرب الآن هو الانتحار بعينه، وبيع كامل ومجاني للوطن، فلا نحن نملك منهجًا علميًّا حرًّا في مناخٍ حر يسمح بالفرز العلمي لإقامة تصنيعٍ تسليحي قادرٍ مستقل، ولا نحن، بتركة الفاشية التي تثقل كاهلنا اليوم، بقادرين اقتصاديًّا على استيراد هذا التسليح، ولا العالم سيسمح لنا بامتلاك هذا التسليح من أجل هذا الغرض، وحتى لو تحققت المعجزة وامتلكنا السلاح الكامل واللازم مع ذات مناهجنا السائدة حتى الآن، فسنتركه مرة أخرى للصهاينة كما فعلنا عندما امتلكناه من قبلُ؛ فالقدرة والنصر في العقل وليس في السلاح، وفي المنهج قبل الأداة.
وهذا إنما يعني أن مشروع الحرب قد تأجَّل إلى أجلٍ غير مسمى، فما هو البديل سادتي الأبواق عالية الصوت؟ وهل ثمة حلٌّ آخر سوى تركيز كل الممكنات في التنمية والبناء الداخلي، والنضال الشرعي الرصين من أجل الوصول إلى مناخ حريات كامل لا يعرف التكفير والتخوين والتحريم، حتى نهيئ العقل للفرز العلمي اللازم للتقدم، وللتحول نحو نظامٍ مدنيٍ كامل يوحِّد أبناء الوطن في بوتقة ومصهرٍ واحد وبمساواة كاملة تخرج بنا من منطقة الأزمة؟ لنخرج من مساحة الضعف إلى دنيا التحضر والقوة بمنطق الزمن ومعاييره، وساعتها يكون لكل مقام مقال إن شئتم حربًا أو دمارًا تقدرون عليه، أما أن تكون مشلولًا قعيدًا وتتنادى بالمغازي والمغانم قبل أن يتحرر عقلك من أسباب هزائمك، فتلك والله مسألة لا يحلها إلا أطباء المستشفيات النفسية والعصبية والعقلية.