وهم الحقيقة المطلقة زعم يدمر الأمة١
بيقين الإيمان وحده نؤمن ونُسلِّم بأن هناك حقائق ومعارف وقيمًا قدسيةً مطلقة، لكنا نؤمن أيضًا أن هذه المعارف والقيم القدسية لا سبيل لبشر إلى الاطلاع على غيوبها ومعرفتها معرفةً كاملةً مطلقة، لسببٍ بسيط وبدهي هو أنها من خصوصيات الله تعالى وحده دون غيره، وأن غاية ما يمكن القول بشأنها أننا نعلم منها الظاهر فقط؛ لذلك تختلف معرفة هذا الظاهر باختلاف عقولنا وقدراتنا وظروفنا ومعارفنا وبيئاتنا وزماننا وأغراضنا، فالظاهر هو النسبي الممكن الذي يسمح بالاختلاف حوله، أما الباطن فهو الغيبي المطلق الكامل الذي يليق بعلم الله وجلال كماله، ولا يزعم زاعم أن بإمكانه الاطلاع على المعرفة الكاملة، وأنه الأوحد المطلع على الحقيقة النهائية المطلقة ليفرض هذا الزعم على كل العقول وعلى كل العباد، لأنه في هذه الحال كمن يزعم أن الله قد اختاره وحده من بين الناس وخصَّه بهذا العلم، وأنه الوحيد دون الناس الذي اطلع على المقصد الإلهي السامي الذي يليق فقط بالذات الإلهية العلية.
ومن هنا ساغ وباح للمسلمين الاختلاف في التفسير والتأويل حيث الاختلاف بشري وطبيعة من طبائع الأشياء، لكن الجرم يقع حين يزعم أحد المختلفين أن رأيه هو الصواب اليقيني الموافق للغرض الإلهي وأن ما خالفه هو الخطأ والانحراف، وهو ما يؤدي في النتيجة النهائية إلى أن ينسب الأول لنفسه كل الصلاح والتقوى ويكفر الآخر المختلف وينفيه من جماعة المؤمنين.
والتساؤل هنا يطرح نفسه مستفسرًا: هل كان اختلاف الصحابة في الفتنة الكبرى زمن عثمان بن عفان خلافًا حول حقائقَ دينيةٍ إلهية أم كان حول أمورٍ دنيويةٍ بحتة؟ إذا أجبنا بأنه كان حول أمورٍ دينيةٍ إلهية وأن أحد الطرفين في الصراع كان يملك الحقيقة المطلقة الإيمانية الصادقة، وأن الآخر كان غير ذلك، فمعنى ذلك تكفير فريق من الصحابة وهو أمرٌ مرفوض يطعن في مؤسسة الإسلام الأولى وينال منها، وذات التساؤل يمكن طرحه حول الخلاف الذي أدى إلى مذابحَ كبرى بين فريق الإمام علي بن أبي طالب وفريق السيدة عائشة بنت أبي بكر وزوج النبي ﷺ في وقعة الجمل وكان أعضاء الفريقين من كبار الصحابة، هل كان هذا الخلاف خلافًا دينيًّا أم كان خلافًا دنيويًّا؟ المعلوم أن صبغ أحد الفريقين بالحق ودمغ الآخر بالباطل قد أدى إلى تمزق صفوف الأمة في فرقٍ مذهبية كبرى تردَّد صداها منذ كربلاء وحتى اليوم، وتنذر بخطرٍ وشيك على حدود أفغانستان وإيران، حيث الخطر كان في ادعاء المختلفين أن كلًّا منهم على الحق والصراط المستقيم وحدهم، وأن الآخرين على غير هدًى وكتابٍ منير، وأنهم الأخسرون.
بينما النظرة الموضوعية التي تحترم الدين وتترفع به عن صراعات السياسة والقوة والنفوذ تعترف بهدوء أن الخلاف كان حول شئونٍ أرضيةٍ دنيوية وأطماعٍ بشرية حتى لو ادعى الطرفان وزعم المختلفان واحتجوا بالأحاديث المختلقة ورفعوا راية الإيمان في وجوه بعضهم البعض.
وهكذا ظل مبدأ امتلاك الحقيقة المطلقة مُصلَتًا فوق رءوس المخالفين، خاصةً إذا اعتصم أصحابه — وهي العادة — بمراكز السلطة والنفوذ التي تملك قدرة القهر والعقاب، وهو الأمر الذي استخدم في تاريخ الدول الإسلامية على تواترها ضد الفكر والمفكرين، رغم أن الفكر لا يستخدم السيف بل القلم، ولا يذبح المخالف بل يحاوره، فترك هذا المنهج سجلًّا مشينًا وكارثيًّا في تاريخنا، عندما استغلقت الأفهام على أحادية الرأي وصدق الواحد السائد وتكفير التعددية والخلاف، فساغ للخليفة هشام بن عبد الملك قتل المفكر المعتزلي الحجة غيلان بن مروان، ولم يجد الوليد بن عبد الملك جريمة في أمره بضرب العالم الناسك نجيب بن عبد الله بن الزبير بالسوط حتى الموت، وصار الأمر سُنة متبعة نضرب منها الأمثلة وليس على سبيل الحصر، فتم قتل العالم المؤدِّب الجليل صالح بن عبد القدوس بتهمة الزندقة، ولحق به الشاعر بشار بن برد بأمر الخليفة المهدي. وكان للمهدي لذةٌ خاصة في اضطهاد المفكرين وذبحهم حتى أنشأ لهم حبسًا عرف بحبس الزنادقة، ومن بعده أمر المعتصم — فاتح عمورية — بجلد المجتهد النابغة الجليل أحمد بن حنبل وحبسه حتى غاب عقله، وأمر الواثق بقتل سيد علماء عصره أحمد بن نصر ثم صلبه، ومات أبو يعقوب البويطي خليفة الإمام الشافعي في حبسه، وتم قتل ابن حيان السبتي العالم لأنه كان يقرأ في العلوم الرياضية، ولحق به المتصوف الزاهد الحسين بن الحلاج، وفي الأندلس تآمر وسطاء الدين المحترفون على ابن حزم وابن رشد؛ فحرقت مؤلفاتهم، وأمر المنصور ملك الأندلس بنفي ابن رشد وأبي جعفر الذهبي وأبي عبد الله قاضي بجاية دفعةً واحدة، وقتل ابن حبيب لاشتغاله بالفلسفة، أما المفسر المؤرخ الكبير الطبري فقد تم قتله بعد اتهامه بالإلحاد، ولحق به الإمام القشيري علم الأشعرية الأشهر، وغيرهم كثير.
ورغم التبديع والتكفير فإن الواضح أنه كان على خلافات دنيوية تم فيها استخدام الدين لامتطاء الجماهير نحو أغراض ومطامعَ بشريةٍ بحتة، فدرس التاريخ يؤكد — فيما كشف عنه الأستاذ علي حرب — أن اختلاف المسلمين إلى فرق ومذاهب كان يقف على أرضيةٍ دنيوية، وأي علم أنشأته فرقة من الفرق هو علمٌ مبتدَع، وكل قولٍ جديد قال به فقيه هو مُحدَث، وأن كل فرقة فقهية على اختلاف الفرق قد تعرضت للخطأ والنسيان والتوهُّم مهما بلغت درجة الفقهاء، فقد كانوا بشرًا لا آلهة.
وإعمالًا لذلك لا يمكن فهم اختلاف المذاهب على تنافرها الشديد واختلافها البعيد، ولا يمكن فهم تعدد المدارس الفقهية رغم تعاصرها وتزامنها، ولا يمكن فهم اختلافات المدارس الفلسفية الإسلامية والمدارس الكلامية وتباينها وتعارضها إلا بالاعتراف بدنيوية الأغراض وبشرية المفاهيم وتاريخية الأحداث، وأن عدم الاعتراف بذلك كان وراء المذابح والمظالم حيث رأت كل فرقة أنها فقط المؤمنة وغيرها على ضلال.
وأن تاريخ السلطة والحكم عبر تاريخ الدولة الإسلامية منذ قيامها يشهد أنها لم تتشكَّل ولا مرةً واحدة إلا بقوة العصبيات والمصالح وقدرة فريق على إخضاع الآخر، ولم تحسم الخلافة لفريق دون آخر إلا بالشروط الدنيوية وحدها؛ بالإنسان، بأهوائه ونزعاته وطموحاته، بالبشرية غير المعصومة وبكل ضعفها. ومن يزعم الأمس أو اليوم أو غدًا أنه وحده الإيمان السليم وغيره ليس كذلك، أو أنه المطلع وحده على الحقيقة الإلهية الكاملة وغيره على ضلال، كمن يزعم أن القرآن الكريم ملكيةٌ خاصة، وأن الله قد عيَّنه وحده وكيلًا عنه وأعطاه وحده تفويضًا للفهم الصادق والتفسير الأوحد، هو كمن يغلق النص القرآني، وهو نص لا يقبل الإغلاق، ولا يمكن استنفاد ممكناته وتفسيراته؛ لأنه نص ملك البشرية جميعًا ومن حق البشرية جميعًا، هو نصٌّ مفتوح دومًا لكل العقول في أي زمان.
والمثال المعاصر أن الأزهر قد اختلف مع دار الإفتاء حول أمورٍ كثيرة، منها مسألة ختان الإناث، ومنها فوائد البنوك، لكنه الخلاف الذي لا يضع أحدهما في دائرة الإيمان والآخر في خانة الضلال، وإلا مزَّقنا الأمة شر ممزَّق.
إن زعم امتلاك الحقيقة المطلقة أدى إلى الانغلاق على الذات ونفي المختلف وعدم الاعتراف للآخر بحقه الديني والإنساني في الاختلاف، بل وأصبح ينظر للمختلف بحسبانه تابعًا لمؤامراتٍ عالمية وأنه ضد الهوية؛ ومن هنا تجوز تصفيته بعد تكفيره، ويتصور هؤلاء لأنفسهم كل الفضائل والحق والوطنية، ولا يستطيعون رؤية المختلف كعنصرٍ مكمِّل أو مماثل أو محاور في ساحة لا يملكها أحد، يرون أنفسهم الحق مطلقًا وغيرهم يتكلم عن هوًى وضلال، ناقص العقل، قليل الدين، ضعيف الخلق، تشوبه النوازع الإنسانية المتحلِّلة الخاسرة، ولا علاج له إلا القتل!
وهؤلاء ذاتهم من يزعمون أنهم يريدون إقامة دولةٍ إسلاميةٍ قوية، وقبل أن يقيموها يروعون العباد بالتكفير والتفريق والتنفير والذبح، حتى إذا ما نجحوا في إقامة دولتهم أسالوا الدماء أنهارًا على اختلاف في تأويل نص أو رأيٍ فقهي، بل إن فرقهم تكفر بعضها بعضًا قبل أن يملكوا أعناق العباد.
وتكمن المهزلة في استعلائهم الشديد بحقيقتهم الكاملة وشعورهم المريض بالتميز المفرط، بينما حقيقة الأمر أنهم يستخدمون فكرًا لا يُكلِّفهم مشقة، فقط يحفظون ويقرءون ويتلون، ويرون أمة المسلمين هي الهادية للعالم، وقيادة العالمين المقبلة؛ مما يجعلنا أضحوكة للعالمين؛ إذ يتساءل الآخر المتفوق كيف جاز لنا هذا الزعم بهداية البشرية ونحن أمة لا تصنع ولا تُنتج ولا تكتشف ولا تتبكر ولا تخترع ولا تفكر! فقط تحفظ وتجترُّ ما حفظت، ويقتل أهلها بعضهم بعضًا لخلاف في الرأي والفكرة.
لقد ساد أصحاب هذا المنهج، وجعلوا لمنهجهم السيادة على كل مؤسساتنا وعقول مواطنينا، حتى تجاهلنا الواقع وحركة التاريخ المتغير في الدنيا؛ فكان عقابنا أن تجاهلَنا هذا الواقعُ وتركَنا في موقعنا بالقاع المهمل، وفي هذا القاع لم تعُد لدينا أية معرفةٍ ممكنة سوى معرفة المقدس والتعرف عليه؛ حتى أصبح هو العلم الوحيد والمعرفة الوحيدة الممكنة، وبامتلاك الحقيقة المطلقة انصرفنا عن تحصيل العلم لأننا نؤمن حسب هذا المنهج بالمفاجأة والمعجزة، فيكفي التزام الحقيقة المطلقة لتأتي المعجزة وتنهض الأمة، وهو المنهج الذي لخصه الدكتور «حامد محمود إسماعيل» في الجزء الثاني من كتاب «المثقفون والإرهاب» الذي أصدرته الهيئة العامة للكتاب لمواجهة الإرهاب (؟!) حيث قال لا فض فوه: «مع التزام الجميع بنهج الإسلام الصحيح تختفي كل السلبيات وتزول عن كاهل هذا البلد الأمين كل الظواهر التي تؤرقه وتقلقه.» أما ما هو الإسلام الصحيح فهو ما اختلفت حوله المذاهب والفرق، وزعمته كلٌّ منها منهاجًا لها؛ فكان هذا حالنا وهذا مكاننا بين الأمم.