المرأة العربية
مرة أخرى نخوض في المحظور وندخل منطقة الخطر؛ فالحديث عن المرأة في مجتمع يراها مجرد حرمة، عورة، متاع للسيد الذكر، ولا يرى لها وظيفة خلقت من أجلها سوى إمتاع سيدها، وراحة بعلها، ومنحه العديد من البنين الذين هم زينة الحياة الدنيا؛ هو حديث سبق وجرَّنا إلى دروب المحاكم ووضعنا في مواقف الاتهام في العقيدة وأمام القانون (؟!)، وكان ذلك فرصة اقتنصها السادة الذكور الأماثل للتكفير والتحريض وإهدار الدم عبر صحف تبحث عن قارئ بضجيج الفتن، وكُتب تم تكريسها لفتاوى مشايخ آخر الزمان، وليس للرد المنطقي الهادئ حول القضايا المطروحة ومدى منطقية الطرح وصلاحه لشئون البلاد والعباد. وحيث نرى القضية جزءًا لا يتجزَّأ من قضايا الحريات والتقدم من أجل أجيال أكثر علمًا ومعرفة وعطاءً وإبداعًا، ومن أجل وطن يعيش الزمان ويتفاعل معه ويتسنَّم موقعه بين الأمم الذي يليق بتاريخه الحضاري العريق، أرى أن القضية قضية حريتي كذكر وأنها يجب أن تمر عبر حرية الأنثى في المجتمع؛ لأنها نصف الأداء والإبداع الممكن في الوطن.
وكانت الغرابة والدهشة أن ينص دستور البلاد على أن جميع المواطنين يتساوون في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن اللون أو الجنس أو العقيدة، ثم تُحاكِمنا محاكم الدولة لأننا نخلص للدستور ونحترمه ونطالب بتفعيل مواده. ولا يخفى على أحد أن السر وراء هذا التناقض في موقف الدولة لا يخرج عن احتمالَين، فإما أن هذه المادة الدستورية قد وُضعت تجملًا أمام الدنيا دون إيمانٍ حقيقي بمحتواها، أو أن الدولة قد انساقت في المزايدة على دعاة الإسلام السياسي إلى حد رأيناه في إدخال مواد على الدستور لم تكن في بنيته التأسيسية، وتتضارب مع بقية نصوصه كما في نص احتساب الشريعة الإسلامية المرجعية الرئيسية للتشريع، وهو بالطبع الافتراض الأرجح، وجميعنا يعلم هذا بوضوح.
وإيمانًا بالمواد المدنية بالدستور — لأن الدستور بطبيعته مدني — واحترامًا لتلك المواد المدنية، وإيمانًا منا أننا لا نخرج على عقيدتنا الحنيفية بل نقول إسلامًا في إسلام، نؤكد مبدئيًّا أننا نرى المرأة كائنًا كاملًا عاقلًا راشدًا، لا تقلُّ شأنًا عن أي ذكر، وأنها أبدًا ليست مجرد متاع، وأنها أبدًا ليست مجرد نصف ذكر، فهي قد تكون طبيبة أو محامية أو عالمة متخصصة منتجة مبدعة، وأن الذكر قد يكون رجلًا خامل الشأن، مجرد كائن عالة على الوطن ولا يستحق أحيانًا القوت الذي يمنحه له هذا الوطن.
لقد سبق وحوكم مفكرون وحوكمنا معهم لا لذنبٍ حقيقي، فقط لأننا أعلنَّا أمانينا الوطنية في تفعيل المواد المدنية للدستور بأن تأخذ المرأة المصرية مكانها في المجتمع حتى يمكنها أن تؤدِّي دورها في العطاء، وأن توضع في مكانها الإنساني اللائق، وقد سبق وقلنا إن أهل القبلة لا يُكفِّرون مسلمًا يتمنى أو يتساءل، وهنا سنطرح مبررات التمني مع التساؤلات عسانا نظفر بمجتهد من رجال الدين ذوي المكانة، نفتح أمامه أبواب التاريخ ليدوِّن على مدخلها اسمه بين من أعطوا للوطن وبذلوا من أجله، نطرح ما نطرح عسانا نظفر بشيخٍ جليل يودُّ أن يسجِّل اسمه إلى جوار السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ الجليل محمد عبده، لأننا لا نقول إننا نقدِّم اجتهادًا بقدر ما نقدم تساؤلات وأماني ومبررات؛ هذه الأماني المشروعة والمنطقية.
•••
على مستوى مسألة التوريث يعلم كل مسلم أنها قد تغيَّرت بتغيُّر الواقع ومستجداته خلال حياة الرسول نفسه ثلاث مرات، لأن القرآن الكريم لم يأتِ دفعةً واحدة مثل ألواح موسى، بل جاء مُفرَّقًا منجَّمًا تغيرت أحكامه وتبدَّلت بتغير الواقع وتحركه، فتفاعل مع الواقع وانفعل به وفعل فيه، وأول الآيات حول الميراث جعلته لذوي الأرحام دون تحديد أنصبة، ولمن كان له عقد موالاة، حيث كان بعض الناس قبل الدعوة يتحابُّون لدرجة أن يتعاقدوا عقدًا يجعل كلًّا منهما وليًّا للآخر يرثه عند موته، وقد أقرت الآيات هذه العقود فقالت: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ (النساء: ٣٣).
وبعد ذلك تم نسخ هذه الآية بآيةٍ جديدة هي آية الوصية كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (البقرة: ١٨٠)، ولم يلبث الأمر على حاله؛ فالواقع سريع الحركة، فتحرك الوحي مغيِّرًا ناسخًا ما سلف بالآية يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ (النساء: ١١)، وكانت تلك آخر آية بخصوص الإرث تواصلت بها السماء مع الأرض حيث توقف الوحي برحيل النبي ﷺ إلى الرفيق الأعلى، وعندها توقف المسلمون وحتى اليوم، رغم مرور أكثر من ١٤٠٠ سنة حدثت فيها متغيراتٌ كبرى وهائلة.
ومن جانبنا ربما نفهم من تتالي آيات بأحكامٍ ثلاثة أنه كان درسًا للمؤمنين، فلو أراد الله حكمًا صارمًا قاطعًا واحدًا لكان قادرًا على تبيانه مرةً واحدة دون تغيير أو تبديل، وإذا كان للتغير والتبديل حكمة فلا شك أن الحكمة تحتمل أكثر من فهم، والفهم المتعدد يحتمل القول أن ذلك كان درسًا للمؤمنين للاعتبار، وأن الإسلام ليس متجمدًا ثابتًا، بل إن للمسلمين دورًا متحركًا فاعلًا فيه ما داموا هم المؤمنين به، وأن المعنى هو أن يتغيَّروا بتغير المستجدات في الأحكام التي تتعلق بحياتهم ومعاشهم، ولا تمس جوهر العقيدة والغيبيات المطلقة.
وبهذا المعنى أفلا يكون تغير الحكم ثلاث مرات خلال حياة الرسول وثباته بعدها مدعاة للقول بجمود الأمة خلال أكثر من ألف وأربعمائة عام بعدها جمودًا صارخًا حرصًا على مبدأ الشخصية الثقافية الثابتة الواحدة؟
ربما يجد قارئنا فيما نقول هنا مجرد افتراض يمثل اندفاعًا غير حميد في الفهم؛ لهذا سنضع هنا — قدر المساحة المتاحة بالمجلة — أهم مبررات هذا التمني والتساؤل منطقيًّا وشرعيًّا.
لقد وعى الفقه الشيعي الدرس؛ فجعل البنت كالولد تحجب الميراث، لكن الفقه السني رفض أن تحجب البنات الميراث حتى ولو كنَّ عشرات، لكن هل يجرؤ مجترئ على تكفير الفقه الشيعي لهذا السبب سوى من يظنون أنهم المطلعون على المقاصد الإلهية مباشرةً؟ وهل توقفت الأمة عن ولادة فقهاءَ كبارٍ يملكون الجرأة الكافية لقول يتمثلون به أسوة باجتهاد الخليفة الراشد المجتهد عمر بن الخطاب، الذي لم يجتهد في حكم بل وصل به الأمر إلى إلغاء سهم المؤلَّفة قلوبهم رغم نص الآية الكريمة على أن هذا السهم فَرِيضَةً مِنَ اللهِ (التوبة: ٦٠) بقولٍ صريحٍ فصيح ونص لا يحتمل لبسًا ولا تأويلًا؟ لقد ألغى الخليفة عمر فريضةً إسلاميةً صريحة، بعد أن تغيرت الأحوال وقوي شأن الإسلام، ولم يعد بحاجة إلى شراء إيمان الناس، لقد غيَّر عمر وأمضى اجتهاده ونفَّذ قراره وفرضه وتم العمل به حتى اليوم، بينما لم يكن قد مضى على وفاة النبي ﷺ سنوات تُعدُّ على أصابع اليدين، ونحن لا نريد تغييرًا ولا تبديلًا بعد مضي القرون الطوال السوالف؟!
سيرد علينا من يقول: لكن هذا هو الصحابي الجليل والخليفة الراشد وأحد المبشرين بالجنة وصهر الرسول وليس مثلنا مسلمًا يعيش في بواكير القرن الحادي والعشرين، وهنا نردُّ بأن تلك حجة عليكم لا علينا؛ فكل تلك الصفات في ابن الخطاب ميزات له في عالم الخلد، لكنها أبدًا لا تعطيه قدسية؛ فهي له وليست علينا، فلم يكن يأتيه وحي حتى نرضى باجتهاده بعد أن رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف، وما الرضى به إلا لمعقوليته وليس لقدسية صاحبه.
وإن الشائع بين الناس عن قدسية لحقت بالصحابة، معلوم أن سببها علماء الحديث الذي أعطوا الصحابة وضعًا فوق بشري، وذلك بغرض المساواة في الحديث بين عمر بن الخطاب وبين آخرين من الرواة مثل أبي هريرة وابن عباس، حتى لتجدُ أبا هريرة في علم الحديث أهم من الصحابة الخلفاء الراشدين مجتمعين، وحتى ضرب علماء الحديث بشهادة ابن الخطاب كل الحوائط لأنهم لو أخذوا بها لحذفوا مئات الأحاديث المنسوبة إلى أبي هريرة، ومثله أيضًا عبد الله بن عباس الذي كان له من العمر سنواتٌ عشر عندما توفي الرسول.
ولا بأس علينا ولا حرام ولا جرم نرتكبه إن ذكرنا وتذكرنا أن علم أصول الفقه قد تم وضعه بعد عمر بن الخطاب بعشرات السنين؛ فلم يعلمه الخليفة وعلمناه نحن، فأعطى من يريد الاجتهاد ميزةً إضافية اليوم، ناهيك عن العلم الحديث بكشوفه ومنجزاته ووسائله التي تساعد مجتهد اليوم ولم تكن في طائلة عمر بن الخطاب.
ثم إن القاعدة الفقهية تقول: «إن العلة تدور مع المعلول وجودًا وعدمًا.» والعلة في جعل المرأة نصف ذكر هو أن الذكر يدفع مهرها ويعولها هي وأولادها، لكن ذلك كان في الأزمنة الغوابر، والمرأة اليوم دخلت كل ميدان بعد تغير أوضاع الدنيا، وأصبحت تعمل وتربح وتعول البيت بدورها، بل وتضيف إلى عملها في الدواوين عملها في البيت تفضُّلًا منها ومكرمة، وهكذا زالت العلة، فما الحكمة في بقاء الحكم المعلول؟
سيردُّ علينا أهل التعصب الذكوري بأن المرأة تظل رغم ذلك ناقصة؛ لأنها تحمل وتلد وتحيض؛ وهو ما يمنعها من أداء الفرائض في مواقيتها، ويبقى الرد: هل انتقص ذلك من إنسانيتها أو من إسلامها فأصبحت من غير المسلمين؟ خاصةً أن عدم أدائها الفرائض لأسباب فسيولوجية جاء بأوامرَ دينيةٍ وليس عن إرادة ورغبة منها.
وتظل الدهشة تُزعجنا وتُشكِّكنا في ذلك الموقف الشديد التعنُّت من قضية المرأة بالتحديد وبالذات، والتركيز على المرأة وميراثها وحيضها ولباسها وفتنتها؛ حتى تأخذنا الشكوك كل مأخذ في الحالة النفسية والهموم الجنسية لهؤلاء المتعصبين، وفي مدى حقيقة ما يُعلنون وصدق ما يُبطنون؛ لأن هناك ما هو أجدى بهديرهم وصراخهم وفيه للأمة النفع العظيم؛ إذ لم نسمع منهم صوتًا جهيرًا لتنفيذ أحكام الدين فيما يتعلق بزكاة الركاز على المعادن وأهمها البترول بالطبع، والتي لو تم تطبيقها لرفعت الفقر عن كل بلاد المسلمين، فأين صوتهم؟ أم أن المركز القدسي البترودولاري له أثر آخر! فيؤمنون ببعض الكتاب ويَغضُّون الطرف عن بعضه؟ وهل لذلك علاقة بعيشهم الهنيء وطعامهم المريء؟ مجرد تساؤلاتٍ بريئة إزاء تشدُّدهم في قضية المرأة، وإزاء قضية فقر بلاد المسلمين رغم أنها محلولة بزكاة الركاز، وهي القضية الأجدى بالصراخ من قضية الميراث والحجاب والطمث، والأهم هنا أن تبريرهم لنقص المرأة بعيوب فسيولوجية مردود عليهم بالقرآن نفسه فنقرأ الآيات الكريمة وهي تتابع فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ (النساء: ١١).
هنا أيها السادة حالة مساواةٍ واضحة لم تضع باعتبارها الحيض والنفاس كعلامات نقص، فمن مات وكان له أخ أو أخت أو والدان أب وأم؛ تساويا في الميراث. الأمر إذن ليس لعيبٍ جسدي يعوق المرأة عن أن تكون إنسانًا كامل الأهلية، وإلا ما تساوت الأخت مع الأخ والأم مع الأب.
والكلمة الأخيرة: أسمعونا صوت عراككم من أجل رفع الفقر عن كاهل المسلمين، طالبوا أيها السادة بزكاة الركاز لعلكم ترحمون، وارحموا نساءنا؛ فهن أخت ووالدة وابنة، كما تميزن بالحيض تميزن بحنوٍّ ورحمة لا يعرفهما الذكور، وهنا الخلاف الفسيولوجي، وهنا أثره الحقيقي ونتيجته، الحنان الأنثوي الذي يجعل الحياة تخضرُّ أمامنا مقابل القسوة الذكورية الغشوم التي تصيب حياتنا بالجفاف والتصحُّر.