الفلسفة ومستقبل قريتنا الأرضية
هذه أفكارٌ دامعة أو دموع فكرية، أذرفها استجابةً لطوفان الدموع التي تفيض أمامنا كل يوم في نشرات الأخبار وفي الصحف اليومية، من عيون الألوف المؤلَّفة من ضحايا العدوان الصربي الوحشي والقتل الجماعي وذبح النساء والعجائز والأطفال، ومن عيون الرُّضَّع والشيوخ والشباب الجائعين في جنوب السودان والصومال، ومن فواجع اللاجئين والمشرَّدين نتيجة الاضطراب الشامل على أعتاب ما يُسمَّى بالنظام العالمي الجديد. وهي تنبع من حيرة المتفلسِف أو المشتغِل بالفلسفة (ولا أقول الفيلسوف؛ لأنه لم يزَل غائبًا عن ساحة الاضطراب العالمي والمحلي)، كما تعبِّر عن يأسه وغضبه من عجزه وعجز معرفته وفكره عن مواجهة البركان المتفجِّر في كل مكان بأدواته وإمكاناته التقليدية، وعن خيبة «الحكمة الخالدة» إزاء الجنون الذي يُوشِك أن يُغرِق جنس «الحيوان العاقل» ويدمِّر وجوده، ويُزري بكل ما يعتزُّ به مِن تقدُّم وتطور واستنارة وحضارة وعلم وفن … إلخ، كادت كلها — أمام أهوال الفظائع الفاجعة — أن تستحق الإلقاء بها في أقرب صندوق للقمامة.
ومن الصعب أن أكون نقديًّا وتحليليًّا لأضع عناصر الموقف الإنساني الراهن في ميزان النقد الموضوعي الهادئ بينما تختلُّ كل الموازين وتهتز، وذلك على الرغم من اقتناعي أيضًا بأن «النقد الفلسفي» مدعوٌّ، في هذه اللحظة أكثر من أي لحظة أخرى، إلى القيام بدوره في تحليل الواقع بكل أبعاده، وتجاوُز أوضاعه القائمة، ومراجعة قِيمه ومعاييره السائدة بغيةَ تغييره من جذوره، كما أنه مدعوٌّ كذلك، أو ربما قبل ذلك، إلى ممارسة النقد على الفلسفة ذاتها؛ على مفهومها وطبيعتها ومناهجها والغاية منها، على نحو ما حدث على الدوام في أوقات الأزمات والتحولات الكبرى، ومع ولادة كل فيلسوف عظيم وكل فلسفة أصيلة منذ القِدم وحتى اليوم.
ومع اعترافي بعجزي تجاه المِحن والمآسي المتلاحقة عن أن أكون عقلانيًّا ونقديًّا كما ينبغي لكل مُنتمٍ إلى الفكر الفلسفي، فسوف أجدني مضطرًّا — بحُكم الطبع أو بحُكم الضرورة التاريخية القاسية — إلى اتخاذ موقف أقرب ما يكون إلى مواقف فلاسفة الحياة، الذين يلجئون إلى الشعور والتعاطف والحب والتفهم أكثر مما يلجئون للعقل، الذي يحدِّدون مجاله ويقصرون استخدامه على ميادين العلم والعمل، كما يتبنَّون منهج الحدس، أو الفهم الأقدر في رأيهم على النفاذ إلى صميم الحقيقة الحية، والتغلغل في نهر الصيرورة والفعل المتدفِّق؛ هذا الفعل الذي بلغ كما أشرت من قبلُ حدَّ التفجر والتدهور والجنون الوحشي المستعر.
لذلك لن أستطيع أن أعِد القارئ بأكثر من أفكار مؤقَّتة تحتاج إلى جهد أكبر، وقراءات وتأملات وتأويلات أعمق ربما تُتيحها الأيام في وقت لاحق وتساعدها على النضوج، وسيكون حالي أشبه بمن يحاول التأمل بينما ينهار السقف فوق رأسه ويهتز الأساس تحت قدمَيه، أو بمن يحاول رسم لوحة أو وضع لحن موسيقي في الوقت الذي تشتعل فيه نيران الحرب من حوله، أو تنهال سياط الجلَّادين في مُعتقَلات العذاب والتعذيب على جسده.
أمامنا المسرح العالمي المُخيف تدور على خشبته الأحداث المُخيفة؛ تطرُّف وتعصُّب، عنف وإرهاب، عصابات «مافيا» وشركات احتكار عابرة للقارات ومصاصة للدماء، شعوب كاملة مهدَّدة بالإبادة والتشريد والأوبئة والمجاعات، حوالَي بليونَين من البشر يعيشون تحت المستوى الأدنى للحياة الإنسانية، حكام بالاسم وحده وهم في حقيقتهم سفَّاحون بالجملة، كأنما انشقَّت عنهم قبور الآشوريين أو الرومان أو المغول والتتار، تخريب للبيئة والأرض — مهد البشر ولحدهم — تحت ضغط الضرورات الاقتصادية أو التجارب النووية أو التكنولوجيا الصناعية التي أفلتت من كل الحدود، وأوشكت أن تغتال الخضرة في كل مكان، سخطٌ وتمرُّد وبطالة وجريمة وضجيج وفقدان للمعنى، لا سيَّما بين الشباب الثائر بلا ثورة في أرجاء العالم كله. وعلى الجملة، غيابُ الحكمة واغترابها عن الواقع اليومي للبشر العاديين الذين تزداد تعاستهم وشقاؤهم، واغتراب البشر العاديين والمتخصِّصين المُحترِفين على السواء عن الحكمة ومقاصدها العالمية، والإنسانية التي لم تغِب أبدًا عن ألباب الحكماء الحقيقيين في الشرق والغرب منذ آلاف السنين.
ونسأل السؤال الخالد الأليم: ماذا نفعل؟ ماذا يفعل المتفلسِف لإنقاذ الفلسفة أو الحكمة من اغترابها عن الواقع، ويُنقِذ الواقع من اغترابه عنها؟ ماذا يفعل لإنقاذ الإنسان من أهوال القُوى الوحشية التي تشوِّه إنسانيته، وتمسخ حقيقته، وتزيِّف معناه ورسالته على الأرض؟ هل يبقى في مقاعد المتفرِّجين، مع العلم بأن النار التي تلتهم المسرح يمكن أن تمتدَّ ألسنتها إلى القاعة؟
هل يمكن أن يشارك بجهده وشخصه وكتاباته مع زملائه، في الاقتراب من الغايات والأهداف الكبرى المنوطة بالعقل والفلسفة، منذ أن وُجد الإنسان وبدأ الوعي التأملي في حقائق الوجود والفعل والقِيم والمصير، وفي وضع الإنسان في الكون ودوره فيه، والأمانة التي يحملها خلال الفترة القصيرة لوجوده في العالم، بعد أن أبَت أن تحملها السموات والأرض والجبال؟
قبل محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من تأكيد الاحترام والتقدير للمعرفة الفلسفية بأنظمتها وفروعها المختلفة؛ فهذه الأنظمة المتخصِّصة تتقدم وتمضي في طريقها المعرفي الدقيق، ولا بد أن تُتابِع السير فيه وأن يُساهِم كلٌّ منا بجهده في هذه المسيرة. هذا شيء لا غنى عن تأكيده منذ البداية بكل ما نملك من قوة ومن احترام للمعرفة العلمية الدقيقة، التي لا يشكُّ أحد في كونها شعاع الأمل المضيء، وربما الوحيد، وسط الظلمات المُدلهمَّة التي تزحف اليوم على وجود «الحيوان العاقل»، وتُحاصر حقه في الحياة والسعادة والأمن والسلام والوعي والمعرفة.
والأسئلة التي طرحناها الآن قد لا تدخل بصورة مباشرة في الكثير من التخصصات الفلسفية الدقيقة، التي أمعنت في التخصص استجابةً لروح العصر العلمي والتقني؛ لأنها إما أن تقع وراءها أو فوقها، دون أن تكون لهذا السبب هامشية أو من قبيل التزيد والفضول. أضِف إلى هذا أن الإجابات الممكنة عنها والغايات المأمولة منها قد تنعكس عليها، فتُخرِجها قليلًا من أبراج تخصصها أو تؤثِّر على اتجاهها، أو تقرِّب بينها وتساعد في النهاية على تحقيق الوحدة الكلية المنشودة، وهي وحدة الثقافة والمعرفة والإنسانية (التي طالما تطلَّع إليها وفكَّر فيها الفلاسفة بأشكال مختلفة، من بعض حكماء الشرق القديم إلى بعض السفسطائيين إلى أفلاطون والرواقيين، إلى ديكارت وليبنتز وهيجل وهسرل وياسبرز وراسل وتوينبي وعدد من الماركسيين الجُدد والوضعيين المناطقة …) ويزيد من ضرورة التفكير والعمل في سبيل هذه الوحدة الشاملة ما يتردد اليوم على كل لسان من أن الأرض قد أصبحت قرية عالمية صغيرة، وأنها مهدَّدة بالفناء على يد أعظم وأتعس المخلوقات التي تدبُّ عليها وأخطرهم على مصيرها، وهو الإنسان.
إننا نلاحظ اليوم أن الحكمة قد خُلعت عن عرشها، وأن الفلسفة قد اغتربت عن مجتمعاتها كما اغتربت هذه المجتمعات عنها في الغرب والشرق على السواء. وطبيعيٌّ أن تختلف الأسباب هنا وهناك، وأن يبلغ الأمر حد تحريمها أو تشويه سمعتها والافتراء عليها عندنا أكثر مما هو الحال عند غيرنا. وإذا صبرت عليها «السلطة» هنا أو هناك؛ فلأنها جزء من الترف الأكاديمي الذي يُستكمل به الديكور الثقافي، أو لأنها ثرثرة محصورة بين الجدران الجامعية ولا خطر منها ولا أثر لها. ولعل السبب الأعمق هو فقدان الثقة في الفلسفة، والاعتقاد بعجزها عن التأثير في مجرى الأحداث العامة وفي الوعي والرأي العام، أو في الحياة الخاصة للمواطنين المشغولين عنها بهمومهم الخاصة. وحتى إذا قلنا إن لكل إنسان بالضرورة فلسفته، فلن تكون هذه في النهاية سوى فلسفة شعبية غامضة، تتكون في الغالب من أخلاط متناقضة يحصِّلها الإنسان العادي من التقاليد والآراء الشائعة والأفكار والعواطف المتدفِّقة ليلَ نهار، مِن أجهزة الإعلام ووسائطه وأبواقه وأقماره الصناعية (التي حجبت ظلماتها المُنهمِرة وجه قمرنا القديم الحنون!)
إن الأسباب الحقيقية لاغتراب الحكمة وعجزها يمكن أن تنحصر في نوعَين: أسباب داخلية تتعلق بالمشهد الفلسفي المعاصر عند الآخرين وعندنا، وأسباب خارجة عن الفلسفة نفسها أو خارجة عن إرادتها. وسوف أناقش هذه الأسباب على ضوء الغايات والأهداف والمُثل الإنسانية العامة، التي يمكن أن تسعى الفلسفة لتحقيقها «هنا والآن»، أو بالأحرى التي يبغي عليها أن تسعى لتحقيقها على نحوٍ أكثر تصميمًا، وعلى نطاق أوسع مما حدث حتى الآن.
أما فيما يتعلق بالأسباب الداخلية، فأقصد بها فجوة الاختلافات والفروق الفنية والموضوعية الدقيقة التي تفصل بين الاتجاهات والتيارات الفلسفية المختلفة، سواء بين القارة الأوروبية والأمريكية من ناحية، أو بينهما وبين الاتجاهات والتيارات المتأثِّرة بها أو المنقولة عنها، أو التي تحاول مع افتراض حسن الظن الشديد أن تتميز وتستقل عنها في عالمنا الثالث من ناحية أخرى.
والسبيل إلى التقريب بين هذه الاتجاهات والتيارات وتحقيق نوع من التقارب في الأهداف والغايات والمُثل المشتركة ليس مستحيلًا كما يبدو لأول وهلة، لا سيَّما إذا تذكَّرنا أن هذا التقارب والتفاعل قد تم على سبيل المثال في الفلسفة الأمريكية، التي تأثَّرت في العقود الأخيرة، وفيما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، بفلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة التأويل (الهيرومينويطيقا)، خصوصًا في الدراسات المتصلة بفلسفة الفن والجمال وبالنقد الأدبي. كما أن التقارب والتفاعل قد تحقَّق أيضًا في الفلسفة الأوروبية المعاصرة، التي أدمج بعض أعلامها عناصر هامة من العقلانية العلمية والفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة التي ازدهرت جميعها في العالم الأنجلو-أمريكي، وذلك مثل «هابرماس» الماركسي الجديد في فلسفته النقدية. وسُبُل التقارب والتفاعل الذي تم وينبغي التوسع فيه هي من الوضوح بحيث يمكن الاستغناء عن ذِكرها: تعميق الحوار بين الأطراف المختلفة في المؤتمرات واللقاءات المحلية والعالمية، التقريب بين الاتجاهات والمدارس المتعدِّدة؛ بتمثيلها وإفساح المجال لسماع أصواتها في أقسام الفلسفة ومعاهدها في الجانبين. ولا شك أن التوسع في الحوار ليشمل الأقسام التي تدرس الفلسفة الغربية خارج نطاق العالم الغربي كله، سيُساعِد على تنمية بذور الاتجاهات المستقلة داخل العالم الثالث نفسه، بشرط أن يعتمد في كل الأحوال على المعايير والأسس التي تضمن تحقيق الحوار الحر القائم على الاحترام والتفاهم المتبادل، والمعرفة الكافية من الأطراف كافة بالخصوصيات الثقافية المتميِّزة والعموميات والقِيم المشتركة في وقت واحد. وإذا كان المفكرون والعلماء وأساتذة الفلسفة من أبناء حضارة «اللوجوس» الغربية لا يكفُّون عن اللقاء والتعاون في مشروعات مشتركة، فما أحرانا نحن أبناء العالم الثالث بالسعي إلى التواصل فيما بيننا من ناحية، وفيما بيننا وبين أبناء الغرب من ناحية أخرى؛ بغيةَ التعرف على العوامل المشتركة، ومحاولة تجاوز الحدود المُصطنَعة بين شرق وغرب كما سيأتي بعد قليل! ستبقى الفروق النوعية في أساليب البحث والتفكير قائمة بغير شك، ولكن ربما يتم قدر كبير من التقارب والتلاقي إذا تواصل الحوار حول موضوعات وإشكالات تهم البشرية العاقلة بأسرها، وقد يتم هذا التقارب إذا تصوَّرنا أن موضوع الحوار هو، على سبيل المثال، غياب الحكمة والعقل في السنوات الأخيرة من القرن العشرين الذي استشرت فيه مختلف ظواهر الجنون الجماعي، بحيث لم يعُد يكفي أن نسمِّيه عصر القلق، ومشكلة السلام العالمي التي تُركت حتى الآن للساسة والقادة العسكريين، وقضية الحكومة العالمية التي تجسِّد الضمير العالمي، وتردع الحكومات الفردية المعتدية — كما تصوَّرها كانط مثلًا في مشروعه المشهور عن السلام الدائم — وتغيير النُّظم التربوية على أساس الاحترام المتبادل بين شتى الثقافات، وتنمية هذا الاحترام عند أبناء الغد، والعمل على زيادة التواصل «والتثاقف» بينها؛ للتخلص تدريجيًّا من أشكال التعصب العِرقي والقومي والتطرف الديني والمذهبي. التفكير المشترك — بصوت مسموع يصل إلى آذان الساسة والعامة — في مستقبل البشرية — المهدَّدة في كل لحظة بالفناء والاندثار — والعوائق التي تسدُّ الطريق إلى وحدة الحيوانات التي نسيت أو كادت تنسى أنها حيوانات عاقلة، وآن أوان إعادة الذاكرة إليها. باختصار: تشكيل محكمة ضمير عالمي دائمة تُمارِس الإدانة والضغط المعنوي على كل مُعتدٍ على الضمير العام، وكل آثم في حق الإنسان وحريته وكرامته وحرمة حياته وجسده وشخصيته وحقوقه الأولية. والمهم أن نتذكر على الدوام أن «السعي إلى الحكمة» لم تكن الحاجة إليه أشد إلحاحًا منه في هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين؛ قرن العنف والتدمير والضوضاء وسعار الانتحار الجماعي المجنون.
غير أن أخطر الأسباب الداخلية يأتي من الفلسفة نفسها؛ فعليها أن تُراجِع طبيعتها ومفهومها وتعريفاتها التقليدية ومناهجها وأساليب رؤيتها، إذا شاءت أن تصبح «حكمة عالمية» كما سمَّاها كانط، أو «حكمة خالدة» كما وصفها ليبنتز وياسبرز وهكسلي وغيرهم. ولا يقتصر الأمر على تغيير الوصف والتسمية، وإنما يتعداه إلى المهام الجديدة التي تُلزِمها اليوم، أكثر من أي يوم مضى، بأن تكون عالمية وإنسانية، وأن تتحول — على الأقل في المجالات المختصة بالقيم والغايات الأخلاقية والمُثل والأحلام والأهداف المستقبلية التي يمكن الإجماع عليها — إلى حكمة مناضلة تتسلح بأسلحة النقد والمقاومة لكل مَن يعطِّل العقل، ويغيِّب الوعي، ويشوِّه الإنسانية، ويطمس البديهيات الأولية التي انكفأت اليوم على وجهها في بحور الدم المراق، وطوفان الكذب والتزييف المنهمِر من أجهزة البث المرئي والمسموع، ووسائل غسل المخ وأبواقه ليلَ نهار. وعليها أخيرًا أن تحافظ على حريتها؛ لكي تستطيع الدفاع عن الحرية، وإلا سقطت في الهاوية التي سقطت فيها فلسفات سيئة الحظ تبنَّتها سلطات إرهابية (كما حدث أخيرًا للماركسية وللصحوة الإسلامية، في ظل النُّظم الأيديولوجية المتحجِّرة والنُّظم العسكرية الطاغية المختلفة).
قلت إن غياب الحكمة من أبرز سمات العقود الأخيرة للقرن العشرين، سواء أخذناها بالمعنى المألوف أو بمعناها في التراث السقراطي والأفلاطوني والأرسطي.
أما في التراث السقراطي، فيُقصَد بالحكمة معرفة «الأمور القصوى» أو «الحقائق النهائية». وطبيعيٌّ أننا لا نُطالِب الإنسان العادي أن يملك «الحقيقة النهائية»، سواء كانت هي معرفة الله أو المُثل الأفلاطونية أو أي حقيقة أخرى؛ فحكمة الحكيم تتجلى قبل كل شيء في معرفته بنفسه وبغيره، وفي نفاذ بصيرته إلى الطبيعة الإنسانية والحياة بوجه عام، بحيث يكون قادرًا على الرؤية الكلية لهذه الحياة في وحدتها وشمولها، كما يكون أقدر من كثيرين غيره على أن يهتدي بالعقل في أفعاله، ويُدرك الأهداف الصحيحة إدراكًا واضحًا، ويُحسِن اختيار الوسائل المؤدِّية إلى بلوغها. ولا حاجة للقول بأن من مقوِّمات حكمته كذلك أن يرى الأشياء رؤيةً نزيهة ومن مسافةِ بُعدٍ كافية، وأن يتحكم في عواطفه وانفعالاته ليحتفظ بهدوئه واتزانه العقلي في الأوقات العصيبة، والظروف التي تفرض عليه اتخاذ القرارات والمواقف من الأشخاص والأشياء قبل الإقدام على الفعل. وكلها ألوان من الحكمة التي يمكن أن نجدها عند فلَّاح بسيط ولا نجدها عند أغلب من نسمِّيهم «أساتذة» الفلسفة. ويكفي «مُحبَّ الحكمة» بهذا المعنى القريب المألوف أن يسعى لفهم «الموقف» أو «الشرط الإنساني»، ورؤيته رؤيةً كلية من خلال مظاهره وتجلياته وتعبيراته المختلفة في خِضمِّ ملحمة التاريخ البشري. ولا شك أن هذه الرؤية ستنطوي على التأمل في فناء الإنسان أو تناهيه، وفي دلالة هذا الفناء والتناهي على مقوِّمات وجوده التي أفاض في شرحها الوجوديون، وسينعكس هذا أيضًا على موقفه من الزمان؛ إذ لن يكون حكيمًا مَن لا يتأمل ماضي الإنسان وحاضره؛ لكي يكون أقدر على التبصر بمستقبله، والإعداد له، والاستجابة لمطالبه، واستشراف آفاقه وممكناته، والتأهب لمواجهته بالمعرفة والإرادة، وفي هذا يقول شاعر الألمان الأكبر «جوته»: «من لم يُحِط علمًا بما مر بالبشرية عبر ثلاثة آلاف عام، فسيبقى طوال حياته تائهًا يتخبط في الظلام.»
إن الإنسان في هذا القرن يفتقر إلى الحكمة؛ لأسبابٍ يصعب حصرها وتحديد أنواعها. ربما يكفي القول بأنه في لهفته على معرفة الطبيعة والسيطرة عليها بمعلِّمه ووسائله التقنية، قد أهمل السعي الذي لا يقلُّ عنه أهمية لمعرفة نفسه ورعاية باطنه وضميره وأخلاقياته، وكانت النتيجة — كما يقول أينشتين في عبارة معروفة — أنِ اكتملت وسائله، واضطربت غايته، وظهر عجزه عن مواجهة حقيقة نفسه وعالمه الذي صنعه، ثم أخذ يدمِّره بأشكال مختلفة؛ في خداعه لنفسه أو استسلامه لمختلف الأساطير والأوهام والخرافات التي خدعته بها قُوًى نسجت شباكها حوله (كالقُوى والمصالح الموجَّهة للسوق الاستهلاكية العالمية، والاتجاهات العنصرية والطائفية والمذهبية المتعصِّبة، التي تصوَّرت أنها استأثرت بالحقيقة المُطلَقة؛ مما جعله في النهاية أداة لأعمالها الإرهابية أو ضحية لها). ولا شك أن من أخطر مظاهر انعدام الحكمة هذا الانفلاتَ الصاخب من كل الحدود والمعايير على كل المستويات، باسم التجديد والتجريب تارة، وباسم الحياة أو الحب أو الثورة على كل الأنظمة المتسلِّطة تارة أخرى. وليس من قبيل المصادفة أن تكثر الطقوس العجيبة وممارسات الجماعات الشاذة والجرائم البشعة كثرةً هائلة في أقوى الدول وأعظمها سيطرة على العلم والتقنية.
نعود إلى السؤال: ما العمل لإنقاذ الإنسان من نفسه؟
ما العمل لإيقاف اندفاعه إلى اللاعقل والجنون المدمِّر؟
وبماذا يمكن أن يساعد الفلاسفة في هذا الإنقاذ؟
إن هذه الأسئلة تقع بالضرورة في التبسيط والتعميم، والمشكلات التي يُدعى الفيلسوف لمواجهتها شديدة التشابك والتعقيد، والدور الذي يمكن أن يقوم به مشكوك فيه منذ البداية؛ بسبب الشك أصلًا في قدرة الفكر على التأثير والتغيير، بجانب الشك الشائع في ثقافتنا في قيمة الفلسفة وضرورتها ووجودها أصلًا.
هذه الكلمة الأخيرة تنبِّهنا على الفور لدور المتفلسِف في الدعوة إلى «الوعي العالمي والإنساني»، الذي كان وما يزال غائبًا عن كثير جدًّا من كبار المفكرين في الغرب بوجه خاص (من أرسطو إلى هيجل وحتى ياسبرز وفلاسفة مدرسة فرانكفورت. دع عنك غيابه عن كثير جدًّا من أساتذة الفلسفة في نفس البلاد والمناطق، التي تتم فيها في هذه الأيام واللحظات أبشع مذابح الإبادة والتطهير العِرقي والتعصب الديني والاضطهاد العنصري، وسجن شعوب بأكملها ومحاصرتها من قِبل بعض الدول الإرهابية، بجانب الألوف المؤلَّفة من الجرائم التي تُنفَّذ في غياهب السجون والمُعتقَلات وزنازين التعذيب، فضلًا عن المقابر الجماعية التي لا يسمع الناس عنها إلا عن طريق بعض الصحفيين والمتطوِّعين الشجعان أو مؤسسة العفو الدولية، وإذا سمعوا عنها أصلًا فبعد فوات الأوان).
إن الفلسفة — في مجموع تراثها العريق وفي شتى الحضارات — أقدر من غيرها من أنظمة المعرفة على تكوين هذا الوعي العالمي، وتأكيد وحدة البشر على كوكبنا الضئيل أو قريتنا الصغيرة. والذين يحملون على أكتافهم أمانة تعليم الفلسفة يمكنهم، إذا استقام فهمهم لرسالتها، وتجردوا من تحيزاتهم وتطلعاتهم وصراعاتهم الصغيرة، يمكنهم أن يُلقوا الضوء على المسلَّمات والافتراضات، والقِيم وأساليب الحياة، والاتجاهات والنزعات الخفية، والتحيزات المُغرِضة العميقة الجذور في عقول الناس في كل مكان، وربما استطاعوا كذلك بأساليب تحليلهم ونقدهم «العلاجية» — على حد تعبير فتجنشتين — أن يشفوا أصحاب السُّلطة من أفراد ومؤسسات سياسية واجتماعية وعلمية ودينية من نزعاتهم اللاعقلية واللاإنسانية، ويقرِّبوهم من آفاق الوعي العالمي والإنساني الشامل الذي يتَّحد فيه الأنا مع الأنت، بل يصبح هو الأنت، وفي استطاعتهم أخيرًا أن يُفيدوا من تخصصاتهم المحدَّدة في فلسفة القيم والأخلاق والميتافيزيقا وتاريخ الفلسفة ونظرية المعرفة والأنثروبولوجيا الفلسفية والتفكير المستقبلي … إلخ، في فحص وتحليل ونقد العديد من أمراض العصر التي كادت أن تُصبح أمراضًا مُزمِنة، كالعنف وتغييب الوعي بالمخدرات والشعارات والتهالك على اللذات والتطرف العنصري والقومي والطائفي والديني، وانتشار مشاعر اليأس والإحباط واللامبالاة، خصوصًا في المدن المكدَّسة بملايين البشر المقضي عليهم بالعذاب اليومي في جحورها وأوكارها ومكاتبها ومصانعها وسجونها وحافلاتها وأماكن لهوها، وكأنهم جيوش فيران شرِسة تعِسة، ناهيكم عن كثير من المشكلات الطاحنة التي تستحقُّ ألا يُشيح المتفلسِف «البرجوازي» ببصره واهتمامه عنها، بينما هي تصدمه كلما فتح جريدة الصباح أو أدار مفتاح التلفاز؛ مشكلات الطفولة والشيخوخة وصراع الأجيال، الشذوذ الجنسي وإدمان الشباب، ضياع ملايين اللاجئين المشرَّدين الجائعين من ضحايا صراعات القوة والسيطرة بين النُّظم والحكام والأفراد، وركام التخلف والاستبداد والعجز واليأس والحرمان الذي ما فتئ ينهال على رءوس التُّعساء في الشرق التعِس منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
وطبيعيٌّ أنهم لن يتمكنوا من الاقتراب خطوة واحدة من الوعي العالمي والإنساني أو من التضامن والسلام بين البشر، حتى يبدءوا بتحقيق هذا السلام بينهم كأشخاص واتجاهات وتيارات، ويراجعوا مفاهيمهم التقليدية عن الفلسفة وفاعليتها ووظيفتها وغايتها، ويتذكروا المهام والآمال المعقودة عليها، لا كمعرفة موضوعية دقيقة وحسب، بل كأداة تحرير — بطيء ولكنه أكيد! — للإنسان العادي أو «الرجل الصغير»، الذي طالما تجاهلته وأهملته مع أنه هو الضحية الأولى والأخيرة لما يحدث اليوم من مآسٍ وفواجع ترتَّبت — في جزء منها على الأقل — على بعض أنظمتهم و«أيديولوجياتهم» وشطحاتهم. ويزداد هذا المطلب إلحاحًا في وقتنا الحاضر الذي تعلو فيه بعض الأصوات التي تُعلِن نهاية الفلسفة (مثل هيدجر ورورتي).
لا شك أن تعريف أرسطو للإنسان بأنه الحيوان الناطق أو العاقل قد يبدو اليوم خطأً لا يُغتفَر، اللهم إلا إذا وضعناه في إطار فلسفته النسقية المُحكَمة، ومنطقه الصوري الذي كان منطق الثبات والتحدد. فلم يزَل العقل الحي يُصارِع خلال التاريخ لإثبات جدارته وإبداعه وحيويته، ولم يزَل يتصادم مع القُوى العمياء للشر والجنون واللاعقل واللامنطق (وهي القُوى التي لم تغِب عن بال أرسطو نفسه، وإن لم يتصور أنها يمكن أن تبلغ ما بلغته اليوم وفي أوقات المِحن والكوارث الكبرى من تدمير للعقل والمعنى). نعم! ليس الإنسان مجرد حيوان ناطق، وإنما هو قيمة مجسَّدة وشخص حي حر مريد، يغيِّر الواقع، ويتمرد على المألوف، وينزع للامحدود ويصنع الحضارات، ويُبدِع الفنون والآداب والعلوم، ويشرع نفسه على الممكن والمستقبل لتحقيق ما لم يتحقق بعد، ويعقل اللامعقول، وينظِّم الفوضى، ويقفز فوق ظلال جسده وبيئته وجنسه ولونه ومعتقده، بل يتخطى حدود عالمه وكل ما هو في عالم لعله يعرف نفسه التي لا تنفكُّ تعذِّبه وتُفلِت كل تحديد؛ حتى يُدرِك وحدتها الجوهرية مع كل ما ينبض بالحياة أو يسمو على الحياة. وهنا أيضًا يُثبِت سقراط أنه الحكيم الذي لم يزَل واقفًا على عتبة باب الغرب المتسلِّط المغرور بمنجزات عقله وعلمه وصناعته، ولم يزَل هو اللغز الساخر والسؤال المحيِّر الذي يُلحُّ عليه أن يعرف نفسه، كما يُلحُّ علينا أيضًا أن نعرف أنفسنا!
ربما تقول: إن هي إلا آمال «يوتوبية» عريضة، غارقة في ضباب الشك والقلق والقنوط، مما يجري اليوم وفي هذه اللحظات التي تقرأ فيها هذه السطور. لكن الإنسان هو كائن الأمل والمستقبل، وعليه أن يرفع راية الأمل حتى لو امتلأت الأرض من حوله وتحت قدمَيه بالأنقاض والأشلاء، بل إن من واجبه أن يرفعها في هذه الأرض بالذات التي لم تعترف حتى الآن بقيمة الإنسان كإنسان.
ومع أن هذه الآمال تبدو «يوتوبية» حالمة كما قلت، فإن أحلامها ليست مستحيلة كأحلام اليوتوبيين على اختلاف العصور والثقافات والحضارات، وعند مختلف الأدباء والمفكرين الذين طالما رسموا لنا جزرًا ومشروعات ومدنًا سعيدة أو شقية، ونُظمًا إيجابية أو سلبية، ومجتمعات مثالية كأنها الفردوس الأرضي أو مجتمعات ضدية وعدمية كأنها الجحيم البشري. والدليل على هذا أن بشائر الأمل تلوح في الأفق وإن كانت أضواؤها ما تزال شحيحة خافتة. ألم تتحرك ضمائر الناس وقلوبهم في كل شبر من قريتنا العالمية الصغيرة تعاطفًا مع ضحايا الفظائع الوحشية في البوسنة، وضحايا المجاعة المُخجِلة في الصومال وجنوب السودان، وضحايا الحرب الأهلية في لبنان وأفغانستان، وضحايا الإرهاب الإسرائيلي الذي يُحاصِر شعب فلسطين ويجوِّعه ويُعربِد في أرضه، وضحايا الصراعات الطائفية والمذهبية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وضحايا العدوان العراقي الوحشي على الكويت وكردستان؟ ألم يتحرك قبل ذلك لضحايا الزلازل والبراكين والفيضانات وكوارث الطيران؟ ألم يتكوَّن حزب للخضر في معظم بلاد العالم يقاوم بوسائله المحدودة تلويث البيئة ومخاطر التجارب والنفايات النووية؟ ألم تتحرك الأمم المتحدة ووكالاتها وهيئاتها — على الرغم من تردُّدها وعجزها وسيطرة القوى الكبرى عليها، وعلى الرغم من أنها لا تزال بعيدة عن تمثيل الحكومة العالمية المأمولة، أو تجسيد الضمير العالمي الرادع — وأخيرًا فلنسأل أنفسنا: ألم يتحرك ضمير الجنس البشري لإنقاذ «شركائه» على الأرض وفي المياه من الدببة والحيتان والأسماك المهدَّدة بالانقراض؟!
إن العقبات أكبر من كل التوقعات، والسلام والسعادة والأمن والتضامن والتراحم والأخوة البشرية ما فتئت تضرب رءوسها على جدران المستحيل، لكن الفلسفة تعمل على الدوام في دائرة الممكن الذي يبدو أحيانًا على صورة المستحيل، وفلسفة المستقبل العالمية والإنسانية هي أخطرُ تحدٍّ يُواجِه المشتغلين بها والمنتمين إليها. إنها من قبيل المستحيل الممكن، أو قل من قبيل الممكن الذي يبدو اليوم كالمستحيل.
هوامش
وقد تم بالفعل تأسيس الجمعية الدولية للنزعة العالمية، أو اﻟ ISU، في شهر نوفمبر سنة ١٩٨٩م في مدينة وارسو عاصمة بولندا، وسوف تعقد مؤتمرها العالمي الثالث في جامعة وارسو في شهر أغسطس القادم ١٩٩٣م، ويشارك فيه مفكرون وأدباء وأساتذة فلسفة من عشرين دولة. والهدف الأساسي من إنشاء الجمعية هو تحقيق التضامن بين البشر كافة، والقضاء على الحروب والآلام التي يسبِّبونها لبعضهم، ومناقشة مبادئ نظام عالمي يقوم في المستقبل على السلام والتعاون، ومقاومة الحرب والعدوان بكل أشكالهما، والوقوف في وجه الاضطهاد لأي شعب من الشعوب أو لميراثه الثقافي الخاص. وهي في النهاية جمعيةٌ تركِّز اهتمامها — كما يقول الإعلان الناطق باسمها في مجلة «الحوار والإنسانية» التي تُصدِرها — على القيم والأفكار والاتجاهات العقلية التي تشترك فيها جميع الثقافات الإنسانية، كما تقوم على الإيمان بأن بناء المستقبل الأفضل للجنس البشري لا بد أن يبدأ بالعمليات العقلية التعميمية؛ أي يبدأ بالفلسفة (وقد تصادفت مشاركتي في مؤتمر هذه الجمعية، ورأيت كيف يسيطر الصهاينة عليها، ويستغلونها للدعاية لدولتهم العبرية المتعصِّبة).