سيرة وحوار
(١) سيرة البُعد والخروج والتخلي عن كل العروش
لو سألت البذرة عن عناصر التربة والغذاء التي دخلت في تكوينها حتى أصبحت شجرة ثم أنضجت ثمرة لقالت لك: هي آلاف العناصر بل ملايينها، فما بالك بإنسان يحيا لكي يكتب ويعيش ويتنفس، ولكي يدوِّن على الورق تجربته مع نفسه وعصره وواقعه؟
هي إذن عمليةٌ بدأت في مهد الوعي عندما أخذ يفتح عينَيه ويتعلم الفن الأول والأهم لكل كاتب يستحقُّ هذا الاسم، وهو فن الرؤية، ولن تنتهي إلا في أحد التلاشي والانطفاء؛ أي مع اكتمال التكوين بالموت. ولما كانت رحمة الله قد شاءت أن تمدَّ في خيط العمر الواهي المحدود، وأن تحفظه وتجدِّده في كل لحظة، فمن الصعب أيضًا أن أتحدث عن تكوين لم يزَل عُرضة للنمو والذبول، والتطور والتراجع، والتفتح على مفاجآت كل جديد يهزُّه ويُزلزِله، أو الانكسار والمرارة والإحباط مع كل مُؤلِم ومُوجِع يدمِّره ويقتلعه من جذوره. أضِف إلى هذه الصعوبة أن الذي يكتب هذه الكلمات لم يكتفِ بالكتابة، أو بالأحرى لم تُقدَّر له نعمة التفرغ والتفاني لها؛ إذ اقتسمت حياتَه، ومزَّقتها أيضًا، مهنةُ تعليم الفلسفة التي اقتضتها لقمة العيش (ونعمل اليوم أكثر من أي يوم مضى، كم هي مرة وقاسية!) لأكثر من ربع قرن اكتظَّ بالغصص والمنغِّصات التي حاول أن يتجاوزها ويسيطر عليها، في محاولات أدبية وفكرية مختلفة ما زالت مستمرة. وهو يقول تعليم الفلسفة لا الفلسفة نفسها؛ إذ أصبح التعليم في جامعات لم تعُد تحمل من مفهوم الجامعة ورسالتها أكثر من الاسم. عملية تعذيب هائلة وعقيمة. أما الفلسفة نفسها فبقيت هي العشق والسند، ومِن حكمتها وشمولها ودقة مناهجها في التحليل والتفسير والتغيير والتنوير انعكس ما انعكس على أعماله (أو هذا على الأقل هو ما يرجوه ويتمناه).
وأخيرًا تأتي آخر الصعوبات؛ فالكتابة عن التكوين تنطوي بالضرورة على الكتابة عن المسيرة أو السيرة الذاتية، مع ما في الكلام عن الذات من خطر الوقوع في مَهاوي التضخم والتورم وأعراضهما التي تفشَّت كالأوبئة في السنوات الأخيرة بين أكثر كُتابنا ومثقَّفينا العرب، لا سيَّما بعد الهزيمة التي سمَّيناها نكسة، ومع غياب الحريات الحقيقية، وتزايُد الاختلال في علاقة الأنا بالآخر. ولذلك لا بد من الاستغفار لله، وطلب العفو من القارئ عن كل حديث عن الذات تهدِّده على الدوام مصيبة السقوط في تلك المهاوي والأمراض، خاصةً حين تدفع للدفاع عن «ذاتها» من عوامل التدمير والإحباط التي تُحاصِرها، ومن كوارث الانتحار الحضاري التي انخرطت فيها الذات الجماعية. ولقد لمست أطرافًا من سيرتي في «بكائياتٍ» صدرت قبل سنواتٍ قليلة، وفي أكثر ما كتبت من قصص ومسرحيات ومقالات، بل وفي معظم ما وضعت من بحوث ونقلت من ترجمات، ينطبق عليها ما يمكن أن يُوصَف بأنه اعترافٌ طويل، ويصدق عليها ما سمَّاه الناقد المُبدِع الكبير «شكري محمد عياد» في عددٍ قريب من أعداد هذه المجلة ﺑ «الخلاص بالكتابة».
ولما كنت أنوي أن أستكمل البكائيات بمشيئة الله وعونه، فلا أملك في هذا المجال المحدود إلا أن أذكر بعض «الثوابت» التي أتصور أنها قد ساهمت في تكوين لا يزال متجدِّدًا كما قلت ومهدِّدًا في آنٍ واحد.
(١-١) التخلي عن العرش
أول هذه الثوابت هو ما أُحبُّ أن أسمِّيه «التخلي عن العرش». لا أدري أين ولا متى قرأت أن الكتابة نوعٌ من التخلي عن كل العروش، ولا أعرف إن كان هذا مجرد اعتقاد نبع من طبيعتي ولازم تكويني. والتخلي هنا يُوحي على الفور بحقيقة التصوف التي حدَّدها أوائل الزُّهاد والصوفية المسلمين عندما قالوا إنه هو «ترك كل العلائق والتمسك بالحقائق»، كما يذكِّرنا بالكلمة نفسها التي تدور حولها أعمق التأملات والشطحات الروحية للمتصوِّف الألماني «إكهارت» من القرن الثالث عشر (١٢٦٠–١٣٢٨م)، وتتصل في لغته بكلمةٍ أخرى تعني الرضا والسكينة والطمأنينة. ولا أقصد بالتخلي معناه الظاهري أو السطحي، من البعد عن السلطة والمَنصب والشهرة والمال والأضواء والمنافع والمصالح؛ إذ ربما يكون هذا البُعد — أو الابتعاد — تعبيرًا عن فشلٍ برَّر نفسه بحكمةٍ عاجزة، إنما أقصد التخلي بمعناه الديني الأصيل، من الفناء والعبادة الخالصة، وبمعناه الفلسفي، من الاكتفاء والاستغناء الذي كان المَثل الأعلى للفيلسوف والعالم القديم، وما يزال في رأيي جديرًا بأن يكون المَثل والقيمة العليا لكل كاتب حقيقي. لهذا لا ينقضي عَجبي من تهالُك بعض من يُسمُّون أنفسهم كُتابًا أو مفكِّرين على الشهرة والوصول والضجيج «والفرقعة» والظهور في الصورة وفي أجهزة الأعلام، وحرصهم على أن تكون لهم «جوقات»، أو لنكن أكثر صراحةً من واقع ما يجري حولنا فنقول «شِللٌ» تُدَق لهم الطبول، وتدوِّي بالثناء والتهليل، وتُبذَل الجهود المستميتة في التقديم والتفسير والتحليل، لأعمالٍ يُشَك في أن أكثرها يرقى أصلًا إلى مستوى الفن أو الفكر، أو ينطوي على أية قيمة جمالية أو إنسانية حقيقية، وتُظلَم الأصالة كما تُظلَم الحداثة، وتكثر الثرثرة والهلوسة، ويجني جناية لا تُغتفَر على قديم ما زِلنا نجهله، وجديد لم نُحسِن استيعابه، وتُنضِج أوعية السياسة الفاسدة سيول الاستبداد والتسلط والجهل والتخبط على بساتين الأدب والفن والإبداع المُوحِشة — إلا من بعض الأشجار النادرة والزهرات الوحيدة — وتزحف عليها مواكب غير مقدَّسة من جراد الجُهال والأدعياء والانتهازيين والشُّطار والسماسرة والمتعهِّدين ورُكاب كل الأمواج، ويضيع الحقيقي في غمرة المزيَّف، ويغرق القِيم في طوفان المطبوع والمنشور الذي لا يكاد يجد الناقد العالم والمُنصِف الذي يميِّز غثه من سمينه، ولو صحَّت عين النقد — العالم والمُنصِف والمُبدِع كما قلت — لأمكن طرد الجراد المتطفِّل، وتطهير البستان الذي أوشك أن يصبح جبَّانةً كبيرة تُنصَب فوقها عروشٌ كاذبة لملوكٍ كذَّابين، ولأدرك الجميع أن حصان المجد هو الذي يسعى إلى فارسه الذي يستحقُّه، فيحني له رأسه الجميل، ويقدِّم له سرجه الذهبي. ولا داعي لذِكر أمثلة مِن ثقافات وآدابٍ أخرى؛ إذ يكفي أن نذكُر في أيامنا هذه اسم زكي نجيب محمود ونجيب محفوظ بين أسماءٍ أخرى ربما لا يزيد عددها على أصابع اليدَين أو اليد الواحدة.
وأستردُّ الخيوط بعد هذا الاستطراد، فأقول إنني أُومِن بالعمل الصامت والصادق في الظل. وسواء جاء شيءٌ من التقدير في حياتي أو بعد موتي أو لم يجئ على الإطلاق، فيكفيني أنني تخلَّيت وعكفت وأخلصت على قدر طاقتي المحدودة. أقولها وليس في جدول النفس قطرة مرارة واحدة؛ فالتخلي قانون حياة ومبدأ تكوين، وليس أبدًا — ولن يكون — علامة عجز أو مكر أو تواضع مغرور. ويبقى شعار حياتي — إن كان لا بد من شعار! — هو أن أحيا في هدوء، وأعمل في صمت، وأموت في صمت. ولكَم يُسعِدني حصار التجاهل المضروب من حولي؛ لأنه يوفِّر لي الحرية الضرورية، والحرية هي قضيتي الأولى والأخيرة.
يرتبط التخلي عن كل العروش بشعورٍ مُزمِن بالذنب يجعلني أُحاسِب نفسي مع كل شهيق: هل أستحقُّ الهواء الذي أتنفسه؟ ومع كل إغماضة جفن: هل فعلت اليوم ما يسوغ لي أن أنام مُرتاحَ الضمير؟ صحيحٌ أنني أبِيت كلَّ ليلة وفي سمعي عبارة كانت تردِّدها أمي — رحمها الله: «يا بخت من بات مظلوم ولا بات ظالم.» كما نطق بها سقراط في دفاعه الشهير عندما أكَّد أنه يفضِّل أن يتحمل الظلم على أن يُوقِعه على غيره. لكن مَن منا الظالم ومن المظلوم؟ وأين الحدود الفاصلة بين الذنب والبراءة؟ لا شك أن الشاعر بالذنب قد ارتكب ذنوبًا أخرى في حق غيره، لكن ربما يشفع له أنه لم يتعمد الظلم، ولم يقصد إليه، وربما يُسمَح له القول بأن شعوره بالذنب، ومِن ثَم تعذيبه الدائم لنفسه، له أصلٌ «بيولوجي»؛ فقد وُلدت ثالث ثلاثة، وآثر ضلعا المثلث أن يتركا أضعفهما وأكثرهما هزالًا بعد الشهر الثاني من ولادتهما. ولقد طاردني الشعور بالذنب نحو الشقيقَين الغائبين، أو العاقلين، منذ أن سمعت القصة من فم أمي وشقيقتي الكبرى، وعُرِف عني التجول الرومانسي في صِباي بين قبور جبَّانة البلدة؛ بحثًا عن قبرَي الصغيرَين المسكينين، وعن الشبر الباقي الذي أعدَّه جارنا المُقرِئ واللحَّاد ليسع الجسد الثالث النحيل، فشاء حظه أو مكره — لسبب لا يفهمه ولا يستحقه — أن يبقى بعد المُقرِئ، والأم والأب، وشقيقَين عزيزين، وشقيقتَين أكبر منه، ولكَم عُوقِب وضُرب بسبب هذه الجولات الوحيدة! وكم تذكَّرها عندما كبرت به السن، وألِف قراءة شعر المقابر وأدبه القاتم الحزين! ونشأ الصبي المدلَّل — الذي ارتبط مولده بمعجزة أو مفارقةٍ ساخرة — في بيت ريفي ربَّاه على قِيم ازداد تحسُّره عليها بعد إقامته في المدن المعقَّدة الماكرة، وبعد الهجمات الشرِسة ﻟ «اللاقِيم» على واقعنا ومجتمعنا وعِلمنا وأدبنا وضمائرنا، إذا جاز الظن المتفائل بأن فينا اليوم من يتذكر الضمير. وبين أبٍ تقيٍّ صارم، قاسٍ على نفسه في التزامه بالاستقامة والواجب المُطلَق — وكأنه فيما عرفت بعد ذلك كانطيٌّ ريفي وإن لم يسمع أبدًا عن كانط — وأمٍّ طيِّبة حنون تشقى مِن قبل طلوع الفجر إلى مغالية النوم مع صلاة العشاء، وتملك قدرةً نادرة على الحب والعطاء بغير حدود — حتى لتستخسر في فمها اللقمة والهدمة — وعلى الدعاية والمرح وحكاية الأمثلة والحكاية ومحاكاة الآخرين. بينهما وبين أخوَين يساعدان الأب — المتفرِّغ للعبادة وقراءة «الكتاب» الوحيد الذي قرأه في حياته في تجارته البسيطة — وأخوَين آخَرَين يدرسان في المدن الساحرة البعيدة والمُخيفة، ولا يظهران إلا في إجازة الصيف، بينهم تكوَّن الحالم والمُذنِب الصغير، وبدأت تجاربه مع الشعر الذي أفلس منه تمامًا في العشرين وإن ظل وفيًّا للشاعرية فيما سوَّد بعد ذلك من آلاف الصفحات عن الشعر نفسه، وفيما حاول مِن قصص ومسرحيات لا زال مُصرًّا على ارتكاب ذنوبه فيها، بل فيما قدَّم من دراسات في الأدب العالمي والغربي وفي الفلسفة الشرقية والغربية؛ مما جعل أحد النُّقاد الصغار يجرِّب فيه ذكاءه، ويصفه بالوصف المشهور عن «التوحيدي» أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء؛ أي لا شيء على الإطلاق!
(١-٢) البعد والخروج
إذا كانت أول عبارة في سفر التكوين هي «في البدء كانت الكلمة»، وكانت أول كلمة معبِّرة عن حياة جوته — سيِّد شعراء الألمان — الذي سأتكلم عنه بعد قليل، هي «في البدء كان الفعل»، فيبدو أن الكلمة التي تصدق عليه هي «في البدء كان التعذيب». ترسَّب في وجداني منذ السنوات المبكِّرة أنني أختنق في عالمٍ خانق هو الجحيم، واستقرَّ فيه ضرورة الخروج من هذا الجحيم والوفاء له في الوقت نفسه والاكتواء بناره. خرجت منه كثيرًا إلى بلاد وعوالم أخرى، لكنني كنت أحمله معي وفيَّ أينما ذهبت، وعشت فيه وتلظَّيت بنيرانه وزبانيته معظم حياتي، لكنني لم أتوقف عن محاولة الخروج منه ورفضه والاحتجاج عليه وسلبه وأنا فيه. ربما كان اغترابًا دائم البحث عن الانتماء، أو انتماءً لا يجد نفسه إلا في الاغتراب. مهما يكن الأمر فقد سعيت باستمرار إلى آفاق وشواطئ أخرى، وتطلَّعت على الدوام إلى معرفة لغات وآداب وحضارات أخرى، حتى سمَّاني صديق عمري صلاح عبد الصبور بالطلعة. أكثر مما تطلَّعت لتثبيت قدمي على أرضي، وتعمُّق لغتي وتراثي، غرَّبت وشرَّقت بقدر ما أسعفني قاربي الوحيد وجناحاي الضعيفان؛ لكي أثوب في العقد السادس من عمري إلى حقيقة أُصارِح بها شباب الأدباء والعلماء: لن يعرف الإنسان تراث الآخرين إذا ظل يجهل تراثه، ولن يُتقِن لغات الغير حتى يُتقِن لغته.
ربما بدأت الرغبة في البُعد والخروج في الثالث أو الرابع عشر من عمري بعد قراءة قادة الفكر لطه حسين، وزهرة العمر الحكيم، لكنها يقينًا قد رسَّخت جذورها في تربيتي عندما قرأت «آلام فرتر» في ترجمة الزيات — رحمه الله — عن الفرنسية. كنت أيامها — مثل كل صبي مصري — لا أزال أعبر جسر الدموع المنفلوطية، وشاءت المصادفة أن أقع على هذا الكتاب الفريد الذي أصبح أول نص أدبي أعكف عليه، بعد أن بدأت بعد ذلك بدايةً جادَّة في تعلم الألمانية، كما قُدِّر لصاحبه أن يصبح كوكبًا هاديًا لتفكيري وحياتي طوال ثلاثين سنة أو يزيد، وأن أُعرَف بأدبه وشعره، وأُترجِم له ولدرسه في ثلاثة كتب على الأقل. كنت في تلك المرحلة مفتونًا ببلاغة الرافعي والزيات، متأثِّرًا في ذلك بشقيقي الأزهري وزملائه الذين عوَّدوني ضبط ساعتي البيولوجية الأسبوعية على يوم الثلاثاء الذي كانت تظهر فيه «الرسالة» فيما أذكر، وخرجت من الفتنة والافتتان بهما وبجيلهما من البُلغاء — الذين ما زِلت أحاول الخلاص من بلاغتهم إلى اليوم! — لأقع في سحر «جبران» الذي لفَّ شبكته حولي حتى حصولي على التوجيهية. ومدَّ لي الحكيم طوق النجاة، فنقلني فكرة المثالي وحواره الدقيق من البلاغة إلى الفن. وفي الجامعة عاودتني الرغبة في البُعد والخروج. ومع الإصرار على إجادة الإنجليزية والفرنسية، وبرعايةٍ كريمة من بدر الديب ومحمود أمين العالم ويوسف الشاروني الذين تعهَّدوني بحبهم وتوجيههم في سنواتي الأولى بالجامعة، اطَّلعت على ما أمكنني الاطلاع عليه من مسرحيات «ميترلينك» وقصص «كافكا»، الذي لم تُفارِقني كوابيسه إلى اليوم! وأشعار «رلكه» و«إليوت»، وشذرات متفرِّقة مما كان يُكتَب أو يُترجَم عن فلاسفة الوجود وأدبائه الذين بدأت أصواتهم تتردد بين المثقَّفين عامة، ودارسي الفلسفة خاصة، مثل كامي وسارتر ومارسيل وهيدجر وياسبرز. من الأول تشرَّبت النزعة التراجيدية أو المأسوية، والعطش المتجدِّد للطبيعة والنور والحياة، ثم لازمتني عاطفة الحب له، والارتباط بتشاؤمه وبراءته وأمانته وتمرُّده، حتى إعداد رسالتي عن فكره الفلسفي بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات. أما الخامس «وهو هيدجر» فقد سيطر سيطرة المستبِد على عقلي، وأغراني سِحره الوهمي، وأرهقني فكره العسير وأسلوبه المعقَّد الركيك طوال السنوات التي قضيتها في جامعة ألمانية، خضع معظم أساتذتها وطلابها لطغيانه، وتمخَّض ذلك الانشغال الطويل عن كتابٍ أظنُّه من أردأ كتبي وإن لم يكن أقلها فائدة، وهو «نداء الحقيقة». ولا بد من القول هنا بأن الانجذاب للفكر والأدب الألماني قد بدأ منذ سنِي التحصيل في الجامعة، وبتأثير الرجل الذي ظل منذ ذلك العهد هو قدوتي في الدأب والجدِّية وفي التوحد والانفراد، من هذا الرجل العظيم — عبد الرحمن بدوي — سمعت أسماءً لزِمتُ أصحابها بعد ذلك، مثل شوبنهور ونيتشه وكيركجارد وهيدجر الذي سبق ذِكره، وبه اقتديت في حب لغات عديدة حديثة وقديمة، وإن لم أبلغ بالطبع مبلغه، وبفضله اتجهت للاهتمام الأساسي بالفكر والشعر والمسرح الألماني وإن قصرت في متابعته على طريق بحثه وعلمه الواسع بالتراث الفلسفي والصوفي الإسلامي.
وإذا كنت أختلف عنه في مَناحي تفكيري وتعبيري اختلافًا بعيدًا، فإن اعترافي بفضله وعرفاني لشخصه وعِلمه يسري في دمي، ويكفيه فضلًا عليَّ وعلى غيري أنه سيبقى المَثل العالي الذي نهتدي به في الخروج والتحدي.
هذه الرغبة في الخروج من الجحيم إلى آفاق وشواطئ أخرى، مع الإصرار كما قلت على الانتماء له والاكتواء بنار عشقه وعشق ضحاياه، قد انعكس فيما أعتقد على تفكيري الفلسفي وإنتاجي الأدبي؛ فمنذ سنواتٍ غير قليلة، طغى عليَّ الإحساس بمحنة الوجود العربي التي لم تعُد خافية على أحد، وبدأت التخلص من تأثير فلسفة الوجود، والانتقال إلى نقد الواقع القائم وسلبه، ورفض «لاقِيمه» التي أشرت إليها من قبل تحت تأثير فلاسفة الرفض والنفي من أصحاب النظرية النقدية الاجتماعية المعروفين باسم فلاسفة فرانكفورت. وإذا كان هذا النقد قد ظهر بصورةٍ أولية في كتابي المتواضع «لمَ الفلسفة»، ولم يكتمل مشروعه بعد، فقد تجلَّى من الناحية الأدبية في «بكائياتي»، وفي عددٍ غير قليل من مسرحياتي (كالبطل ودموع أوديب وبِشر الحافي يخرج من الجحيم والقيصر الأصفر)، كما تجسَّد قبل ذلك في أغلب شخصيات قصصي التي انتُزعت من «الجحيم المحبوب» الذي صنعناه لأنفسناه، وتعدَّدت صورها وأنماطها من الدراويش والممثِّلين الفاشلين والشحَّاذين والمجانين والنُّساك والمعلِّمين المجحودين والثوار المُحبَطين … إلخ؛ أي من مساكين «وناس في الظل» يعترفون بفضل أقرب أدبائنا الكبار إلى قلبي، وهو شيخنا الرقيق الجليل صاحب العصا والقنديل.
الأموات – الأحياء.
والمعلِّمون – الأصدقاء.
ربما ارتبط كل ما سبق ﺑ «ثابتَين» آخرين لا أظن أن المقام سيسمح بالتوسع في الحديث عنهما: الأموات من الآباء الذي تعلَّمت منهم وعشت معهم أكثر مما عشت مع الأحياء، وأصدقاء العمر الذين صحبتهم وصحبوني أكثر من أربعين سنة، وكانوا وما يزالون هم الأحياء والمعلِّمين.
أما الأموات فأُخطئ لو سمَّيتهم الأموات. إن عيونهم ترمقني وتُطِل عليَّ — وربما ترثى لي! — من طيَّات الكتب التي تُحيط بي، وتُحاصِرني أنا وزوجتي وطفلي من كل ناحية، وهم يشجِّعونني ويردُّون على أسئلتي، ويقدِّمون لي الحب والوفاء والأمان كلما بخِل عليَّ بها أقرب الناس في هذا الزمان. والأهم من ذلك أنهم وحدهم يقِفون بجانبي في هذا الوقت الذي اشتدَّ عليَّ فيه الشعور بالمحنة والأزمة؛ أزمة وطني وتاريخي وحضارتي، لا أزمة شخصي العرَضي الزائل لا محالة. وهم في الغالب فلاسفةٌ شعراء وشعراء فلاسفة، ألجأ إليهم دائمًا، وأنهل من منابعهم كلما جعت وعطشت للحكمة والسلوى والحب، وكلما ضِعت في متاهة الواقع المتخلِّف، والتمست الخيط الهادي للخروج.
يُخجِلني أن أذكر أسماءهم، أو أحدِّث القارئ عن تجاربي معهم، لا سيَّما وأن هذه التجارب ما زالت قليلة الشأن ومتواضعة الحال. والأهم من ذلك أن لقائي بهم نابعٌ من الأزمة، وأنني أزداد مع الأيام يقينًا بأن التحولات والإنجازات والإبداعات الكبرى (في الفلسفة والأدب والفن والعلم) وراءها أزماتٌ تاريخية واجتماعية ووعيٌ أكبر بهذه الأزمات. وليتنا اليوم، ونحن في زمن المحنة، نتعمق هذه الفكرة، ونستمدُّ منها الوقود الضروري للإبداع على كل المستويات! وليتها تعلِّمنا أن نراجع كل شيء، ونبدأ كل شيء من الصفر.
أما أصدقائي الذين كانوا وما زالوا أساتذتي، فيُخجِلني، وأنا واحد منهم، أن أتحدث عنهم بالتفصيل. وماذا أقول عن أصدقاء «الجمعية الأدبية المصرية» الذين شرَّفوني بالانتماء إليهم، وسكت النقد حتى الآن عن دراسة دورهم في حياتنا الأدبية دراسةً جادَّةً مُنصِفة؛ ربما لأنهم غير أيديولوجيين — وإن لم ينغلقوا دون الأيديولوجيات — أو لأن الأغلبية الغالبة منهم قد تخلَّت كما قلت عن كل العروش. ومع ذلك لن أستطيع أن أمنع قلمي من تسجيل أفضالهم عليه وعليَّ. صلاح عبد الصبور الذي جرى شعره في عروقي مجرى الدم، وفتح القلب والعين على الزمن الجريح، وعلى رماح الاستبداد وفرسانه المهزومين. وفاروق خورشيد الذي علَّمني حب الأدب الشعبي واستلهامه، كما لقَّنتني شجاعته وكبرياؤه في مواجهة محنته دروسًا في الصمود حتى تجلَّى الحق وتُوِّج بالتقدير. وعبد الرحمن فهمي الذي نهلت من نبعه حكمةً لم أجدها في كتب الحكمة، ولا عند أحد من أدعيائها الرسميين. وشكري محمد عياد وأحمد كمال زكي وعز الدين إسماعيل، الذين جسَّدوا المركب النقدي النادر من العلم والإبداع، وغيرهم من الزملاء والأصدقاء الذين لن يجحدهم غبار المعاصرة والمعاصرين مما يستحقُّونه في ميزان العلم والإنصاف.
وتبقى «البومة الحكيمة» — كما وصفت نفسها في مكانٍ آخر! — شاهدةً على خرائب العصر ومحتجَّة عليها، محاوِلةً أن تقوم بدور النذير والبشير الذي قام به «المتنبئ» و«المُنقِذ»، والشاهد والشهيد من «أيب أور» إلى صلاح عبد الصبور، محذِّرةً من «رعبٍ أكبر من هذا سوف يجيء»، وواعدةً بالنموذج الضد والبديل، لا في «يوتوبياتٍ» حالمة ومستحيلة كثُر عددها وخاب طموحها، من أفلاطون والفارابي وعصر النهضة إلى إرنست بلوخ في أيامنا، بل في «يوتوبيا» ممكنة ومعقولة، لا يزيد منتهى طموحها عن الحلم بمجتمعٍ سويٍّ يسترد وجهه الأصيل ممن شوَّهوه، وينتشل قِيمه من مستنقع اللاقِيم الذي فُرض عليه التردِّي فيه، مجتمع يحيا فيه ويعمل ويأمل ويُبدِع إنسانٌ سويٌّ يجد القدر المعقول من الحرية والعدل، ويُؤمِن بأن القانون هو السيِّد — كما قال أرسطو — وليس هو القهر والغدر والتسلط والفوضى والجهل والهوان.
(٢) وحوار الثقافة عطشٌ حقيقي للحرية والعدل
هذا المتصوِّف الزاهد في مِحراب الثقافة، وهو يخطو الآن في العقد الثامن بعد أن ملأ خزانة المكتبة العربية بروائع الثقافة؛ فقد عشِق الأدب، وتزوَّج من الفلسفة، وتناسخت روحه في ترجماته الرائعة التي كانت وما زالت جسرًا يصل الشرق بالغرب، فلن ينسى القارئ العربي أن د. مكاوي هو الذي قدَّم لنا برتولد بريشت، كاتبًا مسرحيًّا وشاعرًا، وكذلك جورج بوشنر الذي اعتبره شقيق روحه بالإضافة إلى هيلدرلين. أما «ثورة الشعر الحديث» (١٩٧٢–١٩٧٤م) فكانت حدثًا كبيرًا في ذاكرة الشعر العربي المعاصر من خلال المقدمة والنصوص. فمِن أين أبدأ حين أُحاوِر هذا الصرح الثقافي العملاق؟ مِن أستاذ الفلسفة ربيب أفلاطون وهيجل وهيدجر وكانط وهسرل ونيتشه وكامي، أم من الكاتب المسرحي والأديب والمترجِم وكاتب القصة؟
سوف أبدأ من الطفل الذي كان يجوب المقابر بحثًا عن أخوَيه؛ فقد وُلد د. مكاوي ثالث ثلاثة، آثر ضلعا المثلث أن يتركا أضعفهما وأكثرهما هزالًا بعد الشهر الثاني من ولادتهما. ولقد طارده الشعور بالذنب نحو الشقيقَين طيلة حياته منذ أن سمع القصة من فم أمه وشقيقته الكبرى، فكان يطوف المقابر وهو لم يتجاوز العاشرة بحثًا عن قبر الصغيرَين المسكينين، وعن الشبر الباقي له هو والذي أعدَّه المُقرِئ واللحَّاد ليسع الجسد الثالث النحيل (جسده هو)؛ إذ كان المُقرِئ يظن بأن الطفل الثالث سوف يلحق بأخوَيه. وشاء القدر أن يبقى بعد المُقرِئ والأم والأب، لكن الذنب الميتافيزيقي لم يُفارِقه، وظل يسأل نفسه: لماذا عشت أنا؟ بل وصار يكتب ويعمل ليبرِّر وجوده، ويطلب المغفرة منهما.
سألته في البداية عن هذا الطفل، وجولته اليومية في مقابر المدينة، وهل هي التي حدَّدت طريقه إلى الفلسفة فيما بعد، وخاصةً الفلسفة الوجودية؟
فقال: لازمني إحساسٌ مُزمِن بالمأسوية وتراجيدية الحياة والقدرية، فأنا ريفي، والريفي مسحوق بالقدرية، وهي تُحيط به كما تُحيط «الخية» برقبة المشنوق، فما كنت أفعله في طفولتي كان نوعًا من الإحساس التراجيدي المتمرِّد على الحياة، والثائر على الظلم وعلى مآسي الوجود وشقاء الإنسان، وأستدرك وأقول إنها ثورة إنسان مكتومة تُفصِح عن نفسها في بعض القصص والمسرحيات والكتابات النثرية فيما بعد، ورغم هذا ما زِلت انطوائيًّا وسلبيًّا من ناحية الكفاح أو النضال الوطني.
– سوف أختلف معك؛ فالإيجابية تتجلى فيما تكتب، أليس كذلك؟
– لكي أخرج من الاكتئاب كنت أكتب، وهذا نوعٌ من العدمية؛ أقصد المعنى المباشر للسلبية، فلم أُشارِك في مظاهرة إلا كمتفرِّج، أو في الصفوف الأخيرة كمن يمشي في جنازة. لم أكن أيديولوجيًّا أو كفاحيًّا فعَّالًا أو ثوريًّا، بمعنى الانخراط في منظَّمة. كنت وما زِلت خجولًا وبعيدًا عن الكفاح المباشر.
– بدأ د. مكاوي حياته شاعرًا، وذلك خلال دراسته في المدرسة الابتدائية في «بلقاس» مسقط رأسه، وهي مدينةٌ تتبَع محافظة الدقهلية، وأيضًا بعد انتقاله إلى المدرسة الثانوية في طنطا، وفي القاهرة قرَّر التوقف عن كتابة الشعر، والالتجاء لكتابة القصة القصيرة. كيف حدث هذا ولماذا؟
– في طفولتي بدأت بالتعرف على الشعر من خلال قراءة الرافعي وجبران والحكيم والمنفلوطي وغيرهم، ولكن حبي للشعر جاء من خلال بائع دخان اسمُه رشاد. كان يطوف القُرى هو وحماره لبيع الدخان. توطَّدت صداقتنا، وكان شاعرًا جميلًا، ويحفظ الكثير من الشعر العربي لشوقي وحافظ والمتنبي، وكنا نتطارح الشعر أنا وهو في المقابر، حيث كنت أطوف كثيرًا هناك أو في الحدائق، وكان محصوله من الشعر أكثر مني، وفي تلك الفترة كتبت قصائد عارضت فيها شوقي والمعري، وهذا يدلُّك على عيبٍ كبير فيَّ، وهو أني أتأثر أكثر مما ينبغي، وأعتقد أنني ظلمت نفسي حين قلت إني ظلٌّ ولست أصلًا، صدًى ولست صوتًا.
– سوف أعترض على هذه النقطة، وأقول لك إنه أمرٌ طبيعي يحدث في البدايات دائمًا وسرعان ما ينتهي. وما أودُّ معرفته لماذا قرَّرت التوقف عن كتابة الشعر؟
– قرَّرت هذا بعد علاقة حب فاشلة، فكنت أقرأ شعري للمحبوبة، وكانت لا تفهم شيئًا. إن إيماني بعبقرية صلاح عبد الصبور، بعد أن عشنا سويًّا، جعلتني أعرف أنني لست شاعرًا أصيلًا.
– وفي كتابة د. مكاوي بدا الحس الشعري موجودًا بل وطاغيًا في القصة والمسرح والدراسات الفلسفية، وحتى في الترجمة، وهنا يمكن القول بأنك تخلَّيت عن الشعر في إحدى صوره؟
– بالفعل؛ فالشعرية تسكن الإنسان ولا تُفارِقه، بل هي تسكن اللحم والعظم وكأن هناك جنيًّا شعريًّا يسكن الإنسان كما قالوا قديمًا. ففي أحيانٍ كثيرة أُتَّهم بأنني أكتب الفلسفة بقلب شاعر، والقصص بروح فيلسوف. وقال أحدهم إنني أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، وهذا يُقلِقني أحيانًا.
– لا أعرف لماذا القلق من هذه المقولات؛ إذ لا يوجد فصلٌ حاسم أو حدودٌ صارمة بين الأنواع الأدبية والفلسفة، فأنت تعلَم أن سارتر في مسرحيته الشهيرة «الذباب» وضع منهجه الفلسفي بأكمله فيها، فهي على المستوى الفني والبناء الدرامي مسرحيةٌ مُكتمِلة، وفي نفس الوقت طرح من خلالها رؤيته للوجود والدم، وهكذا فعل ألبير كامي في روايته «الغريب» والأمثلة كثيرة!
نعم هذا حدث، لكني أقول لك مع التقدم في السن اكتشفت أن الأدب لا يبدأ بالفكرة، وإنما بالصورة أو الموقف أو بالكلمة التي تهزُّ الإنسان. الفكر يجب أن يكون أشبه بالدم الذي يسري في الكائن الحي، بحيث إنه موجود ولا نراه، مِثلما كان يفعل دستوفسكي وتولستوي والمعري الذي ظل شاعرًا ولم تُفسِده الفلسفة، فعبَّر عن الحس المأسوي بالحياة بلغة في بعض الأحيان تكون مجردة، ولكن لا تشعر أنك أمام فلسفة بل شعر، وذلك ينطبق أيضًا على المتنبي. وأول مَن علَّمني التفكير بالصورة هو جبران خليل جبران، حين قرأت له الأرواح المتمرِّدة والأجنحة المتكسِّرة، وأعتقد أنه لا شعر بغير صورة.
– على الرغم من البدايات الرومانسية والحياة مع الأدباء، لماذا اخترت الدراسة في قسم الفلسفة؟
– كان مِن المفترض أن ألتحق بقسم اللغة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، ولكن الفضل يرجع إلى د. عبد العزيز المليجي الذي درَّس لي الفلسفة في المرحلة الثانوية (وفيما بعدُ أصبح من أبرز علماء علم النفس التحليلي في أمريكا)؛ فقد بهرني وسحرني في قدرته على توصيل رسالته. وفي تلك المرحلة بدأت علاقةٌ حميمة بيني وبين أفلاطون حين قرأت «المحاورات». لقد كان شاعرًا أكثر منه منظِّرًا، وهو من الأدباء الفلاسفة، ويقوم في داخله صراعٌ بين المنطق والأسطورة، بين الفلسفة والفن، وفي النهاية عبَّر عن نفسه في شكل محاورات. وكما قال شيشرون إن هذه المحاورات كانت تمثِّل أحيانًا على خشبة المسرح.
لم أندم على دخولي قسم الفلسفة؛ فقد درَّس لي زكي نجيب محمود – يوسف مراد – مصطفى حلمي – أحمد فؤاد الأهواني – عبد الرحمن بدوي. وكان بدوي لا يسمح بالحوار أو السؤال، ومع هذا كان في أعماقه طفلًا عنيفًا متمرِّدًا، لكن هذا جزء مِن فلسفته التي طرحها في الزمان الوجودي، وهو أن يكون الانفصال لا الاتصال بينه وبين الآخرين؛ فهناك دائمًا فجوةٌ بينه وبين الآخر. كنت أذهب إليه وكان يقرأ باهتمامٍ شديدٍ ما كنت أكتبه آنذاك، ولقد استفدت منه ومن زكي نجيب محمود وكل أساتذتي في تلك المرحلة.
ولم يستطع د. مكاوي أن يقتل الشاعر بداخله في تلك الفترة وأعتقد حتى الآن! فكان يتسلل من قسم الفلسفة إلى قسم اللغة العربية لسماع شوقي ضيف وأمين الخولي وهو يتحدث عن المتنبي، لدرجة أنه قال له: يا ولد، أنت ما جبتش البحث ليه؟ فقال له د. مكاوي: أنا يا مولانا في قسم الفلسفة. فدعاه لحضور ندوة الأمناء، ثم الجمعية الأدبية المصرية والتي كان من بين أعضائها صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن فهمي وشكري عياد وعز الدين إسماعيل وفاروق خورشيد، والذين صاروا أصدقاء العمر فيما بعد.
ثم سافر إلى إيطاليا في منحةٍ ثلاثة أشهر لدراسة اللغة الإيطالية، وهناك تقابل والشاعر الإيطالي المصري أونجارتي (حيث وُلد وعاش في الإسكندرية إحدى وعشرين سنة)، والذي ترجمه إلى العربية منذ سنواتٍ قليلة، حيث تعلَّم هناك الإيطالية. ثم جاءت محطةٌ هامة في حياة د. مكاوي، حيث تم تعيينه في دار الكتب في قسم الفهارس، ولم تكن الوظيفة هي الحدث، بل لقاؤه برئيس دار الكتب، وكان «توفيق الحكيم». وسألته: قرأ لك توفيق الحكيم في تلك الفترة قصتَين، ونصحك بالابتعاد عن الجامعة والتفرغ لكتابة القصة، فلماذا لم تفعل هذا؟
– ربما لأنني شعرت بالاختناق والمَلل في دار الكتب، فما أبشعَ التكرارَ اليومي في فهرسة الكتب دون قراءتها. وفي تلك الفترة جاءت المنحة إلى ألمانيا بفضل أستاذي الذي رعاني وهو فرتس شتيبات، فدرست في جامعتَي فرايبورج وبرلين الحرة، وكانت الدراسة الأساسية هي الفلسفة، أما المساندة فهي الأدب، وهناك تعرَّفت على عظماء أمثال هيدجر الذي سمعته يُحاضِر عن اللغة. وإلى جانب الفلسفة درست الأدب الألماني في العصر الكلاسيكي والمعاصر، وهناك تعرَّفت جيدًا على توماس مان وبشنر وجوته وهلدرلين.
– وفي طفولتك تعرَّفت على الأدب الألماني، وقرأت آلام فرتر، ترجمة أحمد حسن الزيات، وفي سن العشرين تعلَّمت اللغة الألمانية على نفقتك الخاصة، ثم غرِقت في ألمانيا في بحور الأدب الألماني والفلسفة أيضًا، ثم كانت أطروحتك في جامعة فرايبورج لنيل الدكتوراه هي المُحال والتمرد عند الفرنسي ألبير كامي، كيف تفسِّر ذلك؟
– بعد العودة من البعثة قدَّمت للقارئ العربي كاتبَين من كبار كُتاب المسرح الألماني بل والعالمي، وهما جورج بشنر وبرتولد بريشت، وأيضًا الشاعر هلدرلين، وكان بريشت ينتمي إلى التعبيرية في بدايته، فلماذا الانحياز لهؤلاء والتعبيرية؟
– أنا أُحبُّ التعبيرية، ونحن كعرب نميل دائمًا إلى المُطلَقات، ولم نتعلم بعدُ الاهتمام بالتفاصيل والدقائق إلا قليلًا عند نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإدوار الخراط، فما زالت تغلب علينا التعبيرات اللفظية الرنَّانة المُطلَقة، وتغيب عنا التفاصيل التي يتعلمها الإنسان من خلال العلم والفن. فعلى سبيل المثال يمكن أن يصف توماس مان أو جونتر جراس بابا أو نافذة في صفحة، أو يصف مَلامح وجه في صفحات، ونحن عندنا نكتفي بأن نقول وجهٌ متجهِّم وكفى، فنحن لم نتعلم بعدُ كيف نُبصِر. وكلاهما، بريشت وبشنر، خاضا مَعارك حقيقية وثورية، وكنت قد بدأت قبل السفر إلى ألمانيا قراءة أشعار بريشت، وبعد أن سافرت ترجمت له عشرين قصيدة، وأرسلتها للدكتور حسين فوزي، ونشرها على الفور في مجلة «المجلة». ومِن الطريف أنه عندما تحدِّد موعد الامتحان كان لا بد من اختيار العصر الكلاسيكي مع الإلمام بالعصر الرومانسي، وبعد مناقشات كثيرة اخترت كافكا وبريشت.
– كيف وكلاهما يختلف عن الآخر تمامًا؟
– نعم، ولكن أحدهما يوافق طبيعتي الانطوائية وهو كافكا بكوابيسه، ولقد أحببت أسلوبه لموضوعي وكأنه أستاذ فيزياء وأديب في آن، على العكس من بريشت فهو بعيد عن الباطن تمامًا، ومهتمٌّ بإيقاظ الوعي والمسرح التعليمي وثورته على الأوضاع القائمة. فالطرفان جزء من طبيعتي الثورية والمُحبَطة، فتجدني الآن مُحبَطًا وغاضبًا من كل ما يحدث لنا كعرب، فنحن نُذبَح مفتوحي الأعين، وفي نفس الوقت نسينا ما يُسمَّى بالغضب، حتى المثقَّفين لا يمكن تبرئتهم، والشعوب العربية لا حول لها ولا قوة؛ فهي عجينة يمكن أن تتشكل من خلال الساسة. أسأل نفسي كثيرًا أين الغضب وخنزيرٌ برِّي مثل شارون يذبح شعبًا عربيًّا. هذا شيء مُهين، وأنا كمثقَّف أشعر بالإهانة. لست من أنصار الثورة الفوضوية لأي غرض، فقط أُومِن برأي دستوفسكي الذي أكَّده كامي، وهو أن العالم كله لا يستحقُّ أن يموت من أجله طفلٌ بريء، والعالم العربي أصبح مقبرة جماعية؛ لأننا أصبحنا سماسرة لكل شيء حتى للعلم والفن. نحتاج علمًا حقيقيًّا وفنًّا حقيقيًّا.
– قبل أن نترك جورج بشنر وبريشت لديَّ بعض الأسئلة، أولها: لماذا قلت في الدراسة التي كتبتها عن بشنر حول مسرحه إنه شقيق الروح؟
– لأنه ثوريٌّ مُحبَط مِثلي وعدمي. مات ضحيةَ الثورة من أجل الشعب المسكين، وأدان المثقَّفين الذين يتحدثون عن الحرية والمساواة، في حين لا يجد الفلاح البطاطس ليقتات بها، ولا يجد اللبن لطفله، وكان يقول هؤلاء بعيدون تمامًا عن الشعب. وهنا أودُّ أن أقول لكي نكون ثوريين بحق لا بد أن نهتمَّ بالبنية التحتية؛ فمِن الصعب أن يكون الإنسان ثوريًّا أو وطنيًّا وهو لا يمتلك قوت يومه. لا بد من تحقيق أدنى الشروط الإنسانية، ثم نتحدث فيما بعدُ عن الوطن. وهنا أتذكَّر ما قاله بشنر وهو على فراش المرض، في رسالةٍ بعث بها إلى صديقه أوجست شتوبر يقول فيها: الظروف السياسية تكاد تُصيبني بالجنون. الشعب المسكين يجرُّ في صبرٍ العربةَ التي يمثِّل عليها الأمراء وأدعياء التحرر ملهاتهم.
– نعود إذن إلى بريشت، وأسأل د. مكاوي الذي قدَّم بريشت للقارئ العربي: لماذا لاقى مسرحه الملحمي والتعليمي صدًى طيِّبًا لدى القارئ والمثقَّف العربي، وتأثَّر به الكثير من كُتاب المسرح العربي؟
– لأسبابٍ عديدة، منها أن المسرح الملحمي أو السردي قريبٌ من المأثور الشعبي العربي، ولأن بريشت يطرح من خلال المسرح الملحمي والتعليمي شكلًا يُتيح للكاتب الهروب من المسرح التقليدي، وهذا يُعطي للكاتب حريةً دون إعفائه بالطبع من المفردات الأخرى مثل الصراع والحدث، كما يُعطي فرصة للخروج عن النص، وفرصة للعقل أن يكون نقديًّا، وكأنه يقول هذا الواقع الذي نراه لا يجب أن نرضى عنه، ويجب أن نثور عليه.
– هل حقَّق بريشت هذا في كل مسرحه؟
– لا أعتقد ذلك. لقد حقَّق هذا في بعض المسرحيات مثل «الاستثناء والقاعدة» وغيرها، أعود إلى تأثيره على المسرح العربي؛ ربما لحاجتنا لشيء مِن النقد لظروف حياتنا وعدم الرضا عن واقعنا، وبريشت يلبِّي هذا. لقد حوَّل الماركسية إلى فن، إلى مسرح، وجعل فلسفته تتخذ ثوب شخصيات مسرحية، وهو الذي تشرَّد كثيرًا في المنافي، وحين عاد إلى ألمانيا كان يسكن في المسرح نفسه الذي كان يُطلُّ على مقبرة هيجل، وأوصى أن يُدفَن إلى جواره، وهذا ما حدث. وكان دائمًا يقول على الكاتب أن يسأل نفسه، ماذا سيكون رد فعل القارئ على هذه العبارة أو تلك؟ هل ستدفعه إلى تغيير الواقع، أو في أضعف الإيمان تغيير وعيه؟ فإذا كان الرد بالنفي فلا داعي لنشر هذه العبارة.
– كتب د. مكاوي العديد من المسرحيات، ومنها: «الانتهازيون لا يدخلون الجنة»، «الموت والمدينة»، «المرحوم»، «الكنز»، «السيد والعبد»، «محاكمة جلجاميش»، «الطفل والفراشة»، وغيرها. وعلى الرغم من أنك قدَّمت بريشت ودرسته جيدًا فلم يتأثَّر مسرحك به إلا في أحيان قليلة، لماذا؟
– على الكاتب أن يكون نفسه أولًا. وربما يرجع هذا إلى حبي للمسرح الكلاسيكي مثل جوته وشيلر. وبالفعل أغرى المسرح الملحمي الكثيرين، مثل عبد الرحمن الشرقاوي وسعد الله ونوس وسعد وهبة ويوسف إدريس وألفريد فرج وغيرهم. وربما يرجع هذا أيضًا إلى أنني رجلٌ عاطفي، ومَنابعي رومانسية، ولا أستطيع أن أتنكر لها. وأخيرًا أنا أعيش في محيطٍ اجتماعي، ولحظةٍ تاريخيةٍ مختلفة؛ وبالتالي مسرحياتي ستكون مختلفة.
– يبدو أنك لم ولن تتخلى عن الشعر، ويبدو أن شيطان الشعر الذي يسكنك لم ولن يُفارِقك؛ إذ تجلَّى هذه المرةَ في كتاب «ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى عصرنا الحاضر»، والذي كان بمثابة ثورة في الأوساط الثقافية، وخاصةً بين الشعراء من خلال الجزء الأول الدراسة والثاني النصوص. ما أرغب في السؤال عنه هو أن ثورة الشعر الحديث في أوروبا ارتبطت بثوراتٍ أخرى في شتى مفردات المجتمع، فماذا كنت تتوقع بعد صدور الكتاب للشعر العربي الذي يعيش في واقعٍ مختلف تمامًا؟
– في أوروبا كلمة التنوير أنتجت عصر التنوير، فحين حدثت ثورة الشعر في أوروبا سبقتها ثوراتٌ متعددة الجوانب؛ فمع الثورة الصناعية انهارت أنظمةٌ ميتافيزيقية ومنطقية ودينية، بل وانهار نظام العقل نفسه، وخاصةً بعد الحرب الأولى. نعم، حدث تنوير للعقل الأوروبي، وعرف مبادئ الحرية والمساواة، وإذا قارنَّاه بعالمنا العربي سنجد أنه لم تكن لدينا ثورةٌ صناعية، بل مصانع مستعارة، وقِس على هذا في كل شيء. وأقول لك إن هناك ثوراتٍ شعريةً فردية في عالمنا العربي، مثل الجواهري والبردوني والبياتي وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش والسيَّاب وغيرهم، لكنها كما ذكرت ثوراتٌ فردية. أيضًا الاستجابة ضعيفة؛ لأن الأديب العربي يصرخ في البرية، وصوته لا يؤثِّر في بنية المجتمع، لماذا؟ لأننا دائمًا نصطدم بسُلطةٍ لا تُحبُّ التغيير ولا تريده حتى للأفضل ولمصلحتها، وهذا يعكس المصير الذي آل إليه الشعب العربي.
– من الفلسفة الإغريقية إلى المثالية الألمانية مرورًا بالوجودية، رحلةٌ طويلةٌ مُمتِعة وشاقَّة، قطعها د. عبد الغفار مكاوي تلميذًا ومعلِّمًا وشارحًا ومُترجِمًا ومحلِّلًا، فماذا فعلوا بك وكيف وجدتهم؟ فهل وجدت ثوريًّا مُحبَطًا اعتبرته شقيق روحك مثل بشنر، أو شبيهك مثل هلدرلين؟
– هيراقليطس هو الأقرب إلى قلبي، وأكاد أقول إنه هو نيتشه القرن التاسع عشر، ثم أفلاطون صاحب الشخصيات المتعددة؛ فهناك أفلاطون في محاوراته السقراطية وهي مرحلة الشباب، ثم أفلاطون الوسط والكهولة والشيخوخة؛ فهو نفسه تطوَّر تطورًا جدليًّا، وإذا صح كلام هيدجر عنه تمَّت على يده النقلة الصعبة من التفكير في حقيقة الوجود إلى العقل؛ أقصد إلى معايير العقل الإنساني الذي أصبح المحكَّ في التمييز بين الصواب والخطأ، على أساس قياس كل شيء ناقص في عالمنا على الأصل وهو المثل. وقد عشقت أفلاطون؛ لأنه يمثِّل الصراع بين الفلسفة والفن؛ فالفلسفة عنده طريق وليست هدفًا نهائيًّا.
وهناك نيتشه وكانط. أما هيدجر فلا أجد له نظيرًا في استيعاب تاريخ الفلسفة، وأقول لك إنني لا أملك قدرة التنظير، فقط التعاطف مع النصوص، وشرحها للطلبة كيف يفهمون أسلوب التحول؛ فالفلسفة فن طرح الأسئلة. وأثناء قراءتي للفلسفة أفكِّر في تحويلها إلى أعمالٍ فنية، والآن أنا مشغول ببعض القصص عن حياة ومواقف بعض الفلاسفة.
ليس غريبًا أن يصف د. مكاوي علاقته بالنصوص الفلسفية بالتعاطف معها، أو التفكير في تحويلها إلى قصص تتناول حياة ومواقف الفلاسفة؛ فهو يعتبر أن الترجمة المُبدِعة الموفَّقة نوعٌ من الفعل الصوفي أو التضحية بالذات في سبيل الآخر — وهو النص الأصلي وعالمه — وأنها كما يقول شوبنهور: نوع مِن تناسُخ الأرواح. وسألت د. مكاوي عن المناهج الفلسفية الجديدة، والتي رفض أصحابها إطلاق صفة الفلسفة عليها، مثل البنيوية والتفكيكية وموقفه منه؟
فقال: بكل صدق أحسست أن البنيوية جاءت بعد أن كبرت في السن وتم تكويني، قرأت فيها ولم أتحمَّس لها. أما التفكيكية فقد راجعت بعض الأبحاث فيها، فوجدت أن جاك دريدا ربما يكون أديبًا، ولكن بالنسبة لي فهو مخرِّب. وأنا لست ضد معرفة أي إنسان، ولكن علينا أن نحكِّم عقلنا النقدي.
– سؤالٌ قديم جدًّا، ولكن لا بد أن أسأله للدكتور مكاوي عن الفلسفة العربية التي لفظت أنفاسها الأخيرة في كتاب تهافت التهافت، فلماذا كان ابن رشد آخر الفلاسفة؟
– إغلاق باب الاجتهاد، وانهيار الدولة الإسلامية إلى دُوَيلات، كان له التأثير الأكبر. وأنا لست مع هذا الرأي الوارد في سؤالك، فمن يسأل هذا السؤال يتوقع أو يتخيل فيلسوفًا كبيرًا بالمعنى الشامل، وهذا انتهى مع هيجل؛ فهذا النوع من الأنساق الشاملة لم يعُد مطلوبًا أو ممكنًا، ولدينا اجتهاداتٌ كثيرة، فهناك فؤاد زكريا وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي والجابري والحبابي والعالم وغيرهم.
– في ظل هذه الأوضاع كيف ترى مستقبل الثقافة العربية؟
– البداية الحقيقية أن نُؤمِن بضرورة الثقافة وأنها مسئوليتنا جميعًا، وليست ديكورًا أو ضوضاء ومؤتمرات كما يقولون ويفعلون أيضًا. إنها عطشٌ حقيقي وجوعٌ حقيقي للحرية، والعدل والثقافة هي طوق النجاة الوحيد.
وأخيرًا سألته: من هو الإنسان؟
قال لي: هذا سؤال الأسئلة. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقاوم الموت بكل أشكاله، وهو الذي يُواجِهه الموت بكل أشكاله المختلفة، فيتحدَّاه ويؤكِّد مجد الحياة والعقل والحرية بما يبنيه من حضارة، وما يُبدِعه من فن وأدب، وكأنه كائن يتحدى الموت دائمًا، أو كأنه يقول للوجود إذا كنت سأنتهي للعدم فلست عدمًا، وسأترك بعدي ما يدل على وجودي.