النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت
تمهيد
لا تستغني الحياة الواعية عن النقد، ولا يشكُّ أحد في ضرورة النقد المتجدِّد للواقع السائد في نُظُم المعرفة والقيم والاجتماع وأنماط الفكر والفعل والسلوك؛ إذ إن إحياء الحس النقدي معناه إحياء الحس بالحرية والاستنارة، وضرورة التغيير والتقدم والحوار المستمر.
وعلى الرغم من تعدُّد مفاهيم النقد وتنوع أساليب تطبيقه وميادينه، فهو في تصوره البسيط المباشر يتضمن مناهج المراجعة والتقييم للأفكار والوقائع والأفعال التي تنطلق من معايير معيَّنة، كما يستهدف الكشف عن تعارض تلك الأفكار والوقائع والأفعال مع هذه المعايير التي أصابها العجز والفساد بغيةَ العمل على «رفعها» وتجاوزها.
هذا السلب أو النفي الدائب للمعايير السائدة والوقائع والأوضاع القائمة، يكمن كذلك في النقد الذاتي الذي يُزاوِله الفرد أو المجتمع، أو ينبغي أن يُزاولاه على مختلف الظروف والقيم والمواضعات والمؤسسات والنُّظم التي قد تبدو للوعي غير النقدي مُطلَقة وثابتة ومستقرة؛ ولهذا يظل النقد والنقد الذاتي هو التعبير الحي الفعَّال عن صحوة الوعي الفردي والاجتماعي، وأهم الأُسس التي يعتمد عليها الصراع الدائم مع النزعات المحافظة والتقليدية والسلبية التي تبرِّر كل وضع سائد وتُبارِكه، وتُقاوم التغيير والتطوير والتجديد والإبداع. وطبيعيٌّ أن يبقى النقد الذي يكتفي بنفي الواقع القائم ونقضه وتعرية عيوبه وأخطائه في أدنى مستويات النقد؛ لأن النقد الصحيح هو الذي يضع «الضد» في مواجهة «القائم»، ويؤلِّف بينهما في «جديد» أعلى وأشمل وأكثر وعيًا وخصوبة.
مثل هذا النقد «السالب» أو «النافي» — بالمعنى الحقيقي للسلب أو النفي — عنصرٌ أساسي في تكوين المنهج الجدلي الذي أثبت، منذ هيجل على أقل تقدير وحتى ماركس وأصحاب النظرية النقدية الذين سنتحدث عنهم، أنه بطبيعته نقديٌّ وثوري، وأنه يؤدي إلى التغيير الإيجابي عن طريقِ سَلبِه لكل ما هو فاسد في الواقع السائد، وتطوير ما يقبل منه التطوير إلى جديد مُلائم للحاجات المستجدة، وقادرة — في حدود الممكن لا المستحيل، وبصورة عقلانية وعلمية، لا بصورة عاطفية متمرِّدة وعشوائية! — على الخروج من الأزمات والمشكلات، وإحلال قِيم ومعايير مختلفة محلَّ القيم والمعايير التي أصبحت تقليدية جامدة، واقتضت «الجدلية» الجذرية أو الثورية تخطِّيها, ولا بد في النهاية أن يعمل مثل هذا النقد على تغيير القائم أو السائد تغييرًا فعليًّا، وألا يقتصر على تعريته وتحليله تحليلًا نظريًّا وفكريًّا وحسب؛ لأنه إما أن يتحول إلى فعل ثوري واعٍ يستبدل ببناء اجتماعي ومعرفي وقيمي منهار بناءً آخر أصلح وأقرب للواقع الحي، ويضع تصورًا لتغيير مستقبلي ينفي السائد الذي دبَّ فيه الفساد ويُزلزِل ثوابته المزعومة، وإما ألا يكون نقدًا على الإطلاق، بل شيء من قبيل الأوهام الزائفة والأحلام المستحيلة، والوعود البلاغية والإنشائية التي لا يلبث الواقع العيني أن يكذِّبها ويخذلها.
الحق أن التسميتَين واردتان، وهما متفاعلتان عند من يعرف الجهود المشتركة لهذه المجموعة من المثقَّفين اليساريين وعلماء الاجتماع ونُقاد الحضارة والأدب والفن، الذين أعملوا مِبضع النقد الثوري في أمراض حضارتهم «البرجوازية» التي ضلَّت طريقها، وتزايدت في رأيهم سرعة اندفاعها إلى هاوية اللاعقل وكارثة السقوط المحتوم عن طريق عقلها نفسه أو عقلانيتها التقنية، هؤلاء الذين سيطرت عليهم فكرة «الخلاص» والكفاح في سبيل عالم أفضل تسوده الاستنارة والرشد، ويختفي منه القهر والقمع، ويتمُّ فيه إنقاذ الحياة المباشرة السعيدة؛ الحياة الأصيلة المُبدِعة. هؤلاء المفكرون والعلماء أصحاب الرسالة الاجتماعية والإنسانية يمكن أن يكون شعار «مدرسة فرانكفورت»، الذي عُرفوا به علامة مميِّزة لجهودهم وسماتهم المشتركة، كما يمكن وصفهم بأصحاب النظرية النقدية، أو الاكتفاء بالاسم الذي يدل على منهجهم وهو «النظرية النقدية»، وبصورة أدق «النظرية النقدية الاجتماعية»، أو «النظرية النقدية الجدلية». كل هذا على الرغم من الاختلافات الدقيقة بينهم في تحديد معناها، ومِن تفاوت طرقهم في البحث والنظر، بحيث يمكننا الحديث في الحالتَين عن موضوعات وسمات عامة، تؤلِّف بين أعضاء جماعة تنوَّعت اهتماماتهم وتخصصاتهم أكثر من إمكان الحديث عن مدرسة علمية موحَّدة ومتماسكة، ولا سيَّما أنها لم تزَل عند أبرز رُواد جيلها الثاني (وهو هابرماس الذي سبق ذِكره) فلسفةً مفتوحة، ولم تزَل تسعى إلى إتمام بنائها النظري والعلمي، وإدماج عناصر جديدة فيه من فلسفات العصر الأخرى المؤثِّرة (كالفلسفة التحليلية والتحليل النفسي والفينومينولوجيا أو الظاهرية والوجودية والهيرومينويطيقية أو فلسفة التفسير … إلخ) إلى الحد الذي تُتَّهم معه من جانب خصومها بأنها لم تعُد نقدية ولا ماركسية، وأنها انتهت عند بعض أعلامها في أواخر حياتهم إلى نوع من اليسارية العدمية!
وربما كان من أهم السمات العامة التي تميِّز كذلك معظم أعضاء المدرسة من أصحاب النظرية النقدية، أنهم التفُّوا — لفترة طويلة على الأقل، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ورجوع معظمهم من المهجر — حول معهدهم ومجلتهم، والتزموا إلى حد كبير بالبيان «المانيفيستو!» الذي وضَّح اتجاههم العلمي والنقدي، وألقاه راعيهم ومديرهم «ماكس هوركهيمر» في محاضرته الافتتاحية بجامعة فرانكفورت سنة ١٩٣١م بعنوان: الوضع الحاضر للفلسفة الاجتماعية ومهامُّ معهد البحث الاجتماعي. كما التزموا بالأفكار الأساسية التي وردت في مقاله الذي يرجع لعام ١٩٣٧م عن النظرية التقليدية والنظرية النقدية. أضِف إلى هذا كله أنهم عدُّوا أنفسهم ورثة هيجل وماركس (الشاب بوجه خاص!) وأدمجوا في ماديتهم التاريخية والنقدية عناصر مختلفة من التحليل النفسي الفرويدي، وأفكارًا ومَشاعر عديدة من رُواد فلسفة الحياة وأصحابها الذين نقدوا العقل والميتافيزيقا (مثل شوبنهور ونيتشه ودلتاي وكلاجيس وبرجسون)؛ مما جعل بعض خصومهم يصفونهم بأنهم ماركسيون وجوديون أو وجوديون متمركسِون، وبأنهم عاطفيون مُصابون بالتشاؤم الحضاري والعدمية التاريخية، التي حاولوا الفرار من أسوارها الكثيفة المُظلِمة بأجنحة أحلامهم الغامضة عن الإنقاذ والخلاص، عن طريق الإبداع والفن حينًا، أو على يد أنبياء العصر الجُدد حينًا آخر، من المنبوذين والمضطهَدين والهامشيين وصعاليك الفنانين وشباب الجامعات المتمردين.
ولا بد في هذا التمهيد من كلمة مُوجَزة عن ماركسية أصحاب النظرية النقدية؛ فقد ذكرنا أنهم تبنَّوا الماركسية من حيث المبدأ أو من حيث الجوهر وروح المنهج، ولكنهم لم يتقيَّدوا بصورتها الحرفية ومقولاتها التقليدية، التي تركَّزت حول نقد الرأسمالية كنسق اقتصادي تعتمد عليه «البنية الفوقية» والمنظومة الفكرية (الأيديولوجية) بمختلف جوانبها. لقد قامت ماركسيتهم المبدئية — كما قدَّمت — على نقد العلاقات المُغترِبة والمسبِّبة لاغتراب الإنسان في المجتمعات الرأسمالية والصناعية القائمة على الشمولية والعقلانية التقنية والإدارية التي ادَّعت التقدمية والاستنارة، وتباهت بالسيطرة على الطبيعة والإنسانية في الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي على السواء. ولم يكن المصدر الأساسي لهذا النقد هو النظرية الماركسية في مجموعها، ولا الارتباط بالطبقة العاملة، بقدر ما كان — في معظم الأحوال، لا في جميعها — هو التأثر بتجربة ماركس الشاب الذي اكتشفوه مع اكتشاف «مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لعام ١٨٤٤م» في مطالع هذا القرن في باريس، بحيث وجدوا في آرائه تأكيدًا لاغتراب الإنسان في المجتمعات السابقة الذِّكر عن ماهيته الحقيقية، واغترابهم كيهود مضطهَدين من تلك المجتمعات. لقد أدركوا أن الرأسمالية كارثة تحيق بالإنسان؛ بحقيقته وآماله في حياة حرة ومُبدِعة وسعيدة، وعرفوا أن نقدهم لها ينبغي ألا يقتصر على الإصلاح الاقتصادي والسياسي، بل يستوجب الثورة الشاملة عليها؛ على «صنميتها» السلعية وعقلانيتها واستنارتها المزعومة التي تقف حجر عثرة أمام كل حياة إنسانية أصيلة (وهذا هو الذي فعله «أدورنو» في مقاله المبكِّر سنة ١٩٣٢م عن الوضع الاجتماعي للموسيقى، وفي الكتاب الذي اشترك فيه مع «هوركهيمر» عن «جدل التنوير»، ١٩٤٥م).
غير أن هذه النظرة النقدية المُشبَعة بروح الخلاص والوعي المسئول ﺑ «رسالة» أصحابها، لم تخلُ في الوقت نفسه من الازدواج والتمزق والتشكك في دور النظر العقلي والبحث العلمي والتقني، في ظل حضارة تندفع — في رأيهم — إلى هاوية لا عقلانية، وتتسلط على وعي الإنسان وتُزيِّفه، في الوقت الذي تُسيطر فيه على المادة والطبيعة، وتتحكم فيهما بوسائل القمع والقهر الرهيبة. ولم تتجرد تلك النظرة كذلك من الإحساس الفاجع القاتم، الذي فرضته عليهم روح العصر المتدهوِر أو الآفل للغروب (على حد تعبير شبنجلر، وتحت تأثير شوبنهور وفلاسفة الحياة)، ولا من الإيمان الشجاع بضرورة «الإنقاذ» عن طريق المعرفة العلمية والموضوعية بالعلاقات والأشكال الاجتماعية، ومن خلال الأمل «الرواقي» الصامد رغم كل شيء، الواعد بحياة إنسانية «أصيلة» وبريئة من القمع والزيف والبؤس والاغتراب.
وإذا كانت الإبداعات والإنجازات الكبرى قد تولَّدت — في تقديري المتواضع — عن الأزمات التاريخية والاجتماعية والفكرية، التي أحسَّها الأفراد العظام ووعوا شروطها وإرهاصاتها تمام الإحساس والوعي، فإن النظرية النقدية لهذه المدرسة ليست استثناءً من ذلك؛ فهي أيضًا وليدة أزمات العصر وعصر الأزمات، ونتاج الصراعات والمتناقضات على اختلاف درجاتها ومستوياتها وأسبابها ونتائجها، بل إن اسم مدرسة فرانكفورت ليُثير مشكلات ويُوحي بتداعيات تقفز على الفور إلى الذهن، وتؤكِّد أنها من إفراز النُّظم الشمولية الحديثة في المجتمعات الصناعية المتقدِّمة، على الرغم مما قد يبدو بينها مِن تنافر وتنوع في أبعادها. ويكفي أن نذكُر منها: النازية وهجرة المثقَّفين الألمان فرارًا من إرهابها، أهوال الحرب العالمية الثانية، مشكلة اليهود في أوروبا، جمهورية فَيمار الهشة التي اكتسحها الطغيان النازي، عصر «مكارثي» الذي عاش أعضاء المدرسة تحت نَيرِ مباحثه أثناء وجودهم في نيويورك ولوس أنجلوس، حركة الطلاب المتمرِّدين أو الرافضين في أواخر السبعينيات، أزمة الماركسية سواء تمثَّلت في عجز الأحزاب اليسارية الأوروبية تجاه التصاعد النازي، أو تجلت بعد الحرب في محاولات تجديدها من الداخل وتفجير تزمُّتها المذهبي وشموليتها البوليسية والبيروقراطية، أزمات الفكر الفلسفي «البرجوزاي» التي تبدَّت واضحة في تهاوي المثالية، وجمود الفلسفة الأكاديمية، وانسحاب فلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة الوجود إلى الباطن عجزًا منهما عن إدراك الواقع الحي وتفسيره وتغييره، أو خوفًا من المد الثوري الاشتراكي.
أضِف إلى هذا كله أزمةَ الحركة التعبيرية في الأدب والفنون التشكيلية قبل الحرب وبعدها، واتهام أنبغ المُبدِعين الألمان بالتحلل والزيغ، واضطرارهم للهرب من وطنهم، بجانب عدد من النزاعات الجدلية والخصومات الفلسفية والعلمية التي شارك فيه بعض أعضاء المدرسة — وبخاصة أدورنو وتلميذه هابرماس — مثل النزاع حول النزعة الوضعية عند علماء الاجتماع التقليديين في الجامعات الألمانية، وحول النقد الثقافي والحضاري، وحول فلسفة «هيدجر» في الوجود (الأنطولوجيا)، وهي الفلسفة التي كان لها «نصيب الأسد» من الهجوم الحادِّ الذي صبَّه عليها الاسمان الأخيران على فترات متباعدة بين الستينيات والثمانينيات، وكلها أزمات وصراعات تستحقُّ مزيدًا من التفصيل الذي يضيق عنه هذا المجال المحدود.
يترتب على ما سبق حقيقةٌ بالغة الوضوح وإن كنا لا ننتبه إليها عادةً، وهي أن النظرية النقدية نفسها «تاريخية» وليست ثابتة ولا مُطلَقة. ومعنى هذا أنها تخضع للنقد، شأنها شأن كل الظواهر التي يغمرها نهر الصيرورة وتحرِّكها أمواج التاريخ، ومعناه كذلك أن «نقد النقد» أمرٌ وارد وواجب، وإلا فنحن لم نتعلم من النقد شيئًا. وطبيعيٌّ كذلك أن يكون نقدنا لها نقدًا تاريخيًّا؛ أي مشروطًا بأوضاعنا وظروفنا الذاتية والموضوعية، ومرتبطًا بسياقنا الاجتماعي والسياسي والثقافي ومدى قدرتنا على استيعابه؛ ولذلك فهو بدوره لن يكون معصومًا من النقد ولا من نقد النقد، وسوف نؤجِّله إلى ما بعد العرض الإجمالي للنظرية النقدية وتطورها وجذورها التاريخية وأهم سماتها ومعالمها وأبرز أعضائها، وذلك كما قلت في الإطار المحدود الذي يتسع له هذا البحث.
(١) النظرية النقدية الجدلية
(١-١) جذورها التاريخية وأهم ممثِّليها
ترتبط النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت أوثق ارتباط ﺑ «معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي»، الذي أسَّسته في سنة ١٩٢٣م نخبةٌ من الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاد والنفس والنقد الأدبي والجمالي المُنحدِرين من أصول يهودية، وقد حدَّدوا وضعه وهدفه منذ البداية، بحيث يكون معهدًا حرًّا غير مقيَّد بالنُّظم الجامعية والأكاديمية، يتفرغ لبحث مشكلات الاشتراكية والماركسية والعنصرية وحركة العمال، مع الاعتماد بصورة عامة على المنهج الماركسي في التحليل النقدي الاجتماعي. وقد كان مِن بين أعضائه في العشرينيات والثلاثينيات عددٌ من الأعلام الذين ذاعت شهرتهم بعد ذلك في الحياة الفكرية والأدبية، مثل عالم النفس الاجتماعي والكاتب الفيلسوف «إريك فروم» (١٩٠٠–١٩٨٠م)، والناقد الأدبي الماركسي فالتر بنيامين (١٨٩٢–١٩٤٠م)، وعالم الاجتماع الأدبي ليو لوفنتال، وبوجهٍ أخص الفيلسوفان: تيودور فيزنجروند أدورنو (١٩٠٣–١٩٦٩م) وهربرت ماركوز (١٨٩٨–١٩٧٩م)، وفيلسوف الاجتماع ماكس هوركهيمر (١٨٩٥–١٩٧٣م)، الذي تولَّى إدارة المعهد من سنة ١٩٣٠م إلى سنة ١٩٣٤م عندما أغلقته السلطات النازية، فاستمر في الإشراف عليه بعد ضمه إلى جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية (من ١٩٣٤–١٩٥٠م)، بجانب إشرافه على إصدار «مجلة البحث الاجتماعي»، ورئاسة تحريرها من سنة ١٩٣٢م إلى سنة ١٩٤١م. وتُجمِع الآراء اليوم على أن أصحاب الأسماء الثلاثة الأخيرة هم مؤسِّسو «النظرية النقدية الجدلية» وأهم ممثِّليها من الجيل الأول، بالإضافة إلى أهم ممثِّليها من الجيل الثاني وأشهرهم، وهو المفكِّر والفيلسوف الاجتماعي يورجين هابرماس (وُلد سنة ١٩٢٩م).
بلغت هذه المدرسة ذروة تأثيرها على الحياة الفلسفية والعقلية، وعلى تفكير الرأي العام المثقَّف في أوروبا وألمانيا الغربية في النصف الثاني من عقد السبعينيات، عندما تبنَّت حركة الطلاب المعروفة بعض أفكار النظرية النقدية، وأدمجتها في «أيديولوجيتها» اليسارية الجديدة الرافضة لكل أشكال السُّلطة والتسلط. وقد تأثَّر رُواد هذه الحركة الثورية بأفكار «ماركوز» على وجه الخصوص، كما راجت آراؤه النقدية للمجتمع الرأسمالي الصناعي، في أعقاب مظاهرات الاحتجاج على التمييز العنصري، واضطهاد الأقليات، وحرب فيتنام التي هزَّت الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية؛ مما ساعد على انتشار «النظرية النقدية» على الأقل في أوساط المثقَّفين والطلاب المتمرِّدين.
- (١)
تراث الفلسفة المثالية الألمانية، وفي مقدمته تراث جورج فيلهيلم فريد ريش هيجل (١٧٧٠–١٨٣١م).
- (٢)
كتابات الشباب المبكِّر لكارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م)، وبخاصة المخطوطات الاقتصادية الفلسفية لعام ١٨٤٤م، التي تحتلُّ فيها فكرة اغتراب الإنسان في ظل مجتمع علاقات الإنتاج الرأسمالي مكانة كبيرة.
- (٣)
الفلسفات الاجتماعية الألمانية، وبخاصة عند ماكس فيبر (١٨٦٤–١٩٢٠م)؛ مما أثَّر على بحوثهم في علم اجتماع المعرفة والأدب والفن.
- (٤)
فلسفة التحليل النفسي وفلسفة الحضارة عند سيجموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩م) (خصوصًا بعد تطويرها بمنظور اجتماعي عند فيلهيلم ريش وإريك فروم وماركوز).
- (٥)
الأفكار والتصورات الماركسية والهيجلية الجديدة، التي عبَّر عنها في العشرينيات من هذا القرن كلٌّ من كارل كورش (١٨٨٦–١٩٦١م)، وجورج لوكانش (١٨٨٥–١٩٧١م)، لا سيَّما في كتابه التاريخ والوعي الطبقي (١٩٢٣م)، الذي عرض فيه لفكرة «تشيُّؤ» الإنسان واغترابه، التي كان لها تأثير قوي على رُواد النظرية النقدية، بجانب التأثر بصورة غير مباشرة بفلسفة الأمل عند أكبر فيلسوف «يوتوبي» في العصر الحاضر، وهو إرنست بلوخ (١٨٨٥–١٩٧٧م)، الذي جعل من مبدأ الأمل مقولةً أنطولوجية أساسية نظر من خلالها نظرة موسوعية إلى تطور المادة، وإلى كل إبداعات العقل الأوروبي والتراث الحضاري البشري، ورصد حركته نحو «يوتوبيا» إنسانية لم تتحقق بعدُ ولن تتحقق إلا في ظل المجتمع الشيوعي الذي سيكون — في تقديره — «وطن» الإنسانية والحرية والعدل والإخاء.
- (٦) التأثر ببعض أفكار فلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة الحياة وفلسفة الوجود، التي انطلق منها بعض أعلام مدرسة فرانكفورت؛ مما جعل فلسفتهم تُتَّهم في كثير من الأحيان — كما سبق القول — بأنها ماركسية وجودية. ونخصُّ منهم بالذِّكر هربرت ماركوز، الذي درس في شبابه على يدَي هسرل مؤسِّس الظاهرات (١٨٥٩–١٩٣٨م)، ثم هيدجر (١٨٨٩–١٩٧٦م) الذي أعدَّ رسالته في الدكتوراه تحت إشرافه، وكذلك هوركهيمر وأدورنو اللذَين لا يخفى تأثير فلسفة شوبنهور (١٧٨٨–١٨٦٠م) ونيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م) وفيلسوف الحياة والتاريخ والحضارة وعالم الاجتماع جورج زيميل (١٨٥٨–١٩١٨م) على تفكيرهما الجادِّ، وحسهما المأسوي، وتصورهما المُتشائم لتاريخ العقل البشري بوصفه تاريخ عذاب الإنسان وتعذيبه من قِبل قوًى فظة غاشمة وشبه مجهولة، بحيث بلغ ذروة سلبيته وتجرده من أقنعته الحضارية وتصدعه واغترابه في ظل المجتمعات الصناعية «المتقدمة»، ومع تصاعد الإرهاب النازي ثم الرأسمالي والشيوعي.٤
(١-٢) خصائصها وسماتها العامة
تكاد مقولة «التشيؤ» و«الاغتراب» أن تكون إطارًا مرجعيًّا لمعظم الأفكار التي يطرحها فلاسفة النظرة النقدية، ونواة مركزية يدور حولها الجانب الأكبر من مناقشاتهم وتحليلاتهم للمجتمع الرأسمالي والصناعي «العقلاني» الحديث، وتعبِّر هذه المقولة في أبسط أشكالها عن أن المجتمع والبشر ليسوا في واقع حياتهم ما يمكن أن يكونوه بحسب ماهيتهم وإمكاناتهم؛ ذلك أنهم في الحقيقة مُغترِبون عن هذه الإمكانات وتلك الماهية؛ فالمجتمع الصناعي المتقدِّم الذي ينصبُّ عليه حديثهم عن هذه المقولة يكشف عن اغتراب الإنسان وتشيُّئه في ظواهر عديدة ومتنوعة. مِن هذه الظواهر أن الإنسان قد تحوَّل في ظل علاقات العمل الصناعية والرأسمالية إلى مجرد عنصر أو جزء ضئيل من جهاز الإنتاج الهائل الذي تحدِّده «الأتمتة» و«الميكنة»، وصار عجلة صغيرة مجهولة قابلة لأن يُستبدَل بها غيرها داخل «العالم التقني» الضخم، الذي يصعب الإحاطة بشبكته المعقَّدة، أو بالقوى التي تحرِّك خيوطه.
فالإنسان واقعٌ تحت ضغط الآلات التي تفرض عليه ألوانًا من السلوك النمطي الرتيب، وتسدُّ عليه مَنافذ المبادرة الشخصية الحرة، وتعوق تحديده لِذاته، وتخنق فاعليته الخلَّاقة.
ويحدِّد أصحاب النظرية النقدية أسباب التشيؤ والاغتراب التي ترجع للنظام الاقتصادي الرأسمالي؛ فعلاقات الإنتاج والسوق الرأسمالية هي المسئولة عن «عبادة السلع» أو «صنميتها» (الفيتيشية)، التي أضفت على علاقات الناس بالأشياء وببعضهم بعضًا طابع السلعة، وحصرتها في نطاق المنافع والوسائل المجردة من كل لمسة شخصية أو إنسانية. أضف إلى ذلك تقسيم العمل المُوغِل في التخصص خلال عملية الإنتاج، وميكنة العمل نفسه، وبيروقراطية الإدارة، وصناعة الدعاية والإعلام ووسائطهما الجماهيرية … إلخ، ويأتي في مقدمة العوامل والأسباب التي أدَّت إلى اغتراب الإنسان المعاصر في ظل المجتمعات الصناعية المتقدمة أسلوبٌ أو نمط معيَّن من التفكير، يسمِّيه أصحاب النظرية النقدية باسم «العقل الأداتي» حينًا و«العقلانية التقنية» حينًا آخر، مما سيرد ذِكره بعد قليل. والواقع أن النظرية النقدية تختلف في هذه النقطة اختلافًا أساسيًّا عن وجهة النظر الماركسية اللينينية، التي تُرجِع الاغتراب لأسباب اقتصادية محضة، كما تجعل القضاء عليه مرهونًا بالقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.
يقصد فلاسفة النظرية النقدية ﺑ «العقل الأداتي» أو «العقلانية التقنية» نوعًا من التفكير السائد في المجتمع الصناعي الحديث، يُطلِقون عليه كذلك اسم العقل الذاتي والتقني والشكلي، ويصفونه — على لسان ماركوز في كتابه الشهير — بالتفكير «ذي البُعد الواحد». ويتضح هذا التفكير بأجلى صورة في أسلوب التفكير العلمي والتقني، كما تعبِّر عنه الفلسفة الوضعية بأشكالها المعاصرة والفلسفة البراجماتية «العملية».
ولا ينفصل هذا الاتجاه «الأداتي» للعقل التقني والعلمي الحديث عن اتجاهات أخرى تتمثَّل في فرض المقولات الكمية على الواقع، ومحاولة إخضاع جميع الظواهر والوقائع للقوانين الشكلية والقواعد القياسية. ويتضح «طغيان النزعة الكمية أو التكميم» (على حد تعبير أدورنو في كتابه عن الجدل السلبي، فرانكفورت، ١٩٦٦م، ص٥١) في العصر الحاضر في المنطق الرياضي، والاتجاه المتزايد إلى «ترييض» العلوم المختلفة حتى الإنسانية منها (أي صبغها بالصبغة الرياضية)، بل في تطبيق المعايير الكمية على تقييم فرص العمل، وتنظيم السلوك في أوقات الفراغ. وقد ترتَّب على هذه العقلنة الشكلية والرياضية لمختلف ميادين الحياة الإنسانية أنْ تضاءلت جوانب كيفية هامة لا غنى عنها لحياة الإنسان، وتمَّت التسوية بين الفروق الفردية الأساسية، والتضييق على إمكانات الحرية والتعبير الحر التي لا تستقيم الحياة بغيرها. ويؤكِّد فلاسفة النظرية النقدية في هذا الصدد أن الإنسان الذي تحكَّمت فيه العقلانية التقنية لا ينفكُّ يفرض تقنياته المتجدِّدة على الطبيعة والمجتمع؛ تحقيقًا لإرادته في عقلنتهما وصبِّ ظواهرهما في مقولاته؛ ومِن ثَم فرض سيطرته عليهما. غير أنه لا ينتبه من ناحية أخرى إلى أن هذه التقنيات ذاتها هي نتاج تفكيره، وإن كان يعدُّها في النهاية حقائق موضوعية ثابتة ومستقلة عنه، ويتعامل معها كأنه واقع تحت رحمتها وخاضع لسلطانها. ويسوقه هذا إلى الوقوف العاجز إزاء كل ما هو قائم ومستقر، أو إلى موقف التصالح معه (والمراد بالقائم والمستقر هي أساليب التفكير السائدة والمؤسسات والنُّظم والقيم والعلاقات الاجتماعية والسياسية … إلخ). ويُلحُّ فلاسفة النظرية النقدية على هذه الفكرة التي ترتبط بسمات وخصائص أخرى مميِّزة للعقل التقني أو الأداتي، كالاتجاه لتثبيت دعائم السُّلطة، وتأمين علاقات القوة والسيادة في مجتمع معيَّن، والميل إلى اضطهاد النزعات التلقائية الخلَّاقة والأفكار المُبدِعة الجسور التي تطمح إلى تجاوز المألوف والمعتاد، والعجز عن إدراك العمليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في سياقها التاريخي الشامل الذي يتخطى الجوانب الجزئية والأحداث المعزولة، والنزوع إلى توحيد أساليب التفكير والحاجات وأنماط السلوك تحت تأثير وسائل الدعاية والإعلام والتسويق، التي ترتبط بنظام الإنتاج والاستهلاك في المجتمع الصناعي والرأسمالي، وتؤكِّد مصلحته في «تنميط» أشكال التفكير والسلوك، وحمل الناس على التكيُّف مع ظروف القهر والقمع التي تفرضها العقلنة والميكنة التي سبق شرحها، ثم الاتجاه أخيرًا إلى استبعاد القرارات الأخلاقية والسياسية من دائرة المعقول والحط من شأنها؛ لأنها تنتمي إلى مجال اللامعقول والقرارات «الذاتية» البعيدة عن «الموضوعية».
(٢) تعقيب نقدي
ربما يؤخَذ على النظرية النقدية أنها لم تستطع أن تُقِيم أبنية منهجية أو نسقية مُحكَمة متماسِكة؛ ولذلك بقيت فلسفة حرة مفتوحة، تعتمد على حدوسهم الثاقبة أكثر مما تعتمد على التطوير التصوري الصارم للأفكار، وتعبِّر عن نفسها في صورة مقالات وشذرات متفرِّقة لا في بناء مترابط دقيق. وربما يرجع السبب في هذا إلى تنوُّع اهتماماتهم ومواهبهم، وتمزُّق شخصياتهم بين العالم الاجتماعي والجدلي الصارم وبين الفنان العاطفي أو الرومانتيكي الحالم، وحرصهم على البُعد عن صورة الفيلسوف والعالم بالمعنى الحرفي — على الرغم مِن أن بعضهم قد شغل مَنصب الأستاذية في الجامعة — رغبةً منهم في الاحتفاظ بصورة الفيلسوف والعالم الحر، واستجابةً لطبيعتهم القلِقة ومزاجهم الثوري، الذي جعلهم ينخرطون في تناقضات عصرهم وأزماته وأمراضه، ويحاولون تشخيصها ووصف العلاج الحاسم للخلاص منها.
لم يشأ «أدورنو» — على سبيل المثال — أن يكون فيلسوفًا ولا عالم اجتماع بالمعنى الحرفي أو المهني للكلمة. وباستثناء دراساته عن كيركجارد وهيجل، وكتابَيه الشهيرين: جدل التنوير (بالاشتراك مع صديقه هوركهيمر) وجدل السلب أو الجدل السالب، لا نكاد نجد له كتابًا متخصِّصًا سوى كتاب واحد مبكِّر (إذ يرجع للثلاثينيات وطُبع طبعة جيدة في الستينيات)، وهو كتابه عن ظاهريات هسرل: «النقد البَعدي لنظرية المعرفة، دراسات عن هسرل والنقائض الظاهراتية». لقد كان همه الأول في كتاباته الفلسفية والاجتماعية والأدبية والجمالية، هو تصعيد عقلانية الذات العارفة إلى الحد الذي تُحسُّ معه بالأبنية المتناقضة في الوعي والأشياء. ولم تكن الفلسفة عنده مجرد معرفة تصورية، بل نقدٌ شامل للواقع الإنساني الحي، وللتناقضات الاجتماعية التي عذَّبته وعذَّبت الناس من حوله؛ أي فلسفة واقعية حرة، خالية من قلق الوقوع في هاوية بلا قرار ولا أرض صلبة تقف عليها؛ هذه الأرض الصلبة التي لن تكون إلا تجربة الواقع الحي الذي تشتبك فيه الذات العارفة مع الموضوع على نحو جدلي ونقدي، يخلِّص هذا الواقع ويخلِّصها من كل أشكال الاغتراب والقهر والقلق، ويجرِّده من كل النزعات الأسطورية والوهمية عن فلسفةٍ أولى تعتمد على تصوُّر أوَّلي مُطلَق (سواء أكان روحًا مُطلَقًا كما عند هيجل، أو وعيًا محضًا مُتعاليًا يقصد إلى الموضوعات كما عند هسرل، أو كينونة عامة ووجودًا على الإطلاق يضمُّ كل الموجودات كما عند هيدجر)؛ لأن مثل هذه الفلسفة لا بد أن تنتهي إلى مثالية جرداء جوفاء، مُغترِبة عن الواقع الحي وعن الفلسفة الواقعية الحية على السواء.
فالفلسفة التي بدا في وقت من الأوقات كأن زمانها قد انقضى، تستمرُّ في الحياة؛ لأن لحظة تحقيقها قد أُغفلت فيما مضى. والحكم المبتسَر بأنها اقتصرت على تفسير العالم حُكِم عليه هو ذاته بالشلل؛ بسبب الإحساس بمرارة الخذلان أمام الواقع، وتحوَّل إلى هزيمة للعقل بعد أن فشلت محاولات تغيير العالم. ربما «يرجع السبب في ذلك» إلى قصور التفسير الذي وعد بالتغيير العملي.
غير أن «اليوتوبيا» بهذا المعنى المتواضع، لم تتحقق في حياته ولا في حياة سائر أعضاء مدرسة فرانكفورت. ومع تصاعُد اليأس من إمكان الثورة الحقيقية على الأوضاع الظالمة في المجتمع الصناعي المتقدِّم، وتزايُد الشك في الأحزاب اليسارية المتصدِّعة، وفي حركة تمرُّد الطلاب الذين رفعوا في البداية بعض شعاراتهم وتغذَّوا على فكرهم؛ مع كل هذا بقي لديهم الإصرار على تأكيد دور المعرفة العلمية والتنظير الدقيق في إحداث الثورة المؤجَّلة والتعجيل بالمجتمع الإنساني الجديد، وواصلوا جهودهم المُخلِصة لإقامة النظرية النقدية، وتعرية كل أشكال التبرير للأوضاع السائدة، ونشر الوعي بضرورة التغيير الجذري. لم يتخلَّوا عن الأمل في الخلاص — على الرغم من نظرتهم الفاجعة إلى التاريخ البشري وكأنه تاريخ الرعب والتسلط والتعذيب — ولا عن إيمانهم بالتضامن الإنساني وقوة الحب، وتعاطفهم مع العمال والفقراء والمضطهَدين والمستغَلِّين، والتزامهم بالنظرية الماركسية في روحها الإنسانية العامة كما تجلَّت في «المخطوطات لسنة ١٨٤٤م»، وفي الإطار التاريخي الواسع الذي يمتدُّ من كانط والتنوير الفرنسي إلى هيجل وماركس، بل لقد أدخلوا عليها نوعًا من الوجودية المادية (إذا جاز هذا التعبير عن الشقاء المادي والجسدي للفرد المعذَّب والجماهير المطحونة، بما يؤكِّد تَناهي الإنسان وفناءه وتعاسته جنبًا إلى جنب، مع تأكيد النظرة التاريخية والاجتماعية النقدية إليه).
والمهم أن عزوفهم عن الاشتراك في العمل السياسي، وخيبة أملهم في كل الممارسات الثورية على عهدهم، قد زاد مِن تشبُّثهم بالنظرية التي جعلوها — على حد تعبير ماركوز — أعلى صور الممارسة. وإذا كانوا قد عجزوا عن بلورة هذه النظرية في نسقٍ واضح مُتماسِك كما سبق القول، فإن ذلك لا يطعن في جهود الجيل الأول منهم على أقل تقدير؛ لأن الجيل الثاني لا يزال يُواصِل العمل على بنائها (كما نرى على سبيل المثال في نظرية هابرماس عن فعل التواصل — ١٩٨١م — ومحاولته إقامةَ نسقٍ من المبادئ والمعايير التي تحدِّد أُسُس الحوار والتفاهم الإنساني الحر)، وإن كانت فكرة «النسق» نفسها قد أصبحت متعذِّرة التحقيق وغير مُستساغة في عصرنا الحاضر.
تستحقُّ الأفكار التي تتردد بصورة مختلفة عند معظم أصحاب النظرية النقدية، عن التنوير والعقلانية وما يرتبط بهما من تقدُّم وتصنيع، ومنهجية وإدارة، وهيمنة على الطبيعة الداخلية والخارجية، وتجرُّدٍ من النزعة الأسطورية والطبيعية (خصوصًا عند هوركهيمر وأدورنو في كتابهما المشترك عن جدل التنوير، وعند ماركوز في كتبه المختلفة، كالإنسان ذي البُعد الواحد والحب والحضارة ومحاولة عن التحرر)، تستحقُّ أن نقِف عندها وقفةً نقدية قصيرة؛ حتى لا يتصوَّر القارئ أنهم كانوا أعداء العقلانية والتنوير في ذاتهما.
لقد كان هدف هوركهيمر وأدورنو هو بيان الازدواجية الكامنة في مفهوم التنوير الغربي، وتمزُّقه منذ بداياته الأولى، وارتداده بصور مستمرة إلى الأسطورة واللاعقلانية التي حاول باستمرار أن ينتزع نفسه منها، وتمثَّلت لهما في البربرية النازية التي كانت هي اللعنة والكارثة؛ ولذلك حاولا معرفة الأسباب «العقلية» التي جعلت البشرية الغربية تسقط في أمثال هذه البربرية «اللاعقلية» طوالَ تاريخها المُبتلى بالرعب والقهر والقتل والتعذيب، بدلًا مِن أن تبدأ وضعًا إنسانيًّا حقيقيًّا تسوده السعادة والتصالح بين البشر وبينهم وبين الطبيعة.
ولقد رصدا تاريخ الحضارة الغربية بوصفه تاريخ العقلنة أو التعقيل؛ أي تجريد الطبيعة مِن سِحرها الأسطوري القديم (كما قال ماكس فيبر)، والإصرار الدائم على السيطرة عليها والتحكم فيها (كما أفاض في ذلك فيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس)، بحيث تتحدَّد حالة العالم في رأيهما من ناحية العلاقة الودية أو العدائية بين الإنسان والطبيعة. وفلسفة التاريخ الغربي تكشف في تقديرهما عن استمرار سيطرة «العقل الذاتي» أو «العقل الأداتي» وتسلُّطه على الطبيعة، على الرغم مما لقيه في ذلك من مَصاعب وتردَّى فيه من عثرات، كما تكشف عن امتداد هذا التسلط وتلك السيطرة على الطبيعة الباطنة للإنسان، بحيث تحكَّمت في دوافعه الأولية وزيَّفتها. ومِن هذه الفكرة المحورية استنتجا الأشكال المختلفة للاقتصاد والسلطة السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وللثقافة والفن والمعرفة العلمية وبعض أشكال التفلسف، كالوضعية والبراجماتية بصورهما المختلفة.
وإذا كان العقل الذاتي يُوظَّف لإيجاد الوسائل الكفيلة بتحقيق الغايات المُنحصِرة في المحافظة على وجود الذات وهيمنتها وتفوُّقها، فإن العقل الموضوعي المستقل هو الذي يعرف غاياتٍ أشمل وأبعد من المحافظة على وجود الذات، كما يقدِر على الحكم بمعقولية هذه الغايات الشاملة، ويتَّجه للبنية الموضوعية للأفكار والأفعال، ويؤكِّد الموضوعية الكلية في الوجود، وهي التي تُستمَدُّ منها معايير كل حياة، ولا تخرج الذاتية عن أن تكون جزءًا محدودًا منها لا بد من «رفعه» أو تجاوزه إذا أردنا أن نصل إلى شيء اسمه الحقيقة في أي شيء. فالعقلانية بهذا الفهم نظامٌ موضوعي يجب أن يتلاءم معه كل شيء، بما في ذلك حياة الإنسان ونزوعه الفطري للبقاء، كما أن تأكيد العقلانية الذاتية وحدها هو المسئول عن ضلال المذاهب الميتافيزيقية الغربية، وانغلاقها في فلسفات «الباطن» المثالية والظاهراتية والوجودية والحياتية (نسبةً إلى فلسفات الحياة الحدسية)، التي انتهت من بعض الوجوه إلى تبرير اللاعقلانية.
ولا شك أن القارئ يرى الآن مدى تأثُّر هذه الأفكار بفلسفة هيدجر، الذي ظل يردِّد طوال حياته أن الميتافيزيقا الغربية، من أفلاطون إلى نيتشه، هي ميتافيزيقا الذاتية التي ضلَّت طريقها، ولم تسأل أبدًا عن الوجود نفسه، ولا فكَّرت في معناه (راجع إن شئت لكاتب هذه السطور مؤلَّفه نداء الحقيقة، مع ثلاثة نصوص لهيدجر، القاهرة، دار الثقافة، ١٩٧٦م).
والملاحظة النقدية الثانية على نقدهم للعقلانية والتنوير، هي أنهم نظروا إليه من منظور غربي وحسب؛ وبذلك وقعوا في التمركز حول الذاتية الغربية، التي تصوَّرت، وما زالت تتصور إلى حد كبير، أن تاريخها هو «التاريخ» العالمي، وأن حضارتها هي «الحضارة» والنموذج المُطلَق. ولو كانوا موضوعيِّين حقًّا لما أسقطوا الشرق من حسابهم، ولأدركوا أن للعقل تاريخًا آخر وبناءات أخرى، منذ الحضارات الشرقية القديمة حتى العصر الحديث (عندما دخلت معظم هذه الحضارات في فلك العقلانية الذاتية الغربية، وتبنَّت مناهجها العقلية وأنساقها العلمية بكل ما نتج عنها، مِن علم وصفي وتقنية وسيطرة على الطبيعة)، ولعرفوا أخيرًا أن موقف هذه الحضارات أو الرؤى الشرقية القديمة للعالم، لم يكن بحالٍ من الأحوال هو موقف التسلط على الطبيعة والأشياء والتحكم فيها، واستغلالها كوسائل للمزيد من التسلط والسيطرة (كما حدث في التاريخ الغربي منذ عصر النهضة الأوروبية، وبصورةٍ أوضح وأفظع منذ بداية العصر الصناعي والاستعماري، ونهب الشعوب والحضارات الأخرى)، بل كان بوجهٍ عام هو موقف التعاطف والرعاية والتوافق والتجانس والمحبة. ولو فعلوا ذلك لتبيَّن لهم أخيرًا أن هنالك أشكالًا وبُنًى أخرى للتفكير، وراءها أشكال للحياة والنظر، وبُنًى وأساليب أخرى للإنتاج لا بد أنهم سمعوا عنها (على الأقل من ماركس وإنجلز وإشارتهما المُوجَزة إلى نمط الإنتاج الآسيوي). والمهم من هذا كله أن «تاريخية» العقل والعقلانية لا بد أن تحفِّزنا على مراجعة ما قالوه عنهما، ووضعِه في السياق التاريخي والاجتماعي الخاص به، كما تحثُّنا من ناحية أخرى على وضعهما في سياقنا التاريخي والاجتماعي الذي يختلف عنه في ظروفه وتحولاته وعوامل تكوينه وتطوره وصراعه … إلخ، بحيث لا نردِّد نقدهم لتلك المفاهيم ترديدَ الببغاوات، ولا نتصوَّر لحظةً واحدة أن ضلال العقلانية والتنوير الغربي، وانحرافهما المستمر إلى اللاعقلانية والتعمية الأسطورية والسيطرة اللاإنسانية، يؤدي بالضرورة إلى التشكيك في العقل والتنوير والعلم والتقنية؛ ذلك لأن حظنا من هذا كله ما يزال جِدَّ قليل، كما أن القوى التي هدَّدتها وخرَّبتها في تاريخنا العربي والإسلامي، ولم تزَل تهدِّدها وتخرِّبها، قُوًى مِن نوع آخر، ولها مَصالح أخرى (كالاستبداد المُطلَق من جانب الفرد أو الدولة، وعبادة الأشخاص، والتسلُّط المتغلغِل في حياتنا و«نُظُمنا»، من قمة هرم الظلم إلى قاعدته المستسلِمة الصامتة على مر العصور، بجانب الأشكال المختلفة ﻟ «اللاعقلية» و«اللاعلمية» و«اللاإنسانية»، التي بلغت أشُدَّها في ظل النُّظم الفردية الطاغية في تاريخنا الحديث والمعاصر بوجهٍ خاص، سواء كانت عسكرية باطشة تدَّعي التقدمية أو الاشتراكية أو الأصولية، أو رجعية متخلِّفة تزعم لنفسها حقوقًا إلهية مُطلَقة، أو تتمسَّح في الشجرة النبوية الطاهرة).
ولا ننسى أخيرًا — وهذه مسألة تستحقُّ المزيد من التفصيل — أن تعميم الهجوم على العقلانية وراءه دافعٌ «يهودي» خاص للهجوم على اللاعقلانية النازية، كما يكشف عن تجاهل متعمَّد للاعقلانية الصهيونية ودولتها المغروسة في قلب الوجود العربي والإسلامي.
والخلاصة أننا أحوَجُ ما نكون إلى الفهم الصحيح للعلم والتقنية والعقلانية والتنوير في ظروف محنتنا التاريخية والحضارية الراهنة، حاجتَنا إلى الحياة الديمقراطية الحرة التي لن يتحقق شيء من ذلك كله بغيرها. ولعل محنة العقل والفكر والضمير، التي بلغت أبشع صورها في «أم المِحن والكوارث» العربية، التي نُعايش اليوم آثارها المدمِّرة لكل وجودنا وأحلامنا، أن تُرِينا إلى أي مدًى وصل بنا سوء الفهم والاستخدام لتلك المفاهيم والمعاني المُضيئة التي لم نتوقف عن ترديد شعاراتها. ولعلها تحثُّنا على تحليلها تحليلًا اجتماعيًّا نقديًّا يضعها في سياق تطورنا التاريخي والحضاري والعقلي، فلا نكتفي بدقِّ الطبول لها ادعاءً للتقدمية، وسعيًا وراء الشهرة، وتلهفًا على الأمجاد الزائفة؛ عندئذٍ يمكن أن يكون نقدنا فلسفيًّا وعلميًّا بحق، كما تكون «فلسفتنا» نقدية بالمعنى الصحيح.
ويرتبط بالنقطة السابقة نقدُ أصحاب النظرية لصور الاغتراب في المجتمعات الرأسمالية والشمولية الغربية، وأكتفي في هذا السياق بالإشارة إلى أن صور الاغتراب التي نُعانيها ليست كذلك بالضرورة من نفس النوع الذي وجَّهوا نقدهم إليه؛ فقد تكون للاغتراب العربي على مدى تاريخه الطويل جذورٌ أخرى وأسباب مختلفة، كما أن صور القمع والإحباط والقهر والتعاسة والاكتئاب … إلخ — التي صارت بمثابة خبزنا اليومي المُر — ربما تكون قد نتجت عن ألوان أخرى من التسلط والهيمنة غير التي يُرجِعونها إلى السيطرة على الطبيعة والعقلانية العلمية والتقنية (التي لم نزَل صِفر الأيدي منها كما سبق القول!) ولا يكفي أبدًا أن نتتبع صور الاغتراب وتطور مفاهيمه وأبعاده في الفكر الغربي، منذ عهد اليونان والرومان إلى فلاسفة التنوير والعقد الاجتماعي وحتى كانط وهيجل وماركس وفلاسفة مدرسة فرانكفورت أنفسهم، على نحو ما فعل بعض باحثينا مشكورين، وإنما يحتِّم علينا الواجب والحرص على الهوية جميعًا أن نفحص الاغتراب وصوره المختلفة في ثقافتنا وتاريخنا الخاص حتى اليوم الحاضر (ولا أبالغ إذا قلت إن هذه الصور موجودة منذ الحضارة المصرية القديمة وحضارة وادي الرافدَين والحضارة الكنعانية، وتكرِّر نفسها بأشكال مختلفة في غربتنا واغترابنا هنا والآن!) ولا شك عندي أن هذا النقد التاريخي والاجتماعي لم يزَل مفتقَدًا إلى حد كبير في فكرنا وبحوثنا وأدبنا الحديث، وأن من علمائنا ومفكِّرينا وأدبائنا مَن يملك القدرة على التصدي له بصورة أصيلة، بدلًا من الاقتصار على النقل والترديد غير النقديَّين، أو الهروب إلى القوالب المذهبية الجاهزة بغير تمحيص، أو اللجوء إلى «الخطاب» الأيديولوجي والبلاغي الصارخ الطنَّان، الذي يتنكَّب سُبُل العلم والنقد جميعًا.
ومع ذلك فلا بد من الإشادة بفضل فلاسفة مدرسة فرانكفورت في نقد المفهوم الزائف عن العلم، وهو الذي يتصور أصحابه أن العلم متحرِّر من القِيم، ومستقلٌّ تمامَ الاستقلال عن الاهتمامات والمصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية. وقد أثَّر هجومهم الشديد على التصور الذي يضع العلم في «برجٍ عاجيٍّ» على عدد كبير من العلماء المختصين، ونبَّههم إلى أهمية العوامل والدوافع والمصالح التي تؤثِّر على نشاطهم البحثي، واختيارهم للموضوعات والمشكلات ووجهات النظر، كما تُشارِك في كثير من الأحيان في تحديدها. وقد ساعد النقد الموجَّه لمفهوم العلم من ناحية أخرى على إدراك أهمية «الأيديولوجيا التكنوقراطية»، التي تكمن وراء كثير من القرارات السياسية والمواقف الأخلاقية التي تتخذها القوى ذات المصلحة في المجتمعات الصناعية الحديثة، متذرِّعةً بأنها قرارات «موضوعية» تحتِّمها المعرفة العلمية والخبرة التقنية.
ويرتبط بالنقطة السابقة تأكيد المسئولية الاجتماعية للعلم؛ فمِن واجب العالم نحو مجتمعه والمجتمع البشري بعامة، أن يَقرِن تفكيره في تكوين معارفه العلمية وتبرير أُسُسها المنطقية والموضوعية، بالتفكير في قيمتها ونتائجها التي يمكن أن تؤثِّر على المجتمع. ولا يجوز أن يقِف العلماء جهدَهم على إنتاج المعرفة، بل ينبغي عليهم أن يتدبَّروا نتائجها بوحي من ضمائرهم، على الرغم من القيود والضغوط المادية والمعنوية التي تكبِّل حريتهم، وتعوقهم على اتخاذ القرارات الأخلاقية وإعلانها على الرأي العام. وإذا كان مِن المتعذِّر على العالِم أن يقدِّر جميع النتائج المترتِّبة على بحوثه وكشوفه، فلا أقلَّ مِن أن يكون على وعي بتأثيراتها المباشرة والممكنة، وأن ينبِّه إليها وعي الآخرين، وأن يحميها بكل شجاعة العالِم والتزامه الأخلاقي من عواقب سوء الاستخدام والاستغلال، مِن قِبل السُّلطة، أو من جانب مؤسَّسات التجارة والربح بأي ثمن، وذلك بقدر جهده وعلى قدر طاقته.
ومِن الأفضال التي تُحسَب لفلاسفة النظرية النقدية، أنهم قد أثَّروا تأثيرًا كبيرًا على الجدل الدائر حول الماركسية، ومحاولات تجديدها والخروج من أزمتها.
وإذا كان الماركسيون التقليديون أو الحرفيون قد اشتدُّوا في الهجوم عليهم، واتهموهم بالمثالية الذاتية «البرجوازية»، والتشاؤم الحضاري، والنظرة التجزيئية لأعمال ماركس؛ فإن الإنصاف يقتضينا القولَ بأنهم قد وجَّهوا الأنظار إلى أفكار ماركس الفلسفية والإنسانية (وبخاصةٍ مقولة التشيؤ والاغتراب كما تقدَّم)، واعتمدوا عليها في تحليلهم ونقدهم للمجتمع الرأسمالي والصناعي، ولم يكتفوا بالتفسير الاقتصادي والأُحادي لأعماله، كما جدَّدوا الماركسية، وكشفوا عن الطاقات النقدية الكامنة فيها، مهما يكن مِن فهمهم غير التقليدي لمقولاتها الأساسية. ولا شك في أن القارئ الذي عاصر الزلزلة الأخيرة للمجتمعات والدول الاشتراكية، وللنموذج الماركسي الذي طُبِّق فيها على أبشع صورة، سيتساءل إن كان لفلاسفة النظرية النقدية دورٌ غير مباشر في تصعيد أزمة الماركسية وتخريبها من داخلها، أم كان لهم فضل المشاركة في محاولات تجديدها وبعثها في صورة إنسانية حرة وخلَّاقة لكي تصمد أمام الغول الرأسمالي.
وينبغي الإشادة بمَآثر النظرية النقدية في نقد مجتمع الرفاهية والرخاء والتقدم المزعوم، وتعرية عوراته وأوضاعه اللاإنسانية المُزرية. وإذا كان الناس — حتى في العالم الثالث أو النامي — يشكُون من تأثير أجهزة الدعاية والإعلام على تشكيل الأذواق والحاجات، وتغذية سعار الاستهلاك بوقود متجدِّد مع البث والإرسال ليلَ نهار، وإذا كانوا يتذمَّرون من التصعيد الأعمى للقدرات الإنتاجية دون اعتبار لآثاره المدمِّرة والملوِّثة للبيئة، وإذا كان سوء استخدام المعرفة العلمية في صنع أسلحة الدمار الشامل، ومِن ثَم في مد السيطرة الشاملة، وتَردِّي الظروف المعيشية لملايين المضطهَدين والمسخَّرين والمستغَلِّين في ظل العلاقات الرأسمالية والصناعية، والمحاولات الجهنمية لتزييف الوعي، وخلق الشعور الوهمي بالحرية والسعادة لدى الملايين من الناس، واختناق الطاقات المُبدِعة تحت أقدام الأجهزة البيروقراطية والإدارية والمباحثية، ونفاق العالم «المتقدِّم»، وانعدام مُثُله الإنسانية وقِيمه الحضارية المزعومة في تعامله مع العالم «المتخلِّف»، إذا كانت هذه كلها وكثير غيرها قد أصبحت حديث كل يوم، فلا بد أن نعترف بفضل النظرية النقدية في إشاعة قدر كبير من هذا الوعي النقدي والثوري في أوساط الرأي العام على المستوى الدولي. وليت هذا يكون حافزًا للكثيرين عندنا من دعاة العلمية والموضوعية والعقلانية إلى مراجعة هذه المفاهيم كلها مراجعةً نقدية، وأن يدفعهم — كما سبق القول — إلى وضعها في سياقها الحضاري والاجتماعي قبل أن يُحاولوا فرضها على سياق تاريخي وحضاري مختلف عنه.
هوامش
وكذلك كتاب كاتب هذه السطور «لمَ الفلسفة؟» الإسكندرية، منشأة المعارف، ١٩٨١م، من صفحة ٤١ إلى صفحة ٦١.
وإذا كان المؤلِّفان قد حاولا الرجوع بالتنوير الأوروبي إلى «أوديسة» هوميروس (راجع نقدهما للتنوير فيما بعد)، فقد حاولت من ناحيتَي البحث عن جذوره في ملحمة جلجاميش التي تسبق الأوديسة بما لا يقلُّ عن ألف وخمسمائة سنة. راجع تفاصيل هذا في مسرحيتي عن جلجاميش، المقدمة، ص٣٦–٤٠، القاهرة، كتاب الهلال، ١٩٩٢م، فبراير، العدد ٤٩٤.
وللكتاب ترجمة عربية بقلم الأستاذ جورج طرابيشي «الإنسان ذو البُعد الواحد»، بيروت، دار الآداب، الطبعة الثانية، ١٩٧١م.
راجع كذلك عن هابرماس بوجه خاص: د. علاء طاهر، مدرسة فرانكفورت من هوركهيمر إلى هابرماس، بيروت، منشورات مركز الإنماء القومي، د.ت.
ثم تُرجِم في العام التالي إلى الألمانية تحت العنوان نفسه: Konterrevolution und Revolte. Frankfurt/M., 1973, s. 67 ff.