العقل على عرش العالم
وُلد ماكس فرديناند شيلر في الثاني والعشرين من شهر أغسطس سنة ١٨٧٤م في مدينة ميونيج، لأبٍ بروتستانتي من مُلاك الأراضي هو جوتليب شيلر (١٨٣١–١٩٠٠م). تحوَّل إلى الديانة اليهودية لكي يتزوج من الأم صوفيا فيرنز، التي وُلدت سنة ١٨٤٤م، وعاشت في ضيعة بالقرب من مدينة بايرويت قبل أن تنتقل للحياة مع زوجها في مدينة كوبرج — ولاية فرانكن العليا — ثم تستقر مع أسرتها في مدينة ميونيخ.
وجد الصغير ماكس نفسه منذ البداية في جوٍّ عائلي مشحون بالتوتر والصراع والقلق؛ فالأم التي تنحدر من أصل يهودي امرأةٌ نرجسية متسلِّطة بجانب نزعتها المتزمِّتة، وإسرافها إلى حد البذخ في حياتها العادية. لقد سعدَت بالانتقال إلى ميونيخ لتعيش بالقرب من شقيقها الثري الأعزب الذي يُفترَض أن يرثه ابنها؛ ولذلك أرغمته أن يكون صورة من خاله، وقهرته على مجاراته في تصوراته وعاداته وطقوسه الدينية، في الوقت الذي كان فيه الأب يتحمل في صمت واستسلام، والابن يتألَّم من معاملة أمه الباردة لشقيقته هيرمن (انتحرت فيما بعد)، التي كان هو وأبوه يُحبَّانها كل الحب. وخضع الصغير لقهر الأم — التي تركت في نفسه من الاضطراب والتمزق ما لم يمحُه الزمن أبدًا — فاضطرَّ لتعلم طقوس العبادة، والمواظبة على حضور دروس الديانة اليهودية؛ الأمر الذي دفعه بعد ذلك للتحرر من كل القيود التي تُفرَض عليه، وتحكيم شعوره وعاطفته في كل ما يُؤمِن به عن اقتناع باطن، لا سيَّما في شئون العقيدة التي طالما شهدت تحولاته المفاجئة.
لم تترك ظروف الأسرة المتصدِّعة للطفل الصغير أي فرصة للإحساس بأنه «في بيته»، كما لم تسمح له بأي وسيلة للخروج من هذا البيت والانفصال عن عائلته، وتضاعَف شعوره منذ الطفولة بالتناقضات والصراعات التي عشَّشت كالظلمات في جذوره كأنها ميراث عائلي لا فكاك منه. وإذا كان كل مَن اتصل به أو تعامل معه بعد ذلك قد لفحته أنفاس طفولته وعبير براءته وطيبته المُطلَقة، فقد لازمه الشعور بأن هذه «الطفولة» هي مَكمن الأخطار التي تهدِّد وجوده؛ ولذلك ظل شديد الحرص على أن يَقرِن النزعة الطفلية البريئة بالعقل من ناحية، والطيبة والخير والإحسان من ناحية أخرى، وكأنهما جناحا طائر لا غنى لأحدهما عن الآخر. وهكذا دأب طوال حياته على احتضان الجوانب الخيِّرة من ذلك الصراع المستمر، سواء في أعماق روحه أو في الآخرين أو في التاريخ البشري العام. ومرَّت الأيام ودارت به رحى الدرس والدراسة والتدريس، فأصبح فيلسوف الحب والتعاطف الذي لم يكن همُّه أن يتوسع في الأفكار الموروثة عن الحب عند أفلاطون أو القديس أوغسطين أو باسكال وغيرهم، بل أن يُضيء هذا الجانب الطفولي الخيِّر المستقر في أعماقه بأنوار العقل. ولعل هذا هو السر الكامن وراء طفراته وتحولاته القلِقة المفاجئة؛ إذ يُحكى أنه استعان في صِباه المبكِّر ببعض زملاء الدراسة الكاثوليكيين لكي يتعرف عن قرب على العقيدة والكنيسة الكاثوليكية، اللتَين أصبح بعد ذلك من كبار الدعاة المروِّجين لهما، قبل أن ينفصل عنهما انفصالًا باتًّا في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، ويتَّجه بكليته وتحت تأثير حبه وإجلاله لاسبينوزا إلى رؤيةٍ شمولية أقرب ما تكون إلى مذهب وحدة الوجود.
لم تجرِ حياته في المدرسة الثانوية على ما يشتهي الأب والأهل المقرَّبون منه؛ فقد تعثَّر كثيرًا في معظم المواد الدراسية حتى وُصف بالكسل والبلادة. وكان أن أدخله أهله معهدًا خاصًّا شهد مُديره ومعلِّمه في نفس الوقت بأنه حُوِّل إليه من الصف السادس الثانوي بعد حصوله في أكثر المواد على أسوأ العلامات، وأن كل ما كان يدور في ذلك المعهد لم يكن يهزُّ وترًا واحدًا في قلبه. ولكنه بالرغم من اضطرابه الشديد كان واضح الموهبة، وتجلَّت هذه الموهبة في عشقه للأدب وسعة اطلاعه فيه، كما ظهرت في ذلك العمر المبكِّر في اتجاهه للفلسفة والفلاسفة، وبالأخص نيتشه، الذي شجَّعه أحد أخواله على قراءته، واستمر تأثيره عليه حتى بعض أعماله المتأخرة التي يصعب تصوُّرها بدون تعمقه في دراسة فيلسوف إرادة القوة ومناقشته لآرائه. وحصل شيلر سنة ١٨٩٤م على شهادة الثانوية من مدرسة لودفيج في ميونيخ وهو يبلغ من العمر تسعة عشر عامًا. ويشهد أحد زملاء دراسته في المعهد الخاص الذي سبق ذِكره، على حضور بديهته وقدرته على إفحام الخصوم، بحيث كان دائمًا سيد الموقف. لم يكن الصبي يضع اعتبارًا لأي شيء أو أي شخص مهما علا شأنه؛ لأن الشيء الوحيد الذي كان يهمُّه أمره هو الجهر بالحقيقة كما يراها من وجهة نظره. ويستطرد زميل الدراسة، فيقول إنه كان في ذلك الوقت مقتنِعًا بأفكار الحزب الديمقراطي الاشتراكي، ثم تحمَّس فجأة للماركسية. وسوف نعرف بعد ذلك ما لم يعرفه زميله أو ما لم يسمع به، وهو تحوُّله بكل كيانه إلى الكاثوليكية، ثم تحوُّله المُباغِت عنها. وبدأت الدراسة الجادة في خريف سنة ١٨٩٤م، سجَّل نفسه في البداية لدراسة الفلسفة وعلم النفس، وفي الفصل الدراسي التالي قيَّد نفسه في كلية الطب، وشد الرحال إلى برلين وهدفه دراسة الطب، ولكنه لم يستمع إلا إلى المحاضرات الفلسفية التي كان يُلقيها آنذاك فيلسوف الحياة فيلهلم دلتاي (١٨٣٣–١٩١١م)، وفيلسوف الاجتماع والمعرفة والتاريخ والحضارة جورج زيميل (١٨٥٨–١٩١٨م). وبعد مرور عام آخر واصل دراسته في جامعة «يينا»، وأنهاها بالحصول على الدكتوراه الأولى سنة ١٨٩٧م عن رسالة تحت إشراف الأستاذ الذي أحبَّه وأجلَّه، وتعلَّم منه التزامه ومسئوليته الجادة عن إحياء الحياة الروحية للبشر، وهو رودلف أويكن، وكانت تحت عنوان «مساهمات لتحديد العلاقات القائمة بين المبادئ المنطقية والمبادئ الأخلاقية».
حدث ذلك وهو في الثالثة والعشرين من عمره. ولم يتوقف شيلر بعدها عن التنقل من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد آخر، يدفعه من ناحيةٍ طموحُه العلمي الذي وجَّهه منذ البداية وجهةً فلسفية، ومن ناحية أخرى ارتباطُه بزوجته الأولى أماليا فون ديفتس كريبس. كانت عينه قد وقعت على هذه المرأة لأول مرة أثناء رحلة موَّلها أبوه على سبيل الهدية بعد حصوله على الثانوية العامة، في منطقة التيرول بإيطاليا. كانت تكبره بسبع سنوات، وكان لديها ابنة عمرها سبع سنوات من زوجها الأول، الذي انفصلت عنه بسبب إدمانه للمخدرات. ويبدو أن سحرًا غامضًا جذبه إلى هذه المرأة الجميلة كما جذبها إليه. ارتبط بها على الفور، وخطبها لنفسه، وكانت هي من الحنان والحرص عليه بحيث شجَّعته على مواصلة دراسته للحصول على لقب الدكتور الذي سيؤهِّله للعمل بالجامعة. ويبدو أيضًا أنه سجَّل اسمه في فصلَين متتاليَين لدراسة الطب تحت تأثير محبوبته، وعن اقتناع بأن الفلسفة «لا تُطعِم دارسها خبزًا، ولا تضمن له مستقبلًا». ومع ذلك لم يُقبِل بصورةٍ جدية على دراسة الطب، وإنما واصل الاستماع إلى نداء قلبه — كما يقول الحكيم المصري القديم — واستأنف دراسة الفلسفة.
كان هدفه الأول من قضاء فصلَين دراسيَّين في برلين، هو الحياة بالقرب من أماليا التي تسكن هذه المدينة. وحرَّك وجوده في برلين وسماعه لمحاضرات «دلتاي» و«زيميل» أمواجَ مشروعه الفلسفي، بل يمكن القول بأنهما قد أثَّرا على فلسفته اللاحقة تأثيرًا لا يقلُّ في دلالته وعمقه عن تأثير نيتشه عليه في أواخر صباه. وزادته الإقامة في العاصمة الزاخرة بالتيارات والصراعات السياسية والحزبية اهتمامًا بالقضايا الاجتماعية والاشتراكية في حياة الناس العاديين، وربما كان هذا وراء إقامته بعضَ الوقت في هيدلبرج، وانضمامه إلى دائرة الملتفِّين حول فيلسوف الاجتماع الشهير «ماكس فيبر».
وجاءت سنة ١٨٩٨م ومعها أحداث فاصلة ومواقف حاسمة؛ فقد تقدَّم إلى جامعة يينا بالرسالة المؤهِّلة للتدريس بالجامعة تحت عنوان «المنهج الترنسندنتالي والمنهج السيكولوجي، شرح أساسي للمنهجية الفلسفية». وبدأ التدريس بنفس الجامعة بعد حصوله على وظيفة الأستاذ المساعد (بعقد خاص). وفي العشرين من ديسمبر سنة ١٨٩٩م تحوَّل إلى العقيدة الكاثوليكية، وتم تعميده في كنيسة القديس أنطوان في مدينة ميونيخ، ولم تمضِ قبل ذلك إلا أيام قليلة حتى كان قد عقد قرانه في الثاني من شهر أكتوبر من السنة نفسها على زوجته الأولى أماليا في مدينة برلين. تلك هي التواريخ الجافَّة لأحداث تلاطمت خلفها تجارب مُخيفة ومؤلِمة. راحت الزوجة الحسَّاسة ذات الإرادة الصلبة تُعالَج من أمراض نفسية جسمية شخَّصها الأطباء بأنها هستيرية، وكانت هي أيضًا مثل الزوج الفيلسوف قد تربَّت تربيةً يهودية صارمة قبل أن تتحول إلى البروتستانتية؛ حُبًّا في زوجها الأول الذي هجرته كما سبق القول بعد إدمانه للأفيون. كانت أماليا تعيش مع أمها الكاثوليكية المذهب، وربما كان هذا وراء تحوُّل شيلر قبل زواجه بأسبوعَين إلى الكاثوليكية، التي كانت زوجته مُقتنِعة بها على الرغم من تحوُّلها السابق للمذهب البروتستانتي. مهما يكن الأمر فقد حملت زوجته منه، وأنجبت بعد ذلك ابنه الذي ظلت أمه تتكفل برعايته وعلاجه من الخلل النفسي والتخلف العقلي، قبل أن تطلب من شيلر — الذي كان قد طلَّقها وتزوَّج بأخرى! — أن يتولَّى العناية بالصبي الميئوس من شفائه (وقد روينا قصته بشيء من التفصيل على الصفحات التالية، وذكرنا أن شفاءه تم بعد رحيل أبيه بسنوات على يد زبانية النازية، الذين كانوا يصفُّون المرضى النفسيين والعقليين في معتقلاتهم المخيفة). لم يقصِّر شيلر في الإنفاق على ابنه، ولكنه لم يشعر نحوه أبدًا بعاطفة الأب نحو ولده. وبذلت الزوجة والأم كل ما في وسعهما لكي يترك شيلر عمله في يينا ويتجه إلى ميونيخ، وكانا هما السبب أيضًا في الفضائح التي ألصقتها الصحافة بالفيلسوف وأخذت في ترويجها، حتى اضطرَّ بعد سنوات قليلة من عمله بالجامعة، ثم بعد أن نُزع عنه الحق في التدريس، أن يكسب قوت يومه من إلقاء المحاضرات في المدن والجمعيات المختلفة، وأن يسعى عبثًا للعمل في أي جامعة خارج بلاده؛ في اليابان وروسيا أو مصر. وراح يواصل مسيرته الفلسفية الطموح على الرغم من الأحوال البائسة التي عاش فيها وذاق مرارتها، وربما كانت هي الشوكة التي لم تفتأ تدفعه إلى العمل، حتى وجد فرصة في مدينة كولونيا التي ضاق بعد ذلك ذرعًا بالحياة فيها، وإن لم يتوقف أبدًا عن الاستمرار في إنضاج تجربته الفلسفية والحياتية على السواء. وأخيرًا وصلته الدعوة المشرَّفة للعمل بجامعة فرانكفورت، التي انتقل إليها وهو لا يدري أن الموت الذي طالما هجس به خاطره يتربص به ويزحف نحوه، حتى باغته بعد أشهر قليلة من إقامته بالمدينة.
كان كثيرًا ما يردِّد لسانه أو قلمه هذه العبارةَ المأثورة عن جوته: «أقرب الناس إليَّ هو ذلك الإنسان الذي يتحول باستمرار.» ونظرةٌ واحدة إلى حياة ماكس شيلر (١٨٧٤–١٩٢٨م) الشخصية وعناوين كتبه وبحوثه الفلسفية، كفيلةٌ بالكشف عن مدى عمق تحولاته، وقسوة ما كابده من ورائها من ويلات وعذابات، وما واجهه مِن جرَّائها من إساءة فهمه في عصره وبلده إلى حد التجاهل والنسيان؛ من اتهامات ظالمة بأنه مجرد «حرباء» فلسفية متلوِّنة، أو عاشق عاطفي مُتيَّم بالفلسفة، وأن أعماله التي بقي الكثير منها شذراتٍ ناقصة تفتقد الوحدة الباطنية والطابع الفلسفي والمنهجي. وإذا كان واقع سيرته وتفكيره كما عرفنا مِن قبلُ يقدِّم شهادة واضحة على تحوُّله من ناحية العقيدة، من اليهودية إلى الكاثوليكية التي لم يلبث أن أعلن خروجه منها، وتبنِّيه وجهة نظر كونية وشمولية، كما يشهد أيضًا من الناحية الفكرية على تأثُّره في البداية بالكانطية الجديدة، ثم انتمائه — بطريقته الخاصة! — إلى فلسفة الظاهرات أو «الفينومينولوجيا»، واعتناقه في النهاية لنوع من وحدة الوجود القائمة على أُسُس تطورية، تضع العقل في مكانة سامية فوق النظام الطبيعي كله، إذا كان واقع السيرة والفكر يدل على هذا دلالةً واضحة، فإنه يبيِّن كذلك أن شيلر لم يتخلَّ أبدًا عن النسقية، التي كان يشدِّد دائمًا على ضرورتها لأي نظام فلسفي، وذلك بشرط ألا نقصد النسق بمعناه الكلاسيكي المُغلَق، الذي يستنبط قضاياه وتحليلاته من مجموعة من المبادئ الأولية أو القبلية، بل نقصد به النسق المفتوح، الذي يتغلغل في كل ميادين الحياة والعمل والفكر والمعرفة، ويتَّسم بالثراء والتنوع الشديدَين، دون التفريط في التماسك والاتساق والإحكام الذي يميِّز كل تفكير فلسفي حقيقي. وإذا كان هذا النسق المفتوح يعكس الأزمات الشخصية التي عاناها شيلر إلى حد القلق والتمزق، فإنه يعكس في الوقت نفسه أزماتِ عصره وتياراته المصطخِبة في مهبِّ العاصفة الثورية، التي هزَّت الحياة الثقافية الغربية في الفترة الواقعة بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، كالتعبيرية والرومانسية الجديدة والظاهراتية وبدايات الوجودية والتحليل النفسي … إلخ.
فلنحاول الآن أن نرصد الملامح العريضة لتحولات الفيلسوف كما تتجلى من عناوين كتبه المهمة، وذلك قبل أن نقِف وقفةً متأنِّية عند بعض أعماله، لا سيَّما الأنثروبولوجيا الفلسفية التي يُعَد أحد رُوادها ومؤسِّسيها الكبار، والتي سجَّلها في كتابه الصغير الهام «وضع الإنسان في الكون»، وبقيت مع ذلك شذرة لم تتم، شأنها في ذلك شأن الكثير من جوانب فلسفته.
تأثَّر شيلر أثناء دراسته للفلسفة، كما سبق القول، بالكانطية الجديدة، وظهر هذا التأثر في رسالته الأولى التي قدَّمها لجامعة يينا تحت عنوان مساهمات في تحديد العلاقات القائمة بين المبادئ المنطقية والمبادئ الأخلاقية، وظهر هذا التأثر كذلك في رسالته الثانية التي قدَّمها للجامعة نفسها تحت عنوان المنهج الترنسندنتالي والمنهج السيكولوجي؛ وبذلك ظل منشغِلًا بمشكلات الأخلاق ونظرية المعرفة التي تغلِب عليها الروح الكانطية الجديدة.
راجَع الفيلسوف آراءه بعد دراسته لكتاب هسرل الهام «بحوث منطقية»، وانضم إلى حلقة الظاهراتيين في جامعة ميونيخ بعد مغادرته لمدينة «يينا»؛ بسبب المشكلات التي ورَّطته فيها زوجته الأولى. وتصاعدت حدة الأزمات الشخصية المُربِكة التي أدَّت إلى فقد وظيفته في الجامعة، وطلاقه من تلك الزوجة، ثم زواجه للمرة الثانية في سنة ١٩١٢م من مريت، أي المحبوبة في اللغة المصرية القديمة، ابنة عالم الآثار فورتفنجلر، واضطراره لكسب لُقمة عيشه من المحاضرات العامة، ومن بعض الكتابات في الصحف والمجلات الثقافية. في هذه الفترة ظهرت أُولى مجموعات بحوثه الفينومينولوجية في سنة ١٩١٥م في مجلدَين تحت عنوان بحوث ومقالات، ثم تحوَّل هذا العنوان في طبعة سنة ١٩١٩م إلى «انقلاب القِيم». وقد أكَّد مقالٌ آخر تأثَّر فيه تأثرًا شديدًا بنيتشه، وهو «الضغينة في بنية الأخلاق»، أكَّد قدراته النقدية وتحليلاته النافذة لأشكال الحياة الانفعالية في المجتمع المعاصر له. أما كتابه الأساسي الذي هاجَم فيه فلسفة الأخلاق الصورية عند كانط، وهو الشكلانية في الأخلاق وأخلاق القِيم المادية، فقد ظهر في المجلة التي أسَّسها هسرل، وهي حولية الفلسفة والبحث الفينومينولوجي بين سنتَي ١٩١٣ و١٩١٦م. وهو في هذا الكتاب يُعارِض أخلاق كانط الشكلية الصارمة بأخلاق وقِيم مادية، تقوم موضوعيتها على مضامين قبلية واضحة وجلية، يمكن أن يُدرِكها الإنسان من خلال الشعور القصدي. وتتدرج هذه القِيم في نظام أو نسق موضوعي وتراتُبي، يبدأ بالقِيم الحسية ﮐ «السارِّ وغيرِ السارِّ» إلى القِيم الحيوية ﮐ «النبيل والحقير»، ثُمَّ العقلية ﮐ «الخيِّر والشرير، والجميل والقبيح، والصادق والكاذب»، حتى يصل إلى قِيم المقدَّس المحرَّم.
كان شيلر قد ترك اليهودية ودخل الكاثوليكية بسبب زواجه الأول في سنة ١٩٠٠م، ثم أخذ في هذه المرحلة الظاهراتية مِن تطوره وأثناء الحرب العالمية الأولى، يفسِّر الكاثوليكية تفسيرًا يقوم على فكرة الحب في التراث الأفلاطوني والأوغسطيني، فكتب أروع الصفحات عن الحب، حتى عدَّه المؤمنون بتلك العقيدة أخلص الدعاة للدخول في الكنيسة الكاثوليكية. وتمخَّض انشغاله العميق بالتجربة الدينية عن كتابه الأساسي في فلسفة الدين، وهو «مشكلات الدين وتجديد الدين»، الذي ظهرت طبعته في سنة ١٩٢١م مع مجموعة أخرى من المقالات تحت عنوان «الأبدي في الإنسان». ومما يدل على تحولاته وقفزاته المُذهِلة أنه فاجأ الجميع في هذه الفترة نفسها بالكتاب الذي كان قد أصدره سنة ١٩١٥م، وناقض فيه روح المرحلة الدينية العميقة التي مرَّ بها، وهو كتابه «جنِّي الحرب والحرب الألمانية»، الذي احتفى فيه بالحرب العالمية، وصوَّرها في صورة النداء القدري الذي يحثُّ البشرية على أن تُولَد ولادة جديدة، وتتخلص من ظواهر الفساد والانهيار التي تسبَّبت فيها الرأسمالية. وهو خطأ فادح لم يكن هو الفيلسوف الوحيد منذ أفلاطون وحتى هيدجر الذي وقع فيه ثم ندم عليه. ويُعيَّن شيلر سنة ١٩١٩م مديرًا لمركز البحوث الاجتماعية في مدينة كولونيا، ثم يُدعى بعد ذلك بقليل لتقلُّد مَنصب الأستاذية للفلسفة والاجتماع في جامعة كولونيا، التي أُعيدَ افتتاحها في ذلك الوقت. ويُباغِت الرأيَ العام بين سنتَي ١٩٢٢ و١٩٢٣م بتخلِّيه النهائي عن العقيدة الكاثوليكية، وكذلك بطلاقه من حبيبته، زوجته الثانية «مريت»، وزواجه في سنة ١٩٢٤م من السيدة ماريا شيلر التي رعت تراثه بعد وفاته، وأشرفت على صدور طبعة أعماله الكاملة، وأنجبت ابنهما ماكس يعقوب، الذي قُدِّر له كما سبق القول أن يُولَد بعد رحيل أبيه في شهر مايو سنة ١٩٢٨م.
مرَّ شيلر بالمرحلة الثالثة من تطوره الفلسفي منذ أوائل العشرينيات، وتميَّزت هذه المرحلة باتجاهه للكتابة عن الأنثروبولوجيا الفلسفية، واهتمامه بالبحوث الاجتماعية، لا سيَّما علم اجتماع المعرفة، جنبًا إلى جنب مع محاولة تأسيس نسقه الميتافيزيقي الذي لم يمكنه رحيله المبكِّر من إتمامه. وقد اهتم في بحثه الهام عن وضع الإنسان في الكون (١٩٢٨م) بتقديم مشروع مُوجَز لتصوره عن الأنثروبولوجيا الفلسفية، التي سنتناولها بشيء من التفصيل بعد هذا العرض الإجمالي. ويكفي أن نقول الآن إنه يميِّز في هذا البحث أربع طبقات تتكون منها النفس البشرية، وهي على الترتيب: الدافع الشعوري، والغريزة، والذاكرة المترابطة، والذكاء العملي؛ ثم يقابل هذه الطبقات الأربع بمبدأ العقل، الذي يختلف عنها جميعًا كل الاختلاف، والذي يخلِّص الإنسان تمامًا من السياق الطبيعي، ويرفعه فوقه. ومع أن الحياة الطبيعية أو العضوية والعقل مختلفان من حيث الماهية تمامَ الاختلاف، إلا أنهما متعلِّقان ببعضهما بصورةٍ لا غنى لكل منهما؛ فالعقل ينفذ بأفكاره في الحياة التي تخلو بدونهما من أي معنًى، كما أن الحياة تمكِّن العقل من ممارسة فعله ونشاطه، ومن تحقيق أفكاره في الحياة بالطاقة التي تغذِّيه بها باستمرار. أما في ميدان علم الاجتماع، فقد اهتم شيلر بقضايا ومشكلات علم اجتماع المعرفة؛ فتناول بالبحث العلاقاتِ الأساسية بين أشكال المعرفة وأنماط العادات والتقاليد الاجتماعية لدى الجماعات المختلفة. وقد حدَّد أهم أشكال المعرفة في الأشكال الثلاثة التالية: معرفة الإنجاز والهيمنة الخاصة بالعلوم الوضعية والمعرفة الثقافية والتربوية، التي تقدِّمها المذاهب الفلسفية، ثم المعرفة التي تُتيحها الأديان المختلفة، وتبيِّن لمُعتنِقيها سبل النجاة أو الخلاص. وكل شكل من الأشكال المعرفية السابقة يحدِّد نوع الدافعية الخاصة به، وأفعال المعرفة وأهدافها التي يسعى لتحقيقها، وأنماط الشخصيات التي تجسِّد القدوة والنموذج، والجماعات المختلفة التي تتكفل بإنتاج المعرفة ونشرها، وأنواع الحراك التاريخي المرتبطة بكل ما سبق. والمُلاحَظ في هذا العرض السريع أن بحوث شيلر الاجتماعية يغلب عليها التأثر بالتضاد الأساسي الذي أكَّده الفيلسوف في أنثروبولوجياه الفلسفية، وهو التضاد بين الحياة والعقل؛ فالعقل بذاته عاجزٌ عن تحقيق أفكاره في الواقع، كما أن قوى الحياة ودوافعها تظلُّ بغير تدخل العقل قُوًى عمياء ضالة. لا بد إذن مِن تفاعل العقل والحياة وتعاونهما، مع العلم بأن العقل لا يستطيع أن يحقِّق في الواقع إلا الأفكار التي تحتاج إليها، وتحدِّدها المصالح الواقعية للجماعات المختلفة، كما أن هذه المصالح أو العوامل الواقعية تُرَد في النهاية إلى الدوافع الأولية التي تتحكم في حياة الإنسان، وهي الدافع الجنسي أو دافع التكاثر، والدافع إلى القوة والسيطرة وإثبات الذات، ودافع البحث عن الطعام والغذاء. وقد عرض شيلر الخطوط الأساسية لنظرية في علم اجتماع المعرفة وفي العلوم الوضعية، في البحث الذي نشره قبل وفاته بسنتَين، وهو أشكال المعرفة والمجتمع (١٩٢٦م). وأخيرًا فإن بحوثه الاجتماعية والأنثروبولجية تتداخل وتتفاعل مع المشكلة الميتافيزيقية الأساسية، وهي مشكلة التغلب على ثنائية العقل والحياة وتجاوزها. وقد تأثَّر شيلر في هذا الصدد تأثرًا قويًّا بفلسفة اسبينوزا، عندما وصف العقل والحياة أو العقل والدافع بأنهما أهم صفتَين للوجود في أساسه الأول والأعمق. ويذهب الفيلسوف في النهاية إلى أن التاريخ العالمي بأكمله يقوم على تغلغل كلتا الصفتَين أو المبدأين السابقين بعضهما في البعض الآخر؛ وذلك لأجل أن تتحقق ماهية المُطلَق تحققًا تامًّا من خلال التعاون والتضافر الكامل بين الألوهية والإنسانية في مسعاهما المتواصل عبر التاريخ الشامل. عندئذٍ تلوح إمكانية تجاوز الثنائيات الكبرى: العقل والطبيعة، الفكر الغربي والفكر الشرقي، الأديان والعلوم الوضعية، الرأسمالية والاشتراكية، العمل الجسدي والعمل العقلي؛ بل إن ثنائية الرجل والمرأة لن يتم تجاوزها إلا من خلال صيرورة التاريخ العالمي نحو تحقيق المُطلَق في الواقع.
هكذا تُثبِت لنا متابعة شيلر لسؤاله النظري المبكِّر عن مفهوم العمل، ومدى ارتباطه بمنظومة القِيم الموضوعية، أنه فيلسوف التحول القلِق الذي لا يحصر نفسه في بُعدٍ واحد، ولا يحب السير المتصلِّب في خطٍّ واحد مستقيم، وإنما يُتيح لأسئلته فرص النضج والنمو البطيء على نار تجربته الاجتماعية، وانغماسه في مشكلات عصره، وتياراته الفكرية المتصارِعة. ويُغادِر الفيلسوف الشاب جامعة يينا ومدينتها في سنة ١٩٠٦م بعد فضائح سبَّبتها زوجته الأولى، وبعد موت ابنه الصغير متأثِّرًا بالمرض، وولادة ابن جديد، لن يطول به العمر أيضًا، مات في سنة ١٩٠٥م. والمهم أنه بدأ في ميونيخ عهدًا جديدًا هو عهد تكوينه وإنتاجه الفينومينولوجي.
انجذب الفيلسوف الشاب للرجوع إلى مدينة ميونيخ والإقامة بها لأسباب عدة. كان أبوه قد مات هناك في سنة ١٩٠٠م، وكان خاله الثري يرعى أمه، ويسدِّد ديونها، ويتحمَّل نفقات علاجها في مستشفى الصليب الأحمر. ولا بد أن موت أخته الصغيرة الحبيبة هيرمينه، وكانت قد انتحرت سنة ١٩٠٣م وهي في عامها السادس عشر، قد فتح في قلبه جرحًا داميًا لم يلمسه بعد ذلك أبدًا، ولم يقُل أو يكتب عنه كلمة واحدة، بل تركه ينزف مأساته في صمت. وربما كان أهم العوامل التي أغرَته بالانتقال للمدينة الكاثوليكية العريقة، هو البحث عن فرصة عمل بجامعتها لتأمين حياته؛ لذلك كان أول سعيه أن يتقدم برسالته الكبرى للتأهيل للتدريس بعد تعديل صورتها التي كانت عليها أثناء وجوده في يينا، وأن يلجأ لكل من يستطيع أن يزكِّيه لدى المسئولين، ويتوسط له عندهم. ومِن أهم من لجأ إليه إدموند هسرل مؤسِّس الظاهريات، فكتب إليه في شهر مارس سنة ١٩٠٦م، ولم يتردد الرجل في التوصية عليه، والإشادة بتمكنه من علمه، واستقلاله في الرأي، وكفاءته في التدريس. وكُلِّلت المساعي الطويلة بتعيينه في شهر ديسمبر سنة ١٩٠٦م مدرِّسًا للفلسفة بجامعة ميونيخ، وشاء حظه أن يجد أمامه الظروف المُواتية للتعمق في فلسفة الظاهريات، والانضمام إلى حلقة الفينومينولوجيين الشُّبان، الذين التقوا حول الفيلسوف وعالم النفس هانز ليبس، الذي عُرِف بتطبيقه للمنهج الفينومينولوجي في فلسفة الجمال، وراحوا يتدارسون كتاب هسرل الهام «بحوث منطقية»، ويفحصون مشكلات هذه الفلسفة من وجهات نظر مختلفة باختلاف اهتماماتهم وميادين تخصصهم، ويوثِّقون صِلاتهم بمؤسِّس الظاهريات الذي كان في ذلك الوقت لا يزال يعمل بجامعة جوتنجن، وقام في صيف سنة ١٩٠٤م بزيارتهم وتنسيق العمل معهم، بحيث ختمت هذه المجموعة طابعها على المرحلة الأولى من الظاهريات. وتمخَّض التعاون بينهم في وقتٍ لاحق على تأسيس المجلة الناطقة باسم الحركة، وهي «حولية الفلسفة والبحث الفينومينولوجي»، التي استمرَّت في الصدور من سنة ١٩١٣م إلى سنة ١٩٣٠م، ونشر فيها شيلر كتابه الأساسي عن النزعة الشكلية في الأخلاق وأخلاق القيمة المادية (نُشر في الحولية في سنة ١٩١٣ و١٩١٦م على جزأين، وكُتِب قبل اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى).
اندمج شيلر في الجماعة المذكورة، واستطاع بسرعة مُذهِلة أن يستوعب المنهج الفينومينولوجي، ويتعمَّقه، ويطبِّقه تطبيقًا حرًّا مستقلًّا في بحثه للإشكالات التي كانت تشغله في الأخلاق والقِيم والسياسة والاجتماع. لم تجتذبه الدقة المتناهية لفلسفة الظاهرات في تحليل المعطيات والتمييز بينها — كما قال عنه زميله في الجماعة موريتس جيجر سنة ١٩٠٧م — إذ لم يكن ذلك ليُوافِق طبيعته المُندفِعة العاصفة، وإنما أخذ منها شيئًا جوهريًّا آخر، وهو المنهج الحدسي الذي تهدف خطواته المفصَّلة إلى الرؤية الحية المباشرة للماهيات، وإن كان قد استبدل الحدس الوجداني بالحدس الذهني الخالص عند هسرل، كما اجتذبه شيءٌ مهم آخر بجانب الحدس، وهو المعرفة بالقوانين الماهوية العامة والبُنى الصحيحة صحةً مُطلَقة. وقد استطاع في بحوثه المُتوالية أن يُثري تلك الفلسفة، في مناهضتها الشديدة للنزعات السيكولوجية والنسبية والتاريخية، بحُجج إضافية وبراهين جديدة. ولم يقِف الأمر عند هذا الحد؛ إذ رأى بثاقب بصره أن النتائج التي تُوصِله إليها الظاهريات بقيت في النهاية نتائج جزئية متفرِّقة، فعجز منهجها عن تطوير رؤية شمولية للعالم تكون خلفية لها؛ ولذلك دفعه إيمانه الشديد بالكاثوليكية في هذه المرحلة من حياته وتفكيره، أن يُضيف إلى تلك الفلسفة خلفيتها الدينية، وأن يدمج هذا المذهب الديني في شبكة الفلسفة الحديثة. وقد ترك هذا التوجه الحضاري والشمولي الجديد للظاهريات — كما يستطرد العضو السابق في جماعة ميونيخ — انطباعًا بالغ القوة على سائر الأعضاء. والغريب حقًّا أن يتمكن شيلر في تلك الفترة الخصبة، على الرغم من المنغِّصات الشخصية والعائلية التي زلزلت حياته، من وضع الخطوط الأساسية لفلسفته الظاهرية خلال السنوات القليلة التي قضاها في التدريس، بين سنتَي ١٩٠٦ و١٩١٠م في جامعة ميونيخ، وقبل عزله عن مَنصبه بسبب الإشاعات والافتراءات التي لُفِّقت له؛ ومِن ثَم فُوجِئ قُراؤه ابتداءً من سنة ١٩١٣م بظهور عدد من أهم أعماله بصورة مُتتالية، وعلى فترات شديدة القِصر، وهي أعمالٌ يرتكز معظمها على محاضراته التي كان يُلقيها عن الأخلاق وفلسفة الحياة وفلسفة التاريخ.
تعرَّض شيلر في هذه الفترة العصيبة لمهزلة مأسوية، أدَّت فيها الإشاعات المُغرِضة والحملات الصحفية المتجنِّية عن علاقاته النسائية، ومحاولاته المتصلة للطلاق من زوجته الأولى، دورًا فاجعًا وصل إلى حد تقديمه لمحاكمة تأديبية، ثم حرمانه من حق التدريس وفصله من الجامعة.
والتفَّت حبال الإشاعات والحملات الصحفية — في جريدة بريد ميونيخ — حول شيلر، فنغَّصت حياته، وأعجزته عن التخلص منها. وبعيدًا عن التفاصيل التي لا داعي للخوض فيها عن علاقة غير مشروعة بامرأة غير زوجته الأولى الشديدة الغيرة، وعن استغلال المقالات الصحفية في التشهير بأستاذ جامعي؛ «لإثبات أن الذين يُحاضِرون عن الأخلاق، والذين يسلكون سلوكًا يكذِّب أقوالهم وأفكارهم»، بعيدًا عن تلك التفصيلات نقول باختصارٍ إن زوجته الأولى وافقت في ربيع سنة ١٩١٢م على الطلاق، بعد أن دفع لها مَبلغًا ماليًّا كبيرًا بناءً على طلبها؛ وإن شيلر تزوَّج من أخرى شُغفت بمحاضراته، وأحبَّته كما أحبَّها، وهي الفتاة الصغيرة مريت ابنة عالم الآثار فورتفنجلر، في شهر ديسمبر من العام السابق، وذلك بعد تعقيدات لا ضرورة للتطرق لها؛ وإنه فُصل من الجامعة، وراح يكسب لُقمة عيشه من المحاضرات التي يُلقيها في أماكن وبلاد مختلفة، ومِن كتابة وتلخيص المقالات لإحدى المجلات المهتمة بعلم الاجتماع. تأزَّمت كل أحواله في تلك الفترة، إلى حد التفكير في مغادرته بلده وأوروبا بأكملها إلى بلد آسيوي أو أفريقي؛ ليخلِّصه من ضائقته المادية والنفسية. والعجيب أنه قام في تلك الفترة، وربما لآخر حياته، باتصالات كثيرة لم تُسفِر عن شيء. والطريف الذي نستخلصه من بعض خطاياه الشخصية، أنه كتب مرة لأمه قائلًا إنه قد وصلته برقية من أحد الأمراء الألمان، يُخبِره فيها برغبة الأمير فؤاد في حضوره إلى مصر؛ ليشغل مَنصب الأستاذية في جامعة القاهرة، بشرط أن تُلقى محاضراته بالعربية. ويسعى شيلر للحصول على توصيات تزكية للعمل بالخارج، ومِن بينها توصية رائعة من هسرل، تُشِيد بمواهبه المتنوعة، ويوافق على السفر إلى مصر وترجمة محاضراته إلى العربية، ولقاء الأمير فؤاد نفسه عند حضوره من باريس لزيارة ألمانيا. ولم يقتصر الأمر على هذه الدعوة التي لم تتمخَّض عن شيء، بل تلقَّى كذلك دعوة أخرى من الحكومة اليابانية للتدريس بجامعة كيوتو، ولكن سرعان ما سقطت هذه الدعوة بعد تغيير الحكومة بحكومة أخرى.
وهكذا لم يتحقق أبدًا ذلك الحلم الذي شغله طيلة حياته بالعمل خارج بلاده، وظل شبح العَوز المادي يجوس كل مكان أقام فيه، حتى وفاته المُفاجئة في صيف سنة ١٩٢٨م في مدينة فرانكفورت، التي كانت جامعتها قد وجَّهت إليه الدعوة في نفس العام للتدريس بها.
سبق القول بأن شيلر صبغ الظاهريات صبغةً خاصة به؛ إذ جعل الرؤية الشاملة للعالم خلفيةً لها، واهتم بتجربة الإنسان بوصفها علاقةً فلسفية تربط الإنسان بالعالم، وتتَّجه قبل كل شيء إلى رؤية ماهيات جميع الموجودات رؤيةً حية. ويتَّضح هذا كله في نظريته للإنسان باعتباره كائن الحب، وفي اهتمامه بالشخص والشخصانية، وفي ترتيبه للقِيم المادية القبلية القائمة على أساس المشاعر والعواطف، ومناقشته للعوامل المثالية والواقعية لحركة التاريخ … إلخ.
ونبدأ بتعريفه أو تحديده للإنسان ككائن مُحِب.
هكذا تكون علاقة المشاركة هي العلاقة الأساسية بين الإنسان والعالم وأهم علاقاته به، بل يصل الأمر بالفيلسوف إلى حدِّ أن يجعل أولوية فعل الحب وتقدُّمه على المعرفة والإرادة قانونًا أو ما يُشبِه القانون. هذا المسلك المُحِب من العالم هو في تصور شيلر مسلكٌ انفعالي محمَّل بالقيمة، ومِن شأن المسالك أو الأفعال المحمَّلة بالقِيم والمحدَّدة بالمصالح أو الاهتمامات، أن تكون سابقة ومتقدِّمة على جميع أفعال التصور والإدراك والتذكر. ولما كانت الأفعال التي وصفناها بأنها محمَّلة بالقِيم لا تستغني في وجودها عن القِيم، كان الأساسي الذي تقوم عليه فلسفة شيلر يعتمد بالتبادل على نظرية في الفعل ونظرية في القيمة. ويمكن القول بأن هذا الأساسي المزدوج يمثِّل القلب النابض لفلسفة شيلر عن الإنسان؛ ومِن ثَم يكون من الطبيعي أن يشترك تراتُب القِيم وتراتُب الأفعال المحمَّلة بالقِيم في تكوين «نظام الحب»، الذي يقول عنه: «مَن يمتلك نظام الحب الخاص بأي إنسان فإنه يمتلك الإنسان نفسه، ويمكن القول أيضًا بأن ترتيب القِيم عنده بمثابة النجم القطبي الذي يهتدي به الإنسان في الظلام، وهو في نفسه صميم نظام العالم أو نواته الباطنة.»
ويُقابِل هذا النظامَ المرتَّب للقِيم وللأفعال المحمَّلة بالقِيم، نظامٌ من «النماذج» أو الأنماط المثالية التي جسَّدت تلك القِيم والأفعال، واقترب منها الناس قليلًا أو كثيرًا في الدافع الحي المَعيش لأي عصر وأي مجتمع، فحدَّدوا من خلاله موقعهم من العالم، ولكن كيف يبدو «نظام الحب» الذي يتوقف عليه تحديد وضع الإنسان وعصره وواقعه، أو تحديد قدره في مسيرة الكون؟
لا بد لتحقيق هذه الغاية من معرفة نظام القِيم التي يتكوَّن منها نظام الحب. ولا بد أن تنظر الآن في ترتيب القِيم أو تراتُبها، الذي يحكمه قانون صارم دقيق.
- (أ)
عالم القِيم وتراتُبها.
- (ب)
أنماط الشخصيات ونظام النماذج التي تجسِّد عالم القِيم تجسيدًا حيًّا.
- (جـ)
الأفعال أو المسالك التي يقوم بها الأشخاص، وتتحقق فيها القِيم بالفعل.
- (د)
الحالات التي يُستشفُّ منها وجود القِيم.
واللافت للنظر أن شيلر في معظم أعماله لا يملُّ الحديث عن هذا التراتُب القبلي للقِيم مهما اختلفت أشكال حديثه وصياغاته؛ فهو في بعض الأحيان يقسِّمه إلى أربعة أقسام، وفي أحيان أخرى إلى خمسة، ثم يعود فيقصره في بحوثه الأنثروبولوجية والميتافيزيقية المتأخِّرة على اثنين. والترتيب الأول والأدنى في سُلَّم القِيم يتألف من قِيم السارِّ وغير السار أو المُلائم وغير المُلائم والنافع، وهي التي تشعر بها من خلال الحواس، ونجرِّبها في اللذة والألم الحسِّيَّين، وكلها كما نرى وشيجة الصلة بطبيعتها الحسية، ولا توجد إلا حيث يكون ثمة حسٌّ وإحساس. والنموذج أو نمط الشخصية الذي يضع هذه القِيم هو فنان المتعة أو التذوق، أو «فنان الحياة» الذي يسير في حياته، هي مبدأ واحد هو تفضيلُ السارِّ على غير السار. أما الشكل الاجتماعي الذي يُطابقه فهو «الجمهور». وأما قِيم النفع أو المنفعة فتمثِّلها في المجتمع المدني شخصيات العلماء، وخبراء التقنية، والمقاولون للمشروعات المختلفة.
ويتكون الترتيب الثاني لمنظومة القِيم من قِيم النبيل والوضيع، ونتعرف عليهما في الشعر الحيوي، كما نجرِّبهما تجربةً حية في إحساساتنا بالصحة والمرض والشيخوخة والموت، وهكذا يتعلقان بالحياة التي يعتبرها شيلر ماهيةً مستقلة.
أما نمط الشخصية التي تُقابِل هاتَين القيمتين وتمثِّلهما، فهو شخصية البطل الذي يُعطى له العالم الواقعي قبل كل شيء كعالمٍ يشتبك معه ويُقاومه، ويتصدى له هو وجماعة الأبطال من خلال المقاومة. وتتألف المنظومة الثالثة في سُلَّم تراتُب القِيم من قِيم «الجميل والقبيح، والحق والباطل، ومعرفة الحقيقة» (وهنا نتذكر المتعاليات الثلاثة القديمة، وهي الجمال والخير والحق …) وكلها تتحقق في الشعور العقلي، وتُجرَّب في الفرح والحزن. أما الأنماط الشخصية التي تتمثل فيها فهُم الفنان والمشرِّع والفيلسوف. وأما شكل الجماعة التي تتطابق معها فهي الأمة.
هذه القِيم التي تحدَّثنا عنها لا تسبِّح في سماء عالم مُثُل أفلاطوني كما اتهمه بعض الناقد بسبب استخدامه لمصطلحات تذكِّر بالفيلسوف اليوناني الكبير، كالصور والنماذج والرؤية والمرئي والماهيات … إلخ.
والواقع أن فكرة الإنسان ككونٍ صغير فكرةٌ قديمة ومأثورة في الفكر اليوناني القديم وفي أواخر العصر الوسيط.
إن الأسلوب الوحيد والمُطلَق لوجوده هو تحقيقه لأفعاله؛ فالشخص هو الوحدة الحية أو الوحدة المباشرة للتجربة الحية، وليس على الإطلاق شيئًا يصطنعه الفكر وراء أو خارج ما نجرِّبه تجربةً مباشرة. ويترتب على هذا ألا يكون الشخص — كما تقول لغة كانط — فكرةً تنظيمية، ولا وعيًا مُتعاليًا نسلِّم بوجوده لكي نُعيد بناء سياق تبريري «معقول»؛ ذلك لأن الشخص يُحيل إلى التجربة، كما أن التجربة تُحيل إلى الشخص، وما دام الشخص غير موضوعي ولا يمكن أن يكون موضوعًا، فإنه لا يتحقق إلا من خلال تجربة جماعية مشتركة وأفعال محقِّقة للقِيم، يقوم بها أشخاص مع الجماعة ومن أجلها. ولو تذكَّرنا الآن ما سبق قوله عن تراتُب القِيم لوجدنا أن القِيم العليا وحدها في ذلك التراتب هي القِيم الشخصية بحق، وأن هذه الطبيعة أو الماهية الشخصية مرتبطةٌ أوثقَ ارتباط بأفعال المشاركة التي يحدِّدها الحب، وهذه الأفعال هي التي تبثُّ في ذلك التراتب كله حركةً ديناميكية نشِطة، تهدف لبلوغ المستويات الشخصية التي تستطيع وحدها تحقيق القِيم العليا، بل إن الحب والإنسان جميعًا لَيتحوَّلان إلى حركةٍ تتفتَّح فيها أسمى القِيم الشخصية، وتفسير ذلك ببساطةٍ أن الإنسان ليس «شيئًا»، وإنما هو اتجاه.
ونبدأ بتلخيص محاضرة ألقاها في برلين عن أشكال المعرفة والثقافة، ثم نقدِّم فكرةً موجُزة عن رؤيته للتاريخ، ومفهومه عن العوامل الواقعية والمثالية المحرِّكة لأحداثه. يعتقد شيلر أن هناك ثلاثة أهداف عُليا يمكن أن تحقِّقها المعرفة، بل ينبغي عليها أن تحقِّقها: الهدف الأول يتعلق بصيرورة أو بمستقبل الشخص العارف وازدهاره ونضجه، وتتكفل به المعرفة الثقافية. أما الهدف الثاني فينصبُّ على معرفة مسيرة العالَم أو صيرورته وأصله الأول أو علته الأولى؛ أي معرفة الله أو الموجود في ذاته، وهي المعرفة الدينية التي يصفها بأنها معرفة الخلاص أو النجاة. وأما الهدف الثالث فيتَّجه نحو السيطرة على العالم وتغييره لتحقيق المصالح والغايات البشرية، ويتجلى هذا في نمط المعرفة التي يسمِّيها معرفة السيطرة أو الإنجاز العملي، التي يختص بها العلم الوضعي والمذهب النفعي، أو البراجماتية التي لا تضع نصْبَ عينها هدفًا غيره.
وإذا كانت ثنائية العقل من ناحية والحياة (أو الدوافع الحيوية) من ناحية أخرى، تسود فلسفة شيلر في آفاقها المختلفة، فإنها تُثبِت وجودها أيضًا في هذه الأشكال الثلاثة للمعرفة والثقافة؛ فعلى الدوافع المتَّجِهة إلى تحقيق القوة والهيمنة تبنِّي المعرفة التي سمَّيناها معرفة الإنجاز والسيطرة، وعلى أساس الشعور أو الإحساس القصدي والاندهاش أو التعجب تقوم المعرفة الثقافية، أما المعرفة بالخلاص والنجاة فتعتمد على الدافع الروحي لإنقاذ الوجود والمصير وضمان السعادة الأخروية. والمهم في هذا الهيكل المعماري كله أن الأنماط الثلاثة للمعرفة ترجع أصولها إلى الأنماط المختلفة للدوافع، وأن هذه الدوافع بِدورها تتفاوت في مستوياتها؛ فمنها ما هو جسدي وبيولوجي، ومنها ما هو عقلي وروحي. والاندهاش أو التعجب الذي جعله شيلر أساس المعرفة الثقافية هو بالنسبة له، كما كان بالنسبة لأفلاطون، التعبير الانفعالي أو العاطفي عن هذا الأساس؛ ومِن ثَم فهو مبدأ التفلسف ومَنبعه الأصيل. أضِف إلى هذا أن شيلر لا يقصر مفهوم الدافع على التكوين الطبيعي والحيوي للإنسان، وإنما يرى على العكس من «أوجست كونت» أن أنماط المعرفة الثلاثة ليست مراحل مُتتالية في التاريخ البشري كما تصوَّر فيلسوف الوضعية في نظريته أو قانونه الثلاثي المعروف (الأسطوري والديني، يتلوه الميتافيزيقي أو الفلسفي، ثم المرحلة الثالثة والأخيرة مع العلم الوضعي)، وإنما تنشأ نشأةً مستقلة وأصيلة عن قوة دافعيتها الذاتية، ويمكن كذلك أن تتغير وتغيِّر نفسها بحيث تكون طبقات ذات مستويات مختلفة من المعرفة الجماعية أو الاجتماعية. ويحاول شيلر أن يُجيب على السؤال العريق: كيف نفهم التاريخ، وكيف نفسِّره عن طريق ما يسمِّيه بالعوامل الفعَّالة التي تحرِّك مسيرته، وتتحكم في أحداثه؟ فهو يفرِّق بين «سوسيولوجيا» أو علم اجتماع حضاري أو ثقافي، وسوسيولوجيا أو علم اجتماع واقعي، وكلاهما يقع تحت مَظلة ثنائيته الميتافيزيقية الأساسية التي سبقت الإشارة إليها؛ فالأول يقوم بالضرورة على نظرية عن العقل، والثاني عن نظرية عن الدوافع التي تحرِّك حياة الإنسان. والواقع أن شيلر يقترب في هذه الثنائية من المقولة الماركسية المعروفة عن البنية الفوقية والبنية التحتية، فيصبح علم الاجتماع الثقافي بمثابة البنية الفوقية، وعلم الاجتماع الواقعي ممثِّلًا للبنية التحتية. ومع ذلك فليس للعوامل المثالية التي يتضمَّنها الأول ولا للعوامل الواقعية في الثاني، نفس القوة ولا نفس التأثير على مسار التاريخ الذي لا يستغني عن تفاعلهما معًا. فالآفاق أو المجالات التي يمكن أن تنمو فيها العوامل المثالية هي التي تُتيحها العوامل الواقعية؛ ولهذا كانت لها دلالتها ودورها السببي في تحديد مصير الواقع. وفي إطار تلك الأفاق والمجالات الواقعية يستطيع العقل أن يضع الأهداف والقِيم، أما تحقيقها فهو أمرٌ متروك للعوامل الواقعية. ولو حاول العقل أن يضع الأهداف والقِيم خارجَ إطار المجال الواقعي لكان أشبه بمن بعض في الجرانيت أو يبدِّد قِيمه وأهدافه في «يوتوبيا» وهمية. هكذا تتبيَّن العلاقة الجدلية بين النوعَين السابقين من العلاقات، ولا أملَ في فهم مسار التاريخ العيني إلا إذا عرفنا ترتيب تلك العلاقات الواقعية والمثالية، وسياقاتها المختلفة، وتفاعلها المستمر؛ فالمجموعات الرئيسية للعلاقات الواقعية هي علاقات الدم، والقوة أو السلطة، والاقتصاد؛ وهي ليست علاقات ثابتة أو دائمة، وإنما هي متغيِّرات مستقلة يمكن فهمها وتقدير تأثيراتها خلال الحقب والمراحل التاريخية المتعاقبة.
هكذا ينظر شيلر إلى المفاهيم المختلفة للتاريخ والتأريخ نظرةً نسبية؛ فلم تبدأ سيادة العوامل الاقتصادية على مجرى التاريخ إلا مع ارتفاع موجة العصر الرأسمالي المتأخِّر. ولا يعني هذا أنه يُوافِق على التفسير الماركسي، الذي يجعل العوامل الاقتصادية هي العوامل الأساسية والوحيدة التي تحرِّك مسار التاريخ؛ إذ يرى أن هذا التفسير الأُحادي ينطوي على تعميمٍ شديد، ولا يصدق إلا على العصر الرأسمالي. وأخيرًا فقد وضع شيلر أُسُس فلسفته وطوَّرها قبل نشوب الحرب العالمية الأولى وأثناءها، لكن محنة الحرب ألزمته بمواجهة التحدي بالمزيد من التطوير والنقد والمراجعة لتلك الفلسفة.
كانت السنوات الفارقة بين فصله من جامعة ميونيخ ونشوب الحرب العالمية الأولى ثم انتهائها، مِن أصعب السنوات في حياة شيلر، ومِن أحفلها أيضًا بالمشاركة والإنتاج الفلسفي والسياسي المتدفِّق. لم يكن من الممكن أن يقِف فيلسوف التعاطف والمشاركة والناطق بلسان القِيم موقفَ المتفرِّج من الانهيار الثقافي والحضاري، الذي سبَّبته الحرب في ألمانيا وأوروبا بوجهٍ عام، وأدَّى إلى تساقط القِيم العليا التي نادى بها تحت سنابك «اللاقِيم» النفعية والاستغلالية، التي ارتفعت أصواتها وأخطارها مع زحف الرأسمالية. حتَّمت عليه طبيعة المُحارِب الذي تجيش نفسه بالانفعالات المضطرِبة إلى حد التمزق، أن ينخرط بل أن يغوص بكل كيانه في محنة القِيم التي تمرُّ بها الحضارة والثقافة الأوروبية والمسيحية، وذلك عن طريق «المشاركة» التي تعبِّر عن أهم مبادئ فكره، وتمثِّل في وقت واحد سقف وجوده ودعامة حياته. وكان من الطبيعي أن يشارك زملاءَه المتينين لفلسفة الظاهريات الجديدة في تحرير المجلة الناطقة باسمها والمروِّجة لأفكارها، منذ أن بدأت في الصدور سنة ١٩١٣م، وهي «حولية الفلسفة والبحث الفينومينولوجي»، لكن تدفُّق بحوثه وإلحاحه على نشرها بأكملها في المجلة (مثل تحليل التعاطف، وقِيم الحياة ومكانها في ترتيب القِيم، إلى جانب كتابه الأساسي الذي انتهى منه في تلك الفترة، وهو النزعة الشكلية في الأخلاق والأخلاق المادية) أوقع شيئًا من الجفوة بينه وبين مؤسِّس الظاهريات، الذي لم يسمح له بنشر أكثر من مائة صفحة! وكشف عن الاختلاف الشديد بين طبيعتهما، وتراكُم الثلوج على دروب العلاقة بينهما. أثبتت اهتمامات شيلر خلال محنة الحرب أن الفيلسوف الحقيقي لا يمكنه أن يعيش أو يفكر بعيدًا عن أزمات عصره، وأن فيلسوف القِيم لا يستطيع أن يقِف مكتوفَ اليدَين أمام تصاعد الفردية والأنانية والتدهور والانحلال الأخلاقي والروحي وانهيار القِيم الحقيقية. وبدأت مواجهة المحنة، والدخول في الحوار النقدي معها بتطوعه للانخراط في السلاح الجوي، ثم رفض قبوله فيه بسبب إصابة عينَيه بالانحراف البصري «الاستجماتيزم»، وضعفه الصحي العام. وكان أول كتبه المعبِّرة عن معاناته لمأساة الحرب هو كتابه «مارد الحرب»، الذي تعمَّد أن يوجِّهه للرأي العام، ويتجاوز فيه دائرة الفئات الثقافية والفلسفية المحدودة. وسرعان ما ارتفعت أصوات التأييد والمعارضة بعد صدور الكتاب بقليل؛ فقد أثار الغضب والاحتجاج لدى عدد من الأدباء والمفكرين اليهود، مثل ماكس برود وفرانز فيرفل وأرنولد تسفايج ومارتن بوبر، ولكن الأصوات المعارضة لم تمنعه من المثابرة على استخلاص عالم القِيم السائد التي تكمن وراءها. والظاهر أنه استطاع بالرغم من بعده عن ميادين القتال، وانعزاله في ذلك الوقت بالقرب من بحيرة تيجر، أن يعبِّر عن آراء الكثيرين الذين انهالت عليه رسائلهم المؤيِّدة، والذين وقعوا مثله ضحيةَ الوهم الحالم والمدمِّر بأن الحرب يمكن أن تُطلِق الطاقات الحيوية والإبداعية من أَسرِ التحجر والجمود، بَيدَ أن سحر الانجذاب والانبهار بنيران الحرب وضجيج المدافع والطائرات، سرعان ما ذبلت شعلته المتأجِّجة التي جعلت الفيلسوف في الكتاب المذكور يرحِّب بالحرب، ويتصوَّر أنها قوةٌ قادرة على إنقاذ أوروبا من التخلف والتدهور الأخلاقي، الذي زحف عليها مع زحف الرأسمالية بقِيمها وأشكالها الاجتماعية، كما توهَّم كذلك قدرتها على الكشف عن قُوًى أخلاقية جديدة في إطار حضاري جديد. وجاء كتابه التالي «الحرب والبناء» لينظر إلى «مذبحة الشعوب» وكأنها صيحة التجديد الكامل والثورة الشاملة للحياة الأوروبية بأُسرِها. ويعترف الفيلسوف بأن من الصعب وسط الفوضى السائدة أن يتعرف الإنسان على أي معنًى سياسي أو اقتصادي للحرب، لكن المؤكَّد أن هذه الحرب تضع الأوروبيين تجاه واجباتهم ومسئوليتهم عن التطهر والندم والتوبة والإنابة إلى التجدد الروحي. هذه المسئولية تقع في رأيه على عاتق الكاثوليك الألمان، الذين يُطالِبهم بأن يضعوا أيديهم في أيدي الكاثوليك الأوروبيين لتحقيق البعث الأخلاقي والروحي الجديد. لا شك في أن هذه الأوهام الرومانسية القاتلة، وهذه النغمة الإيمانية الدافئة، تعبِّران عن عمق التجربة الدينية في المرحلة الكاثوليكية من حياة شيلر، وهي المرحلة التي بدأت منذ أن كان صبيًّا في المدرسة وتم تعميده، كما سبق القول سنة ١٨٩٩م، في دير القديس أنطوان، ثم بلغت ذروتها في تفانيه في تلك التجربة، وزياراته المتكرِّرة للأديرة المختلفة، وإعلائه من شأن القِيم الدينية العليا المتجسِّدة في القداسة والقديسين، إلى الحد الذي جعل الكنيسة نفسها تعتبره من أهم المفكِّرين الكاثوليكيين، وتكلِّفه مع بعض القوى السياسية والحزبية، بل وبدعوة صريحة من المسئولين في وزارة الخارجية، بالسفر إلى بعض المدن والعواصم الأوروبية، مثل بيرن فيينا والهاج، لإلقاء المحاضرات فيها، وتعبئة الجماعية الكاثوليكية لتكون يدًا واحدة وصفًّا واحدًا وراء دولة الرايخ المنهارة، ومواجهة القوى المتحالفة ضدها في الحرب. والثابت أن شيلر كان على اقتناعٍ تام، أثناء تلك المرحلة الدينية التي غاص في قِيمها وطقوسها بعمق وإخلاص شديدَين، بأن الكاثوليكية تملك القدرة والإمكانيات اللازمة لمكافحة الرأسمالية بقِيمها الفاسدة وأشكالها الاجتماعية المنحلَّة. وفي هذه المرحلة أيضًا تمكَّن الفيلسوف من تطوير فكرته عن الاشتراكية المسيحية، التي أصبحت بعد ذلك وبفضل ريادته تيَّارًا فلسفيًّا شديد القوة والتأثير على الساحة الفكرية والأخلاقية من ناحية، وفي مواجهة الرأسمالية وتحدي «لاقِيمها» من ناحية أخرى. وقد تمخَّضت هذه المرحلة عن بعض أعماله ذات الطابع القومي والتربوي الواضح: أسباب كراهية الألمان، الندم والبعث الجديد، فكرة الحب المسيحية والعالم المعاصر، التعمير الثقافي — أو الحضاري — لأوروبا، وغيرها من المقالات التي شارك بها أثناء الحرب في المجلة الكاثوليكية «هوخلاند»، بجانب المحاضرات التي ألقاها في برلين وغيرها من العواصم الأوروبية، وكادت أن تحوِّله إلى داعية الكنيسة الكاثوليكية، ومروِّج لأفكار السُّلطة التقليدية الحاكمة والمنهارة، واللسان الناطق باسمها. ولا بد أن الفيلسوف قد مزَّقه هذا النشاط السياسي الذي تورَّط فيه بإرادته أو بطِيبته وحسن ظنه شرَّ مُمزَّق، ولكنه بقي على وعيٍ دائم بضرورة الفصل بين تجربته الدينية وتجربته العلمية والفكرية، ولكَم سعى في هذه المرحلة للتوصل إلى شغل كرسي في إحدى الجامعات؛ لعله يُتيح له العكوف على عمله العلمي البحت، ويخلِّصه من الضياع في دوامة الحياة العامة الملفَّقة والمُغرِقة!
وعندما وصلته الدعوة للعمل في معهد العلوم الاجتماعية في مدينة كولونيا، وجدته مُستغرِقًا في بحثٍ «لم يكتمل أبدًا!» عن الاشتراكية المسيحية كقوة مضادَّة للروح الرأسمالية. كان ذلك بين سنتَي ١٩١٩ و١٩٢٠م؛ أي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بعدة سنوات، ولكنه لم يكن أول بحوثه التي حلَّل فيها الروح الرأسمالية تحليلًا نقديًّا شاملًا، وحمَّل نظام القِيم فيها مسئولية الفساد الذي سبق نُشوبَ الحرب، وكان كذلك من أهم العوامل تأثيرًا في اندلاع نيرانها. وكان قد سبق لشيلر أن نشر في سنة ١٩١٤م ثلاثة بحوث تحت العناوين الثلاثة التالية: البرجوازي، والبرجوازي والقوى الدينية، ومستقبل الرأسمالية. وفيها يبيِّن أن الروح الرأسمالي هو السبب الأول في قيام النظام الاجتماعي الرأسمالي وليس العكس؛ ذلك أن الرأسمالية في تقديره ليست مجرد نظام اقتصادي يحدِّد توزيع المِلكية، وإنما هي قبل كل شيء نظامٌ شامل للحياة والحضارة والقِيم المقلوبة على رءوسها؛ نظامٌ يستطلع في الأفق علامات انهياراه وبوادر انحسار روحه القديمة، التي ستملأ مكانَها روحٌ أخرى جديدة تقوم على قِيم أخرى جديدة. بَيدَ أن الحرب انتهت، ولم تنحسر الروح الرأسمالية، ولا تراجعت الاضطرابات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، التي تسبَّبت فيها عبر السنوات التي أعقبت الحرب. صحيحٌ أنه لم يتخلَّ أبدًا عن موقفه الرافض للرأسمالية ونظامها القِيمي، ولم يتوقف عن حواره النقدي مع ماركس والماركسية، ولكنه بدأ يتشكَّك في إمكان تجاوز الرأسمالية في المدى القريب؛ ولذلك تبنَّى شعار الاشتراكية المسيحية، وأخذ يدعو لها على أمل أن تكون هي النقيض للرأسمالية من ناحية، والبديل عن البلشفية من ناحية أخرى. «إن القدر المُفزِع الذي يئنُّ منه الآلاف من الناس هو الذي يُوصَف بكلمة «الرأسمالية»؛ فالرأسمالية نوع من الطاعون أو الوباء الذي يموت بسببه الطبيب المُعالِج قبل أن يقترب من المريض الذي أُصيب به.» ولهذا يتَّفق شيلر مع ماركس في أن الرأسمالية ليست في المقام الأول مقولة اقتصادية، وإنما هي مقولة اجتماعية يتحتَّم فهمها فهمًا تاريخيًّا عامًّا وغير محصور في التاريخ الاقتصادي وحده؛ ولذلك كانت تحليلاته لما سمَّاه الروح الرأسمالية متَّسِقةً مع نظريته المبكِّرة عن القِيم والدوافع، بحيث أصبح نظام المجتمع الرأسمالي — كما سبق القول — نتيجةً مترتِّبة على الروح الرأسمالية وليس العكس؛ ومِن ثَم تكون النتيجة الطبيعية لتراتُب القِيم، كما تصوَّره شيلر، أن يصبح السعي إلى الربح من أجل الربح ذاته، وهو ما يعبِّر عن جوهر الرأسمالية كموقف روحي أو عقلي من العالم، لا مجرد حقيقة اقتصادية أو تطورًا فاسدًا للبشرية، وقلبًا للتراتب الموضوعي للقِيم كما عرضناه من قبل. أضِف إلى هذا أن مقولة الرأسمال والرأسمالية، كما فهمها ماركس، يمكن أن تفسِّر النظام الفاسد للقِيم والحضارة في العصر الرأسمالي وفي التاريخ الغربي، لكنها تعجز عن تفسير عصور ونُظُم اجتماعية سابقة على هذا العصر الرأسمالي الأوروبي والأمريكي، الذي يحدِّد بدايته بحوالَي سنة ١٨٨٥م لا تزال تئنُّ تحت سطوة الاستعمار في الهند ومصر على سبيل المثال؛ ومِن ثَم تصبح محاربة الرأسمالية هي السبيل الوحيد لمنع نُشوب حرب؛ أي مذبحة جديدة للشعوب، أو وباء يمكن أن يُعدِي البشر أجمعين. هنا بالتحديد يتأكَّد الدور الذي حاول شيلر أن يُلقي تبِعته على أكتاف الاشتراكية المسيحية والمسيحية الكاثوليكية بوجهٍ خاص؛ فهذه الاشتراكية يمكن أن تكون هي الطريق الثالث بين الإمبريالية العالمية للبروليتاريا من جهة، والرأسمالية الليبرالية من جهة أخرى، شريطةَ أن تقوم الكنيسة بتبنِّي الاتجاهات المُعادية للرأسمالية بين الشباب، وأن تكفَّ عن مُغازَلة النظام الرأسمالي الذي لا تنفكُّ تخطب ودَّه بين الحين والحين. بهذا تقِف هذه الاشتراكية المسيحية القائمة على فكرة الفداء والتضحية للآخرين، وعلى تضامن الكل من أجل الكل، تقِف ضد دكتاتورية أي طبقة، وضد جميع أشكال الإمبريالية، سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية. ومِن المفارقات العجيبة أن يتطلَّع شيلر في هذه المرحلة من تفكيره إلى رؤية بابا «الكنيسة» الكاثوليكية على رأس هذه الاشتراكية المتديِّنة، مع أن الأيام أثبتت أن هؤلاء البابوات كانوا، ولم يزالوا حتى اليوم، هم الخدم المخلِصين للرأسمالية وأطماعها العنصرية والتوسعية التي لا تقف عند حد. ومِن حسن حظ شيلر، أو من سوء حظه لا أدري، أنه لم يُقدَّر له أن يعيش حتى يرى اشتراكيته المسيحية القائمة على القِيم الإنسانية الرفيعة، تتحوَّل إلى اشتراكية الوطنية (أي النازية)، التي جعلت وطنه في النهاية مسرحًا تتدفق فيه دماء شعبه الذي تتصارع عليه جيوش الشيوعية والرأسمالية. ولا شك في النهاية في أن دعوته للاشتراكية المسيحية خلال فترة إيمانه بالكاثوليكية، لم تأتِ فحسب من مَنبعها الحقيقي، وهو فلسفته في الحب والشخصانية ونظام القِيم، وإنما ارتبطت كذلك بطموحه لبعث التراث المسيحي الأصيل القائم على المحبة والتضحية والإيثار؛ تدعيمًا لتلك الفلسفة ذاتها وسندًا لها.
ويدخل شيلر مرحلة جديدة من حياته ونشاطه الفلسفي القلِق الجيَّاش كالبحر الثائر، مع افتتاح الجامعة الجديدة في مدينة كولونيا ومعهد البحوث الاجتماعية بها. كان كونراد أديناور، الذي قاد السفينة الألمانية بعد تحطُّمها في الحرب العالمية الثانية، هو عمدة هذه المدينة الذي أراد أن يجعل منها عاصمةً ثقافية لمنطقة «الراين» بأَسرِها. ويبدو أن شدة إعجابه بشيلر، ونشاطه الهائل في بث الروح الكاثوليكية وتأصيلها والدعوة إليها في مواجهة التيارات الرأسمالية والاشتراكية، هي التي دفعته للإصرار على استدعائه للحضور إلى المدينة، إلى حد الربط بينه وبين افتتاح جامعتها ومعهد البحوث السابق الذِّكر بها. ولبَّى شيلر الدعوة المُلِحة، وأصبح رئيسًا لأحد الأقسام الثلاثة بذلك المعهد، الذي رُوعِي في اختيار رؤساء أقسامه الثلاثة أن يكون أحدهم كاثوليكيًّا، والآخر ليبراليًّا، والثالث من الديمقراطيين الاشتراكيين.
وانتظر الجميع من شيلر أن يُواصِل نشاطه الكاثوليكي، أو بالأحرى أن يكون بُوقًا للكنيسة، لكن تصميمه على أن يكون هو نفسه، وأن يسير على دربه، سواء في حياته الخاصة أو في فلسفته، جعله يخيِّب الآمال التي عقدها الكثيرون عليه من ناحية، وزاد إصراره على الصدق مع نفسه من ناحية أخرى. إنه يؤكِّد، في إحدى رسائله إلى زوجته مريت، أنه لن يستطيع أبدًا أن يُقدِم على فعل شيء ترفضه مَشاعره الصحيحة، أو يتعارض مع حقيقته وكيانه الحميم، حتى ولو أدَّى ذلك إلى تعاظُم محنته الخارجية أو المادية. ولعل هذا الإصرار على الصدق مع النفس هو مَبعث الإشعاع القوي الذي قاضت به بحوثه ومحاضراته ومشروعاته، في تلك الفترة المتأزِّمة من حياته في عاصمة بلاد الراين؛ ففي هذه الفترة العصيبة جمع بحوثه ومقالات في فلسفة الدين سنة ١٩٢١م في كتاب بعنوان «عن الأبدي في الإنسان». كان لهذه البحوث والمقالات صداها القوي في العالم الكاثوليكي، وكان شيلر نفسه لا يزال على إيمانه بإله التوراة والإنجيل، الذي اعتبره الأساس الأعمق والأسمى للوجود العام ولوجوده الخاص. لكن هل كان هو نفسه يعلَم شيئًا عن تحولاته المفاجئة؟ هل كان يدري أنه سينغمس بعد ذلك في بحوث ودراسات متنوِّعة في فلسفة الاجتماع والعلوم الطبيعية، وأنه سيبدأ بشكلٍ جادٍّ في التخطيط لمشروعَيه عن الأنثروبولوجيا الفلسفية وعن الميتافيزيقا، وتدوين شذرات منهما لم يُقدَّر لها أن ترى النور إلا بعد رحيله، بما يقرب من نصف قرن من البدء في نشر أعماله الكاملة؟ وكيف كان له أن يحدس بما ينتظره أثناء وجوده وعمله في كولونيا، وما لقيه فيها من أزمات شخصية وتحولات فلسفية، زلزلت كيانه وهزَّت صورته أمام الناس؟
كان هذا هو الجرح الذي فتحته هذه الطفلة، وظل يُوجِعه كلما رأى طفلًا أمامه في إحدى زياراته لمعارفه وأصدقائه. لقد كان يعلَم بالطبع أن تلميذته وزوجته السابقة وحبيبة قلبه إلى آخر العمر وهي مريت، لا ذنب لها في عدم الإنجاب. وإذا كانت إرادة الله لم تشأ لهما أن يُرزَقا بطفل، فإنه لا يكتفي بتبرئتها مِن قدرٍ لا يد لها فيه، بل يتحمل معها المسئولية بشجاعة حين يقول لها في رسالة أخرى سابقة (أبريل سنة ١٩٢٣م) إنه قد كُتِب عليه فيما يبدو أن يعيش فردًا ومُنبتًّا معزولًا، بلا ماضٍ ولا جذورٍ عائلية، ولا مستقبل ولا ذرية، «لكنني لا أشعر بالمرارة حين أفكر في هذا الأمر، إنما هو الحنين الذي يفيض به القلب.» والغريب حقًّا أن هذه الحسرة على الحرمان من الولد لم تُفارِقه حتى آخر نفس في صدره، وذلك على الرغم مِن علمه بأن له ابنًا من زوجته الأولى أماليا فون ديفتس كريبس، التي احتفظت بهذا الابن، ونهضت برعايته حتى بلغ السادسة عشرة من عمره، فطلبت من الجهات القضائية أن تنقل مسئولية كفالته إلى الأب، بعد أن عجزت تمامَ العجز عن الاستمرار في تحمُّل أعباء مرضه. والواضح أن هذا الابن — فولفجانج هينريسن فولف — كان معوَّقًا وغير سوي، ويبدو أن أمه عجزت عن الإنفاق على تعليمه وعلاجه في أكثر من مصحة وإصلاحية، كما أن الابن نفسه قد حاول بكلِّ وسيلةٍ أن يتوصَّل إلى أبيه أستاذ الفلسفة المرموق لكي يُنفِق عليه، كما لم تقصِّر زوجتا أبيه لم يكن أبوه يُحسُّ نحوه بأي عاطفة أبوية — مريت ثم ماريا — في مساعدة الابن المسكين الذي، بل بدا له أنه ورث عنه وعن أمه أسوأ ما فيهما من عيوب، وأن القدر قد حرمه من أفضل خصالهما. أخذ من أمه اعتدادها بنفسها، وحبها للظهور، وطبيعتها الهستيرية؛ ولم يأخذ قوة إرادتها، وصلابتها الخلقية، وشدة حرصها وتدبيرها. وورث عن أبيه ضعف إرادته، وشدة اندفاعه، وقوة خياله؛ ولم يرث شيئًا من عقله النافذ، ولا من قلبه الدافئ. والمهم في قصة هذا الابن الضعيف العقل والمضطرِب الشخصية، أنه ذكِّر أباه — الذي لم يقصِّر في النهاية في أداء واجبه نحوه — ذكَّره بجذوره العائلية المُرة، وتمزُّقه بين أمه وأبيه، وبشعوره منذ طفولته وصباه بأنه وحيد ومُنبتٌّ ومحروم من الحب والحنان والأمان؛ لذلك لم يكن عجيبًا أن يفصل بينهما حاجزٌ ضبابي من القسوة والبرود، وأن يُلازِم الأبَ ذلك الشعورُ اليائس المُحبِط بالحرمان والعُقم، رغم وجود ابنه فولف كالشبح الشريد الهائم على حافة حياته. ومِن مفارقات الدهر أن الزمن هو الذي تكفَّل، بعد فوات الأوان، بحل مشكلة الابن والأب معًا. مات الابن، أو على الأصح قُتل بين سنتَي ١٩٣٨ و١٩٤٠م في معتقل أورانينبورج، وهو أحد المعتقلات النازية التي كانت تتخلص من مشكلات المرضى النفسيين وضعاف العقول بالتخلص من حياتهم. أما الأب الذي مات في شهر مايو سنة ١٩٢٨م، فقد رُزق من زوجته الأخيرة، وراعية تراثه ماريا شيلر، بابنه ماكس جورج في شهر ديسمبر من العام نفسه؛ أي بعد رحيل أبيه بسبعة شهور. وهكذا وضع القدر خاتمه الأسود على حياةٍ فاضت كالنهر الصاخب بالحيوية والجدية والإبداع المتجدِّد، وامتلأت كذلك بالقلق والتمزق والحنين الذي لم تنطفئ ناره، ولم يرتوِ ظمؤه أبدًا للمَرفأ الآمن الحنون. وأخيرًا ربما يفسِّر هذا الشوق الدائم إلى المرفأ الحنون سرَّ النغمة الحزينة المكتئبة، التي تكمن في كتاباته المتلاحِقة المحمومة، التي لم يكن يجد الوقت الكافي لاستقبال مطرها الفلسفي المنهمِر عليه بغزارة. وربما يفسِّر لنا كذلك الدوافعَ الخافية وراء نهمه الفظيع للقراءة؛ فهو لا يكتفي بمتابعة الفلاسفة والعلماء الطبيعيين المعاصرين له، وإنما يتجول على الدوام في متاهاتِ أدباءَ شديدي التنوع؛ من دستوفسكي وتولوستوي وجوركي وطاغور وأونا مونو، إلى أناطول فرانس ويلزاك وتوماس مارتن وتيودور وغيرهم. ويبدو أنه لم يكن أقلَّ حرصًا على متابعة شعراء العصر، مثل رلكه وجئورجه وفاليري كما ذكرنا من قبل، بَيدَ أن صلته بالشاعر والقاصِّ الأمريكي الكبير «إدجار ألن بو»، كانت أشد عمقًا وخصوصية من صلته بأي شاعر أو كاتب سواه، كما أن حبه لقصيدته «أنا بيل لي»، التي بكى فيها زوجته، قد فاق حبه لأي شعر آخر، وما أكثرَ ما كان يُعاود قراءتها وهو يحاول عبثًا أن يمنع عينَيه من البكاء وهما يمرَّان على القطعتَين الأخيرتين منها:
•••
وفكَّر جديًّا في مغادرة بلاده، كما سبق القول، للعمل في اليابان أو في مصر؛ ليتفرغ للكتابة بعيدًا عن الجو الموبوء الذي أطبق على أنفاسه، فلم يتحقق من ذلك شيء. وعبثًا حاول الحصول على إجازة تفرُّغ من التدريس، فلم يوافق أديناور الذي كان غاضبًا عليه. ومع ذلك وجد نفسه يندفع إلى العمل بصورة مُذهِلة، كأنما يحرِّكه هاجس غامض بقرب انتهاء أجله. وبينما هو مستغرِق في إعداد مقالاته ودراساته — لا سيَّما عن الميتافيزيقا والأنثروبولوجيا الفلسفية — إذ فاجأته الدعوة الموجَّهة إليه للعمل في جامعة فرانكفورت؛ أي في المدينة التي مات فيها بالسكتة القلبية بعد تلبية الدعوة بشهور قليلة؛ أي في اليوم التاسع عشر من شهر مايو سنة ١٩٢٨م، وفي الوقت الذي كانت فيه الحياة الفلسفية تنتظر إنتاجه، كما كان طفله الذي حلم به يتخلق في رحم زوجته الثالثة.
يبدأ شيلر بإصدار حكم قاسٍ — ولكنه غير ظالم! — على عصره، والموقف العقلي والروحي السائد فيه، فيؤكِّد أننا لا نملك فكرة موحَّدة عن الإنسان، ولا تعريفًا محدَّدًا نتَّفق عليه بالإجماع؛ لذلك يحاول الإجابة على الأسئلة المُثارة عن ماهية الإنسان، ووضعه في الكون، والعلاقة التي تربطه بالنبات والحيوان والحياة في مجموعها. هذه المحاولة تؤدي به إلى البحث عن وضع الإنسان داخل البناء الكلي للعالم الحيوي والنفسي (البيوسيكولوجي)، وهو العالم الذي يرى أنه مكوَّن من مستويات متدرِّجة للقوى النفسية والدوافع الشعورية. وأدنى هذه المستويات هو مستوى الدافع الشعوري الخالي من الوعي والإحساس والتصور، ونجده متحقِّقًا في الحياة النباتية. ومع أنه يجرد النبات من أي وعي أو إحساس، فهو يرى أنه يمتلك حالةً باطنية تساعد على تفسير استجاباته أو ردود أفعاله. والمهم أن الدافع العام إلى النمو والتكاثر هو الذي يميِّز هذا المستوى الأدنى للحياة النفسية. والطريف أن هذه التأملات عن الحياة النباتية قد أثارتها أو على الأقل عمَّقتها، مشاهدتُه مع صديقه عالم النفس الجشطلطي فيرتهيمر لفيلمٍ تسجيلي رائع في برلين عن النبات وغرائب سلوكه ونموه. كان الفيلم — كما يقول في رسالته إلى مريت، في الثالث من شهر مارس سنة ١٩٢٦م — كان يختصر في ثانية واحدة ما يجري في حياة النبات في أربع وعشرين ساعة، فنحن نرى النبات وهو يتنفس وينمو ويموت، ونُحسُّ أثناء ذلك بأن الانطباع الطبيعي عن النبات بأنه بلا نفس أو روح قد تلاشى تمامًا من أذهاننا. لقد كنا نُشاهِد الدراما الكاملة ذاتها بكل ما تنطوي عليه من متاعب ومجهودات هائلة، وكان من أجمل ما شاهدناه تلك الفروع من النبات العليق المصطفَّة على أربعة أعواد خشبية مُتجاورة، والباحثة بحثًا مستميتًا عن شيء تستند إليه. كنا نُوشِك أن نرى حالة الرضا أو الإشباع التي تنتابها عندما تعثر على أحد الأعواد التي تحمل أحد الفروع، ثم نُعايِن حالة الذُّعر والفزع التي تُصيبها عندما تصل إلى العود الرابع والأخير، وتُحاول عندئذٍ أن تتخطاه فتجد نفسها تهوي يائسة في الفراغ، ولا تلبث بعد المحاولات اليائسة أن تستدير راجعةً إلى العود الرابع. كم هزَّتني هذه المشاهد، وجعلتني أحبس دموعي! وكم شعرت بأن «الحياة» في كل مظاهرها حلوةٌ ونابضة ومُوجِعة، وأن الحياة كلها كيانٌ واحد لا يتجزأ. هكذا يتبيَّن لنا أن ما يقصده شيلر بالنبات، وما يوصف بأنه نباتي، إنما هو في رأيه دافعٌ شعوري يتجه دومًا إلى الخارج، أو يتحرك نحو الانفتاح على العالم بطريقةٍ غير واعية؛ لذلك يفتقر النبات إلى ما يسمِّيه ﺑ «التمركز» الذي يتميز به الحيوان. ولا يختلف الإنسان في هذا عن بقية الكائنات الحية؛ فهذا المستوى الأدنى أو الباطني للحياة، أي الدافع الشعوري، يدخل أيضًا في تكوينه. وهو يعبِّر كذلك عن «وحدة» جميع الانفعالات والدوافع التي تحرِّك الإنسان؛ أي إنه — وهذه هي الركيزة التي تقوم عليها فلسفة شيلر — هو الإساس الذي تعتمد عليه تلك التجربة الأولية للمقاومة، التي تمثِّل الجذر الأصلي لإحساسه ﺑ «الواقع» و«الواقعية»؛ ذلك أن واقع «الإنسان أو واقعيته» لا تتمثل في أنه «كائنٌ عاقل» بقدر ما تتمثل قبل كل شيء في أنه كائن دافعي؛ ومِن ثَم تكون تجربة المقاومة هي التجربة الأولية والأساسية في حياته، وهي التي تسبق أي وعي أو أي معرفة عقلية أو تصورية لديه. ويأتي المستوى الثاني للحياة النفسية الذي يتمثَّل في الغريزة والأفعال الغريزية، وهنا يلجأ شيلر إلى أحدث البحوث النفسية التي حدَّدت خصائص الغريزة في عصره، كما يستفيد من لقاءاته ومحاوراته المتصلة مع علماء النفس. وقد استخلص من قراءاته وعلاقاته أن السلوك يُوصَف بأنه غريزي إذا تحقَّق فيه شرطان: الأول أن تكون له ضرورته وأهميته القصوى بالنسبة للكائن الحي ككُلٍّ، والثاني أن يتمَّ على شكل إيقاعات مطردة وثابتة.
كان من الطبيعي أن يحتشد شيلر لإتمام بنائه الفلسفي بالميتافيزيقا، أو الفلسفة الأولى بتعبير أرسطو، وكان من الطبيعي أيضًا ألا تنفصل هذه الميتافيزيقا عن الحياة العينية، والصراع المستمر الدائر فيها بين الدافع والعقل. وها هو ذا بعد أن انتهى — ولو بصورةٍ مؤقَّتة! — من أنثروبولوجياه الفلسفية، وبعد أن شهد طبعتها في الكتاب الصغير «وضع الإنسان» الذي في الكون، كتب مقدمته في نهاية شهر أبريل سنة ١٩٢٨م؛ أي قبل موته بأقل من شهر واحد. كان من طبائع الأمور أن يبدأ في تدوين خواطره وتأملاته الميتافيزيقية، التي كانت بعض بذورها وخيوطها كامنة في نسيج المرحلة المبكِّرة من فلسفته في الأخلاق المادية والقِيم. لم يُسعِفه الأجل لإكمال ميتافيزيقاه، وعثر راعِيَا تراثه، وناشِرَا أعماله الكاملة — زوجته الثالثة ماريا شيلر، والأستاذ مانفرد فرنجز — على شذرات ناقصة، وصفحات وتخطيطات مُتناثِرة، رتَّبها «فرنجز»، ونشر مخطوطاتها الباقية سنة ١٩٧٩م في المجلد الحادي عشر والأخير من الأعمال الكاملة.
وسوف نرى من العرض الموجَز لهذه الميتافيزيقا أنها مرتبطة من ناحيةٍ أشد الارتباط بصيرورة الشخص الإنساني الفرد من ناحية (وقد عرفنا أنه هو الكائن المُحِب المتعاطِف، وحده مركز أفعال الفكر والقيمة، وأنه كونٌ مصغَّر ومَعبر وطريق متَّجِه نحو الأساس الأعلى للوجود المُطلَق من ناحية، ومن ناحية أخرى نحو التاريخ البشري العام، الذي يمثِّل مسرح الصراع المتصل بين قطبَي الوجود، وهما الدافع والعقل، في رحلة درامية دائمة، وكفاح فردي وجماعي مستمر لانتصار العقل والخير، وسائر القِيم المادية القبلية التي تقوم على أساس عاطفي وانفعالي).
لم يكن إمكان بناء الميتافيزيقا، أو بالأحرى إعادة تأسيسها من جديد، في نظر شيلر مجردَ مسألة أكاديمية خالصة، وإنما كان ضرورة مُلِحة تحتِّمها مآسي الحرب العالمية الأولى التي عاصرها، وعاين بنفسه مدى الفوضى الاجتماعية، وانهيار القِيم الذي جرَّته ويلاتها على بلاده، كما كان بيِّنًا من ناحيةٍ أخرى ضرورةٌ يحتِّمها تطور العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية، التي راح يُتابعها بكل ما يستطيع من صبر وأمانة. وليس من المستغرَب أن نجد الشخص الإنساني بوصفه نسقًا منظَّمًا، ووحدةً حية من الأفعال العقلية والقِيمية، يحتلُّ مكان المركز من الميتافيزيقا، ويصبح هو المدخل الأساسي إلى الوجود المُطلَق. لقد كان الإنسان عنده، إذا جاز هذا التعبير، نقطةَ عبور إلى المُطلَق، ومجرد كائن «بيني» على الطريق إليه، فصار الآن متجذِّرًا بصورةٍ مباشرة في هذا الوجود الأبدي، أو هذا الروح المُطلَق. والإنسان — ككائنٍ حي تحرِّكه الدوافع — متجذِّر فيه بصورةٍ أصيلة، ومُشارِك في صيرورة العملية الكونية بأَسرِها نحو الله. ونحن نُدرِك وحدة التجذر لجميع البشر، بل للكائنات الحية بأكملها في هذا الاندفاع أو الدافع الإلهي، من خلال «الحركات الكبرى» للتعاطف والحب، وفي كل أشكال الشعور بالتوحد الكوني. ذلك هو الطريق الذي يسمِّيه شيلر بالطريق «الديونيزي» إلى الله. ويترتَّب عليه أن الإنسان لا يمكن أن يكون «مجردَ مُحاكٍ بعدي» لبناءٍ كوني مُسبَق، شيَّدته الفلسفة القديمة أو الفلسفة الوسيطة (كما نجد في نظرية المُثُل لأفلاطون، أو في نظرية العناية الإلهية)، وإنما هو مُشارِك في البناء والتأسيس والتحقيق لصيرورة مثالية متصلة وكامنة في العملية الكونية، وفيه هو نفسه.
وتأتي إلى العلوم الحديثة، وتقسيم شيلر السابق لها إلى ثلاثة أشكال أساسية، هي: المعرفة التي يوجِّهها النزوع إلى الهيمنة والسيطرة (وتمثِّلها العلوم الوضعية التي تقوم عليها الحضارة الغربية)، والمعرفة الثقافية (المتعلِّقة بالتثقيف والتهذيب، سواء في الفنون والآداب أو في العلوم الإنسانية)، والمعرفة الهادفة إلى النجاة والخلاص (وتقوم على أساس الإيمان في كل الأديان). ونُلاحِظ في هذه المرحلة المتأخِّرة من تفكير شيلر أنه يعدِّل في هذا التقسيم، فيجعل المعرفة الموجِّهة للخلاص معرفةً ميتافيزيقية، ويدمج الفعل الديني — سواء في العبادات أو في الممارسة «العملية» — في ميتافيزيقا المُطلَق. وهذه المعرفة تتطلب في رأيه أو تتجاوب مع نوع من التفاني الديونيزي، الذي يتمثل في الشعور بالتوحد مع الدافع؛ أي مع القطب الأول لعملية الصيرورة الكونية والبشرية، المتَّجِهة نحو المُطلَق، والمشاركة فيه؛ وبهذا يصبح المبدأ أو الأساس الكوني دينيًّا بقدر ما هو ميتافيزيقي.
بهذه النظرة الجديدة يُراجِع الفيلسوف تقسيمه للعلوم، فيُضيف إليه معرفةً جديدة يسمِّيها المعرفة بالماهيات. وهي ليست معرفةً جديدة على كل حال؛ إذ تشمل عند أرسطو الميتافيزيقا كلها، أو ما سمَّاه بالفلسفة الأولى، بينما تشغل عند شيلر جزءًا واحدًا من الميتافيزيقا، كما تتصل اتصالًا وثيقًا بأُسُس العلم، وما يتعلق بحدوده وماهيته وغايته؛ أي باختصار بما بعد العلم.
هكذا يبدأ بناء الميتافيزيقا — إذا جاز التعبير — من أسفل؛ أي من التجارب الواقعية المباشرة، التي تحصِّلها الرؤية الطبيعية الشاملة للعالم، بالإضافة إلى المعارف التي توفِّرها العلوم الدقيقة بمجالاتها المختلفة، ثم يتناول التأمل الفلسفي فروضها وحدودها وغاياتها … إلخ، فينشأ من ذلك العلومُ البعدية التي تؤلِّف في مجموعها المستوى الأول للميتافيزيقا (ما بعد الفيزياء، ما بعد البيولوجيا، ما بعد الرياضيات … إلخ). أما المستوى الميتافيزيقي الثاني؛ أي ميتافيزيقا المُطلَق، فينهض على أساس الأنثروبولوجيا الفلسفية وجميع العلوم البعدية ونُظُم القِيم الأخلاقية، وذلك من خلال عملية منهجية يسمِّيها شيلر بالاستخلاص أو الاستنتاج الترنسندنتالي (المُتعالي)، وتقود كل إنسان إلى حقيقته الميتافيزيقية الخاصة به. مِن ثَم يكون من الضروري أن يقوم مبحث الأنثروبولوجيا الفلسفية على مبحث الميتافيزيقا، وأن يهتمَّ الفيلسوف بمستويات هذا البناء اهتمامًا مُتساويًا، بحيث لا يقتصر على ذروة هذا البناء؛ أي على ميتافيزيقا المُطلَق وحدها. والسبب في هذا بسيط، فهو لا يقِف جهودَه على المنهجيات والتحليلات النظرية والمعرفية كما فعل هسرل، الذي اتهمه شيلر بأنه «يشحذ سكاكينه باستمرار دون أن يأكل شيئًا!» إن المشكلات والمعارف والقِيم المادية هي التي تعنيه بالدرجة الأولى، وهي التي يحرص على متابعة ظهورها في السياق التاريخي وارتباطها به، وبغير هذا لا يمكن أن نفهم طبيعة المستوى الأول من بنائه الفلسفي ولا ضرورته، ونقصد به مستوى معارف العصر وعلومه البعدية، بل جميع ألوان المعارف البشرية التي نُهمِل في العادة بحث «بعدياتها»، وإدراك أهمية أسئلتها ومشكلاتها. ولا يقتصر هذا الإهمال على العلوم الوضعية، كذلك على سائر العلوم الإنسانية التي لا تقِف كثيرًا عند هذا الجانب البعدي المتصل اتصالًا مباشرًا بالمستوى الأعلى للميتافيزيقا؛ أي بالمُطلَق وبالأساس الأول والأخير للوجود؛ ومِن ثَم تقصِّر في حق المعرفة الكلية الشاملة، أو الحكمة العالمية كما سمَّاها القدماء.
يؤكِّد كل ما سبق أن الأنثروبولوجيا الفلسفية أو الميتافيزيقية، هي النقطة التي تلتقي فيها العلوم البعدية؛ ذلك أن الإنسان هو الموضوع الأول والأثير للتجربة الميتافيزيقية، وتحديد ماهيته وأصله هي القضية الأولى أو هي السؤال الأول والأساسي الذي تتلاقى عنده كل القضايا والأسئلة الميتافيزيقية الأخرى. فالإنسان «حالة» لا تنفكُّ العلوم المختلفة تتناولها من زواياها المختلفة، سواء كانت هذه العلوم هي الميكانيكا والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أو كانت هي علوم النفس والتاريخ والأثنولوجيا واللاهوت أو علم أصول الدين، وذلك بقدر ما في الإنسان من قبسٍ إلهي أو من عنصر أبدي. فالإنسان — كما سبق القول — «كونٌ مصغَّر»، أو هو بمعنًى من المعاني كلُّ شيء كما يعبِّر عنه المفهوم اللاتيني القديم. بهذا نستطيع أن نقول إن الدراسة الميتافيزيقية للإنسان لا تقتصر على الإنسان وحده، بل تمتدُّ إلى الكون بكل دوائر وجوده ومستوياته، سواء كان هو الوجود «الفعلي» الذي نُدرِكه في فعل المقاومة الإرادية المباشرة للواقع، أو الوجود «الكيفي» الذي نعيه من خلال الانفعال والمعاناة، أو من خلال ما يسمِّيه شيلر — كما رأينا — بفعل الرد الماهوي المتَّسِم بطابع الزهد في الواقع؛ أي الذي نضعه بين قوسَين ونقول له «لا»؛ لنجرِّده من واقعيته، ونستخلص ماهيته؛ أو في الوجود القِيمي؛ أي المحمَّل بالقيمة، الذي يتَّضح لنا كما سبق القول عن طريق الشعور، ومن خلال الحب والتعاطف؛ إذ إننا، كما قال القديس أوغسطين، لا نعرف إلا ما نُحب.
وأخيرًا فإن المشاركة المزدوجة للإنسان في أساس الوجود المتناهي ومبدئه نفسه، وفي الدافع الإلهي والروح أو العقل الإلهي، إلى حد التماهي معه في هوية جدلية دائمة، ذلك هو الذي يسمح بقيام الميتافيزيقا، ويجعلها ممكنة. لهذا لم يكن عجيبًا أن يُوصَف الإنسان بأنه كونٌ مصغَّر، وأن يشتطَّ الفيلسوف في نزعته الوحيدية، فيزعم أنه — أي الإنسان — ألوهيةٌ مصغَّرة. وقد سبق أن ناقشنا هذا التعبير، وبيَّنا بطلانه واستحالته من وجهة النظر الدينية نفسها؛ لأن أقصى ما يمكن قوله إن في الإنسان شعاعًا من القبس الإلهي. أما القول بالهوية أو التوحد بالحلول — سواء من وجهة نظر صوفية مُوغِلة في التطرف كما فعل الحلَّاج أو غيره، أو من وجهة نظر القائلين بوحدة الوجود كما نجد عند اسبينوزا على سبيل المثال لا الحصر — فذلك زيغ وضلال، لا يستقيم مع الرؤية الجدلية للمُطلَق التي تذهب على حد تعبير الفيلسوف نفسه إلى أن الإنسان على الطريق إلى الله، وأن سعيه متَّجِه إليه وحده.
أنا أحيا ولا أدري إلى متى يمتدُّ بي العمر، وسوف أموت وإن كنت لا أعلم متى، وأنا في سفرٍ دائم ولا أعرف إلى أين، مع ذلك يُدهشني دومًا أني مُبتهِج وسعيد.
يقول مؤرِّخ سيرة «شيلر» إن هذه الأبيات فيما يبدو قد صحِبته طوال العمر، وإذا كان قد كتب في رسالته المبكِّرة للدكتوراه هذه العبارة «لم يعُد أحد يعرف أو يشعر بأنه سيموت لا محالة موته الخاص»، فالعجيب أن هذه العبارة إن كانت تصدق على غيره من الناس، فإنها لا تصدق عليه أبدًا؛ ذلك أنه — فيما تقول زوجته الأخيرة وراعية تراثه الأمينة ماريا شيلر، في تقرير شامل كتبته في سنة ١٩٤٧م — قد خالجه الحدس بموته الخاص خلال العام الأخير من حياته. يشهد على هذا اندفاعه المحموم إلى الكتابة، ولهاثه وراء تدوين أفكاره الكبرى عن ميتافيزيقاه التي لم يدوِّن منها سوى شذرات مشتَّتة، وكأني به قد أحس — وقلبه دليله — أنه يُحاول أن يبني عمارةً ضخمة من بضع أكوام متناثِرة من الرمال والأحجار والهياكل المبتورة.
ظل الفيلسوف يكتب ويكتب حتى فاجأته نوبةٌ قلبية حادَّة، بعد منتصف الليلة الفاصلة بين الثاني عشر والثالث عشر من شهر مايو سنة ١٩٢٨م، وفي مدينة فرانكفورت على نهر الراين، التي كان قد لبَّى دعوتها للتدريس بجامعتها قبل موته المُباغت بشهور قليلة. كان طبيبه المُعالِج قد أسرَّ في أن زوجته تنتظر طفلًا منه، لكنه لم يعِش حتى يرى الولد الذي طالما اشتاق لرؤيته؛ إذ شاء القدر أن يفتح ابنه — ماكس جورج شيلر — عينَيه على نور هذا العالم في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر، من نفس العام الذي مات فيه أبوه ودُفن جثمانه في مدينة كولونيا على نهر الراين.
وألقى صديقه الباحث الكبير وعالم الرومانيات «إرنست روبرت كورسيوس» خطبة الوداع على قبره، بالنيابة عن نفسه وعن أصدقاء الفقيد: «إن الأصدقاء لَمحزونون على الإنسان الذي غمرت طيبته السخية حياتهم بثروةٍ لا تُقدَّر. نحن، أصدقاءه، نحفظ صورته في قلوبنا؛ فقد كان مِن حسن حظنا أن تُدرِك نظرته المتعاطفة كل ما يكمن في شخصياتنا من إمكانيات وقِيم. لم يقدِّم تحليلًا لنفوس أصدقائه، وإنما أعطاهم تفسيرًا بنَّاءً لحقيقة وجودهم. وكل مَن اقترب منه ودخل معه في حوار، قد عرف نفسه بصورة جديدة، وشعر بأن هناك مَن يعرفه بطريقةٍ مُدهِشة وغير مسبوقة، وأنه قد استنار بدفءِ مَوقده العقلي والروحي. بذلك اتَّسع أفق حقيقته واتَّضح، وارتفع وسما بفضل إشعاع عبقريته التي تجلَّت بقوة في إحساسه وفي تفكيره على السواء.»