جلجاميش وجذور الطغيان
- (أ)
هل كان جلجاميش مستبِدًّا طاغية؟ وبأي مفهوم من مفاهيم الطغيان أو الاستبداد أو التسلط أو غيرها من المفاهيم التي تدور في دائرة هذه العائلة الجهنمية المشئومة؟ وإذا كانت الملحمة منذ العمود الأول من اللوح الأول تؤكِّد طغيانه وعسفه وجبروته، كما تُشِيد بجماله وحكمته وبطولته، فما هي طبيعة العلاقة بين الطغيان والبطولة في الإطار الأسطوري والديني الذي وُضعت فيه الملحمة؟
- (ب)
هل يمكن القول بأن جلجاميش قد تحوَّل عن طغيانه بشعبه وحرصه الأناني على الشهرة والمجد والخلود، أو تطهَّر منهما بعد إخفاقه في التوصل إلى الخلود الإلهي، واقتناعه مع نهاية الملحمة بأن الخلود الوحيد المتاح للبشر الفانين هو العمل والبناء الحضاري والاجتماعي؟ وإلى أي حد يمكن تأييد هذا التفسير الذي أخذ به بعض الدارسين ولا فضل لي فيه؟ وهل نستطيع القول بأن الملحمة بمثابة «أمثولة» عن الطغيان وطرق التحرر منه في آنٍ واحد؟
- (جـ)
هل يمكن القول — على لسان عالم النفس التحليلي «يونج» — بأن جلجاميش يُعَد «نموذجًا أوليًّا» أو نمطًا أصليًّا للطاغية الشرقي، وأنه قد تسرَّب في أعماق اللاوعي الجمعي وطفق يظهر بعد ذلك في صور وتعابير وممارسات مختلفة باختلاف النُّظم والعصور والسياقات؟ وما الذي يترتب على هذا الفرض أو الاحتمال من مَهامِّ البحث النفسي والاجتماعي والتاريخي للشخصية الطاغية في تاريخنا القديم والوسيط والحديث، وفي نصوصنا التراثية على اختلافها؟
- (د)
إذا صح القول بأن تراثنا — على الأقل في الجانب السياسي و«السلطوي» منه أو من معظمه منذ عصور الانحطاط — هو تراث القهر والقمع، فكيف تتجاوز هذا التراث بتأسيس تراث التحرر والتقدم والعقل والاستنارة؟ ومن أين تبدأ البداية بعد محنة شاملة تفترض التصميم على المراجعة الجذرية والبداية من البدايات؟ وما دور العلم الإنساني في تحقيق هذه البداية التي لم تعُد تحتمل التهاون أو التأجيل؟
- (هـ)
وإذا صح — أخيرًا — أن كل فعل وراءه فكر، وأن الفعل العشوائي والهمجي اللاعقلي وراءه فكرٌ عشوائي وهمجي ولا عقلي مثله، فما هي عناصر الأزمة أو الأزمات الفكرية التي كانت وراء العدوان، وكشفت عنها المحنة في أبشع صورها؟ وكيف السبيل إلى تكوين العقل العربي — إن صح هذا التعميم — وتربيته تربية علمية ومنهجية وعقلانية، تعصمه من السقوط في هاوية اللاعقلي واللاإنساني وجنونهما المدمِّر؟
يحسن بنا — قبل التصدي لهذه الأسئلة — تقديم تعريف شديد الإيجاز بالملحمة ومكانتها في التراث الإنساني، وتأثيراتها المؤكَّدة أو المحتملة على الوعي القديم والحديث. ولا مفرَّ مع هذا الإيجاز الشديد من إسقاط حقائق وتفصيلات هامة يمكن أن يرجع إليها القارئ في مصادر و«أدبيات» عديدة تشكِّل مكتبة كاملة عن جلجاميش.
وتعزف الملحمة من السطر التاسع حتى السطر التاسع عشر لحنَ الاستهلال الذي سيكون كذلك هو لحن الخاتمة، ألا وهو التغني بمنجزاته الحضارية والعمرانية التي خلَّدت اسمه في التاريخ، وفي مقدمتها سور أوروك المنيعة، ومعبد إنانا المقدَّس (وهي نفسها عشتار آلهة الحب والحرب عند البابليين): أمر ببناء سور أوروك المنيعة حول معبد إنانا المقدَّس وحرمها السَّني. انظر إلى جدار سوره الذي تتألق أفاريزه كأنما صُنعت من نحاس. تأمَّل قاعدته، فليس لها في أعمال البشر شبيه، وتلمَّس العتبة الحجرية، الموجودة في مكانها من أقدم الأزمان. اقترِب من إنانا، مقام عشتار، الذي لا يُماثِله عمل ملك لاحق ولا يُدانيه عمل إنسان. واعتلِ كذلك سور أوروك. تمشَّ عليه، اختبِر أُسُسه، تفحَّص لبناته، أو لمَ تُصنَع من آجر مفخور، أو لم يضع الحكماء السبعة أُسُسه؟ (ل١، ع١، س٩–١٩).
ويستطرد النص في الكلام عن جمال جلجاميش وقوته المُخيفة. لقد أكمل الآلهة خلقه فأضفى عليه شمش إله الشمس والجمال، وحباه أدد إله الرعد والبطولة، حتى لقد بلغ طول قامته إحدى عشر ذراعًا، وعرض صدره تسعة أشبار. وهنا نصل إلى السمة الأساسية التي يبدو أنها زيَّنت له الطموح إلى الخلود الإلهي، والقدرة على تغيير المصير البشري المحتوم، كما برَّرت له قهر شعبه ليلَ نهار: «فثلثاه إلهي والثلث الباقي بشري، وهيئة جسمه شامخة، وخطاه مَهيبة كالثور الوحشي. إنه يُوقِظ رعيته على دقات الطبول. لا يترك الابن لأبيه، ولا العذراء لحبيبها، ولا ابنة البطل ولا زوجة المُحارِب؛ ولذلك يثور أهل أوروك ساخطين، ويجأرون للآلهة بالشكوى والضراعة أن تخلق نظيرًا له في البأس والقوة، فينشغلا عنهم بالصراع المستديم، وتستريح المدينة وتهنأ بالطمأنينة والسلام. والغريب أن هذه الشكوى تعبِّر في نفس واحد عن الخوف والإعجاب، ويمتزج فيها الحب والرعب، وكأن الضحية المغلوبة على أمرها لا تملك إلا أن تمجِّد الجلَّاد الغشوم؛ فهو راعيها، وهو مع ذلك قاهرها الظلوم» (ل١، ع٢، س٢٥). وتستجيب الآلهة لتضرعات شعب أوروك، فتأمر الربة آرورو، بأن تخلق ندًّا لجلجاميش يُنافِسه في الصراع لتستريح أوروك. وتخلق وحش البرية إنكيدو الذي يرعى الكلأ مع الغزلان، ويتزاحم على موارد الماء مع الحيوان، بشعرٍ كثيف يكسو جسده كله، وشعر رأسه كشعر امرأة، وهو كذلك لا يعرف البلاد ولا يعرف الناس. وتصادف أن رآه صياد وهو يرِد الماء مع الحيوان، فتجمَّد وجهه من الخوف، وشلَّ لسانه، وذهب إلى أبيه، وقصَّ عليه قصة الرجل الذي هبط من الجبال وقوته الجبارة تُشبِه قبضة آنو كبير الآلهة، وكيف حالَ بينه وبين صيده، فردم الحُفر التي حُفرت، وقطع شباكي التي نُصبت، «ونصحه أبوه أن يمضي إلى أوروك ليُنبئ جلجاميش «الذي لم يفُقه أحد في قوته» بنبأ ذلك الرجل القوي الجبار، وليأمر له الملك بإحدى بغايا المعبد ليصحبها معه، فتغوي وحش البرية بفتنتها، وتتمكن منه بقوة المرآة التي تفوق قوة الرجل.»
وصل إنكيدو مع راعيته كاهنة الحب إلى أوروك، بعد أن سبقته إليها هواجس الإحساس بقدومه في حلمَين رواهما جلجاميش على أمه نينسون الحكيمة العارفة بكل شيء، فطمأنته أن النجم والفأس المطروحة على طرقات أوروك — اللذين رآهما في منامه، وانحنى عليهما كما ينحني على امرأة، وتزاحَم حولهما أهالي أوروك — هما الصديق الذي سيفرح به قلبه المضطرِب الذي لم يذق طعم الصداقة، والرفيق الذي سيُنقِذه في وقت الشدة. وأخذ إنسان البرية يتجول في سوق المدينة، فتجمَّع الناس حوله وراحوا يُطيلون النظر إليه. رأوا فيه ند جلجاميش الذي تمنَّوه، وتوسَّموا فيه القوة والشجاعة لمُنازلة الثور الناطح والبطل الجميل الحكيم، وهلَّلوا مستبشِرين بظهور البطل الذي سيشغله عنهم ويُريحهم من بطشه. وتلاقى البطلان عندما كان جلجاميش يهمُّ بدخول بيت آلهة الحب أشخارا (عشتار) للقيام بدور الزوج الإلهي في الزواج المقدَّس، الذي كان يحتفل به إيذانًا بحلول الخصب والرخاء وإنبات الزرع. واعترض إنكيدو البطل ليمنعه من دخول المعبد، وغضب جلجاميش وهجم عليه، واشتبك الاثنان أمام الناس. سد إنكيدو الباب بقدمه، ومنع جلجاميش من الدخول. هناك أمسك كلٌّ منهما بالآخر وتصارعا كثَورَين. حطَّما عمود الباب وارتجَّ الجدار، وعندما ثنى جلجاميش ركبته، وقدمُه ثابتة في الأرض، انفثأت ثورة غضبه، وأدار صدره (ل٢، س٢١٥–٢٢٩)، وانتهى الصراع بغلبة جلجاميش واقتناعه في الوقت نفسه بقوة خصمه، وأراد أن ينصرف فكلَّمه إنكيدو، وأشاد بشدة بأسه وجدارته بالمُلك، وقبَّلا بعضهما، وعقدا أواصر صداقة يندر أن نجد لها مثيلًا في الأدب العالمي.
وذات يوم كشف جلجاميش لصديقه إنكيدو عن رغبته في السفر إلى غابة الأرز؛ ليقطعا الشجر، ويقتلا المارد خمبابا الذي يحرسها من قِبل إله العواصف الغضوب إنليل؛ وبذلك يستطيعان «أن يمحوَا الشر من الأرض»، ويجلبا الخشب الذي كانت بلاده في حاجة إليه لإنجاز أعمال البناء والعمران. ويحذِّره إنكيدو — العليم بمسالك الغابة وأخطارها — من مغبَّة المغامرة بتلك الرحلة؛ حبًّا فيه، وصونًا له من هول النزال مع خمبابا الذي يزأر وزئيره الطوفان، ونفسه الموت الزؤام، وفمه ينفث النار (ل٢، س١١٣-١١٤). لكن جلجاميش أصر على المغامرة حتى ولو ذهب وحده، وأكَّد لصديقه ولأمه التي حذَّرته كذلك من عاقبة المخاطرة بنفسه أنه يريد أن يرفع اسمه، ولو سقط في النزال فسيقول عنه الناس: «لقد تجرَّأ جلجاميش على منازلة خمبابا الرهيب» (ل٢، س١٤٩). وتمَّت الاستعدادات الواجبة للرحلة، وصُنعت السيوف والدروع والفئوس، وذهب جلجاميش إلى مجلس شيوخ المدينة ليستأذنهم في السفر، ويُخبِرهم بعزمه على لقاء خمبابا الرهيب «الذي تردِّد الأفواه اسمه في البلاد»؛ لكي يصرعه، «ويسجِّل لنفسه اسمًا خالدًا، ويُثبِت أن ابن أوروك قوي وشجاع» (ل٢، س١٨٠–١٨٧). ويرفض الشيوخ أن يُوافِقوه على رأيه، ويحذِّرونه من الأخطار كما حذَّره صديقه وأمه، حتى إذا فشلوا أمام إصراره اضطروا لمباركة سفره والدعاء له بسلامة العودة، وأوصوا إنكيدو أن يسير في المقدمة ويحميه، ثم ذهب الصديقان إلى أم الملك الطموح، إلى المجد والشهرة وخلود الاسم، وباركته الأم الحكيمة، ودعت له الإله شمش الذي أعطاه قلبًا مضطرِبًا، وحثَّه على الرحيل في سفر بعيد، والدخول في معركة لا يعرف عواقبها لكي يمحو من البلاد كل شر يكرهه (ل٣، ع٢، س١٠–١٨). ثم أوصت به إنكيدو كما فعل الشيوخ، وقلَّدته عقدًا من الجوهر النفيس ليكون مَوثقًا منه وعهدًا.
وينخرم النص وتشوِّهه فجوةٌ كبيرة أتلفت الأعمدة الخمسة الأولى من اللوح، الرابع الذي يرجِّح العلماء أن يكون قد تضمَّن الوصف التفصيلي لرحلة الملك وصديقه وتجاربهما في غاية الأرز. ومع ذلك بقيت شذرةٌ صغيرة نفهم منها أنهما وجدا عند باب الغابة المسحورة حارسًا فقتلاه، وأن إنكيدو قد أصابه الباب بشللٍ مؤقَّت جعله يتردد في التوغل في الغابة ومواجهة المارد المُخيف، وإذا بجلجاميش — الذي لم تكتم الملحمة اضطرابه وهواجسه — يشجِّع صديقه، ويكرِّر عليه ما قاله من قبل: «إن القوي إذا سار في المقدمة وهو متأهِّبٌ حذِر، فقد حمى نفسه وحفظ صاحبه، فإذا سقط فقد خلد اسمه» (ل٤، ع٦، س٣٧–٣٩).
وتصف الأعمدة الثلاثة الأولى من اللوح الخامس استغراقَ الصديقَين في تأمل جمال الغابة وقِمم جبالها وذُرى أشجارها، والأحلامَ الثلاثة التي رآها جلجاميش المضطرِب القلب رعبًا من لقاء المارد المُخيف، وتفسير صديقه الطيِّب لها بما يحمل لقلبه السكينة والبشرى بالانتصار عليه، ودعاءهما لشمش بأن يؤيدهما ويقف بجانبهما. ولما بدأ جلجاميش في قطع الأشجار ببلطته سمع خمبابا الضجيج، فثار غضبه، وتوعَّد الطارق المجهول الذي تجاسَر على تلطيخ أشجاره بالعار وهي ربيبة جباله. ويبدو أن الخوف اعتراهما، فسمعا شمش السماوي يأمرهما أن تقدما ولا تخافا. ولم يكتفِ الراعي الإلهي بذلك، بل سخَّر لهما الرياح العاتية على اختلاف أنواعها، فضربت خمبابا في عينَيه حتى تعذَّر عليه التقدم أو التقهقر، فأُسقِط في يده واستسلم، وراح يتوسل لجلجاميش أن يُطلِق سراحه، وأوشك قلب البطل أن يرقَّ له، فنصحه صديقه ألا يُبقي عليه ولا يأمن شره، وحثَّه على أن يقطع رأسه بسيفه؛ وبذلك «محا الشر، واستراحت الجبال والمرتفعات» (ل٥، ع٤). ورجع الصديقان إلى أوروك وفي نية جلجاميش أن يحتفل بالنصر الكبير. نظَّف أسلحته، وغسل جسده، وأسدل جدائل شعره على ظهره، وارتدى عباءةً فخمة مُزركَشة ربطها بزنَّار. ولما وضع تاجه على رأسه رفعت عشتار الجليلة الجميلة عينها، ولمحت جماله، وعرضت عليه أن «يمنحها فيض قوته»، ويصبح زوجها وتصبح زوجته، ولم تتردد عن إغرائه بكل ما يمكن أن يجذب الرجالَ من مظاهر الترف والشرف، لكن جلجاميش سخِر منها سخريةً مُرة، وأخذ يعدِّد لها جرائمها في حق عُشاقها السابقين الذين خانتهم وتنكَّرت لهم، أو مسختهم في صورٍ بشعة. وغضبت عشتار، وآلمها جرح كرامتها إلى الحد الذي جعلها تصعد إلى السماء وتطلب من أبيها «آنو» كبير الآلهة أن يوافق على انتقامها من جلجاميش، ويسلِّمها مِقود «الثور السماوي» ليفتك بأوروك وأهلها، وينشر الدمار في ربوعها. ونزل الأب على رغبة ابنته العنيدة المهانة، بعد أن اطمأن إلى أنها قد ادَّخرت من الغلال والعلف ما يكفي البشر والحيوان. واستطاع البطلان أن يُنازلا الثور الجبَّار ويقتلاه، ورد إنكيدو على لعنات عشتار ونواحها على ثورها السماوي بانتزاع فخذ الثور الصريع وقذفه في وجهها! وبعد أن قرَّب جلجاميش لإلهه الخاص، وعلَّق القرنَين العجيبين في مَخدعه، انطلق موكبه المنتصِر مع صديقه في شوارع أوروك وأسواقها، واحتشد الناس لتحيَّتهما، وراح البطل ينادي عليهم قائلًا: مَن أروع الرجال؟ مَن أقوى الأبطال؟ فيردُّ الجميع في صوتٍ واحد: جلجاميش أروع الرجال! جلجاميش أقوى الأبطال! (ل٦، ع١، س١٨٢–١٨٥).
مات إنكيدو، فجُنَّ جنون جلجاميش ولم يصدِّق. ناداه فلم يردَّ عليه. وضع أذنه على صدره فلم يسمع خفقان قلبه، ورفض أن يُواري التراب على أمل أن تُوقِظه صرخاته من نومه، ولم يستطع أن يرضخ للحقيقة الأليمة إلا بعد أن وقع الدود عليه وسقط من أنفه. بكاه بكاءً مرًّا، وجمع شيوخ المدينة وأخذ يرثي: «الفأس التي في جنبه، والسيف في حزامه، والدرع الذي يحميه، وفرحته وحلة عيده» (ل٨، ع٢، ص٤–٦). وراح يعدِّد مآثره وإنجازاته، والمشاقَّ التي شد أزره في التغلب عليها وهو ينوح نواح الندابة: «أيُّ نوم هذا الذي أطبق عليك؟ لقد طواك الظلام فما عدت تسمعني!» (ل٨، ع٢، س١٣-١٤)، لكن إنكيدو لم يفتح عينَيه، فغطَّى وجه الصديق كما يُغطَّى وجه العروس، وأخذ يحوم حوله كالنسر، كلبؤة اختُطف منها أشبالها، وطفق يذهب ويجيء وينتف شعره المسترسِل ويرمي به على الأرض، ويمزِّق ثيابه الجميلة ويُلقي بها كأنها شيءٌ بخس أو نحسٌ لا يُلمَس (ل٨، ع٢، س١٨–٢٢).
وبعد أن أمر الصُّناع بنحت تمثال لصديقه يكون صدره من اللازورد وجسمه من الذهب. لبس جلد الأسد، وغادر قصره ومدينته، وراح يهيم على وجهه في البراري والبوادي، باحثًا عن جده الخالد — رجل الطوفان أوتنابشتيم — ليسأله عن سر حصوله على الخلود، مرعوبًا من «حظ البشر» الذي أدرك أخاه ورفيقه في الشدائد والمُلِمات، غير مصدِّق أنه يمكن أن يتحول مثله إلى تراب. وتُسهِب الملحمة — ابتداءً من اللوح التاسع — في سرد الأهوال التي لقيها البطل المكتئب الطموح إلى الخلود، أو بالأحرى إلى الفرار من حظ البشر الذي لم يغِب عنه، وكأنه يخوض تجربة البحث المأسوية بما هو إنسان ونيابة عن كل إنسان. ثم تصوِّر الملحمة التي بلغت ذروة المأساة مراحلَ سعيه الخائب إلى الأمل المستحيل في الخلود؛ فهو يصل بعد مسيرة طويلة ومُضنِية إلى بوابة جبلَي «ماشو» التوءمَين اللذين تغرب فيهما الشمس وتُشرِق منهما، ويرقُّ له قلب حُراسها المركَّبين على هيئة رجال-عقارب، فيأذنون له بالدخول بعد أن يعرف كبيرهم وزوجته طبيعته المكوَّنة من «لحم الآلهة»، وأن «ثلثَيه إلهيٌّ والباقي بشريٌّ فانٍ»، كما أكَّدت الملحمة منذ البداية. ودخل من البوابة الهائلة، فوجد نفسه في نفقٍ مُظلِم طويل، وواصل سَيره في ظلامٍ حالك لا يرى من حوله شيئًا، ثم لاح له بصيص من نور بعد أن قطع «ساعاتٍ مضاعفة» لا حصر لها، وخرج في النهاية من النفق ليجد نفسه في حديقةٍ غنَّاء تثقل أغصانَها ثمارٌ عجيبة من أحجارٍ كريمة، تشع منها الأضواء الباهرة والألوان الساحرة، ثم واصل السَّير حتى اقترب من حانةٍ مُنعزِلة على ساحل بحر الموت والظلمات، تُديرها الساقية الشابَّة التي عيَّنها الآلهة ليزوروها ويشربوا من يدها بين الحين والحين. وأبصرته «سيدوري» من بعيد، فأفزعها مَنظر وجهه الأشعث الأغبر، وظنَّته قاتلًا أو قاطع طريق، وأغلقت عليها الباب فلم تفتحه إلا بعد أن هدَّدها بتحطيمه، وأيقنت بعد أن أدركت طبيعته الإلهية، وسمعت قصة عنائه وسبب حزنه واكتئابه، أنه واهمٌ يبحث عن الخلود. ولقد حاولت أن تخلِّصه من وهمه وتقدِّم له البديل، وهو خلود اللحظة العابرة، إلا أنه رفض اليد الممدودة بالكأس المشعشَعة، ولم ينتصح بنصيحتها التي يصعب نسيانها: «إلى أين تمضي يا جلجاميش؟ إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، فعندما خلقت الآلهة البشر، قسمت للبشر الموت، واستأثرت في أيديها بالحياة. أما أنت يا جلجاميش فاملأ بطنك. متِّع نفسك، واجعل أيامك أعيادًا، وارقص والعب ليلَ نهار. نظِّف ثيابك، واغسل رأسك، واستحمَّ بالماء. احنُ على الصغير الذي يُمسِك بيدك، ودع الزوجة تفرح في أحضانك. هذا هو حظ البشر على الأرض» (ل١٠، ع٣، س١–١٤).
قدَّمت سيدوري لجلجاميش الخلود البديل، أو لنقُل نوعًا من الخلود الزائل (إن جازت هذه المفارقة في التعبير)، ولكنه رفضه. هل دار في ذهنه أنه خلودٌ عابر لا يدوم إلى الأبد كالخلود الذي انطلق بحثًا عنه؟ ولو تصوَّرنا أنه قبِل لحظة الخلود العابرة — التي رفضها فاوست — ألم يكن معنى ذلك أن تفقد المأساة مبرِّرها ومعناها، ويُسدَل الستار عليها وهي ما تزال في ذروة تأزمها؟ ألم يكن قبوله لكأس «اللحظة الخالدة» ليصبح نوعًا من استسلام وإيثار الراحة والتخلي عن الحلم، مهما يبدُ له أو لنا أنه الحلم المستحيل؟! ثم هل قالت له ساقية الحانة شيئًا جديدًا عليه أم إنها في الواقع قد ذكَّرته بحكمةٍ رافدية قديمة، وبما جاء على لسانه هو نفسه في حديثه مع صديقه إنكيدو: «مَن ذا الذي يستطيع يا صديقي أن يصعد للسماء؟ الآلهة وحدهم مخلَّدون على عروشهم مع شمش. أما أيام البشر فمعدودة، وكل ما يعملون ريحٌ باطلة» (ل٢، ع٥، س١٤٠–١٤٣)؟ فليمضِ إذن في خوض غمار المأساة، وليواصل سعيه العبثي — كما نقول اليوم — إلى الخلود المستحيل، سواء تصوَّرنا أنه أراد في هذا الموقف أن يحصل عليه إرضاءً لطموحه الذاتي، أو تصوَّرنا أنه بدأ تجربة التطهر الجزئي مِن «أناه» البطولية المتضخِّمة، والتحول إلى «النحن» التي تشاركه في هذا الخلود، أو تقتنع على الأقل بأنه غير مستحيل على بشرٍ يُخلِص في مسعاه للحصول عليه.
واصل جلجاميش بحثه الذي لا نستطيع أن نقول إنه شعر في هذه المرحلة بأنه بحث عقيم. وقد أشفقت عليه سيدوري في النهاية، ودلَّته على ملَّاحٍ اسمُه أورشنابي يعمل في خدمة «جده الخالد»، بعد أن ألحَّ عليها برغبته في الوصول إليه ليسأله عن سر الحياة والموت. وعبَر جلجاميش مياه الموت بمساعدة الملَّاح الذي لم يألُ بدوره جهدًا في تثبيط همته، وثنيه عن المغامرة التي حذَّره من عدم جدواها. وبلغ جلجاميش «جزيرة الأحياء» التي خصَّصها الآلهة لإقامة جده الخالد فيها مع زوجه، جزاءً له على إنقاذ الحياة والأحياء من فك الطوفان. وعندما يلتقي جلجاميش بجده الخالد، ويُجيب على سؤاله عن السبب في ضمور وجهه واكتئاب فؤاده وذبول ملامحه وتمكُّن الغم من نفسه، وبعد أن يكرِّر عليه جلجاميش ما سبق أن قاله لساقية الحانة وللملَّاح عن موت صديقه الذي أصابه حظ البشر ومصيرهم، ورعبه — أو رعب الثلث البشري منه! — من أن يدركه المصير نفسه ويصبح ترابًا ولا ينهض من نومه أبدًا، نجده (في مطلع اللوح الحادي عشر الذي خصَّصه بأكمله لسرد قصة الطوفان بكل تفاصيلها المشهورة)، نجده يعبِّر عن دهشته أو خيبة أمله في هذا الجد الذي سعى إليه، وتحمل الأهوال والمشاقَّ ليعرف منه سر الخلود. لقد تخيَّل أنه سيُواجه بطلًا جبَّارًا، وهيَّأ نفسه للصراع معه، فإذا به يرى أمامه رجلًا خاملًا مستلقيًا على قفاه كأنه جثةٌ مخدَّرة، ويكتشف أن هيئته لا تخلف عن هيئته، حتى إن ذراعه لا تحرِّك ساكنًا ضده؛ ولهذا يصيح به متعجِّبًا قبل أن يستغرق في قصة الطوفان: «قل لي إذنْ كيف دخلت في زمرة الآلهة، ونلت الحياة الخالدة؟!» (ل١١، س٢–٧). هل يمكننا القول بأن جلجاميش قد أدرك أن جده — حتى قبل أن يسمع منه قصة الطوفان — قد خلد خلودًا خاليًا من الحياة، أو أن بقاءه بقاءً أبديًّا هو وزوجته لا يُسبِغ عليهما صفة الخلود الذي تمنَّاه لنفسه، وتعب وشقي لكي يسأله عنه؟ إن هذا مجرد حدس لا نزعم له اليقين بحال من الأحوال. والمهم في هذا العرض الموجَز المُخِل أنه استمع منه إلى تفاصيل قصة الطوفان التي تعرفها من سفر التكوين في التوراة ومن القرآن الكريم، كما كانت معروفة إلى حدٍّ كبير لدى السومريين والبابليين قبل أن يجمعها الكاتب البابلي، ويُضيفها إلى ملحمته. لقد خرج الجد الخالد من السفينة بعد كل ما جرى وما شاهد من كوة قمرته، وقدَّم القرابين للآلهة التي تزاحمت عليها كالذباب، وجاء إنليل وهو يسأل في غضب: كيف نجت نفسٌ واحدة من الهلاك وقد قضى بألا ينجو أحد؟ ولكنه انضم في النهاية إلى إجماع الآلهة، وصعد إلى السفينة، وأخذ بيدِ «أوتنابشتيم»، وأركبه هو وزوجه فيها، ولمس جبهتهما وباركهما قائلًا: «لم يكن أوتنابشتيم من قبلُ سوى واحد من أبناء البشر، فليُشبِهنا نحن الآلهة من الآن، أوتنابشتيم وزوجه! وليسكنا بعيدًا عند فم الأنهار.» ثم يختم رجل الطوفان قصته الطويلة المُضنِية بقوله: «لكنْ من يجمع لك شمل الآلهة الآن لتعثُر على الحياة الخالدة التي تبحث عنها؟» (ل١١، س١٨٩–١٩٨). وكأنما يخاطب الإنسان في جلجاميش بقوله لن تنال الخلود الذي نلته أنا إلا بذنبٍ عظيم كالذي يُثقِل ضميري، وهو أن يهلك جنس البشر وتبقى وحدك حيًّا!
والغريب في أوتنابشتيم الذي ذكَّره في بداية لقائهما بفناء كل شيء، في سطورٍ يصعب نسيانها كما يصعب تصوُّر صدورها عنه (الموت القاسي لا يرحم. هل نبني بيتًا لا يفنى؟ هل نختم عقدًا لا يبلى؟ هل يقتسم الإخوة ميراثًا يبقى؟ أيعمُّ الأرضَ إلى الأبد الحقدُ، وتدوم مياه الفيضان إذا امتلأ النهر وتغطى؟ واليعسوب … لا لم يتسنَّ لوجهٍ فانٍ أن ينظر للشمس، ويُحدِق فيها دومًا، والنائم والميت كم يُشبِه أحدهما الآخر! أوَلا يرتسم الموت على وجه النائم والميت؟ (ل١٠، ع٤، س٢٥–٣٤))، أقول إن مِن الغريب حقًّا أن يصرفه الجد الخالد نفسه عن فكرة الخلود، ويبيِّن له استحالتها من منظورٍ بشري صِرف، وأن يحذِّره من الثمن الباهظ الذي تكلِّفه — وهو هلاك البشرية — وكأنه يشعر سلفًا بأنه لن يتحمل ذلك الوزر الفظي مهما أدَّى إلى التخلي عن طموحه، والتضحية بحلمه العزيز على نفسه. ولعل رجل الطوفان «الخالد» كان يفكر في شيء من هذا عندما وضع الحالم الطموح أمام امتحانٍ سريع، يقوم على الحقيقة التي يقرِّرها آخر السطور التي اقتبسناها قبل قليل؛ فقد طلب من جلجاميش أن يمتنع عن النوم ستة أيام وسبع ليالٍ؛ إذ ربما استطاع مَن يقاوم النوم أن يقاوم الموت الذي يُشبِهه في الظاهر على أقل تقدير. ويُكابر البطل الذي لم يتخلَّ بعد عن طموحه ويقبل التحدي؛ أملًا في كسب الرهان، والفوز بالخلود. وسرعان ما يغلبه النعاس، ويغطُّ في نوم عميق. وعندما يُفيق منه يكتشف أنه قد نام ستة أيام أشَّرتها زوجة جده على الجدار، وأحصتها عددًا بأرغفة الخبز التي وضعتها عند رأسه وهو نائم.
ويبدو أن جلجاميش قد أدرك فشله في الصمود للتحدي واجتياز الاختبار. وإذا كنا لا نستطيع أن نقطع بأنه تخلَّى عن طموحه تمامًا، فيمكننا أن نتصور أنه وقع فريسة الحيرة والضياع واليأس والشك. لنستمع إليه وهو يقول لجده فيما يُشبِه الأنين: «آه! ماذا أعمل؟ وإلى أين أوجِّه وجهي؟ في مَخدعي يُقيم الموت، وحيث وضعت القدم يُواجِهني الموت!» (ل١١، س٣٠–٢٣٣). ومع أن الموت يُطارده ويُلاحقه ويشمله من كل جانب، فلا نظن أنه قد رضخ له أو سلَّم بحقيقته. ومع أن حلم الخلود قد أخذ يتسرب شيئًا فشيئًا في الضباب، فإن تمسُّكه بطموحه إلى مقاومة الموت لا يعني أكثر مِن تمسُّكه بطبيعته كإنسان، وبشوقه المُطلَق والمشروع للانتصار عليه حتى ولو كان الانتصار جزئيًّا أو غير مُطلَق. ويركب جلجاميش السفينة بعد أن ينظِّف نفسه من الأوساخ التي علِقت به، ويرتدي ثيابًا جديدة لا ينالها البِلى على طريق رجوعه لمدينته. هناك أشفقت عليه زوجة أوتنابشتيم، وطلبت منه أن يُعطي جلجاميش شيئًا يأخذه معه إلى وطنه؛ تعويضًا له عن التعب والضنى الذي تحمَّله في سفره. ويبدو أن الجد الخالد قد تردَّد كثيرًا قبل أن يُفضي لجلجاميش بسرٍّ من أسرار الآلهة، ولم يكن ذلك السر إلا النبتة الشوكية العجيبة، التي تجدِّد شباب من يأكل منها، وتُرجِع للشيخ صِباه. وغاص جلجاميش في قاع البحر في الموضع الذي حدَّده له أوتنابشتيم، واستخرج النبتة السحرية، وفرِح بها أشدَّ الفرح، حتى لقد قال في غمرة نشوته إنه سيجعل أهل مدينته يأكلون منها ليستعيدوا شبابهم قبل أن يفكر هو نفسه في الأكل منها. وواصل مع رفيقه الملَّاح طريقهما إلى أوروك ومعه الإكسير أو الدواء الناجع للشيخوخة والفناء. غير أن الفرحة لم تتم — كما نردِّد اليوم ليلَ نهار — إذ نزل جلجاميش أثناء الطريق في بئر ليبترد من القيظ اللافح، وترك النبتة الشائكة على حافتها، وشمَّت أفعى شذا النبتة السحرية، فزحفت إليها وابتلعتها، وأخذت منذ ذلك الحين تجدِّد جلدها وشبابها من دون الإنسان! هنالك جلس جلجاميش وأخذ يبكي. جرت الدموع على وجهه، وكلَّم أورشنابي الملَّاح (ل١١، س٢٩٢–٢٩٦): «لمَ يا أورشنابي كل ذراعي؟ ولمَ قد نزف القلب دماه؟ لمْ أجنِ لنفسي خيرًا، بل قدَّمت الخير لأسد الترب (وهو الاسم الذي كان يُطلِقه البابليون على الحية).»
ونرجع إلى الموضوع الذي بدأنا به، وهو طغيان جلجاميش، فكل ما قُلناه عن مأسوية هذا البطل بين الإثبات والإنكار، وعن احتمال تطهُّره من طغيانه واستبداده أو استبداد فكرة الخلود وتسلطها عليه، إنما يردُّنا إلى الموضوع الأساسي المسيطِر على جو الملحمة منذ البداية، وهو طغيان البطل المتألِّه. وإذا صح ما قُلناه حتى الآن عن تطهره، واحتفاظه بالطابع المأسوي حتى لحظة «الانفراج» أو الاستنارة الأخيرة، فإن هذه المأسوية وذلك التطهر قد ارتبطا في الوقت نفسه بتغير مفهومه عن البطولة، المُرتبِطة بدورها بمدى طغيانه المادي والمعنوي. ومعنى هذا أن تطهُّره أو تحرُّره قد تطوَّر ببطء من مرحلة إلى مرحلة، بحيث اقترن التطهر من طغيان الأنا المستبِدَّة بالتحرر من طغيان فكرة الخلود الشخصي المتسلِّطة عليه، حتى إذا ضاع الأمل الأخير في هذا الخلود مع ضياع النبتة، ومرَّ بأقسى تجاربه، وتحقَّق له نوع من «العلاء» فوق الطغيان والخلود الأنانيَّين، وتطلَّعت العين والنفس إلى معالم البناء الحضاري، ورجعت إلى البداية التي لم تُدرِك معناها إلا بعد «ملحمة» التناقض والتمزق والصراع «الجدلي»، الذي فتح عينَيه في النهاية على الحقيقة المباشرة البسيطة، وهي أن الخلود الوحيد المتاح للبشر إنما يكمن في العمل الجماعي والبناء الحضاري. وعلينا الآن أن نرصد هذا التطور البطيء بإيجاز.
تبقى هذه الأسئلة في نطاق الحدس والتخمين بوجود «أعماق» أخرى للنص لم تسمح رقابة السُّلطة والتقاليد بالكشف عنها، وتفصيلات ومعلومات لم يُتَح للعلماء التوصل إليها، ولكنها تُشير إشارةً كافية — على الأقل في المرحلة المبكِّرة من سيرة جلجاميش — إلى وجه الحاكم الإلهي والأرضي المستبِدِّ «الذي طغى»، بجانب تمجيدها للبطل البصير الحكيم «الذي رأى».
بَيدَ أن هذا الوجه لم يكن هو الوجه الوحيد، ومَلامحه الجامدة المُرعِبة لم تبقَ على جمودها ورعبها. لقد طرأت عليه تغيرات وتطورات مختلفة قبل أن يبلغ الاستنارة أو التجلي، اللذَين بلغهما على أرجح الظنون في المشهد الختامي الذي تحدَّثنا عنه؛ فقد بدأ تغيُّر مفهوم البطولة، ومِن ثَم مفهوم الطغيان، منذ أنِ التقى جلجاميش ﺑ «وحش البرية» إنكيدو في الصراع البدني الذي لم ينتهِ، كما رأينا، بفوز الأول فوزًا حاسمًا على خصمه، وإن تمخَّض عن اقتناعه بمواجهةِ ندٍّ له في قوته، وعقد ختم الصداقة النادرة بينهما. ويبدو أن إنكيدو قد نسي وعده لبغيِّ المعبد «بتغيير نظام المدينة» ومصيرها، أو نسِيَه كُتاب الملحمة في غمرة اهتمامهم بالمغامرات البطولية المشتركة التي بدأها البطلان. والقارئ الذي تابع هذه المغامرات يتذكر بغير شك أن بطل الملحمة لم يتخلَّ عن طموحه الشخصي إلى الشهرة وخلود الاسم، حتى في المواقف التي برع كُتاب الملحمة في تصوير ضعفه الإنساني إزاءها، وتضرعاته لراعيه الإله شمش، وهواجس أحلامه التي كان يُسارِع صديقه الطيِّب الشفوق بتفسيرها تفسيرًا يردُّ الطمأنينة إلى نفسه. ويبقى جلجاميش هو البطل الأناني المستبِد بعد انتصاره مع صديقه على الثور السماوي (ولعله يرمز من الناحية الأسطورية للقحط واليباب وسائر الكوارث الطبيعية)؛ فقد خرج من هذا الصراع وهو أشدُّ إصرارًا على الظهور في مَظهر البطل الذي لا يُقهَر، أمام شعبه الذي راح يردِّد الهتاف بأنه أقوى الأبطال وأروعهم، بل إنه ليؤكِّد هذه البطولة السلبية قبل ذلك بتحدِّيه لإلهة الحب عشتار، وإمعانه في إهانتها والتشهير بها. وهل يمكن أن يعني رفض الحب غير التشبث بعشق الذات، والتحجر في قوقعة الأناوحدية؟! وهل يصدر تحدي إرادة إلهة إلا عن مُتألِّهٍ لم يبدُ عليه أنه اكترث لحظةً واحدة بالخراب الذي جرَّه الثور على المدينة، والمئات من البشر الذي صرعهم خواره، واللعنات التي راحت إلهة الحب الجريحة تصبُّها على رأس المدينة وسكانها؟ ناهيك عن ألوانٍ أخرى من التحدي للقوى الطبيعية المختلفة، ولإرادة الآلهة الذين كان يعلم عنهم أنهم استأثروا بالخلود في قبضتهم. ومع ذلك لم يتخلَّ عن طموحه إلى تخليد نفسه مثلهم؛ إذ ظل حتى ضياع النبتة السحرية الشائكة على اعتقاده بأن جسده من «لحم الآلهة»، وأن ثلثَيه إلهيٌّ والثلث الباقي بشريٌّ فانٍ.
ويمرُّ جلجاميش — كما قدَّمنا — بتجربة الموت الحقيقية عندما يُفاجأ بموت الصديق. ولا تأتي أهمية هذه التجربة فحسب مِن أنها حوَّلت الملحمة إلى ملحمةٍ فلسفية تدور حول مقاومة الموت، ومواجهة المصير الإنساني بالتصميم على الخلود الشخصي، وإنما تنبع قبل ذلك مِن تحوُّل وعيه إلى حقيقته كإنسان، وبداية احتدام الصراع بين العنصر البشري الذي أصبح عُرضةً للفناء نزولًا على قانون حظ البشر، وبين العنصر الإلهي الذي لبث معلَّقًا بحلم الخلود الذي يضمن له تجاوز المصير المحتوم. ولولا مُكابدة هذا الصراع لما أمكن أن يهزَّه مرض الصديق ثم موته، وأن يُزلزِل كيانه بكل العمق والتأثير الذي صوَّرته الملحمة، ولما أمكن أيضًا أن يكرِّر لكل مَن يُقابِله سبب ضمور وجنتَيه، واكتئاب نفسه، وهيامه على وجهه في البرية مثل متجوِّل تائه جاء من سفر بعيد. لقد استمر هذا الصراع مُحتدِمًا في نفسه، حتى بعد لقائه مع جده أوتنابشتيم، وعلمه بالثمن الباهظ الذي يكلِّفه الخلود، بل واصل تأجُّج جمراته الحارقة حتى بعد إخفاقه في الانتصار على توءم الموت أو شبيهه (وهو النوم)، وصياحه اليائس بأن الموت يُلازِم خُطاه، ويقبع في مَخدعه. غير أن الوعي الكامل والصادق بحقيقته الفانية، وضياع الخلود عليه وعلى شعبه (وربما على البشرية كافة)، لم يُدرِكه إلا بعد ضياع النبتة — الحلم — والإكسير. هنا تفجَّر شلَّال اليأس الأسود من تحقيق «الغرض» أو «الحكمة» أو «الشعار» الذي لُقِّنه من موروثه الثقافي، وردَّده لسانه أكثرَ من مرة في الملحمة. وكأن ضياع الخلود وضياع النبتة والتسليم بحقيقة الفناء، هي «النتيجة» الحاسمة الأخيرة التي أدَّت إليها تجاربه المُضنية، ولزِمت عنها لزومًا ضروريًّا، بعد أن كانت مجرد افتراض أو قولٍ سائر يتمثل به كغيره من أفراد شعبه الزائلين.
وتتحول هذه النتيجة إلى ما يُشبِه القانون أو المبدأ العام عندما يأتي المشهد الختامي على نحو ما رأينا، ليعبِّر عنه في صورة حية بعيدة عن التجرد؛ صورةٍ تكاد أن تكون إحدى معجزات الخلق الأدبي والفني؛ ذلك لأنها تُوحي بذلك المبدأ أو تدعو إليه في وقتٍ واحد، حين تقول بإيجاز وبساطة وعفوية: إن كنتم تبحثون مِثلي عن الخلود فها هو ذا أمامكم سور أوروك، ومعبد عشتار الطاهر، و«شارات» الأرض الطيِّبة، هي الخلود الوحيد المتاح لأمثالنا من الفانين. وأنا وأمثالي وملحمة صراعي مجردُ «أمثولة» لهذا الخلود الوحيد.
تحدَّثنا مرارًا عن طغيان جلجاميش، وعن احتمال تطهُّره التدريجي منه، وقد آن لنا أن نستدرك ما فاتنا، ونتوقف قليلًا عند مفهوم «الطغيان»؛ لمحاولة تحديده وتمييزه عن غيره من المفاهيم، التي يتشابك معها وينتمي إليها كعضو من أعضاء تلك العائلة «غير المقدَّسة»، التي تضمُّ معه الاستبداد والأوتوقراطية والحكم الفردي المُطلَق والهمجية والفوضوية والدكتاتورية والشمولية (في استخداماتهما ودلالاتهما الحديثة)، بجانب ما تُثيره جميع هذه التصورات والمفاهيم من إيحاءاتٍ قوية بالقهر والقمع والتحكم، وما تُوحي به على العموم من تخلُّف — مُقترِن عند الأوروبيين منذ القِدم بمفهوم الشرق نفسه! — في مستويات التحرر والتعقل والتقدم، إن لم يقترن بانعدامها أصلًا في ظل الهيمنة المُطلَقة ﻟ «السيد» الواحد على ملايين العبيد، كما عبَّر هيجل (١٧٧٠–١٨٣١). والواقع أن مفهومَي الطغيان والاستبداد يكادان أن يكونا متداخلَين ومتعاصرَين، ولا سيَّما حين نتأملهما من المنظور الشرقي الذي يعنينا قبل غيره في هذا السياق؛ فكلٌّ منهما يُلقي على الآخر ظلاله السلبية السوداء، ويدل على السيطرة الشاملة من قِبل نظام أو فرد مُطلَق السُّلطة، سواء انصرفت هذه السُّلطة إلى إساءة استخدامها لتحقيق مصلحة ذلك الفرد كما هو الحال مع الطاغية، أو إلى استخدامها للصالح العام، وبمقتضى القانون والدستور في أغلب الأحيان في حالة المستبِد (وإن لم يمنع الأمر في بعض الظروف من تحوُّل هذا الأخير إلى طاغية بالمعنى «الشرقي» أو «الآسيوي» السيِّئ). ولقد مرَّ مصطلحا الاستبداد والطغيان بتاريخٍ طويل يشهد على تداخلهم إلى حد الاندماج والترادف، أو تغايُرهما إلى حد التفرقة الحاسمة بينهما على أيدي فلاسفة الفكر السياسي الغربي، منذ عهد أرسطو ونظريته المشهورة التي قدَّمها في كتابه «السياسة» بوجهٍ خاص عن الاستبداد، إلى عددٍ كبير من كبار المفكرين السياسيين، الذين ميَّزوا مفهوم الاستبداد تمييزًا واضحًا عن غيره من المفاهيم المرتبطة معه، ومن أهمها الطغيان. وقد كان مونتسكيو (١٦٨٩–١٧٥٥م) في طليعة هؤلاء المفكرين؛ إذ أعطى الاستبداد مكانةً خاصة، وجعل النظام الاستبدادي أحد نُظُم الحكم الثلاثة التي اعترف بها، وساعد على أن يحلَّ مفهوم الاستبداد في فرنسا القرن الثامن عشر بصفةٍ نهائية محلَّ مفهوم الطغيان؛ للدلالة على نظام السيادة والسيطرة المُطلَقة في مقابل إساءة استخدام السُّلطة من جانب حاكم فرد كما سبق القول، إلى أن عبَّر الفيلسوف الاجتماعي توكفيل (١٨٠٥–١٨٥٩م) في سنة ١٨٣٥م عن رأيه في أن مسار السياسة والمجتمع الحديث بعد الثورة الفرنسية وعصر الإمبراطورية والطابع الذي اتخذاه، قد جعل كلا المصطلحَين (الطغيان والاستبداد) غير صالح ولا كفء للاستعمال، حتى جاء العصر الحاضر فأصبحا مصطلحَين عتيقين، وتركَّزت المناقشات عن نُظُم الحكم المُطلَقة، وأشكالها المختلفة حول مفهومَي الدكتاتورية والشمولية.
مهما يكن الأمر من تصوُّر الطغيان والاستبداد بوجهٍ خاص في المقارنة بين نُظُم الحكم وتحليلها، والتأريخ الاجتماعي لأشكاله وممارساته، وفي التعبير الضمني أو الصريح عن آراء القائمين بذلك التحليل والتأريخ وتحيزاتهم السياسية، فقد كانت صورتهما في الغالب الأعم صورةً سلبية، وتحوَّلت على مرِّ الحقب والظروف إلى شعار يدل على التنظيمات والإجراءات المضادَّة للحرية السياسية، كما يَدينها ويدمغها بالخروج على الطبيعة والعقل والقانون والحق. وكلما وصلت هذه الإدانة إلى أقصاها، لجأ المفكرون والمحلِّلون إلى التذكير بنموذج الحكم الشرقي — أي الاستبداد الآسيوي بالدرجة الأولى — الذي وصل في رأيهم إلى أبعد مدًى يمكن تصوُّره في العدوان على الطبيعة والعقل وخرق القانون والدستور. ومَرجع ذلك إلى تسليم الحاكم «الشرقي» المستبِد بعبودية البشر من رعاياه، وانعدام الوعي لديه بأن الإنسان كائنٌ حر بالأصالة.
لا عَجب بعد ذلك ألا نجد تحديدًا كافيًا لمفهومَي الطغيان والاستبداد في علاقتهما الضدِّية بالحرية، وأن تُعتبَر أشكال الحكم التي تتعارض مع الحرية أشكالًا بسيطة بالقياس إلى الأشكال المعقَّدة التي تجسِّد الحرية، وأن يسلِّم كلٌّ مِن أرسطو في دراسته للطغيان (التيرانيس)، ومونتسكيو في تناوله للاستبداد، بأن مِثل هذه الأشكال لا تحتاج إلى مزيد من القول. وقد أدَّى هذا بمعظم فلاسفة الفكر السياسي الغربيين — كما ذكرنا — إلى ربط نظرتهم للاستبداد بأشكال الحكم وممارساته الآسيوية، كما حملتهم على الاعتقاد الضمني بأن الأوروبيين — من حيث هم أوروبيون! — أحرار بالطبيعة، وذلك في مقابل العبودية الطبيعية للشرقيين. وأدَّى بهم أيضًا إلى التورط في مغالطات منطقية وإنسانية مُنافِية لمفهوم الحرية نفسه؛ إذ طالما اتُّخذ الاستبداد الشرقي ذريعةً للغزو والتوسع، ومبرِّرًا للعدوان والسيطرة الاستعمارية، بل إن إلصاق صفة الاستبداد بأي «عدو» — ولو كان أوروبيًّا! — بقي مبرِّرًا كافيًا لتحريض الجماعة السياسية أو الدينية على شنِّ العدوان عليه، وسحقه إذا لزم الأمر؛ ومِن ثَم دمغ الإغريق أعداءهم الفُرس بالاستبداد، وألصق الكُتاب المسيحيون نفس الصفة السلبية بالأتراك العثمانيين المسلمين. ومن سخرية الدهر أن أدعياء الحرية ضد الاستبداد، أو مؤرِّخيهم على الأقل، لم ينتبهوا إلى أن مِثل هذه الحجج قد أصبحت — من أرسطو حتى هيجل وماركس وإنجلز! — هي الوسيلة التي يتذرَّعون بها لاعتداء «ورثة الحرية» على غيرهم من الشعوب التي لم تحظَ في تقديرهم بهذه النعمة، واللجوء إلى استعبادهم بحجة تحريرها، كما كانت — في تقديري على الأقل — هي السبب الأساسي وراء نزعات التعصب الديني والعنصري، والتمركز الحضاري والثقافي على اختلاف صورهما عند الغربيين أو الشرقيين.
- (أ)
مرحلة النظرية الإغريقية التي تجعل العبودية الفطرية هي أساس الحكم المُطلَق للمُلك أو الحاكم الشرقي، كما تنظر رعيته إلى هذا الحكم المُطلَق باعتباره حقًّا مشروعًا، وتُوافِق عليه برضاها.
- (ب) نظرة العصور الوسطى المتأخرة إلى الاستبداد بوصفه نوعًا من أنواع الحكم الملكي، الذي يفترق عن الأنواع الأخرى من الحكم الملكي وحكم الطاغية، أو بالأحرى بإساءته للحكم.٢١
- (جـ)
الصورة الجديدة لهذه النظرية في القرنَين السادس عشر والسابع عشر، وهي التي بدأت مع جان بودان (١٥٣٠–١٥٩٦م)، وحدَّدت الاستبداد بشكل الحكم الذي ينشأ نتيجةً لحقِّ المنتصر في حربٍ عادلة في السيطرة على المهزوم، بما في ذلك حقه في استعباده ومصادرة ممتلكاته، أو نتيجةً لموافقة المهزوم على استعباده مقابل الإبقاء على حياته وحقن دمه (وقد وجد أصلها في القانون الروماني، وأثَّرت تأثيرًا كبيرًا على مفاهيم جروتيوس وبوفندورف وهويز لوك وروسو عن الاستبداد).
- (د)
كُتاب القرنَين السابع عشر والثامن عشر — الفرنسيون في الغالب — بدءوا بالتوحيد بين الاستبداد ونُظُم الحكم الشرقية، ثم غيَّروا بعد ذلك تصورهم للمصطلح، بحيث ينطبق على أشكال السيطرة الشاملة المُطلَقة في أي مكان وزمان، وكأن هدفهم في الحقيقة هو الاعتراض على تركيز السُّلطة في يد «الملك الشمس» لويس الرابع عشر، واحتكاره لها كما يفعل «السيد الكبير» أو السلطان العثماني المستبِد.
- (هـ)
تصوُّر مونتسكيو (١٦٨٩–١٧٥٥م) للاستبداد بوصفه أحد الأشكال أو الأنماط الثلاثة للحكومة والحكم (بجانب الملكي والجمهوري)، وإدانته للرق والاستعباد بأي صورة من الصور إدانةً حاسمة.
- (و)
الانتقادات التي وُجِّهت إلى التصور السابق في القرن الثامن عشر، وتأثيراتها المختلفة، لا سيَّما على يد فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨م) الذي سخِر من نظرية مونتسكيو التجريبية عن الاستبداد، وإمكان تطبيقه على الإمبراطوريات الشرقية — والصين بوجهٍ خاص — التي لا يعرفها حقَّ المعرفة، وكذلك النقد الذي وجَّهه أنكيتيل ديبورون (١٧٣١–١٨٠٥م)، الذي هاجم في كتابه «التشريع الشرقي» (١٧٨٨م) نظرية الاستبداد الشرقي، وربطها بالدولة الأخيمينية التي قصدها أرسطو، وكان دفاعه عن الحضارات الشرقية القديمة، وفضحُه لغرور الغرب وجهله وجشعه كما يقول، نتيجةَ إقامته بين المجوس في الهند، من سنة ١٧٥٥م إلى سنة ١٧٦١م، وقيامه بترجمة «الأفيستا» (وهي النصوص المقدَّسة المنسوبة إلى زرادشت) إلى الفرنسية.
- (ز)
التطورات اللاحقة في استخدام المصطلح من قِبل روبسبيير وسان جوست أثناء الثورة الفرنسية لتبرير استبداد الثورة ورعب الحرية والفضيلة، ثم عند الكاتبة مدام دوستايل وبنجامين كونستانت حتى هيجل وماركس، وأخيرًا توكفيل الذي أكَّد — في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا الشمالية (١٨٣٥م) — عدم كفاية مصطلحَي الاستبداد والطغيان للتعبير عن المستجدات في القرن التاسع عشر، كما تصوَّر إمكان قيام شكل جديد من أشكال الاستبداد التي تهدِّد المجتمع الديمقراطي، ويتمثل في طغيان رأي الأغلبية على رأي الأقلية، وفي تركيز كل قوى الشعب في قبضة فرد أو هيئة لا يُحاسَبان ولا يُسألان عن أعمالهما، كما حدث أثناء رعب الثورة الفرنسية وفي عهد الإمبراطورية، على نحو ما ذكرنا من قبل.
وسوف نقصر حديثنا على النظرية الإغريقية، التي تُلقي الضوء على مفهوم الاستبداد في علاقته بالطغيان الشرقي، وهو الذي يهمُّنا قبل غيره كما سبق القول.
تصوَّر الإغريق منذ بداية الحروب الطويلة التي دارت بينهم وبين الفُرس، أن الاستبداد مجموعة من النُّظم والتقاليد الخاصة بالشعوب «البربرية» — أي غير الهللينية — الذين اعتبروهم عبيدًا بالطبع، وأنه شكل من أشكال الحكم الملكي يُمارِسه الآسيويون، ويتمثل نموذجه الصارخ في ملوك الفُرس الأخيمينيين (من ٥٣٨ إلى ٣٣١ق.م). وقد كان الإغريق أثناء الحروب التي دارت بينهم وبين الفُرس يشعرون بالاشمئزاز من صورة هؤلاء الملوك «الشمسيين» الذين يجسِّدون القانون الإلهي، ومِن ثَم الحكم المطلق، بينما يعتزُّون هم — كما يقرِّر هيرودوت — بأنهم أحرار لأنهم يخضعون لقوانين دولة «المدينة»، لا لأي حاكم آسيوي يسجد له رعاياه ويركعون؛ فالأحرار لا يسجدون لبشرٍ فانٍ، والمستبِد الأرضي الوحيد الذي يمكن أن يعترفوا به هو «القانون» الذي وافقوا عليه بمحض إرادتهم (على نحو ما عبَّر سقراط في دفاعه المشهور وفي حواره مع كريتون). وهكذا اكتسب مصطلح الاستبداد معناه الرابع الذي نجده عند هيرودوت وأكزينوفون وأفلاطون.
وقد اهتم أرسطو، أكثر من أي كاتب إغريقي آخر، بشرح المصطلح، والمقارنة بينه وبين الطغيان، كما أثَّرت «نظريته» عن الاستبداد تأثيرًا كبيرًا على الفكر السياسي، حتى ليرِد اسمه على الخاطر فور سماع الكلمة! إنه يؤكِّد أن الاستبداد الآسيوي لا يقوم على القوة، ولا يأتي من خوف المحكومين من حاكمهم المتألِّه. والسبب في ذلك بسيط، فهم يُوافِقون برضاهم على استعباده لهم. أضِف إلى هذا أن الاستبداد شكل من أشكال الملكية الدستورية، التي تقوم في الأصل على احترام الملك للقانون السائد، لا على تأكيد إرادته التعسفية. ثم إن النُّظم الاستبدادية لا تعرف مشكلة الحاكم الذي يخلف المستبِد في الحكم؛ لأنها تتميز بالاستقرار والثبات، على العكس من «نُظُم» الطغيان التي تُواجِه الانقلاب، أو لنقُل التقلبات المفاجئة، وقد يلجأ الطاغية للاستعانة بقواتٍ أجنبية لإخماد معارضة المحكومين (السياسة، ٣، ٩، ١٢٨٦أ). والذي يهمُّنا في هذا السياق أن أرسطو قد ربط الاستبداد بالطغيان؛ مما جعل كلامه عنه (أي عن الاستبداد) يحمل معنى الإدانة والاتهام. فمع أن سُلطة الملوك الآسيويين سُلطةٌ ملكية؛ لأنهم يحكمون طبقًا للقانون، وبرضا المحكومين، إلا أنها كذلك سُلطةٌ طاغية؛ لأنهم يحكمون بطريقة مستبِدة تعبِّر عن أهوائهم وأحكامهم الخاصة على الأمور (السياسة، ٤، ٨، ١٢٩٥أ). ويصل أرسطو في ربطه بين الاستبداد والطغيان إلى حد تقرير التماثل بينهما عندما يناقش وسائل المستبِدِّين — مثل بيرياندر حاكم كورنثه وأحد الحكماء السبعة — في مد فترة حكمهم، وهي في رأيه نفس الوسائل التي يلجأ إليها ملوك الإمبراطورية الفارسية (السياسة، ٥، ٩، ١٣١٣أ). ومع أن المستبِد يحكم طبقًا للقانون، فهو لا يحكم بما يتمشى مع الصالح العام، وكذلك فإن كل النُّظم والدساتير التي تُستغَلُّ لمصلحة الحاكم «تحمل عنصرًا من عناصر الاستبداد»، على حين أن البوليس (أي دولة المدينة الإغريقية) جماعةٌ مشتركة من الأحرار الذين تربط بينهم أواصر الصداقة والعدل (السياسة، ٣، ٤، ٧). بَيدَ أن هذه الأواصر لا تقوم لها قائمة إذا انعدم العنصر المشترك بين الحاكم والمحكوم، كما هو الحال في ظل الطغيان والاستبداد، حيث تكون العلاقة بينهما (أي بين الحاكم والمحكوم) مثل العلاقة بين الصانع والأداة، أو بين النفس والجسم، وبين السيد (ديسبوتيس) والعبد. ومن المستحيل بطبيعة الحال أن تقوم صداقة أو عدل في علاقة الإنسان بالجماد، أو بحصان أو ثور، أو في علاقة عبد بعبد؛ ذلك لأن السيد والعبد لا يجمع بينهما شيءٌ مشترك؛ فالعبد أداةٌ حية، والأداة عبدٌ جامد أو فاقد للحياة (الأخلاق إلى نيقوماخوس، ٨، ٩).
وأخيرًا فربما استطاعت الشروح السابقة لنظرية أرسطو عن الاستبداد والطغيان، بجانب الإشارة إلى مراحل تطور المصطلحَين في تاريخ الفكر السياسي الغربي والتعليقات عليها، أن تُلقي شيئًا من الضوء على موضوعنا الأساسي، وهو استبداد جلجاميش أو طغيانه بوصفه «نموذجًا أو نمطًا أوليًّا» للمستبِد الشرقي في هذه المنطقة، التي ابتُليت بنماذج وأنماط فرعية لا حصر لها من الطغاة والمستبِدِّين. ولا بد من الاحتراس من محاذير المقارنة بين دلالة مصطلح نشأ في سياق حضاري وديني معيَّن، ودلالته في سياق آخر بعيد عنه في زمانه ومكانه «وبُناه» الثقافية والاجتماعية، مع العلم بأن الكلام يدور في دائرة الترجيح البعيدة كلَّ البعد عن التزمُّت والقطع بالرأي، كما أن مفهوم الاستبداد والطغيان نفسه يُعاني من ازدواجية مُراوغة لم يستطع التخلص منه تمامًا في تراث الفكر السياسي بوجهٍ عام.
الواقع أن الرد على هذه الأسئلة وأمثالها متضمَّنٌ في الصفحات السابقة؛ فقد تحدَّثنا عن مظاهر الديمقراطية البدائية أو الأولية عند السومريين، وعن توجُّه جلجاميش بالخطاب إلى شيوخ أوروك وشبابها في مناسبات ومواقف عديدة، وتهليل الشعب له لانتصاره في مغامرات كان يعرف أو يُحسُّ على الأقل بأنه قام بها لتحقيق مصلحة عامة (مثل جلب الخشب الذي تحتاج إليه بلاده)، بجانب المصلحة الخاصة، وهي تحقيق المجد والشهرة وخلود الاسم. وكل هذا يؤكِّد وجود «الآخر» في حياة جلجاميش بصورة من الصور مهما تكن ضئيلة، وعدم إلغائه أو نفيه كما هو الحال في علاقة السيِّد بعبيده. ثم إن طاعة السومري والسامي القديم لحاكمه الديني والدنيوي، المكلَّف من قِبل الآلهة بتنفيذ القوانين والألواح المنزَّلة من السماء، تُستبعَد أن تكون هي طاعة العبد لسيِّده الصادرة عن الخوف (المُلازِم لكل استبداد ممكن!) وترجح قيامها على أساس الإيمان المستقرِّ بضرورة تقديم فروض الطاعة للآلهة في السماء، ولحكامهم وملوكهم على الأرض وفي مدن البشر، وإن لم يمنع هذا، كما تشهد نصوص الحكمة البابلية، من ارتفاع بعض الأصوات المحتجَّة أو المتمرِّدة بالتساؤل والشك في جدوى الحكمة والتقدير الإلهي مع استفحال الشر والظلم في العالم، واقتراب أصحابها من هاوية التجديف، ثم تراجُعهم عنها قبل السقوط فيها (ومعظم هذه النصوص يرجع للألْف الأولى ق.م).
لمَ استجار إذنْ شعب أوروك بآلهته من جلجاميش؟
إن القراءة المتأنِّية للملحمة — بجانب ما ذكرناه من قبل — تؤكِّد أن شكواهم كانت تعبيرًا عن سخطهم على إساءة استخدامه للسُّلطة المخوَّلة له من قِبل الآلهة وشرائعهم المنزَّلة، وانسياقه وراء أهوائه ونزواته بما يتنافى مع هذه الشرائع.
ومعنى هذا أن الشكوى لم تكن تعبيرًا عن رفضهم لتلك السُّلطة، ولا لشخص جلجاميش نفسه — بدليل أنهم يشكُونه ويمجِّدونه في نفسٍ واحد كما سبق القول! — وإنما «فاض بهم الكيل» — كما نقول اليوم — من مَظالمه التي لا يُقرُّها الآلهة الذين يُسارِعون إلى الاستجابة لمطلبهم؛ أي من استبداده بالمعنى السيِّئ للكلمة، أو بالأحرى من طغيانه.
وربما تشهد تضرعاته وصلواته لإلهَيه شمش ولو جال بندا، بجانب التحذيرات التي كان يوجِّهها إنكيدو من إساءة استخدام السُّلطة، بوجودِ وازعٍ خفيٍّ في نفسه يذكِّره بثلثه البشري، وبالتعهد أو العقد المُبرَم بينه وبين الآلهة بألا يشتطَّ في تسلطه وطغيانه.
ويبقى في النهاية أن نرجع للأسئلة التي طرحناها في البداية، والحق أنها لا تنتظر إجابات بقدر ما تفرض واجبات، لا على المثقَّفين المستنيرين والعلماء المختصين وحدهم من أبناء أمتنا، بل على كل مُنتمٍ لهذه الأرض وهذه الحضارة، وكل مَن يشعر مع مآسي الطغيان المتكرِّر بأننا نُنتحَر — إذا جازت هنا صيغة المبني للمجهول! — أو نُستدرَج للانتحار بأيدينا. وهذه الواجبات تتمثل في أسئلةٍ أخرى ربما تحفِّز الإجابة عليها بالمشاركة في أفعالٍ لا في أقوال: فهل آن لنا أن نتجاوز تراث الطغيان في تاريخنا القديم والوسيط والحديث، بتراثٍ آخر نتخلص فيه من الكابوس الذي جثم على الأنفاس آلافَ السنين، ولم يزَل يُفاجئنا بين الحين والحين؟ وإذا كان جلجاميش يقدِّم المَثل أو الأمثولة للطاغية الذي تطهَّر من طغيانه، فكيف يتم التطهر في ظروفنا وظروف عصرنا؟ وكيف ومتى يصح العزم على «البدء من بداية البدايات» وهي الحرية؟ وإذا كان الطغيان أو الاستبداد أو التسلط أو ما شئت من المسميات، بمثابة «بنية لا زمنية» — كما يقول علماء اللغة — خيَّمت على تاريخنا، أو «نموذج أصلي» ترسَّب في الطبقات الدفينة من «لاوَعيِنا الجمعي»، وما فتئ يُعلِن عن نفسه على كل المستويات، ويُطلُّ برأسه حتى في سلوكنا اليومي، فهل من سبيل لرصده، وتعقُّب جذوره وفروعه وثماره المُرة في مَظاهره ونصوصه وتعبيراته عن «ذاتنا» التاريخية؛ تمهيدًا لبَترِ ورمه الخبيث؟
أسئلة وأسئلة طرحناها في البداية، ويمكن أن نزيد عليها في النهاية. وإذا صحَّ تفسيري فقد كان تطهُّر جلجاميش من طغيانه هو البداية القديمة التي تنتظر أن نجدِّدها بلغة العصر وأدواته، وكان هو النبع الأصلي الذي يمكن أن نغرق فيه، ويمكن أن نغتسل بمائه من آثام الماضي ومِحن الحاضر، ونخرج منه متطهِّرين لمواجهة المستقبل، فهل آن لنا أن نعقد العزم على التطهر، ونُجاوِز تراث الطغيان بتراث الحرية؟ هل نتعلم من المحنة فنبدأ من البداية ونحقِّقها بالفعل، ونجسِّدها بالعمل والبناء الحضاري؟
هوامش
والترجمة العربية لكاتب السطور، ومراجعة الدكتور عوني عبد الرءوف على الأكدية (تحت الطبع): Das Gilgamesch Epos-Neu ubersetzt und mit Anmerkungen versehen von Albert Schott. Durchgesehen und erganzvon Wolfram von sodden. Stuttgard, Reclam, 1958.
والواقع أن جلجاميش قد عرف الموت قبل ذلك معرفةً تامة، سواء من حيث هو طاغيةٌ شديد البطش، يفرضه أو يمارسه بنفسه على غيره من أفراد شعبه، الذين لم يكن ثلثاهم إلهيًّا مثله، أو من حيث انتماؤه إلى حضارةٍ تردِّد حكمتها أن الموت حتمي، ومن العبث الخوف منه. وإذا كان على المرء أن يموت فليمُتْ ميتةَ المجد والفخار في ميدان المعركة أو منازلة خصم جدير به. يدلُّ على هذا ما سبق أن اقتبسناه من كلام جلجاميش لإنكيدو، عندما لمس تقاعسه عن مهاجمة خمبابا مارد الغابة، كما تدلُّ عليه حسرة إنكيدو على موته في فراشه، لا في ساحة القتال.