أحب الكتب إلى قلبي
تعِبَ المعلِّم والحكيم العجوز، ووهن عظمه، وسئمت نفسه. كان قد بلغ السبعين من عمره، وتاقَ إلى الراحة من هموم بلده وعصره؛ فقد غاب الخير، وضلَّ الناس الطريق، ورجع الشر إلى سطوته، وغرقت الدُّويلات والإمارات الإقطاعية في بحور الفقر والجوع والدماء. ربط المعلِّم حذاءه، وحزم ما يحتاج إليه في طريق رحلته إلى منفاه في الغرب البعيد؛ الغليون الذي تعوَّد أن يدخِّن فيه كل ليلة، والكتاب الذي تعوَّد أن يقرأه، ومن الجبن والخبز على قدر النصيب. فرِح قلبه برؤية الوادي لآخر مرة، ثم نسِيَه عندما اتجه لصعود الجبل، كما فرِح ثوره الأسود بالعشب الندي، راح يمضغه والشيخ فوق ظهره، والغلام الصغير يسحبه على مهل من مِقوده. وفي اليوم الرابع، عند أسفل الجبل، سدَّ عليه الطريقَ عاملُ الجمرك النحيل الشاب، وسأله: هل من شيء يستحقُّ الضريبة؟
– لا شيء.
وتكلَّم الغلام قائلًا: لقد كان يعلِّم الناس.
عاد الشاب إلى السؤال: ماذا كان يعلِّم؟
وأجابه الغلام: أن الماء يفتِّت الصخر بمرور الأيام، وأن الضعيف يغلب القوي، والوداعة تهزم الصلابة والغرور، وتنتصر على المستحيل.
ولكي لا يضيع عليهما ضوء النهار الأخير، دفع الغلام الثور الذي يحمل العجوز على ظهره. وما إن اختفى الثلاثة وراء شجرة سوداء مُظلِمة الأوراق حتى أبصرا الشاب يعدو خلفهما، وسمعاه يصيح مُناديًا: أنت! قِف لأسألك! ماذا تقصد بحكاية الماء أيها العجوز؟
اقترب الشاب اللاهث الأنفاس، وتأمَّل المعلِّم وجهه وسأله: هل يهمُّك هذا؟
قال الشاب: ما أنا إلا عامل جمرك فقير، لكن يهمُّني أن أعرف كيف ينتصر الإنسان. إن كنت تعرف الجواب فتكلَّم! اكتبه لي. أملِه على هذا الغلام. مِثل هذا العلم لا يستأثر به أحد. الورق عندنا والريشة والمداد، وعندنا أيضًا طعامٌ بسيط للعشاء. إنني أسكن هناك، في الكوخ القائم بالقرب من مخفر الحدود.
تطلَّع العجوز إلى الشاب؛ السترة مرقَّعة، القدمان حافيتان، وعلى الجبهة والوجه تجاعيد وأخاديد مبكِّرة. وتمتم المعلِّم: أنت أيضًا تريد أن تعرف؟ حقًّا! من يسأل يستحقُّ أن يسمع الجواب.
وأضاف الغلام: والجو سيبرد أيضًا بعد قليل.
همس المعلِّم: حسن. فلنهبط هنا إلى حين.
نزل الحكيم من على ظهر دابته، وأخذ يُملي على الغلام سبعة أيام، وعامل الجمرك الفقير يفتح الباب في هدوء، ويخطو على أطراف قدمَيه وهو يُحضِر إليهما ما تيسَّر من الطعام. وذات صباح ناول الغلام عامل الجمرك الشاب إحدى وثمانين حكمة كُتبت بالشعر المنثور، وبعد أن شكراه على كرم ضيافته شدَّا الثور الأسود، وانعطفا حول الشجرة السوداء ثم غابا في حضن الجبل. هكذا تم تدوين الكتاب، وأملى الحكيم — الذي طالما أكَّد أن العارف لا يتكلم! — ما يزيد على خمسة آلاف كلمة ضمَّها هذا الكتاب العجيب من القرن الخامس أو الرابع قبل الميلاد. هل نشعر اليوم بواجب الثناء على الحكيم الذي يسطع اسمه على صدر الكتاب الشهير، أم ينبغي علينا أيضًا أن نشكر عامل الجمرك البسيط الذي استطاع أن ينتزع الحكمة من فم الحكيم الصامت، كما عرف كيف يطلبها منه وينشرها من بعده؟
لنقِف وقفةً قصيرة عند ذلك اللقاء الشهير الذي يمكن أن يُبرِز لنا بعض وجوه الاتفاق بين الطاوية والكونفوشية، اللتَين نشأتا عن الاحتجاج الفلسفي على الظروف السائدة في عصرهما، كما يمكن أن يبيِّن لنا كيف تطوَّرت المدرستان بعد ذلك، وسارتا في طُرقٍ مختلفة ومتناقضة؛ إذ شدَّدت الكونفوشية على خير البشر الأخلاقي، وضرورة اتباعهم للقواعد والتعاليم والواجبات باعتبارها مفتاحًا للسعادة، وسبيلًا للترقِّي والتهذيب وتطهير الباطن، بينما أكَّدت الطاوية على تجانس الطبيعة وكمالها، وضرورة التوافق مع طريقها الباطن أو مع «الطاو» الكوني الشامل، وذلك باتباعه ومحاولة التوحد معه، وبغير ذلك لن يصِلوا إلى السلام والرضا ويتخلصوا من الشر والبؤس والنزاع والصراع والتعاسة.
سأله المعلِّم الشاب بعد أن انحنى أمامه انحناءةً لائقة: سمعت مَن يقول على لسانك إن العارف لا يتكلم، والمتكلم لا يعرف. وقد عشت حياتي حتى اليوم لكي أعرف وأعلم، وأحاول أن أصلح بالكلمة والاسم. أفِدني يا سيدي عن الطريق (الطاو).
– الطريق يا بُنَي لا اسم له. لو كان له اسم ما كان هو الطريق. عميق هو وبلا قرار. هو المنبع والأصل وسرُّ الأسرار.
– لكنه تجلَّى للحكماء والقدماء، وأنت تُلازِمهم، وتعرفهم، وتنطق بكلامهم، وتُتقِن طقوسهم وشعائرهم.
– هذا صحيح يا بُنَي، ولكن الذين تسأل عنهم قد تعفَّنوا، وصارت عظامهم ترابًا. لقد اتحدوا بالطريق، فكانوا هم الطريق. تمسكوا به وحقَّقوه بالبساطة والسكينة والوداعة، ولم يتكلموا عنه بالخُطب والمواعظ، ولم يُقِيموا له الطقوس والشعائر. كانوا هم الطريق، فلم يحتاجوا لدقِّ الطبول لدعوة الناس إليه.
– لكنهم علَّموا مواطنيهم يا سيدي وأصلحوهم. حبَّبوا إليهم الفضيلة، وعملوا على تهذيبهم بالخير والإحسان والصدق والمحبة، وأنا أيضًا أريد أن أُفيد مُواطنيَّ ولا أضرهم.
– إذا أردت أن تُفيدهم فتخلَّ عن غرورك الذي يزيِّن لك أنك تُفيدهم. وإذا شئت أن تغيِّرهم فابدأ بتغيير نفسك قبل أن تفكر في تغييرهم.
– هذا هو الذي قادني إليك يا سيدي. علِّمني ماذا أعلم، وكيف أعلم؛ لكي تصلح المملكة، ويصلح حال الحاكم والمحكوم.
– سمعت أن التاجر الناجح يحرص على إخفاء ثروته، وأن الرجل العظيم ينهض للعظمة عندما تحين ساعته، لكن قبل أن تحين هذه الساعة تُوضَع العراقيل أمامه. اسمع نصيحتي يا ولدي. لا تضع العراقيل أمامك.
– لم أفهم يا سيدي.
– إن الحكماء القدماء الذين تتكلم عنهم قد عملوا بغير عمل، وعلموا بغير علم، وأصبحوا القدوة والمَثل؛ لأنهم لم يدعوا الناس إلى الفضيلة والعدالة والإنسانية. لقد تمسَّكوا بالطريق، فسار الناس على الطريق. رجعوا للأصل والبداية، فأحبَّ الناس السكينة والسلام، ورجعوا مثلهم للأصل والجذور. تخلَّوا عن أنفسهم، وتخلَّصوا من شهواتهم ورغباتهم، وتعفَّفوا عن التعالي والظهور؛ فكفَّ الناس عن التنازع والتصارع والتظاهر والحذلقة والخداع. لا تنسَ يا بُنَي ما قلته لك. إنهم لم يتكلموا عن الطريق، ولم يُسمُّوه، وإنما اتحدوا به وكانوه؛ لذلك لم يفقدوا أنفسهم، ولم يفقدوه. وها هم أُولاءِ اليوم يتصارعون، ويمزِّقون المملكة أشلاءً، ويغرقون في الشهوات والرذائل، حتى احتاجوا لمن يُصلِحهم ويدعوهم للمعرفة والفضيلة. أتريد أن تغيِّرهم قبل أن تتغير؟ أن تعظهم باتباع الطريق قبل أن تسير أنت عليه؟ تخلَّ يا بُنَي عن تكبُّرك! تخلَّصْ من تظاهُرك ومن طموحك العريض! ارجع إلى البساطة والسكينة قبل أن تجد نفسك يومًا ما تنهض من مرقدك، وتتهدم كالجبل العظيم، وتنكسر. اذهب يا ولدي وغيِّر نفسك. هذا هو كل ما يمكنني قوله لك. اذهب. اذهب.
ربما تكون وقفتنا قد طالت قليلًا عند هذا اللقاء الشهير، لكننا قصدنا منه أن نوضِّح مدى الاختلاف بين الحكيمَين والمدرستَين في مفهوم «الطاو» وفهمه. إنه لدى متصوِّفِي الطاوية هو الواحد الأبدي، وهو الطبيعي والتلقائي الذي لا يمكن تسميته ولا وصفه. أما الكونفوشية فتفهمه من ناحية الإنسان لا من ناحية الطبيعية والأسس المتعالية التي تقوم عليها؛ لذلك تحوَّل عندها إلى نسقٍ منظَّم من التعاليم والواجبات والوصايا الأخلاقية والاجتماعية. ومن الواضح أن المدرستَين — شأنهما في هذا شأن الغالبية العظمى من المدارس الفلسفية الصينية — متَّفِقتان في النزعة الإنسانية التي يتصفان بها، ويتحركان في إطارها بغيةَ الارتقاء بالإنسان إلى مَدارج العظمة والكمال، والحكمة والفضيلة، والنُّبل والصدق، وإن اختلفتا كما رأينا أشدَّ الاختلاف حول مصدر هذه العظمة الإنسانية. فهو التوحد الصوفي بحقيقة الطبيعة أو الكون وقوانينه و«طاوه» الباطني عند الطاويين، وهو الارتقاء بإنسانية الإنسان من خلال تطهير الباطن، ومراعاة دستور كامل للفضائل الأخلاقية والتعاليم والطقوس الاجتماعية عند الكونفوشيين.
يرجِّح بعض الباحثين أنه ينتمي للقرن الرابع قبل الميلاد أكثرَ مما ينتمي للقرن الخامس أو السادس. وبصرف النظر عما يُثيره هذا الرأي من اضطراب وتشكُّك في تاريخ الكتاب والمؤلف نفسه، فإنهم يؤيدونه من الناحية الفكرية والاصطلاحية بقولهم إن أسلوب القصائد النثرية المتَّبَع فيه يختلف عن أسلوب المحاورات الذي كان سائدًا في القرنَين السابقين — أي الخامس والسادس قبل الميلاد — وإن بعض الكلمات الواردة فيه لم تُعرَف قبل القرن الرابع، كما أن نغمة الغضب والتحدي والاحتجاج التي تغلب عليه إنما تعكس اضطراب الأحوال السياسية والاجتماعية في القرن الرابع، فضلًا عن أن بعض الأفكار، ومنها على سبيل المثال وصف الطريق (الطاو) بأنه هو الذي لا اسم له ولا يمكن تسميته، لم يكن في الإمكان أن يظهر في تاريخٍ سابق على ظهور مدرسةٍ فلسفية شهيرة اهتمَّت بالمنطق واللغة قبل غيرها، وهي مدرسة «الأسماء» التي لم تزدهر قبل منتصف القرن الرابع. أضِف إلى الصعوبات السابقة أن الكتاب نفسه لا يتضمن أي اسم علم، ولا أي حادثة تاريخية أو تاريخ يمكن أن يساعد على تحديد زمن تأليفه بصورة مؤكَّدة. المهم على كل حال أن الكتاب يتألف من خمسة آلاف كلمة صينية، وربما تزيد عن ذلك بمائتَي كلمة واثنتين وعشرين، أو بسبعمائة واثنتين وعشرين كلمة، حسب اختلاف طباعته الأصلية. وهو مكوَّن من قسمَين، يضمَّان واحدًا وثمانين فصلًا أو مقطوعة من الشعر المنثور؛ معظم سطورها مقفَّاه، وبعضها قصيرٌ سهل على الفهم، وبعضها الآخر طويل وعسير، كما يتكرر فيه الكثير من المعاني والدلالات والكلمات بصورةٍ حدَت ببعض الدارسين إلى افتراض تدخُّل أكثر من يد في تأليفه أو في تدوينه على مدى قرون طويلة، حتى استقر على شكله الراهن في القرن الرابع قبل الميلاد، وهو الشكل المعبِّر عن تعاليم المعلِّم العجوز «لاو-تزو»، وبعض تلاميذه بعد ذلك التاريخ بوقتٍ طويل.
وتدور الأفكار الأساسية في الكتاب حول الطريق (الطاو)، وفضيلته أو قوته الكامنة فيه (تي)، وفي كل مَن تمسَّك به من الحكماء أو الحكام القدامى الذين اتبعوه واتحدوا به، ولم يكتفوا — كما سبق القول — بالسير عليه، بل جسَّدوه في أنفسهم وكانوه (ربما يكون هؤلاء الحكام والحكماء، الذين لا يملُّ الكتاب من الإشادة بهم، قد عاشوا بين القرنَين الرابع عشر والحادي عشر قبل الميلاد). ولما كان «التاو-تي-كنج» هو الكتاب المقدَّس للطاوية، فمِن الطبيعي أن يكون سجلًّا لتعاليمها الداعية إلى الحياة البسيطة المتواضعة، والاتحاد بالطبيعة، وإنكار الأثَرة والأنانية، ولاندماج الصوفي في الحقيقة النهائية المُطلَقة. ويترتب على هذا أن يُوصي الكتاب بالابتعاد عن المدينة والمدنية، والرجوع إلى الطبيعة الأصلية للتجانس مع «الطاو»؛ أي الطريق الأبدي والقوة العليا التي تُهيمِن على الكون وتتغلغل فيه.
ومِن أهم أفكار الكتاب فكرةُ العدم — الذي يتساوى عند هيجل مع فكرة الوجود الخالص من كل وصف أو تحديد — فالطاو هو عدم الوجود (وهو شيء آخر غير اللاشيء!) وعدم الوجود أو السلب المُطلَق هو الأم التي تولَّد مِن رحمها — أو من وعائها الفارغ — كلُّ وجود فِعلي أو ممكن، كما تولَّدت عنه كل الموجودات. ثم إنه بلا اسم؛ لأنه أعظم من كل ما يُسمَّى أو يُوصَف بسمةٍ معيَّنة؛ لأنه — كما سبق القول — هو الأصل الذي صدر عنه كل ما هو كائن، والغاية الأخيرة التي سينتهي إليها (تذكَّر «الأبيرون» أو اللامحدَّد واللامتعيَّن الذي قال به الفيلسوف اليوناني أنكسمندروس في عبارته الوحيدة المشهورة، وفي نفس الوقت تقريبًا وهو القرن السادس قبل الميلاد).
لو كان في استطاعتنا أن نسمِّي الاسم، ما كان هو الاسم الأبدي. الذي بغير اسم هو مبدأ السماء والأرض، والذي له اسم هو أم الجواهر العشرة آلاف. حقًّا، مَن كان إلى الأبد بغير شهوة، فسوف يرى سر الأسرار، ومَن كان محكومًا بالشهوات، فلن يرى إلا طرف ثوبه. هذان الاثنان (أي الوجود وعدم الوجود) شيءٌ واحد، خرجا للوجود فاختلفت أسماؤهما. التوحيد بينهما نصِفُه بأنه صوفي، صوفي، ومرةً أخرى صوفي. هو الباب الذي يؤدي إلى سر كل حياة. والطاو كذلك لا يفعل، وليس عدم الفعل (وو-وي) الذي طالما أُسيءَ فهمه هو الخمول أو الجمود وانعدام الفاعلية، وإنما يُقصَد به عدم التدخل في مسار الطبيعة، وضرورة تركها لأفعالها التلقائية بغير اقتحام لها ولا عدوان عليها. والواقع أن هذه الفكرة لا بد أن تبدو غريبة، إن لم تبدُ مُضحِكة، لكلِّ مُنتمٍ للحضارة الغربية الحديثة، ولكل متأثِّر بنموذجها الطاغي منذ عصر النهضة الأوروبية (هذا إذا لم نقُل منذ سأل أول الفلاسفة اليونان هذا السؤال الأصلي: ما هو الموجود تي-تو-أون، الذي يُعَد الجد الشرعي للعلم الحديث والتقنية التي ننعم اليوم بخيراتها، ونشكو ليلَ نهار من أخطارها ومصائبها، مثل التلوث وتدمير البيئة والاقتلاع من الجذور وقتل الخضرة … إلخ؟!) وذلك عندما أعلنت هذه الحضارة «الذاتية» الحديثة على لسان ديكارت ثم بيكون، أن الإنسان هو سيد الطبيعة الخارجية والداخلية والمتحكِّم فيها والمُهيمِن عليها؛ أملًا في تأسيس ملكه أو مملكته وجنته الأرضية. لكن الحكيم الصيني القديم يؤكِّد أن الطاو ومَن يتمسك به لا يفعلان شيئًا، ومع ذلك يفعل كل شيء؛ فالطاو يُثبِت كل الأشياء ويُنتِجها، ولكنه لا يمتلكها، وهو يتركها تتغير وتتحول دون أن يتدخل في مسارها الطبيعي؛ وبذلك تكون هي نفسها، وتزدهر من داخلها، وليس على الإنسان إلا أن يُحبَّها ويتجانس معها، أو بالأحرى يتجانس مع الطاو الذي يتحقق فيها، وينبغي على الإنسان أيضًا أن يتحقق به إذا أراد أن يصل إلى الرضا والسلام والسكينة.
لأن العالم هو وعاء الله، فلا يجوز أن يعمل فيه شيء. من يُلامِسه بالعمل يُفسِده، ومن يتمسك به يفقده (…). لذلك يتجنب الحكيم التطرف، يتجنب التهور، يتجنب الخُيلاء (المقطوعة ٢٩).
الطاو لا يعمل أبدًا، ولكن كل شيء يعمل من خلاله. لو استطاع الأمراء والملوك أن يُحافِظوا عليه لتحسَّنت من نفسها أحوال العالم (أو تفتَّحت الكائنات العشرة آلاف). البساطة القديمة التي لا اسم لها تحرِّر من الاشتهاء، والتحرر من الاشتهاء يؤدي إلى السكينة، وبالسكينة يصل العالم من تلقاء نفسه إلى السلام.
وتبقى كلمة «تي» التي تأتي بعد «الطاو» في عنوان الكتاب، والكلمة في رأي علماء اللغة الصينية مرادفةٌ لكلمةٍ أخرى تحمل نفس رسمها ونطقها، وتدل على الفضيلة أو قوة الحياة والكمال. وإذا كانت بعض المدارس الفلسفية الأخرى تفهم فضيلة «تي» بمَعانٍ أخلاقية واجتماعية تهدف إلى تحقيق القوة والعظمة والسُّلطة والمجد، فإنها في كتاب الحكيم «لاو-تزو» تُرادِف البساطة والتواضع والضعف الذي يُوصَف في عباراتٍ متكرِّرة بأنه هو الماء الذي يفتِّت الصخر، والوداعة التي تهزم الخشونة، واللِّين الذي يقهر الصلابة، والرضيع الذي يجسِّد الكمال الأصلي. بهذا يرجع الكتاب بالأخلاق والمعرفة إلى أصولها الثابتة وجذورها الميتافيزيقية والصوفية الأولى، بحيث ترجع قوة الحياة نفسها إلى طبيعتها الأصلية التي يشبِّهها الكتاب بكتلة الخشب الخام، التي لم تشكِّلها يد نجار ولا نحَّات.
لو كان «الطاو» مجرد رمز صوفي أو مبدأ ميتافيزيقي مُتعالٍ على العالم والإنسان، لما كان هناك معنًى لتأليف هذا الكتاب العجيب. ولو أراد له صاحبه أن يكون مجموعة من التأملات الفلسفية التي تستمتع بها نخبة من المثقَّفين المعتزِلين أو المتنسِّكين المتوحِّدين، عن سخط أو يأس، لما احتفظ بقيمته ولا بسحره وتأثيره لأكثر من خمسة وعشرين قرنًا. فالواقع أن المعلِّم الصيني العجوز قد عبَّر بالكتاب عن احتجاجه على الأوضاع الفاسدة في عصره، ولم يغِب عن باله في أي قصيدة من قصائده أن يؤكِّد العلاقة الأساسية بين الطاو والإنسان، وأن يقول لنا في كل بيت من أبياتها على وجه التقريب إن هدفه هو تغيير العالم والطبيعة والإنسان قبل كل شيء بإرجاعها جميعًا إلى الطريق الأبدي. وما الفضائل التي يُلحُّ عليها ويكرِّر الدعوة إليها إلا النتائج الضرورية التي تتمخض عن تصحيح العلاقة بالأصل والمبدأ بعد أن فسدت في عصره، وانحرف الناس إلى الوحشية والإفلات من كل الحدود، واستبدَّت بهم شهوة الظهور والتسلط والتعالي والادعاء والدق على طبول المواعظ والفضائل التي فقدت صِلتها بالأصل والجذور، فسقطت في النفاق والشر والصراع (كما حدث في أيامه الأخيرة على أيدي الكونفوشيين، وانعكس على تعنيفه لمعلِّمهم الذي سمعنا حديثه الغاضب معه). إن كل ما نجده في الكتاب من إلحاح على البساطة والاعتدال ومقابلة الشر بالخير، ومن تحذير من الزهو والغرور والتهور والاندفاع وراء الغزو والحرب واستخدام الأسلحة في سفك الدماء، كل هذا الذي نجده فيه ليس سوى انعكاس لصحة العلاقة بالطاو، أو لفسادها واختلالها. وسوف نكتفي ببعض الأمثلة التي نقتبسها من الكتاب لتوضِّح لنا مفهوم الحكيم عن إنسانية الإنسان في وحدتها مع الأصل والحق الذي يسمِّيه بالطاو، مع ذِكر رقم المقطوعة وترتيبها عن الترجمة الاجتهادية التي قُمت بها عن عدة ترجمات بلغات أوروبية حديثة؛ لجهلي باللغة الأصلية، وانعدام أي أمل في تعلم كلمة أو مقطع واحد منها.
عندما يختلُّ كل شيء، وتفسد كل قيمة، ويتكالب الناس على الكسب والسُّلطة والجشع والمنفعة، فتشتعل نيران التباغض، ويتفجر الحقد والغدر والصراع على اللقمة والعظْمة والفتات، ويُضيع الإنسان إنسانيته (وهي «الين» التي لا يكفُّ «لاو-تزو» ولا «كونج-فو-تزو» — كونفوشيوس — عن الحديث عنها بطُرقٍ مختلفة!) عندئذٍ يكون من الطبيعي أن يهبَّ المثقَّف الأمين (لا التاجر، ورجل الأعمال الثقافية، وعبد السُّلطة الذي وُجد في كل الأزمان، وأوشك في زماننا أن يكون هو الملك المتوَّج على عرشٍ منصوب فوق قبور الصامتين واليائسين والمترفِّعين العاملين في الظل!) أقول من الطبيعي أن يهبَّ ليُصلِح المعوَجَّ، ويبدِّد الظلمة، ويحذِّر ويُنذِر، كالبومة الحكيمة الوحيدة، من مصير المدفونين تحت الأنقاض، وكوارث الفوضى والخراب والانقراض. كيف واجه الحكيم الصيني هذا الإعصار؟ وماذا فعل لوقفِ الطوفان؟
ما من مصيبة أعظم من أن يستسلم المرء لشهواته. ما من ذنب أكبر من البُعد عن القناعة. ما من عيب أخطر من أن يسعى الإنسان إلى الكسب. حقًّا! مَن وجد القناعة في في القناعة، فهو على الدوام قانعٌ راضٍ.
الحكيم يؤخِّر نفسه فتصبح في المقدمة، يطرد ذاته فتدخل من جديد. أليس هذا لأنه مجرد مِن حب النفس؟ من أجل هذا يصل بنفسه إلى الكمال.
ونحن نُسيء الظن بهذا الحكيم لو تصوَّرنا أنه حكيمٌ ماكر، يُظهِر نفسه بمظهر المتواضع لكي يشدَّه الناس إلى مقدمة الصفوف، ويُعلِن أنه لا يسعى وراء أي هدف شخصي لكي يحقِّق أهدافه الشخصية! كما أننا نظلمه أيضًا إذا أسأنا الظن بدعوته المستمرة إلى عدم الرغبة حتى في الرغبة — وهي الدعوة التي لم ينفكَّ المتصوِّفون في الشرق والغرب عن ترديدها والإلحاح عليها — وبنصحه للإنسان الحكيم أو النبيل أن يستغني حتى عن طلب المزيد من العلم والإكثار من المعرفة، اللذَين طالما عرَّضا الإنسان للسقوط في هوة الفطانة والشطارة، وضيَّعا الحكمة والبصيرة، وتدنَّيا ﺑ «العلم» إلى الادعاء والاحتيال، أو أوقعاه في التورم والتضخم. ويبلغ الأمر بالحكيم الصيني في إحدى مقطوعات الكتاب أن يقول قولته الشهيرة: «العارف لا يتكلم، والمتكلم لا يعرف.»
وأن يُعلِن في مقطوعةٍ أخرى: «إن الكلمات الجميلة — ويقصد بها المزوَّقة — ليست صادقة، وإن الكلمات الصادقة ليست جميلة.»
ثم يكرِّر عبارة سقراط الشهيرة — دون أن يسمع عنه بطبيعة الحال! — في مقطوعةٍ ثالثة يقول فيها إن الذي يعرف أنه لا يعرف، هو أرفع الناس شأنًا؛ ومن يحسب أنه يعرف وهو لا يعرف، مريضٌ بعقله. لكي ينتهي من القولَين إلى أن الذي لا يعرف، هو الذي يعرف على الحقيقة؛ وأن الذي يزعم أنه يعرف، لا يعرف على الحقيقة.
كيف يمكننا اليوم — في عصر العلم وعصر الإيمان بأن العلم هو مَكمن القوة والتفوق، وأمل البقاء الوحيد للأفراد والشعوب والحضارات — كيف يمكننا أن نأخذ بنصائح هذا المعلِّم القديم، الذي يحذِّر من النهم إلى الاستزادة من العلم، بل ينصحنا بأن نلزم بيوتنا، وسوف نعرف العالم دون أن نحتاج لأن نُغادِر عتبة دارنا؟!
لعل الرد على هذه الأسئلة الحائرة أن يأتي من إنصاف هذا المعلِّم القديم، ووضعه قبل كل شيء في سياقه التاريخي والثقافي قبل التسرع بإدانته، حينئذٍ نرى أنه كان يندِّد برذائل عصره، ويشجب الفضائل التي انقلبت على يد «العلماء» و«المعلِّمين» الداعين إليها إلى رذائل، عندما تحوَّلت على يد بعضهم — وبخاصةٍ أتباع كونفوشيوس — إلى آداب وقواعد محفوظة للسلوك، يُقال إن عددها وصل إلى ثلاثة آلاف وثلاثمائة قاعدة، كان الصيني المهذَّب يُلزَم بحفظها عن ظهر قلب؛ حتى يُعَد إنسانًا مهذَّبًا، ويدخل في سلك الوظائف المرموقة في الدولة! زادت الثرثرة وفاضت. أُغرِقت كل الشواطئ حتى فقدت اللغة والكلمة والكلام مَعانيها، أو أُفرِغت منها. وغابت القدوة والنموذج اللذان نشكو مُر الشكوى من غيابهما. فهل نعجب من قول المعلِّم لتلميذه أو قارئه «أن تعلم بغير أن تتكلم. أن تزداد غنًى بغير أن تفعل. شيءٌ في هذا العالم يندر أن يبلغه الإنسان»؟ وهل نستغرب منه أن يجعل وجود هذا الإنسان القدوة مرهونًا بطبيعته الحقة، أو بالأحرى باتباعه للطبيعة وتمسُّكه بالطاو؛ ومِن ثَم بالبساطة والعطاء والسكينة والتواضع والتعفف واطراح الشهوات؟! إنه يُخاطِبه بما يُشبِه الأمر الجازم حين يقول له: «عانِق البساطة. تحكَّمْ في أثَرتك، واقتصِد في شهواتك.»
ثم يقول عنه في آخر مقطوعة يختتم بها كتابه: «إن الحكيم لا يجمع شيئًا لنفسه؛ فهو بقدر ما يعيش لغيره يزداد غنًى، وبقدر ما يُعطي غيره من الناس يزداد نصيبه مما يملك.» ونسأله عن السر في هذا، فيُجيب على الفور بأنه يسير على طريق السماء الذي ينفع بغير أن يضر. ولهذا كان طريق الحكيم أن يعمل بغير أن يتنازع مع أحد، وأن يُتمَّ عمله ويختفي. ومعنى هذا ألا يزهو بعمله، ولا ينتظر جزاءً عليه، ولا يفكر لحظةً واحدة في الإعلام أو الإعلان عنه، بل يهرب حتى من رغبة الناس في تكريمه أو الاحتفاء به كأنما يهرب من عار أو من وباء. وربما كان المَثل الحي لمِثل هذا الإنسان الحكيم هو ذلك القائد الطاوي «فان-لي» من القرن الخامس قبل الميلاد، الذي يُروى عنه أنه حقَّق الانتصار على الأعداء ثم اختفى إلى الأبد. لقد وعدوه فيما يُحكى عنه أن يقدِّموا له نصف المملكة هديةً إذا رجع من المعركة مُنتصِرًا ومعه جيوش «يو-ويه» الظافرة. ولكنه انتصر ثم ركب مركبًا خفيفًا، وتوارى عن الأنظار، ولم يسمع عنه أحد بعد ذلك، بينما كان الشعب الذي بلغته أنباء الانتصار يُقِيم الأقواس والزينات، وينتظر القائد في لهفة لينثر عليه الزهور، ويضع على رأسه أكاليل الغار.
هذا القائد العسكري الذي حكَينا حكايته ينطبق عليه ما يقوله المعلِّم الصيني العجوز عن الحكيم أو القديس أو النبيل، وما يصفه به من أوصاف لا تخرج في مجملها عن الفضائل «الصوفية» التي ألمحنا إليها في السطور السابقة، ويبدو أنها كانت قد اختفت من الوجود في العصر المضطرِب الذي عاش فيه «لاو-تزو»، كما اندثرت أو أوشكت على الاندثار في زماننا ومكاننا. فالحكيم هو ذلك الذي يعرف طريق السماء كما يعرف نفسه، ولكنه لا يعرض أو يستعرض نفسه، وهو الذي يصون نفسه ويعرف قدره، ولكنه لا يكرِّم نفسه، ولا يتعمد أن يرفع من قدره أنه يفعل، ولكنه لا يُفاخِر بفعله ولا يُكابِر، وإذا أنجز الفعل — كما رأينا من القائد المنتصِر الذي توارى عن الاحتفال بانتصاره! — لم يتلبث عنده، ولم يجنِ مصلحة من ورائه. إنه باختصار قد اتَّحد بالطريق حتى أصبح هو والطريق شيئًا واحدًا. ولأنه أحاط بالواحد، فقد صار نموذج العالم أو مقياس المملكة: «إنه يتجلى لأنه لا يكشف عن نفسه، ويعترف به لأنه لا يُعطي الحق لنفسه، ويثق الناس به لأنه لا يدَّعي، ويمجِّده الناس لأنه لا يمجِّد نفسه، ولا يسعى أحد بشيء ضده لأنه لا يسعى إلى شيء.»
البلاط يعجُّ بالأبهة، بينما الحقول تملؤها الأعشاب الضارة. كل شيء في القصر على ما يُرام، بينما الحقول لا تجد من يحرثها. والموظفون (ربما يقصد رجال الحاشية) يتدثَّرون بالثياب الزاهية، ويتحزَّمون بالسيوف الغالية، ويُتخِمون بطونهم بالطعام والشراب، ولديهم من الثروة والمتاع ما يفيض عن حاجتهم.
ويمكننا أن نتخيل البقية الباقية: «الشعب تفترسه المجاعة، والأوبئة تستشري في كل مكان، واللصوص وقُطَّاع الطُّرق ينهبون ويخطفون ويتجبَّرون، ويزيد عددهم كلما زاد عدد القوانين والتعليمات والنواهي والتحريمات (٥٧)، كما يزداد الاضطراب كلما تكاثرت الأسلحة الحادة مع الناس، وثقلت أعباء الضرائب على ظهور عامة الفلاحين الفقراء.»
ما هي الصورة التي يرسمها المعلِّم العجوز لهذا الحاكم الحكيم؟ كيف يُواجِه الفوضى والاضطراب والحروب والنفاق الاجتماعي والشهوات الجامحة الكاسحة، التي انطلقت في بلده وعصره كالوحوش الكاسرة من أقفاصها، وخرجت من ظلمات غاباتها الدفينة في مَجاهل أعماق البشر؟ وأي فعل ينصحه بالقيام به وهو الذي يدعو إلى رأيه المحيِّر المشهور عن عدم الفعل؟ هل يمكن أن يأتي الإصلاح عن طريق الامتناع عن الفعل — أي عن التدخل في مجرى الطبيعة الكونية والإنسانية، كما قلنا، وإفسادها بالأمر والنهي والحظر والتسلط — بحيث يصبح الحاكم الملتزِم بالطريق، أي بالصمت والسكينة والتواضع والتعفف والرضا … إلخ، هو القدوة التي يهتدي بها الناس، ويتعلمون منها بغير كلام ولا لجوء إلى القوة والبطش؟
مَن يتحمل قذارة العالم، فهو سيِّد المملكة. من يتحمل ذنوب العالم، فهو ملك العالم (…). إن فؤاده لا يطير من الرعب والفزع في أوقات المِحن والكوارث والفوضى والاضطراب، وإنما يظل يدثِّر جسده بثوب الشعر الذي كان يلبسه فقراء الفلاحين، بينما يحمل بين ضلوعه جوهرةً صافية كابتسامة الرضيع أو نظرة عينَيه:
يحمل على جسده ثوب الشعر، أما في قلبه فيحمل الجوهرة.
حقًّا! الشرف جِذره الاتضاع، والارتفاع كعبه الضعة. من أجل هذا يدعو الأمراء والملوك (القدامى) أنفسهم باليتامى والعجَزة والفقراء. أليس هذا لأنهم يتخذون من الاتضاع جذرًا لهم؟ حقًّا، مَن يبالغ في الترفع لا يرتفع إلا قليلًا. لا تشتهِ أن تبرق كالجوهرة، ولا أن ترنَّ كالحجر الرنَّان!
وتتوالى الحِكم في الثناء على الوداعة واللين والضعف التي تهزم التصلب والخشونة والعنف، وفي تمجيد البساطة والحب والسكينة والإيثار، والحض على تجنُّب التطرف والتهور، والالتزام بالحد والمقياس الأول والأخير، وهو اتباع الطاو والتجانس معه. فإذا سألناه: وكيف يحكم الحاكم شعبه، ويدبِّر شئون مملكته؟ وجدناه ينصح ﺑ «عدم الفعل» في تنويعات وأشكال مختلفة؛ فالحاكم الذي يفعل عدم الفعل، ينتظم في بلده كل شيء. إنه يترك الشعب بلا علم ولا شهوة، يفرِّغ العقول ويملأ البطون، يُنتِج ولا يتملك، يدبِّر ولا يُسيطر، وإذا فعل عدم الفعل، لم يبقَ شيء يستعصي على الفعل أو على الحكم.
كلما زاد في المملكة الحظر والتحريم، ازداد الشعب فقرًا. كلما زاد عدد الأسلحة الحادَّة بين الناس، ازداد الاضطراب في بيت الحاكم. كلما ازداد الناس مكرًا ودهاءً، ازداد الإخلال بالنظام.
كلما ازداد عدد القوانين والتعليمات، ازداد عدد اللصوص وقُطَّاع الطُّرق. لذلك يتكلم الحكيم قائلًا: أنا لا أفعل شيئًا، والشعب يتحسَّن من تلقاء نفسه. أنا أُحبُّ السكينة، والشعب يهتدي بنفسه إلى النظام. أنا لا أُمارِس تجارة، والشعب يصبح من نفسه غنيًّا.
أنا لا أشتهي شيئًا، والشعب يعود من نفسه إلى الفطرة.
ويبلغ أسلوب المفارقة ذروته حين يقرِّر المعلِّم الصيني أن الشعب يكون سعيدًا وقرير العين عندما يكون الحاكم كسولًا وضيِّق الحيلة، وأنه — أي الشعب — يقع في البؤس ويُعلِن السخط عندما يكون الحاكم نشيطًا وحازمًا (أي بتعبيرنا الحديث عندما يكون طاغيةً ومستبِدًّا، يرزح فوق أنفاسه، ويكلِّفه ما لا يُطيق). وهكذا تكتمل النصائح بعدم الفعل في هذه الحكمة الشهيرة: «احكم البلد العظيمة كما لو كنت تقلي (أو تطبخ) سمكةً صغيرة.» وحين لا يخشى الشعب قوَّتك، تكون قد بلغت أقصى قوَّتك. لا تضيِّق مساكنهم. لا تُرهِق عيشهم.
وإذا كان هذا الحاكم الحكيم يترك كل شيء يجري مجراه الطبيعي دون تدخل من جانبه، كأنما هو طيفٌ مجهول يحرِّك الدُّمى في صمت وسكون من وراء ستار، فمِن الطبيعي أنا يكون مُحبًّا للسلام، وألا يدخل حربًا إلا لدفع عدوان عن بلده، حتى إذا أتم واجبه وانتصر على عدوه توارى عن الأنظار، كما فعل القائد الطاوي الذي عرفنا قصته. وطبيعي أيضًا أن تكون الأسلحة هي أشد ما يكرهه، وأن يتحاشى ما استطاع أن يعيش بالقرب منها؛ لأنها في رأيه أدوات الشر، وليست أدوات الرجل الحكيم أو النبيل. وهو لا يلجأ إليها إلا مضطرًّا. وإذا انتصر لم يجد في الانتصار جمالًا؛ لأن من يجده جميلًا، يفرح بقتل غيره من البشر؛ ومن يفرح بقتل غيره من البشر، لا يصح أن يفرض إرادته على المملكة، ولا أن يحتفل بانتصاره إلا كمن يحتفل بجنازة.
وانهارت الطاوية بعد القرن الثاني الميلادي، وتردَّت في مستنقعات الدجل والسحر والشعوذة والتنجيم والعرافة وطرد الأرواح الشريرة من البيوت والأجساد وإطالة العمر والطيران في الهواء، ثم اندمجت بعد القرن الخامس الميلادي أو أُدمِجت فيها البوذية الهندية الأصل التي استقرَّت في الصين، وعُرفت ﺑ «التشان»، ثم انتقلت منها إلى اليابان، حيث تحوَّلت إلى بوذية «الزن»، وازدهرت مدارسها المتنوِّعة إلى يومنا الحاضر. ولقيت — أي الطاوية — العنَت والاضطهاد من الكونفوشية عندما أصبحت هذه هي الديانة والفلسفة الرسمية لأكثر من ألف عام، وانقلب الاضطهاد إلى الإهانة البشعة (لها ولسائر دكاكين العاديات القديمة!) في ظل الثورة الثقافية الفاشلة على أيام «ماو-تسي-تونج»، ولكنها بقيت على الرغم من كل هذا القهر الطويل كما بقي كتابها المقدَّس منبعَ إلهام لا ينفد مَعينه لأجيال من المتأمِّلين الثائرين، وعباقرة فن الرسم الصيني الدقيق الرقيق، وملايين الفقراء البسطاء من الفلاحين والصيادين، ومئات الباحثين والدارسين والمترجِمين، الذين ما زالت نصوصه الغامضة الغنية بالإيحاءات تجذبهم كالفراشات حول أنوارها وتجلياتها وألغازها الحافلة بالأسرار.
ويبدو أن المعلِّم الصيني العجوز نفسه قد أحسَّ ببصيرته المُلهِمة أنه سيُساء فهمه في عصره وبعد عصره؛ لذلك نسمع صوته خلال الكتاب وهو يبلِّغ كلمته، ويجرِّدها ويجرِّد نفسه من الوقوع في أي وهم: «كلماتي سهلة جدًّا على الفهم، سهلة جدًّا على التنفيذ، لكن لا أحد في المملكة كلها يقدر على فهمها، وما من أحد في المملكة كلها يقدر على تنفيذها.» وربما استطعنا أن نقول عنه — بالرغم من ظلمات الخرافة التي أحاطت باسمه وحياته — إنه لم يكتفِ طوال عمره بالدعوة للطريق والاتحاد به، بل اتحد كذلك بأسلافه من الحكام والحكماء الذين لم يسأم الرجوع إليهم والإشادة بذِكرهم. لقد كانوا مِثله — كما يقول في المقطوعة الخامسة عشر — دقيقِي الفكر، نافذي البصيرة، أغنياء بالأسرار، ولكنهم كانوا أيضًا من العمق بحيث استعصى على الناس أن يفهموهم أو يستجيبوا لهم. والغريب أننا نجده يصف سلوك الحكيم القديم وكأنه يصف سلوكه هو نفسه: «متردِّد كأنه يعبُر نهرًا في الشتاء، خائفٌ كأنه يخشى الجيران من حوله، متَّزِن كأنه يجلس في حضرة مُضيفه، متسامح كأنه الثلج عندما يذوب، أصيل كأنه الخشب لم تمسَّه يد، واسع الصدر كأنه وادي النهر، مضطرب كأنه دوامة من الماء العكر.»
آه! ما أبعدَ الفجر! الناس جميعهم فرِحون، كأنهم يُشارِكون في وليمة التضحية، كأنهم ذاهبون إلى مهرجان الربيع. أنا وحدي أرقد في سكون، أشبَهُ بطفلٍ صغير لم يبتسم مرةً واحدة في حياته. أترنح وأتمايل، كأنني أضعت وطني. الناس جميعًا عندهم فوق ما يكفيهم. أنا وحدي تعرَّيت من كل شيء (أو فقدت كل شيء). حقًّا! إن قلبي أحمق ومُعتِم ومضطرِب. عامة الناس لامعون، وأنا وحدي مُظلِم. عامة الناس جادُّون واثقون من أنفسهم، وأنا وحدي مُتعَب حزين الفؤاد، ثائرٌ ثورةَ البحر، مضيِّع كأني بلا هدف. الناس جميعهم يتطلعون إلى المنفعة، وأنا وحدي عنيد كأني ابن الوحوش. أنا وحدي غير الآخرين، وأنا الذي لا يقدر شيئًا لا يأتي من ثدي الأم المُرضِع.
هل يجوز لنا أن نفهم من هذه السطور المتأجِّجة بجمرات الثورة والمرارة والألم، أن الناسك المُصلِح ينفِّس فيها عن غضبه المقدَّس على عصره ومعاصريه؟ هل يصح أن نستخلص منها الإيمان العظيم بالثقافة الحقيقية، التي تغيِّر ولا تكتفي بالثرثرة النرجسية والزفات الكلامية التي طغى عليهما الإعلام والإعلان والادعاء والاستعراض؟
أسئلةٌ أتركها للقارئ الذي «يتمسك بالطريق»، ويُعلي من شأن الكلمة الراضعة من ثدي الأم.
وأخيرًا، فقد طوَّفت بقدر ما استطعت بين عدد من عيون التراث الإنساني، من بابل والصين وحضارة الإغريق إلى أدب الغرب الحديث والمعاصر وفلسفته، مع الإلمام بعددٍ آخر — ربما يكون أقل — من عيون تراثنا الأدبي والفكري. ولقد تحيَّرت حيرةً شديدة عندما فكَّرت في الكتابة عن هذا الكتاب، الذي أعترف بأنه كان وما زال أقرب الكتب إلى قلبي، وذلك منذ أن عشت نصوصه قبل أكثر من أربعين عامًا، وتعاطفت مع مؤلِّفه المعلوم-المجهول، الذي آثر في نهاية المطاف أن يلجأ إلى منفاه الخارجي أو منفاه الداخلي. ومع أن قصتي مع هذا الكتاب لم تنتهِ بترجمتي له، إذ ما زلت أقلِّب فيه الطرف من وقت لآخر، وأجمع ما يتيسر لي العثور عليه من ترجماته الجديدة في اللغات الأوروبية، وما أقع عليه من دراسات للفكر الصيني بوجهٍ عام، وللطاوية بوجهٍ خاص، وما زلت أرجو أن يتسع الوقت لي أو لغيري لإلقاء المزيد من الضوء على صورة الحكيم والناسك الصيني المُصلِح الثائر الذي اتحد بالطريق الأبدي، وحمل في قلبه هموم البسطاء والفقراء، وكافح بجهده في سبيل التغيير والإنقاذ، حتى لَيبدو لعيني وكأنه طيفٌ رقيق وشجاع يعيش ويتجول بيننا، ويحمل همومنا، ويشجِّعنا ويُواسينا أيضًا.
هوامش
-
Waly, Arthur; The way and its power. London; George Allen, 1949.
-
Lao-Tse; Tao-Te-King. Das helige Buch vom weg und von der Tugend. Ubersetzung von G. Debon. Stuttgart. Redam, 1961.
-
Lao-Tse; Herausgegeben von lin yutang. Fran Kfurt/M., Fischer.